مدد الأحلام …سيد الوكيل

إن كتابة الأحلام ليست شكلاً  مغلقا على نجيب محفوظ صاحب ( أحلام فترة النقاهة ) بقدر ما هو فضاء سردي واسع، طالما مارسناه بين صفحات قصصنا ورواياتنا، بل وفي حياتنا اليومية. غير أن  نجيب محفوظ أعطى لسرد الأحلام مشروعية أن يكون فنًا أدبيًا مقصودًا لذاته، حيث يمكن لأي منا أن يدلي فيه بدلوه، كل على قدر استطاعته وإمكاناته. فشأن كتابة الأحلام، شأن كتابة القصة، أو الرواية، أو السيرة الذاتية التي أعطاها محفوظ سمت الأصداء، فتجاوزت الطابع السير ذاتي، لتنتهي إلى شظايًا، أو ومضات ورشفات مكثفة، ومستقلة عن بعضها البعض، لا تستسلم لتراتبية زمنية ممتدة. وتنزع إلى التجريد، وتتاخم حدود الرؤى والتأملات والخيالات.

 في هذا السياق، يكتب محمود عبد الوهاب (أحلام الفترة الانتقالية) ويكتب شريف صالح (دفتر النائم) وكتبت أنا (لمح البصر ).. إلخ

كانت البداية حلما رأيتني فيه أقدمُ صدفةً من أصداف البحر إلى نجيب محفوظ.   الحلم أعطاني شفرة  كتابته. لكن للكتابة وعيها الفني، وبصيرتها الجمالية المختلفة عن لاوعي الأحلام، لهذا فإن معالجة حلم (الصدفة) ليصبح نصًا سرديًا، انتهت به إلى طبيعة أخرى غير طبيعته التي رأيتها في المنام، لكنه على أية حال، كان فاتحة لما يقرب ثلاثين نصا قُدمت في إصدار خاص بعنوان (لمح البصر). إنها نصوص بمعنى الكلمة، كتبت في فضاء تخييلي تماما، وليست مجرد أحلام رأيتها وكتبتها.

أحلام فترة النقاهة

 الأحلام المحفوظية فتحت بابا، وظني أنه أوسع مما نظن. اب لتعبيرية ذات وعي مجازي، وليست لغة مجازية كما نظن. باب مفتوح على الواقع الداخلي الذي يخصنا وليس ذلك الذي يخص المجتمع. باب يسع الأحلام، والمشاعر الداخلية، والتأملات التي تصل إلى حدود التفلسف، والنظرات المستبصرة لفهم ذواتنا، وتناقضاتنا، وتحولاتنا.. باب للكشوفات كما يسميها مصطفى يونس في مجموعته القصصية (ما وراء الجدار..) وهي نصوص لا تبادرنا بالإعلان عن طبيعتها الحلمية صراحة، لكنها تقترب منها إلى حد كبير، فيما تستهل أغلب نصوصها بجملة: “رأيتني..” ثم تمضى الرؤية في صياغة مكثفة، وبليغة لا تخلو من إحالات صوفية، وأخيلة حُلمية كما نجد في الكشف التاسع عشر الذي بعنوان (المشيئة) ليأتي على هذا النحو:

 ” رأيتني بمكان مجهول، وإذا يؤتى إلىَّ بحمامة وسكين. رمقت الحمامة في يدي بحيرة ناقلاً البصر بينها وبين السكين في اليد الأخرى، ولم أجد من يرشدني إلى ما يتوجب علىَّ فعله، وهداني تفكيري إلى أنه قد أنيط بي ذبح الحمامة وإلا لمَ كان السكين؟! 

مددت الحد إلى العنق الرقيق، فتدفق الدم على ثيابي مختلطاً بالدموع، وإذا بصوت يُنادى في الفضاء

– خلق الإنسان عجولاً.

فنظرت للدم المراق على ثيابي وقلت أهوّن على نفسي
– لتكن مشيئة الله”
[1]

يقول (حسن وهبة) عن (ما وراء الجدار) إنها حالات من البحث عن” الحقيقة بين المطلق والحلم، وبين التجسيد البشري له. تمتد كشوفات مصطفى يونس وتمتزج في صور، وحكايات، ومشاعر مختلطة بعناصر من العالمين: عالم اللامحدود ونقيضه المحدود”[2].

