محمد الراوي

الوقوف علي أعتاب الزهرة الصخرية لمحمد الراوي..بقلم ياسر محمود محمد

مقدمة:

رؤية من خلال الشخصيات

تعتبر الشخصية مفتاحا مهما للولوج إلى عالم الزهرة الصخرية، وإذا كان المكان هو المفتاح للدخول في عالم “تل القلزم” في دراسة سابقة ، فإن الشخصية هنا تمثل جانبا هاما للرؤية الفلسفية لدى الكاتب . فنحن نرى المكان من خلال الشخصية، من خلال لغة الشخصية وتفكيرها ، وتيار الشعور لديها .إننا نرى العالم كما يراه إسماعيل ، وإسماعيل يرى العالم من خلال الآخرين ، فتصبح العلاقة : “نحن” نرى من خلال “هو” الذي يرى من خلال “هم ” .

الراوي1

          إننا نرى العالم من خلال انعكاسه على شخصيات الزهرة الصخرية وطبقا لمفهوم البطل . إن الرواية هنا في شخصياتها تقترب من مفهوم ( عدم أصالة الكائن الإنساني )  الذي ركز عليه كاتب ” الحقيقة الروائية والكذب الرومانتيكى” كما قدمه السيد  ياسين في كتابه ” التحليل الاجتماعي للأدب “. إن ذلك المفهوم يعنى ـ لكي نقربه من أذهاننا ـ أن الكائن الإنساني لا يمتلك القدرة على الرؤية الحقيقية للأمور..إننا نرى الأمور من خلال الآخر، ماذا يفعل الآخر فنفعله ، فالحقيقة لا تحدث ( إنني أرغب في شئ..دائما هو الآخر الذي يرغب من خلالي )  وهذا ما يتضح في الرواية..فالبطل يرى الأمور دائما من خلال الآخر..والآخر هنا هو شخصيات الزهرة الصخرية .. يرى الآخر ويريه بدوره لنا . إن الشخصيات هنا ( البطل/ وشخصيات الزهرة الصخرية )هم مفتاح الحل لنا لرؤية حقيقة الحياة من خلال العالم الأسطوري ل “محمد الراوى ” في الزهرة الصخرية .

الشخصية الأولى : ” الراوى العليم ” :

     لا نعرف له اسما .. إننا نفتح أول صفحة فنجد هذا الراوى العليم الذي يبدو أنه جاء لكي يأخذ بأيدينا إلى عالم الزهرة الصخرية : ” كان من عادته أن يذهب بسيارته في طريق فرعى عند ساحل البحر ثم ينعرج إلى قلب الجبل. وكنت أحب أن أفعل ذلك عندما يكون الجو صحوا ومنعشا ” ص 7

          وهناك يقابل الشيخ عسران ، ونلاحظ أن الراوى العليم لكل شئ ليس كالراوي العليم التقليدي الذي يظل معنا من أول الرواية إلى آخرها، إنه الراوى العليم الذي لا يظهر سوى في العشرة صفحات الأولى من الرواية، يظهر كشخصية منفصلة، لكن بعد ذلك يندمج مع البطل ،فالراوي عند قراءته الأوراق لا يفصل بينه وبين إسماعيل، وفجأة نلمح إسماعيل كإنما اندمج به،وتنتهي الرواية  بالموقف بين إسماعيل وقمره ولا يظهر الراوى العليم فهو قد افتتح الرواية ثم اندمج مع البطل ولم ينفصل عنه في نهاية الرواية فالذي يختم الرواية هو إسماعيل وليس الراوى العليم : ” وتخطينا في التجويف الصخري مكان الرجل الراحل واتجهنا نحو الخيمة فاعتقدت أنها ستتوقف عندها وتدخلها ، لكنها تجاوزتها واستمرت تعدو عارية تجاه قرية الزهرة الصخرية وأنا خلفها أعدو” ص 131

الشخصية الثانية : إسماعيل / البطل 

ظهر اسم إسماعيل في الرواية لأول مرة في ص 8 عندما يقرأ الراوى العليم بكل شئ اسمه على أوراق بلا عنوان أعطاها له الشيخ عسران : “وكانت هذه أول مرة أتصفح فيها أحداث الزهرة الصخرية، كانت أوراقا بلا عنوان ..كتب على أول ورقة  في أعــلاها  “إسماعيل ” بخط كبير وتحتها كلمتين صغيرتين(الزهرة الصخرية) ص 8 .

