محمد الراوي

راوي السويس..قراءة في عالم محمد الراوي بقلم / قباري البدري

    ـ  بما أن الأدب نشاط لغوي فلنبدأ بتناول أدب الراوي و ( شخصيته ) أيضا من هذا المنطلق الأولي  : أنشطة اللغة الإنسانية ، وهي على التوالي : الاستماع ـ الكلام ( التحدث ) ـ القراءة ـ الكتابة .

   والحق أن كل المتصلين بالراوي اتصالا من قريب يستطيع تلمس هذه المناشط بجلاء في حركته الأدبية والحياتية ـ بما أن الأدب كان حياة الراوي ، وقد حمل اسمه نصيبا من نشاطه العملي وعطائه ( في القص والرواية )   .

  أولا : السمع : فبدءا من مطلع حياته الطفولية الحافلة بالطبع ـ كما كان يحكي ـ بقصص الجدة والأم والنساء المقيمات ، وكل من امتلك في بيئته حاسة القص والحكي .

   ولكن الاستماع اتخذ مجرى آخر في تطور حياته ونضج إدراكه . فنمت تلك الحاسة مع نموه الثقافي ليظل متمرسا بالاستماع للموسيقى الكلاسيكية ، مقتنيا لأدواتها ( الجرامفون والاسطوانات ) . بل تمادى في هذا العشق ، فأورثه رهافة للأصوات والإيقاعات انعكست على كتابته وإبداعه ، ليعطي كل كلمة  حقها ونصيبها في موقعها من العبارة ، مصيخا السمع منتبها للكلمات الدالة والملفتة ـ ليس في الشعر بطبيعة الحال فقط  ، بل في القص النثري أيضا ـ

   وعلى الصعيد الشخصي واصل الراوي لعدة سنوات سنة ثقافية حميدة ـ حرمنا منها في السويس بعد ذلك ـ ألا وهي عقد جلسات  استماع موسيقى منتظمة كل أسبوع ، نصغي مع شرحه الحماسي لإحدى سيمفونيات بيتهوفن أو تشايكوفسكي أو كورساكوف أو مقاطع / رباعيات لباخ أو موتسارت .

    واستمر لعدة سنوات يدأب على تلك العادة , يحمل من بيته الجرامفون والاسطوانات ، وهو أمر لم يكن هينا مع كبر حجم هذه الأدوات وحساسيته ، وحرصه عليه وحدبه بها .

    أما تجلي هذا الملمح ( الموسيقى والسماع ) في كتابته ـ فهو أمر واضح للعين القارئة ولو قراءة سريعة ، فالتفاته للأصوات واضح في سرده ، بل يحتل مساحات واسعة من إدر ااك الشخصية الروائية ( إسماعيل في الزهرة الصخرية عندما نزل في الكوخ تمهيدا لصعوده للجبل في رحلة الكشف التي عاينها وعاشها ) : بل الأصوات  توجه حلمه ، أصوات الشارع الذي يذكره ، أصوات السابلة ورواد المقهي ولاعبي النرد .

   ومن البين في عدة قصص هذا التضمين والإيراد المباشر للموسيقى في حياة شخوصه الفنية ، ولكن في سياق مقنع وليس مفتعلا .

   ثانيا : الكلام ( التحدث ) : حاضر في نشاط الراوي وحياته الخصبة ، من خلال الندوات والمؤتمرات الثقافية ( أدباء الأقاليم رغم نفوره من هذا التعبير التصنيفي الجائر ) . ولكن ولعه بالتواصل والاتصال مع الناس دفعه دائما للانخراط  في أي فعالية أو نشاط عام (ثقافي ) بشكل عام ـ أدبي بشكل خاص : يقبل بكل تواضع ، يجلس منصتا للمحاضر مبديا إعجابه وانبهاره بكل معلومة أو فائدة معرفية .