ماوراء الجدار مصطفى يونس

كما يمكن أن نجد تجليات هذا المد الروحي في نصوص ذات مقاصد صوفيه، لكنها مسربلة بالرؤى والأحلام والاستبصارات، على نحو ما نجد في (ظل ممدود) لعبد الرحيم كمال، و (طيف أزرق) لمحمود عبد الله. أما العمل الأخير الذي كان إصدارا خاصا بالأحلام على نحو واضح وصريح هو ( منامات الشيخوخة) للكاتب محمد حلمي القعود. وهو كتاب يحوى عددا كبيرا من النصوص التي تقدم نفسها أحلاما لكاتبها. إنها أحلام صريحة، تعلن عن هويتها بوضوح، دونما محاولة الاختباء والتماهي مع القص كما فعلت أنا في ( لمح البصر) بل كانت نصوصه تؤكد طبيعتها الحلمية بإشارات متكررة من قبيل ( رأيتني.. كذا كذا، أو رأيت فيما يرى النائم، استيقظت من نومي على رؤية …:كذا. كما يمكن أن ينتهي النص بالاستيقاظ لنفهم أنه كان حلما )  لكن الملمح الأهم في نصوص ( أحلام الشيخوخة ) هو قدرتها على الانتقال من الخاص / الشخصي أو الذاتي إلى العام حتى أنها تقارب معان اجتماعية وسياسية استهلكتها الواقعية من قبل، فبات نكهة الحلم فيها خافتة. فسرد الأحلام له لغته الخاصة الخارجة عن حسابات المعنى، وبنيته الخارجة عن قوانين الواقع،سواء في حسابات الأزمنة والأمكنة، أو الشخصية. أما قصة الأستاذ رؤوف مسعد ( كنت أضحك في حلمي) فهي لا تقارب في بنيتها الفنية سرد الأحلام، بقدر ما هي قصة عن الأحلام. اعترف بأن سرد الأحلام فنا صعبا، ومراوغا. وهو مازال في خطواته الأولى يحبو، لذلك فإن النماذج التي سوف نجدها في هذا الملف، تتفاوت في قدرتها على الإنصات للطبيعة الحلمية، فتتأرج في تقنيتها بين المألوف من السرد القصصي، وآليات إنتاج الحلم بوصفه قراءة مغايرة للذات.  

  وبعد، فمن المناسب أن نتوقف قليلاً عند بعض الأعمال التي قاربت سرد الأحلام، ولعل تنوعها مؤشر على سعتها، وقدرتها على أن تميز نفسها بين فنون السرد، بل وقدرتها على احتواء الأقصوصة أو القصة الومضة، التي مازالت طفلا لقيطا بين فنون السرد.

 

أحلام الفترة الانتقالية[3] لمحمود عبد الوهاب.

كان محمود عبد الوهاب من الشجاعة والولاء لنجيب محفوظ، بحيث يتناص عنوان كتابه (أحلام الفترة الانتقالية) مع (أحلام فترة النقاهة) هذا فضلاً عن إهداء الكتاب لنجيب محفوظ كاعتراف لا لبس فيه بالولاء لسارد الأحلام الأول، لكن الأهم من ذلك أن الإقدام على التجربة نفسها تعني وعي محمود عبد الوهاب بأن سرد الأحلام، يرقى إلى نوع أدبي مستقل، يسع كل من يريد أن يكتب فيه، وليس مجرد تجربة بدأت وانتهت مع نجيب محفوظ. وبذلك يكون (محمود عبد الوهاب) أول من أصدر كتابًا مختصًا بسرد الأحلام بعد نجيب محفوظ في حدود علمي.

هنا قدر من الشجاعة الأدبية، بلا خشية من شبهة التقليد والاتباع، مع اعتقادي الشخصي، أن السير في ركاب نجيب محفوظ يشبه القدر، فهو في حد ذاته، تاريخ يماثل تاريخ السرد العربي الحديث. ومع ذلك، فهو أمر شاق وشبه مستحيل. لكن مساحة الاختلاف بين أحلام محمود عبد الوهاب، ونجيب محفوظ واسعة، على عكس مما يوحي به العنوان (أحلام الفترة الانتقالية) حيث نستطيع أن نقف على خصوصية التجربة الذاتية عند محمود عبد الوهاب، التي ارتبطت بمصطلح سياسي ( الفترة الانتقالية) ظهر بعد أحداث ثورة (25 يناير 2011م).

حدث الثورة وحده، حدث دراماتيكي بامتياز، ربما لأنها خلقت واقعًا، على قدر عنيف من الانقسامات والتشظيات المؤلمة والمنهكة للذات الجمعية في مصر، لتكون جديرة بأن تسكن، ليس وعينا ووجداننا فحسب، بل أعماق لا وعينا أيضًا. لهذا فوقوف محمود عبد الوهاب عند تداعيات هذه الفترة، أمر مستحق، على نفس القدر من الاستحقاق، الذي جعل نجيب محفوظ، يعود إلى أطياف (ثورة 1919م) في أحلامه بعد كل هذه السنين التي مرت عليها. أقول (أطياف) لتفسير درجة الانسيابية والنعومة التي صور بها محفوظ ذكريات الثورة لا وقائعها. إذ كان محفوظ طفلاً في التاسعة، فسكنت ذكريات الثورة وجدانه عبر رؤى ضبابية، وعبر عشرات السنين، أعادت تشكيل نفسها، فخفت وهجها، حتى أنه عندما عاد لكتابتها، كانت على هذا النحو من النعومة والتهذيب.