          إن هذا يوحي كما لو كانت أحداث الزهرة الصخرية هي مذكرات إسماعيل التي يقرأها ( الراوى العليم بكل شئ) .إلا أن ذلك الأمر ينتهي في نهاية الرواية..فلا يأتى الراوى العليم بكل شئ مرة أخرى ليخبرنا بالنهاية كما أخبرنا بالبداية .

إسماعيل: المنفى /المراقب/المتفرج

          إن رحلة إسماعيل في الزهرة الصخرية مختلفة لأنها رحلة لعالم أسطوري مختلف وإذا كانت الرحلة هي : ” غربة، هي دخول في الآخر، هي تمثيل “نحن” لدى “الآخر” ، هي نقلة في الزمان سواء كانت بالفكر أو الخيال” (1)

          دور إسماعيل في هذه الرحلة هو الغربة  على أن الآخر لم يحاول الاندماج معه في هذه النقلة الزمنية لا في آخر الرواية مع قمره، ظل غريبا عن عالم الزهرة الصخرية يراه  من خلال الآخرين وليس من خلال رؤيته الخاصة . وإسماعيل شخصية تقف هي الأخرى من بعيد مثلها في ذلك مثل الراوى العليم ..يقتصر دورها على مجرد الفرجة ـ الفرجة من أول الرواية إلى آخرها..الفرجة على أهالي القرية الصخرية ، ومنذ بدأت رحلته لا يملك سوى فعل الفرجة والوصف، فهو في السيارة العتيقة يقول :

” كنت أريد أن أعرف إلى أين نحن ذاهبون وكنت أريد أن أسأله عما إذا كانت هذه البلدة هي التي سيكون فيها عملي( لكنه لم يفعل ) كنت أتوقع أن تتوقف العربة في أي لحظة في مكان ما قائلا لي : هنا ، هنا عملك وهنا نهاية المطاف فانزل واسترح ” ص14

          في هذه الفقرة تبدو رحلة إسماعيل في الزهرة الصخرية فهو المنفى/المراقب/ المتفرج لما حوله..غير قادر على الفعل، بداخله الأسئلة لا يطرحها ليعرف إجابتها بل يقتصر دوره على التوقع ـ الذي قد يصيب وقد يخيب ـ وعلى الوصف، الوصف لما حوله ..وهذا شئ طبيعي فهو في رحلة ، رحلة كل ما حوله فيها جديد وغريب . رحلة أشبه بالفرار أو النفي(فرار/ نفى) من شئ مجهول، ليس مبعوثا كما حاول أن يوهمنا ، ليس مبعوثا للزهرة الصخرية كمدرس ليعلم أبناءها لأنه لا يستطيع قول لا وبالتالي فقد جاء ليس باختياره ، حتى عندما حاول قول لا عندما عرض عليه الشيخ عسران استخدام الرافعة للصعود فقال له : ” لست بهلوانا حتى أتسلق الجبال بالحبال ..لأول مرة منذ قابلته أرى ملامح نفاذ الصبر والغضب على وجهه . حدجنى بنظرات صارمة على وشك الانفجار ” ص46

          يوافق إسماعيل على طريقة الشيخ عسران في الصعود للجبل . إن دوره هو الموافقة والفرجة على هذه الرحلة /النقلة الزمنية العجيبة ..والإذعان لكل مطالب الشخصيات .

المنفى / الفـار :

          إنه منفى فار ينتظر أن تنتهي الرحلة ـ رحلة الزهرة الصخرية ـ لينزل ويستريح..هو فار من التجارب الجديدة المخيفة في عالمها ـ باستثناء تجربة قمره الفعل الوحيد في رحلته ـ فار من الحيوانات الغريبة التي تأتيه ليلا، فار من الرافعة التي ستأخذه إلى العالم الجديد، وكأنما الزهرة هي الحياة، أراد أن يجسد لنا إسماعيل الحياة التي نعيش فيها وكأنما هو كان يعيش في السابق حياة أخرى هرب منها إلى حياة جديدة(الزهرة الصخرية) عن طريق الرافعة(آلة الربط ما بين عالمين/ حياتين مختلفتين (2) إلا أنه يستمر في الهروب في حياته الجديدة أيضا.

          وبذلك يطرح الكاتب مفهوما ربما يعبر عن فلسفة تعدد الحيوات. وذلك يذكرنا من جديد بأن قراءات  الكاتب الفلسفية أثرت على فكرية وشكلانية أعماله..فأصبحت كل عبارة له وكل شخصية قضية فكرية يناقشها خلال الرواية .

          ومن ثم فالغرض الأساسي أن الزهرة الصخرية هنا لرؤية الكاتب/البطل هي الحياة بآلامها وأمالها وأيضا بأحلامها وهلاوسها، الحياة التي ينتظر بطل القصة إسماعيل أن ينزل ويستريح منها . وفى رحلة الحياة  لا يبدو أن له دورا .. فقط ينتظر النهاية ليعرف ويستريح .

المنفى والسؤال :

          وإسماعيل في هذه الحياة يقف فى حيرة..ينتظر من الشيخ عسران أو الرجل العجوز أو قمره أو غيرهم ،  ينتظر منهم أن يرووا له كل شئ عجيب وغريب في هذه الحياة. إن الشيخ يخبره الزهرة الصخرية وعن الخراف والماعز والرافعة، والرجل العجوز يخبره عن الكائنات التي تأتى إليه ليلا في الخيمة وغيرها، وقمره تخبره عن الكهف وعن جسدها هي نفسها .

         إنه دائما في موضع السؤال/الحيرة مما حوله..لكنه يتقبل في آخر الأمر الواقع/الحياة رغم أن حقائقها الغريبة تثيره : ” كنت(3) أريد أن أسأل قمره عن الكهف الذي ينام فيه زوجها بلا عوده، ولماذا اختار أن يدخل هذا الكهف الغامض الذي سمع عنه لأول مرة من قمره. تثيرني الحقائق الغريبة لكنى أتقبلها وكأنها ضرورية في الزهرة الصخرية، الخيال والواقع متجاوران ومتلازمان ..لا يستطيع أحد أن يفصل بينهما..فالحياة في الزهرة الصخرية نسيج واحد ” ص 121 .

          لكنه لم يفعل..وظل السؤال بداخله يؤرقه حتى لحظة النهاية . نعم إن الحياة في الزهرة الصخرية والحياة عامة هي مزيج من الأحداث الغريبة التي يتلازم فيها المتناقضات(الواقع/ الخيال) نسيج واحد لا بد أن ” أن تتقبله وأن تعيشه يا إسماعيل “.

الأنثى الوجه الآخر لنا :

          الدور الوحيد الذي قام فيه إسماعيل بالفعل في هذه الحياة كان دوره مع قمره، دفعته في المرة الأولى فرضى مستسلما ، لكن في المرة الثانية كانت له إرادة الفعل ..كل شئ ممكن تقبله في هذه الحياة..يمكن الإيمان به إلا فقدان المعنى الوحيد لكوننا أحياء قادرين على الاستمرار فى الحياة وللحياة عن طريق الأنثى/ الوجه الآخر لكوننا أحياء .

” لا يا قمره كانت لك مرة وهذه المرة لي،وبدلا من أن تدفعني دفعتها أنا فتدحرجت على الأرض” ص29 .