أما أحلام الفترة الانتقالية، التي كتبت في أثناء احتدام الوهج الثوري، فقد جاءت على درجة من الواقعية الساخنة، هي تترصد الكثير من التفاصيل والمشاهدات، وتدمج لغة الأحلام الرمزية والتخيلية، باللغة والمصطلحات التي أنتجها الواقع سواء في طبيعتها الرسمية والإعلامية، أو في طبيعتها الساخرة التي ميزت الخطاب الثوري وقتها. ربما لكل هذه الأسباب جاءت بعض أحلام الفترة الانتقالية، مرتبطة بآلية الإسقاط المباشر على الواقع، وكأنها تستنطقه، لكن هذا يجعل لنصوص محمود عبد الوهاب ميزة، فتعكس وعيه بأن كتابة الأحلام تجربة إبداعية كاملة، شأنها شأن القصة القصيرة، وإن احتفظت لنفسها بمسافة مأمونة عن السرد القصصي، فأحداث ووقائع الأحلام لا تملك منطق مثيلتها في القصة، ولغتها شديدة التكثيف والرمزية والإيحاء عنصر مميز لها، كما أن طاقة الخيال فيها أكثر اتساعًا، وديناميكية، وربما نزقًا. وأخيرًا، فإن سرد الحلم أو مجرد حكيه شفاهة، لا يمكننا -بحكم الطبيعة الإنسانية – أن نقف على تفاصيله، أو معانيه، وإنما يكون ظلاً له. وإذا كان الحلم نفسه، هو ظل التجربة الذاتية للإنسان، فإن كتابته ستكون ظل الظل.

 لم يكتب محمود عبد الوهاب، وقائع الثورة على نحو تسجيلي كما فعلت عشرات القصص والروايات التي تناولت هذا الحدث، بل كتب انفعالاته، وظلال ملابسات الأحداث، وتأملاته الذاتية لها. كما أن الكاتب لم يرهن كل أحلامه بالحدث الثوري، ولكنه تناول من خلاله أمورًا أخرى تستند إلى حياته الشخصية، امتثالاً لمبدأ أن الأحلام لا تخلص إلى موضوعاتها، بل تعمد إلى مراوغتها، والتمويه عليها بحيل عديدة ومرصودة عند المهتمين بدراستها. في نهاية الأمر، أحلامنا لا تظهر كموضوعات مكتملة، بل كصور مجتزأة، وضبابية، بل وملتبسة بالكثير من الصور المماثلة. لهذا فالثورة في أحلام محمود عبد الوهاب، تلتبس صورها بصور أخرى تدور في محيط الأصدقاء، وزملاء العمل، والأقرباء، والنساء اللاتي عرفهن في حياته.

مثل هذه الانحرافات عن الموضوع الثوري في أحلام محمود عبد الوهاب، تؤكد وعيه بآلية عمل الأحلام وفن كتابتها. فالذي يمتلك آلية الأحلام ويكتب بها، سرعان ما يدرك أنها تقوده إلى سراديب محفورة ومطمورة في لاوعيه، ربما كان يظن أنها عابرة، أو غير ذات شأن، أو منسية على نحو ما، ولكنها تلح في الظهور على سطح الوعي، وتواجهنا بما لا نعرفه عن أنفسنا، وربما بما لا نقدر على احتماله، لكن كتابتنا لها تحررنا منها، بدرجة آمنة.

نحن لا تستطيع أن نحدد بأي شيء نحلم، لكن لأن أحلامنا هي عالمنا المؤرق المجهول، فإنها تواجهنا بما لا نقدر على التحكم فيه، بحيث يمكن القول إن الأحلام تكتب نفسها، أي أنها تفرض أسلوب كتابتها على الكاتب. لهذا فهي تجربة مختلفة تمامًا عن كتابة القصة أو الرواية التي تحتاج تصميمًا مسبقًا لما سنكتب. ومع ذلك، سنجد في أحلام محمود عبد الوهاب، كثيرًا من النصوص، أميل إلى القصة القصيرة منها إلى الحلم. علينا ألا ننسى، أنها خطواتنا الأولى في فن سرد الأحلام. 

اختار محمود عبد الوهاب أن يصنف أحلامه، وأن يضع لكل حلم عنوانًا وليس رقمًا كما فعل محفوظ، وكذلك اختار مزجًا طريفًا بين تقنيات كل من الحلم والقصة معًا، فجاءت أحلامه التي تخص الثورة، قريبة من الوعي، ذات طبيعة رمزية صريحة أحيانًا، أي أنها أقرب إلى أحلام اليقظة منها إلى أحلام النوم التي تأتي من منطقة أعمق في اللاوعي، والتي نجدها بصورة أوضح وأدق في الأحلام التي تناولت عالمه الشخصي. ومن الطريف أنه كان على وعي بذلك، لهذا نجده في حلم (الفوضى) الذي ينتمي لأحلام الثورة: ” ها أنا أعلن أنني قررت التوقف عن كتابة أحلامي من الآن وحتى ينصلح الأمر، يأتي هذا بعد أن رأيت المنطق يغيب من بعض أحلامي الأخيرة حتى أصبحت عصية على التفسير..ألخ”.

 فالفوضى، وهي مفردة ترددت كثيرًا أثناء الثورة، لا تتجسد له في الميدان أو الشارع، ولكنها تنتقل إلى عمله وممارساته الشخصية وأحلامه، بمعنى أنها تحولت من كونها واقع مرتبط شرطيًا بحدث معين، إلى شعور داخلي مربك للذات، حتى أنه لم يعد قادرًا على التمييز بين الواقع والحلم، والأخطر من ذلك أنه لم يعد قادرًا على تمييز هويته فيما يرى من أحلام، فهو مرة ثائرًا ومناضلاً في ميدان التحرير، ومرة عميلاً في السفارة الأمريكية، ومرة زوجًا وأبًا حانيًا في البيت، ومرة عضوًا في منظمة إرهابية. هكذا لم تعد الفوضى موضوعًا خارجًا عنه بمسافة تمكنه من الكتابة عنه بتأمل واعٍ ومحايد، بل أصبحت سلوكًا قهريًا تحدده دوافع جوانية. إن هذا الوعي العميق لتداعيات الثورة أو المرحلة الانتقالية، لا يمكن أن يصل إليه كاتب يتلقى أوامر الكتابة من خارجه، سواء كان هذا الخارج  ميدان التحرير، أو الفضائيات التي تنقل الحدث لحظة بلحظة.

الفوضى ليست المفردة الوحيدة التي تجسدت في أحلام محمود عبد الوهاب من بين مفردات الثورة، هناك: الدولة العميقة، الطرف الثالث، البلطجة، النظام.. مفردات شكلت اللغة الرمزية لتلك الفترة، وسقطت في اللاوعي وأنتجت معانيها الخاصة، وأصبحت صالحة لا لتفسير الحالة الثورية فقط، بل الحالة النفسية لنا أيضًا. 

أما الأحلام التي تغادر موضوع الثورة، فقد تخلصت من الرمزية الصريحة، وبدت أكثر عمقًا وأوسع خيالاً، بما يشير إلى أن نصوصها أكثر اشتغالاً على آليات الأحلام ووظيفتها النفسية، فحلم بعنوان (ياسر) قد يجسد أزمة الكاتب نفسه لا أزمة الواقع الثوري، إذ يعكس إحساسًا عميقًا بالذنب، الذي يعانيه الفنان بسبب عزلته، وعجزه عن الاندماج في تفاصيل الحياة اليومية، لدرجه أنه غير قادر على أن يعبر عن سعادته بأن صديقه أصبح جدًا، فدلالة إنجاب الحفيد في الحلم تعكس إحساس الحالم بالعجز والكبر، الميلاد هو الوجه الآخر للموت.

وفي حلم (اتنين كيلو) يرى امرأة طالما رغب في أن يتزوجها، وكانت تشترى (كيلو موز) عندئذ يتدخل ويقول للبائع:( خليهم اتنين) وبهذه الطريقة يعلن عن رغبته في أن يشاركها في أمر له دلالة الحياة بوصفه طعاماً، ودلالة الرغبة باعتبار الموز رمزا جنسيًا. إن وعي الكاتب بإمكانات الرمز، وقدرته على تكثيف وتعميق الدلالة في كتابة الأحلام مطلبًا فنيًا وضروريًا؛ وهكذا تعمل الأحلام بلغة مراوغة وموحية، لتمنح القارئ فرصة إنتاج المعنى بنفسه، ومن ثم يصبح القارئ شريكًا في إنتاج النص الحُلمي.