          إن محمد الراوى ككاتب يقدس المرأة ويعلى من قدرها في مقابل ادعاءات النقص لديها، يظهر ذلك في كتاباته النقدية وفى شخصية “آجى” في رواية تل القلزم (4) وربما كان ذلك لأن محمد الراوى عاصر حروبا متتابعة في فترة عصيبة في تاريخنا المعاصر، وكان انتمائه لمدينة مثل السويس تحملت المشاركة في كل الحروب، ومعايشته لتجربة التهجير دافعا له ليحس بقيمة المرأة .

          إن المرأة لديه هي الوطن،الوطن الذي يدعو إليه في آخر الأمر بعد الرحلة الشاقة ليعيش معه لحظاته الحميمة( لاحظ ختام قصة تل القلزم التي تنتهي بمشهد للبطل وآجى وقارن بينه وبين مشهد البطل وقمره في رواية الزهرة الصخرية) إن المرأة هي الوجه الآخر لنا .

          وفى مقابل مفهوم آخر للمرأة يقف بطل محمد الراوى متفردا أمام غيره من الكتاب الذين تسعى المرأة إلى بطلهم بينما يهرب البطل حيث تكون المرأة مدنسة مليئة بالإثم والخطيئة . (5)

          وإن المرأة عند بطل محمد الراوى هي الجزء الأهم في الحياة الذي نعرف فيه أنفسنا . ورغم كل الأشياء المبهمة والهلاوس التي نواجهها في عالمنا فإن الحصول عليها بعد مقاومتها لنا هو الشيء الذي يجعلنا نعرف ذواتنا الحقيقية ..” رفستنى ساقاها وضربتني بذراعيها فألقيتها على الأرض ، تعرت ولاح عمودان منحوتان من صخر مصقول  وألقيت جسدي فوقها وكأني ألقيت نفسي على زهرة من زهور الزهرة الصخرية

ص 131 .

          نعم ..إن قمره/المرأة هو الزهرة الصخرية ..وكما قلنا أن الزهرة الصخرية هي الحياة فإن المرأة لدى البطل هي معنى الحياة .

شخصية غير واضحة المعالم :

          شخصية إسماعيل غير واضحة المعالم ،مثلها مثل أغلب شخصيات الرواية،نستثنى من ذلك قمره ربما لأنها الرمز للوطن ،والوطن لا بد أن يكون محددا معروفا. أغلب شخصيات الرواية لا تعرف إن كانت صفاتها الشخصية أو معالمها الجسدية ،اكتفى الكاتب بوصفها وصفا عاما ، فهو يقول الشيخ عسران، العجوز، الأطفال، وكلها ألفاظ عامة تنطبق على كل من يشملهم هذا الوصف .

          حتى البطل..أراده الكاتب عاما يمثل كلا منا، اختفت الصفات في القرية ، هي الأخرى غير محددة/ أسطورية ..في عالم كهفه مجهول في زمن غير معروف ..إن الزهرة الصخرية أسطورة للحياة اختارها الكاتب ليرمز لكل ما هو داخلنا وخارجنا في هذه الحياة .

الاختفــاء :

          اختفت شخصية إسماعيل في نهاية الأمر ولا نعرف  إن كان ذلك الفعل بإرادته أم لا ، إننا علمنا بهذا الاختفاء من بداية الرواية على لسان الشيخ عسران ، ويوحى هذا الاختفاء وتسميته بالاختفاء المحمود( الذي ليس وراءه حادث أو انتحار في مقابل الاختفاء الخبيث الذي يترك وراءه جثة أو آثار دماء ) يوحي ذلك بأنه كانت هناك العديد من الاختفاءات .

          إن محمد الراوى هنا يبدأ روايته من النهاية (6) . المؤكد أن إسماعيل اختفى ويبدأ “الراوى العليم” / الشخصية المجهولة ـ التي تبدو كما لو كانت المؤلف ـ في الامتزاج بإسماعيل من خلال أوراقه التي وجدها الشيخ عسران. الاختفاء علامة مهمة في الرواية وقد يعنى الاختفاء أن دوره في الزهرة الصخرية /الحياة قد انتهى مفسحا المجال لآخرين. القصة الحداثية والاختفاء :

          كيف تختفي شخصية البطل ؟ إن البطل يموت..يعيش ..ينتقل إلى حياة أخرى .