إن فن سرد الأحلام يخلصنا من صورة السارد المستبد الذي يعرف وحده ماذا يكتب ولمن، كما يخلصنا من صورة الكاتب النبي الذي يحمل رسالته للعالم، وتتحول فيه الذات الساردة، من وضعية الكاتب الذي يتخذ من الآخر موضوعًا للكتابة، إلى وضعية الكاتب الذي يجعل ذاته، موضوعًا للكتابة، ومن ثم، تتلاشى المسافة بين الذات والموضوع في كتابة الأحلام، عندئذ تبدأ سلطة الكاتب في التراجع، فيما تبدأ سلطة النص، أو الحلم بوصفه نصًا ذاتيًا وموضوعيًا في آن واحد. وفي تقديري، أن كتابة الأحلام تقدم لنا بديلاً مميزًا لكتابة السيرة الذاتية، وتحررنا من تلصص القارئي الرقيب. ولا أستبعد أن نجيب محفوظ لجأ إلى كتابة الأحلام، بعد (أصداء السيرة الذاتية) التي ألهبت خيال نقاده وقراءه بالبحث عن الحقائق المخفية، وراء عمل أدبي في المقام الأول.

دفتر النائم[4] لشريف صالح

لا مناص من الظلال المحفوظية، ونحن نقطع الخطى الأولى في سرد الأحلام. ومن حسن الحظ، أن هذه الظلال لا تمتد لأبعد من عنوان نصوص شريف صالح (دفتر النائم) الذي يذكرنا برأيت فيما يرى النائم. فشريف صالح راح يبحث عن فضاء حلمي مختلف.

القارئ لدفتر النائم، سيدرك سريعًا، أننا أمام تقنية مميزة، تقف على التخوم الرهيفة بين الحلم والواقع، أو بين النوم واليقظة. فبدايات النصوص تنطلق من إيحاءات واقعية خالصة، على نحو ما يمضي النص القصصي، وشيئًا فشيئًا يقودنا إلى فضاء غرائبي، لا يحلق بنا في فضاء حلمي لاواعٍ، ولا تحط بنا على أرض الواقع المعيش، بل تتركنا عالقين على التخوم بين الحقيقة والخيال.

إنها حالة شعرية بامتياز كتلك التي يسميها باشلار، شعرية أحلام اليقظة. هكذا يقدم لنا شريف صالح إمكانية جديدة، تبدأ بتأمل الواقع، والتحديق فيه لسبر أغواره، ثم سرعان ما ينقلب كل شيء حالة حُلمية، تحتفظ بطابعها الشعري.

سرد أحلام اليقظة يختلف بدرجة ما عن أحلام النوم بهذا الحضور الشعري الهامس بين السطور، فأحلام اليقظة، تعبير عن أماني وتطلعات، لا تخضع على نحو مطلق لفوضى اللاوعي وأبعاده المجهولة، لذلك هي أكثر انضباطًا وعقلانية، فتعرف بأنها شعرية التأملات الشاردة، وهي وأقرب إلى منطق الواقع،  ومن ثم فكتابة أحلام اليقظة، تمثل إمكانية أخرى من سرد الأحلام.

أحلام اليقظة هي أحلام تحظى بقدر كبير من قصدية، ومسؤلية ورعاية وعي كاتبها. يتم فيها إعادة إنتاج الواقع من منظور ذاتي وبرؤى قد لا يعجز الواقع عن تحقيقها، ولكن تحققها، قد يحتاج لقوانين خارقة له، وخارجة عنه. مثل هذه القوانين، لا نجدها إلا في عالم الأساطير وأحلام النوم. إن لحظة التحول في أحلام اليقظة، من البدايات الواقعية إلى النهايات المستحيلة، هي بالضبط لحظة اليأس من عجز الواقع على تحقيق أحلامنا وأمانينا، ومن ثم نتحرر منه، وننطلق إلى أفق حلمي أكثر قدره على إشباع جوعنا الداخلي.

 ولسنا على يقين من أن هذا التحول يحدث بإرادة واعية، هكذا.. أحلام اليقظة وثيقة الصلة بأحلام النوم، أو هي أحد تجلياتها. لكن انطلاقتها الواعية بمثابة تصميم مسبق لموضوع حلم اليقظة، لهذا يقول باشلار أن لا جدوى على الإطلاق من البحث عن سوابق لا واعية لها، فهي:” ككينونة لغوية جديدة، لا يمكن مقارنتها البتة، حسب التعبير المجازي المعروف، بصمام يفتح لإخراج الغرائز”[5]

 وعن أسبقية التصميم لموضوع حلم اليقظة يرى باشلار أن “التأملات هي مادة ليلية منسية في وضح النهار، فأحلام يقظتنا الواعية، قد تتكثف وتسقط في لا وعينا، ومن ثم تراودنا في نومنا”. ومغزي كلام باشلار، أن أحلام اليقظة، هي أحلام مقصودة لذاتها، كونها تأملات منسية تسقط في اللاوعي، وهذه القصدية، والتصميم المسبق لأحلامنا، يجعلها أقرب للكتابة منها إلى أحلام النوم، حتى وإن ظهرت في أحلام نومنا، بعد سقوطها في لا وعينا، فنحن أصحابها وصانعوها. هذا التفسير المميز للحلم وآلية عمله، التي تحتوى على قدر من تأملات صاحبها، هو تفسير مناقض، ومتهكم، من تفسير فرويد، الذي يعتبر الأحلام، صندوقًا لغرائزنا.

بغض النظر عن تهكمات باشلار من تصورات فرويد للاوعي، كونه مخزنًا للمكبوتات الجنسية المهملة، فهو يؤكد على أن طبيعة الفن تحتاج قدرًا من الوعي، يتوفر في (التأملات الشاردة) أحلام اليقظة. أما أحلام النوم، فهي تظل مجرد أحلام ما لم تفعّل جماليّا، لهذا فإن كتابة الحلم، هو التجسيد الجمالي للاوعي، أو بمعنى آخر، هو الذي يحيل أحلام النوم إلى معنى شعري، ليكون حلم يقظة. معنى هذا أن كتابة أحلام النوم، هي نفسها أحلام اليقظة، و هي الإبداع ذاته، وإلا تظل أحلام نومنا، مجرد أحلام.  

  ونتيجة لهذه الطبيعة الرؤيوية والجمالية لأحلام اليقظة، فهي في حد ذاتها تجربة فنية. فالكاتب ليس مضطرًا للرجوع إلى المادة الخام كما يحدث في كتابة أحلام النوم، ولا الدخول في دهاليزها المظلمة، ولا الاستسلام لكل آلياتها المعقدة التي تعمل على تمويه المعاني ومراوغة الرموز، إنها قصد مباشر لكتابة ذات فاعلية خيالية، بوصفها ضرورة لأي إبداع.

ما نعنيه هنا، أن كتابة أحلام اليقظة أقرب منالاً من كتابة أحلام النوم، لأن تأسيسها على معطيات الواقع المعاش، يجعلها أقرب في كتابتها وتلقيها إلى نص أدبي، يرجع إلى الواقع ليكسبه لمسة من التغريب تخرجه عن ألفته، وتفصح عن حضور الذات الساردة في نفس الوقت، ومن غير أن يتخلى كليًا عن تماسك البناء السردي، وشفافية الدلالة، فضلا عن حضورها الشعري. إنها حالة من التغريب المرادفة لأي شكل فني، فأنت إذا كنت تمر على النيل كل يوم، سيصبح مألوفًا، وفاقدًا للروح، ولكن؛ إذا رأيته عبر فيلم تسجيلي، أو أغنية بصوت محمد عبد الوهاب مثلاً، سيبدو لك خلقًا جديدًا، وساحرًا.

لقد لاحظنا في أحلام (الفترة الانتقالية) أسبقية التصميم قبل الكتابة، وهذا ينسحب أيضًا على (أحلام فترة النقاهة) لدرأ الظن بأن كاتب الأحلام، هو مجرد موثق لأحلام نومه. وخلاصة هذا، أن الفارق بين أحلام محمود عبد الوهاب، وأحلام شريف صالح، هو إجراء تقني ليس إلا. فمحمود عبد الوهاب، يضعنا في قلب الحلم مباشرة، ولذلك جاءت نصوصه، شديدة التكثيف، بينما أحلام شريف صالح، تتوسل بمقدمات توهمنا بواقعيتها، حتى نجد أنفسنا متورطين بداخل عالم حلمي تمامًا. لكننا لن نشعر ببعد المسافة بين الواقع والحلم، بل وفي أحيان كثيرة، نجد في دفتر النائم، أن الحلم والواقع يتبادلان موقعيهما أكثر من مرة، على نحو ما نجد في نص: (حقك من الدنيا).

البداية في قصة (قصر الأموات) تتسلل إلينا عبر وصفية واقعية لفوج سياحي في زيارة قصر أثري، الزوار يتجولون في جنبات القصر خلف الدليل يتأملون كل قطعة فيه. لا بأس أن يطرأ على ذهن (س) من الزوار أن هذا القصر الغريب الصامت ربما يكون مسكونًا بالأشباح. هذا مجرد خاطر عابر ومألوف في مثل هذه الأماكن. الزوار يتوقفون عند لوحة كبيرة لامرأة، بعد وقت نسمع همهماتهم وخطواتهم الخفيفة وهم يغادرون إلى مكان آخر. لكن (س) يبقى محدقًا في اللوحة. يقرأ ملامح المرأة الشاحبة، ويرصد علامات الضيق والضجر في نظرتها اليائسة، عندئذ فكر أنها قد تكون منزعجة من الزاور الذين يتجولون في أرجاء المكان بلا مراعاة لحرمته.. هكذا قادته أفكاره إلى أن الأشباح التي قد تسكن مكانًا كهذا لابد أنها لأصحابه. ولا بد أنهم منزعجون تمامًا من أن بيتهم أصبح مستباحًا للغرباء.