بطل القاهرة الجديدة لنجيب محفوظ ينتهي أمره بفضيحة، بطل قنديل أم هاشم يغير مفاهيمه في نهاية الرواية وبالتالي يغير حياته، حتى يوسف إدريس بطلته عزيزة في الحرام نعرف أنها قتلت من بداية الرواية  ويبدأ الراوى العليم في ذكر الرؤى المختلفة للشخصيات حول كيفية حدوث قتلها ، لكنها لا تختفي ..كيف إذن يختفي بطل محمد الراوى  ؟

          إن ذلك التساؤل يعود بنا إلى فرضية أن الرواية الحداثية لا تقدم حلا لأنها مبنية على التناقض في الأساس . الحياة الحالية تعتمد على تقديم فروض عدة ، والفروض لا تصل في الحسابات المنطقية /الرياضية إلى نفس الحل أبدا .. حسنا إن الاختفاء قد يعنى أنه نجا/هرب/مات/ ضاع / خطف ..الخ

          كل تلك الحلول وغيرها يقدمها المؤلف لشخصية بطله إسماعيل  الذي اختفى منذ بداية الرواية .

الاختفـاء عند خيري شلبى :

          ظاهرة الاختفاء عند خيري شلبى  تبدو  مشابهة إلى حد ما لظاهرة الاختفاء عند الراوى . نجد في بعض روايات خيري شلبى وجود أبطال تختفي..صحيح أن هؤلاء الأبطال قد يعودون مرة أخرى في مناطق مختلفة من الرواية ، إلا أن بعضهم لا يعودون أبدا .

          في رواية “الشطار” (7) مثلا وفى زخم الأبطال والأحداث نجد شخصيات تختفي وإلى الأبد وشخصيات تختفي وتعود. إن ذلك يؤكد أن الحياة الحالية تفرض مفاهيمها على أبطال القص الحداثى. فالاختفاء هنا ليس هروبا أو عجزا، إنه بحث عن الحل/أو الحلول الاحتمالات الصالحة لإمكانية العودة ..أو كما يقول محمد الراوى على لسان بطله إسماعيل :” واتجهنا نحو الخيمة فاعتقدت أنها ستتوقف عندها وتدخلها، لكنها تجاوزتها واستمرت تعدو عارية تجاه قرية الزهرة الصخرية..وأنا خلفها أعدو ” .

الشخصية الثالثة : الشيخ عسران :

1ـ الشخصية الأسطورية : يبدو الشيخ عسران ،كشخصية أسطورية، أشبه بالكاهن/الواعظ لا بد أن تطيعه في كل شئ مهما بدا غريبا..هو كبير في السن نعرف ذلك من خلال صفاته في الرواية، ومن خبراته بكل شئ حوله وفى الزهرة الصخرية. يظهر الشيخ عسران في أول الرواية ليعطى أوراق إسماعيل إلى الراوى العليم ..إن ذلك يوحي بأن الراوى العليم سيخوض نفس تجربة إسماعيل والدليل على ذلك أن الوسيط في الحالتين للعبور إلى الزهرة الصخرية هو الشيخ عسران .

      إن مشهد تعرف الراوى العليم على الشيخ عسران يوحي لنا بأنه شخص أقرب إلى  

شخصيات الحواديت الشعبية والأساطير والخرافات ، أو هؤلاء الذين يخرجون فجأة من العدم أو من بطن الجبل : ” إذا به يخرج من بطن الجبل فى هدوء غريب وكأنه كان على موعد معي. ألقى بالتحية وقرفص بجواري . قال : أنا الشيخ عسران ، ثم أخرج من صرة كبيرة كان يحملها على كتفه كوزا وأكوابا. أشعل نارا وقام بعمل شاي شربناه معا ونحن نتبادل الحديث ” ص7 .