حتى الآن، نحن أمام نوع من الاستغراق التأملي الملتبس بالخيال، تمامًا كما نفعل في أحلام اليقظة. لكن الرجل، يشعر فجأة بحركة خلف ظهره، عندئذ ينتبه إلى أنه أصبح وحيدًا في الردهة. ثم شيئًا فشيئًا بدأ يشعر بحركة سكان القصر من حوله، ثم تخرج امرأة اللوحة من إطارها، وتساعده في البحث عن زر قميصه الذي سقط، بل وتخيطه بنفسها. هكذا يسحبنا شريف صالح إلى عمق الحلم دون أن ندري، هكذا يلتبس الواقع بالخيال، والماضي بالآني في لحظة لا تتحقق في وعينا إلا عبر الأحلام. لحظة خاطفة، لكنها مثقلة بدفق الأزمنة.

 وكما تنجح هذه التقنية في اكتناز الأزمنة، تنجح أيضًا في اكتناز الأمكنة، على نحو ما نجد في قصة (كوخ ست الحسن) التي تنطلق من مشهد يبدو واقعيًا ومألوفا أيضًا، فثمة فتى يرى لأول مرة، فتاة ترش الماء على التراب أمام كوخ مطل على النيل، فيما يتناهى إلى سمعه صوت محمد قنديل يغني (حدوتة). هنا لحظة التحول من الواقع إلى الحلم، تأتي عبر تواطؤ بين الصوت والصورة لتنسج  حالة شعرية، من مادة الحواديت، مسكونة بالموروث الشعبي في ذهن القارئ عن حدوتة ست الحسن  والجمال، التي تسقى عابر السبيل من أبريق فضي، عندئذ يصبح أسيرًا لمكانها وزمانها في لحظة واحدة، حتى أن العمر مضى بالفتى بعيدًا، في مشهد رمزي:

“سعلتْ، ثم اعتدلتْ في فراشها، وهى تحدق فيّ:

 ـ شعرك شاب كثيرًا منذ رأيتك أول مرة.

 تطلعت من كوة الكوخ.. فرأيت نفسي شاباً قادماً من بعيد”.

 جملة النهاية هذه أعادتنا إلى لحظة البداية، عندما رأينا الشاب قادمًا لأوِل مرة في اتجاه الكوخ، فهل نحن أمام زمن يكرر نفسه؟ أم أن كل الذي حدث في القصة لم يحدث بعد، ومازلنا في لحظة الانبثاق الأولى لها؟ أو أن ما حدث ليس سوى حلم يقظة؟ هكذا يكون للتكثيف اللغوي والمهارة التقنية فعل السحر في تفعيل الزمان والمكان على نحو حلمي.

وإذا كانت أحلام اليقظة تضعنا على تخوم الخيال كما رأينا في القصتين السابقتين، فإن الاستلهام العرفاني في قصة (حقك من الدنيا) يضعنا في لحظة أكثر رهافة والتباسًا. وهي قصة عجيبة وثرية ومركبة، بحيث لا يمكن اختصارها دون الإخلال بشروطها الجمالية، بسبب الحضور الدلالي المكثف والمتشابك على الرغم من بساطتها ونزوعها إلى الخفة، غير أن خفتها هذه هي سر جاذبيتها. وفي مقابل هذه الخفة، يبدو الزمن ثقيلاً وبطيئًا في حركة، فبائع الفول يحتاج وقتًا طويلاً ليعد ساندوتش الفول، وعندما يحتج الزبون، يبدى البائع دهشته من عجلة الزبون، ويلفت انتباهه إلى أن للزمن هنا معنى آخر ” بص.. اهو عمك حمودة الفيل، عنده طلبات كنافة شعر من عشرين سنة، وأنت مستعجل”.

 آلية التضخيم في الحلم يمكنها أن تمد الزمن إلى ما لانهاية، ويمكنها أن تعيد تكراره أو توقفه؛ كما يمكنها أن تختصر تاريخًا في لمح البصر، ويمكنها أن تضعنا في زمن مفتوح، إنه زمن الأحلام الذي قد يمتد بلا حدود. 