الوسـيط :

          إن الشيخ عسران هو الوسيط ما بين عالمين، عالم ما قبل الرحلة وما بعدها، يقتصر دوره على مرافقة إسماعيل في مرحلة الانتقال (8) ومساحة الشخصية نفسها تقتصر على هذا الدور. إنه جاء ليعطى للراوي العليم أوراق إسماعيل كوسيط، وهو الوسيط أيضا ما بين عالم إسماعيل الأول وعالمه في الزهرة الصخرية .

الوسيط المسيطر:

إن الوسيط مثل الطبيب الذي يخرج بالجنين إلى الحياة، لا بد أن يكون قاسيا قسوة الرعاية،مسيطرا منذ أول عملية الانتقال إلى آخرها، وتظهر سيطرته هذه على إسماعيل فى موقف الاختيار عند صعود الجبل بالراوي ، إنه موقف يستدعى الموافقة أو الرفض، حاول إسماعيل الرفض، لقد خشي على نفسه السقوط في مرحلة الانتقال، لكن رد الشيخ عسران/الوسيط كان حاسما : ” يا أخي اصعد ..إنهم فوق منذ آلاف السنين، هل أحضرناك لتقول لهم انزلوا ..اصعد أنت إليهم . ـ لست بهلوانا حتى أتسلق الجبال بالحبال . لأول مرة منذ قابلته أرى ملامح نفاذ الصبر والغضب على وجهه، حدجنى بنظرات صارمة على وشك الانفجار” ص46 .

          إلا أنه في نهاية الأمر يرضخ ويذعن للشيخ عسران ” تقدمت ووجدت نفسي أتسلق حافة القفة وجلست في قاعها ” ص46 .

          قد تبدو رحلة الانتقال صعبة وشاقة لكنها ضرورية والوسيط يعرف هذا ولذلك كان مسيطرا متحملا للمسئولية الملقاة على عاتقه في دفع البطل إلى العالم الجديد .

الشخصية الرابعة : جـاه / قمره :

الظهور ودلالته : تظهر قمره فى حياة إسماعيل فى محاولته للتعرف على الحياة الجديدة من خلال أداة من أدوات العالم الجديد ( النارجيلة)..نارجيلة الرجل العجوز . تجربة جديدة في الحياة. إسماعيل يشعر أنه يألفها ، وربما هذا يوحي أيضا بمفهوم تعدد الحيوات . ـ رآها في حياته السابقة لكنه لم يقدر على سحب أنفاسها، كان يسعل وصدره يحترق ويشعر بعرق غزير .:.

ـ أعمل لك قهوة

قلت له وأنا سعيد ببوادر الترحيب

ـمثل هذا ..أشرت إلى النارجيلة

ـ أنت لم تتعود عليها

ـ دخنتها من قبل..لم تكن مثل هذه

ـ إن الدخان من نبات طبيعي

ـ سنحاول ثانية . ص92 .

          هنا شئ جديد يراه إسماعيل يشبه شيئا قديما في حياته الأولى، يحاول تجربته فيفشل ويسقط مغشيا عليه ..وهنا تظهر قمره .

وصف الشخصية : هي معنى الحياة..مثلها مثل الزهرة الصخرية ، يصفها لنا إسماعيل( الوحيدة من بين كل الشخصيات ) :” قامة معتدلة متوازنة..شعر أسود غزير، رداء بلا أكمام لا لون له يكشف عن رقبة طويلة وصدر ذاخر وحزام أبو العبايا الذي يضيق عند الخصر ثم ينزل على ثوبها القصير، ذراعان ممتلئتان من أعلى دقيقتان من ناحية الأطراف ، تبدو ركبتاها وتختفي عند حافة الرداء الذي يتوقف عند هذا الحد ، ساقاها قويتان يرفع الهواء رداءها فيلتصق بها مجسدا خصرها النحيل وبطنها المستوى واتساق فخذيها ” ص98 .

          امرأة واحدة في هذه الرواية .. مجتمع الزهرة الصخرية اقتصر على الشيخ عسران والحيوانات ( الماعز والخراف) والطيور( طيور العجوز) وموتى الكهف . ليس من نساء غيرها هي المعنى الوحيد الموازى للحياة، كما أن ليس هناك أماكن في الرواية غير الزهرة الصخرية، ذلك المكان المبهم غير الواضح في كل شئ حتى في ناسه الذين تختلف مفاهيمهم وطرق حياتهم الغريبة مع الحيوانات .