أما التقنية التي تعتبر إضافة مميزة لأحلام اليقظة، فهي ذات طبيعة شعرية، ويمكن تسميتها بتقنية (تفعيل المجاز) فأنت عندما تقول:” أطير من الفرح”، يبدو هذا تعبيرًا مجازيًا لا أكثر، لكن مد هذا المتخيل على استقامته، بحيث يسترسل السرد في وصف شعور الراوي بالطيران ورؤيته للعالم من حالق، يجعلنا نخرج من منطق المجاز إلى منطق السحر. هكذا كان الناس في طفولة الإنسانية يعتقدون أن للغة قوة سحرية مكتنزة في مجازاتها، ومازال أطفالنا يستخدمون المجاز في ألعابهم ويؤمنون بقدرتها على التحقق.

 في قصة (توت) تبدأ بطفل يلعب لعبة القطار، ويمضي يقلد صوت القطار وحركته، يستغرق في لعبته، وفي لحظة خاطفة، ننتبه إلى أن الطفل صار قطارًا فعلاً، يعبر المحطات سريعًا وكلما مضى، تتساقط من نوافذه الأشياء، التي تحمل في البداية رمزًا من الطفولة (قطتي) ثم تتصاعد طبيعة الرموز في أهميتها لتدل على تقدم العمر، فيرى دفتر أحلامه يطير من نافذة القطار. وفي مقابل سرعة القطار، يتسارع تقدم العمر، وتتساقط رموزه من النافذة. هكذا تأتي فتاته متأخرة بعد أن تساقط منه كل شيء. 

في هذا النص اشتغال طريف على المكان، وهو يبدو من نافذة القطار يتحرك بعكس اتجاه القطار، فتعطيه الحركة طبيعة زمنية، وفقًا لنسبية اينشتاين، حيث يفترض أن الزمن مقياس مطلق لسرعة حركة القطار. وإذا كان القطار نفسه يجسد رمزًا للزمن، أو العمر في الموروث الشعبي، وهو في نفس الوقت مكان متحرك (قطار) سنكون أمام طبيعة زمكانية مركبة، تمثل العلاقة المتعاكسة، بين أحلام الفتي المندفع في الحياة، والفتاة التي تنتظر حتى فاتها القطار. هذه العلاقة، تظل مفتوحة على كل الاحتمالات طوال النص، الذي لا يعد بنهاية، فمازالت الفتاة تنتظر، ومازال الطفل طفلاً يجرى ويصرخ توووووووووووووووووت.

ويصبح التفعيل المجازي أكثر قدرة في التعبير عن الذات الساردة وعلاقتها بالواقع المعاش، حتى لتقترب من معنى الأزمة الوجودية، عن علاقة الإنسان بجسده. فقصة (هروب جسدي) تبدأ هكذا:” وأنا أشرب قهوة الصباح في البالكونة، انتبهت أنني لم ارتدي جسدي” قد يبدو هذا تعبيرًا مجازيًا، لكنه يمتد طوال القصة، في مطاردة صاحب الجسد لجسده عبر أمكنة عديدة، فيما الجسد، يفلت، ويراوغ صاحبه، ثم يراه في النهاية ممسكًا في بالون ومعلقًا في الهواء، فيقف عاجزًا عن فعل أي شيء. إن تصعيد الجسد للسماء وبقاء الروح على الأرض يفتح أفقا تأويليًا خصبًا عن العلاقة بين الجسد والروح في الموروث الثقافي والديني.

وإذا كانت كل نصوص المجموعة تتمتع ببعد تغريبي ساحر، فمن شأن ذلك، أن يوسع أفق الدلالة، ويعمق المعنى، ويضفي عليها قدرًا من الوحدة العضوية، التي تنظمها الطبيعة الفانتازيا للأحلام المحملة بطاقة شعرية، فضلاً عن لمسة من الخفة، والرشاقة الأسلوبية، التي عادة ما تصل ذروتها في نهاية النص، على نحو ما رأينا في نص (هروب جسدي) عندما تعلق الجسد بالبالون وصعد إلى السماء.


[1] مصطفى يونس: ما وراء الجدار.. الكشوفات، قصص قصيرة، نشر خاص، مطبوعات جائزة عماد على قطري،2015م

[2] حسن وهبة: مقدمة ما وراء الجدار .. السابق.

[3] محمود عبد الوهاب: أحلام الفترة الانتقالية، قصص قصيرة، دار آفاق، القاهرة، 2013م

[4] دفتر النائم – شريف صالح- قصص قصيرة_ قطاع الثقافة بأخبار اليوم.-2016م

[5] جاستون باشلار: مقدمة  (شاعرية أحلام اليقظة)، ترجمة جورج سعد، المؤسسة الجامعية، للدراسات والنشر، بيروت، ص6

فكرة واحدة بشأن "مدد الأحلام …سيد الوكيل"

أضف تعليق