وقت الظهور : إن قمره تظهر في ص97 من الرواية أي في الجزء الأخير منها ، أتت لتدل إسماعيل على معنى مهم في الحياة ، حياة الزهرة الصخرية .هذا المعنى هو الكهف.أخذته إليه ليتعرف على الحياة الدائمة الحقيقية..أصبح جسده وجسدها جسدا واحدا عندما ..” تلاصق الجسدان وتحولت عيوننا إلى عيون ذات مجسات تقودني عبر دهاليز وممرات عجيبة تخترق أكفان لا حصر لها، أكفان لهم أجساد لم  تبل ولم يفنها الزمن، بحجمها الطبيعي الذي دفنت به منذ سنين ، منذ آلاف السنين ” ص126 .

          لقد تعرف إسماعيل من خلال قمره على الحياة الحقيقية وعندها تعرف على معنى الخلود في الكهف، سمحت له أن يأخذها رغم أنها رفضت ذلك في مرة سابقة ، وكانت العملية كأنها إيلاجا للزهرة الصخرية، حتى أنهما ( الزهرة الصخرية/ قمره) يتشاركان في الصفات الجسدية ويبدو الصراع المعيب من كليهما ..صراع إسماعيل للحصول عليها  كما لو كان  صراعا للحصول على الزهرة الصخرية / الحياة : ” لكنى أمسكتها من كتفها وهبطت بها من جديد وقد انفصل عنها رداؤها، فلاح لي ظهرها كله صخرة منحوتة يصعب تسلقها ، واحدة من الصخور التي تحيط بخيمتي ، وهالنى أن الوشم الذي على بطنها قد التف من الأمام إلى الخلف وصعد فوق ردفيها المستديرتين على شكل زهرتين ثم التقيا وهما يصعدان على ظهرها الأملس الأسمر الجميل في شكل طائرين يمارسان الحب وأجنحتهما مفرودة . ص131 .

الشخصية الخامسة : الحيوانات :

الماعز والخراف : للحيوانات دورها الواضح في الرواية..والماعز والخراف سمع بها إسماعيل عندما سمع رجلا ينادى آمرا بإطلاق خراف وماعز أهل القرية في الصباح .

” قال الشيخ عسران: إننا لا نعيش هنا وحدنا، الخراف والماعز تشاركنا هذه الأرض وخيراتها .فى البيوت والشوارع والأحواش والمزارع، إنها أكثر منا عددا ، تخرج إلى رزقها معنا فى الفجر وتعود مع حلول الليل، تألفنا ونألفها، تعرفنا واحدا واحدا بأسمائنا وأصواتنا ” ص 26 .

          ودلالة الرمز واضحة في هذه الرواية..فالحيوانات لها صفات الناس، والناس لهم صفات الحيوانات. عندما جاء الحاكم سكتت الناس.مشايخ البلد والعيان والأهالي . سكتت الأهالي بينما أخذت الماعز تثغو ثغاءها الحزين فأسكتها الأهالي . إلا أن معزة صغيرة ظريفة لم تستطع السكون في وضع معين لأنه ضد طبيعتها، تسللت من بين سيقان الواقفين وتقافزت فوق أكتاف الجالسين واستقرت في حجر الحاكم ” ص28

          لقد كانت هذه الماعز بمثابة من يقول لا والرمز واضح . عندما  سكت البشر تكلمت الحيوانات دلالة على القهر ..قهر الحكام الذي أصاب البشر بمرض الخرس .

القـرود :” قال له الشيخ

ـ إنهم معنا منذ القدم، إننا نعيش معا في هذا المكان منذ خلقنا الله .

ـ في الوادي يعيشون مع الخراف وفوق الجبل يعيشون مع القرود ” ص 76

          كانوا يأتون إليه ليلا تجذبهم الرائحة. قال له الشيخ إن الرائحة هي التي تجذبهم وطلب منه أن يظل ساهرا بعين واحدة حتى يبتعدوا ولا يأتون إليه . كان فقط يحس بأصابعهم الطويلة ذات الأظافر المقوسة والشعر الأسود الكثيف تطل من أسفل الخيمة، أعطاهم الخبز فرفضوه وحاولوا اقتحام الخيمة ولم يسعه في آخر الأمر سوى أن يضربهم.إن القرود هنا هي رمز لمخاوفنا..مخاوفنا التي يجب أن نتغلب عليها دائما والتي حاول إسماعيل أن يتغلب عليها إلا أنه لم يستطع ..”  زحفت مقتربا من حافة الخيمة السفلية ، رفعتها وأخرجت رأسي، كانت الظلمة شديدة في الخارج ، فجأة انقضوا على

رأسي  شدوا شعري وضربوا وجهي في الصخر ” . لم يستطع لكنه عوضه عن ذلك استطاعته لأن يأخذ قمره فى المحاولة الثانية

الختـام  

          ما تزال رواية الزهرة الصخرية حبلى بالعديد من الدلالات والرموز التي تعتبر كنزا لأي ناقد، دلالات ترسى مفاهيم خاصة متفردة في مسيرة الرواية العربية، وقد حاولنا هنا ـ من خلال الشخصياتـ أن نرتاد طرق الزهرة الصخرية المليئة في كل سطر بالخفايا و الأسرار . وذلك يوضح لنا مدى الغبن الذي تعرض له محمد الراوى في ظل أزمة النقد المعاصر ..الغبن الذي ذوى به بعيدا عن التقييم الصحيح لأعماله ككاتب روائي مهم ومتميز يحق له أن يكون ضمن كوكبة المبدعين المصريين. ونرجو أن تكون تلك الدراسة دافعا للبعض من أجل دراسات أخرى تعطى الكاتب بعض حقه  *

 الهوامش :

1ـ راجع مقال الأستاذ عزت قرني( رحلتان) ـ مجلة فصول 4/1985 لمزيد من التفاصيل حول مفهوم الرحلة .

2ـ وبذلك يطرح الكاتب مفهوما ربما يعبر عن فلسفة تعدد الحيوات..الرحلة هي انتقال ما بين زمنين( طبقا لمفهوم اينشتين بتغير الزمن يتغير المكان وهو ما يعرف بالزمكانية) ويعبر ذلك عن رحلة أولى ثم وسيط ثم رحلة ثانية أخيرة . والزهرة الصخرية هنا هي الرحلة الأخيرة. والأمر يحتاج لدراسة مستقلة ولا ريب .

3ـ لاحظ ما تحته خط في العبارة..وراجع بحثنا( تقنية السرد والتعبير عن العزلة في مواجهة الآخرين) حول نفس الرواية ليتضح لك طريقة بناء عبارة محمد الراوى المبنية على التناقض المنسجم : بين حالين .

4ـ  صدرت الطبعة الأولى لها في أغسطس 1998 .

5ـ ومحمد الماجد الكاتب البحريني مثال على ذلك . راجع ( انتحار الذات وانهيار القصة) دراسة في تجربة محمد الماجد للناقد إبراهيم غلوم ـ فصول العدد 1، 2 / 1989 .

6ـ وهى ظاهرة لدى كتاب الرواية الحديثة ونذكر منهم على سبيل المثال يوسف القعيد في ” أخبار عزبة المنيسى ، ونبيل فاروق في أعماله من أدب الخيال العلمي .

7 ـ رواية الشطار لخيري شلبى ـ صادرة عن الهيئة العامة للكتاب .

8ـ يعود بنا ذلك  الأمر مجددا لمفهوم تعدد الحيوات خاصة عند الفراعنة .

ياسر محمود محمد

الأربعين – السويس

فكرة واحدة بشأن "الوقوف علي أعتاب الزهرة الصخرية لمحمد الراوي..بقلم ياسر محمود محمد"

أضف تعليق