      ولكنه عندما ينطلق في الحديث ( الأدبي خاصة ) ـ تتلبسه حالة خاصة من الجدية ( الغريبة) ، والتركيز الذهني والاستطراد والإسهاب ، فيصير من العسير إيقاف انطلاقه في التحليل والتفنيد ، و الوقوف على متابعاته للحياة الثقافية داخل وخارج مصر . و حتى في جلساته الخاصة يواصل التحدث بصبر ودأب عن نتاجات القصاصين الآخرين ، وجديدهم باعتناء واهتمام … وتغيض معالم هذا الجد عندما يخوض متحدثه في أي  مجال آخر غير ثقافي جاد ( سياسة واقتصاد  أو اي أمور حياتية ولو كانت معيشية ضرورية ) ، فعندئذ  تنفجر شهية التهكم والمرح  ، وتفكيك الموضوع المطروح وتمييعه ، والتهوين من شأنه .

أما  مجال السرد ( القصص) ، فلا يتركه للنشاط الشفاهي ، ولايجعله عرضة للتحدث ، فالتحدث للثقافة  ، أما القص فله الكتابة ، لدرجة أن من يسمعه لا يظنه قاصا . بل يحار في تخصصه ، او يظنه ناقدا أو محررا ثقافيا .

ثالثا : القراءة 

 فهي ديدن الراوي ومحور حياته ، لدرجة أن من الممكن لأي سارد لسيرة محمد الراوي أن يفرد مجلدا لتناول هذه العلاقة الحميمة بين محمد الراوي والكتب ، والمطبوعات بشكل عام : علاقة ممتدة عبر عقود من المعاناة والبحث والترتيب والتنسيق والانتقاء ، والتواصل أيضا ـ مع الاتحادات الثقافية العربية والمثقفين المصريين في شتى محافظات مصر بالمراسلة والسفر .

وكل من يعرف الراوي  يلمس هذا الشغف بالكتب وجديدها ، الأمر الذي تجسد في مكتبة نادرة ـ لا أظنها في مكان آخر بالسويس على الأقل ، لا من حيث ضخامتها و وفرة ما تحويه من كتب ـ بل من حيث تنوعها ونظامها وندرة مابها وحسن اختيار موادها .. فهي تجسيد لهذا النهم والغرام بالمعرفة .

 رابعا : الكتابة : 

 وهي أرقى منشط لغوي ، وأقصى استخلاص للأحياء من نموهم العقلي ، وهذا ما تحقق لهذا الأديب المرهف الإحساس و المطلع الواعي بأهمية المعرفة .

   امتد نشاط الراوي  في الكتابة عبر : التأليف والتحرير والصحافة والرسائل . فكتب القصة والرواية وأخيرا النصوص الجميلة التي يصعب تحنيطها في جنس أدبي ، والتي كتبها في جريدة ( الوعي ) .

   ولكن  الكتابة الفنية عن محمد الراوي ـ  كما يصف أنور فتح الباب ـ نوع من الحكي أو السرد الخارج عن إطار السرد التقليدي ، والميال إلى آليات السرد الحديث المتأثر بتطور الكتابة القصصية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الستينيات ، حيث تطورت الكتابة السريالية وتيار الوعي .

   و يقول ( صلاح نجم  ) في شهادته عن إبداع الراوي وشغفه بالكتابة   :

  طالما أثبت لنا محمد الراوي على مدى الأيام أنه حالة خاصة جدا في دنيا الأدب، وأنه ذلك الفارس النبيل، الجلد الدءوب، الذي أفنى جل عمره في عشق القصة والرواية، عالمه الأثير، ومشروعه الأدبي والثقافي والفكري الذي ظل يحلم به ويسعى حثيثا إلى تحقيقه .
رحلة من العطاء السخى امتدت بلا توقف قرابة النصف قرن أو يذيد قضاها في الكتابة الفنية للناس وعن الناس .
كانت تلك الطاقة النفسية الخفية التي يكتنزها الراوي بمثابة القاطرة التي توجهه وتدفعه وتفرض عليه فرضا جمع الشاردة والواردة، الصغيرة والكبيرة، في نظام رتيب قاس ودقة مفرطة جشمته لاشك الشاق والمضنى من الجهد مما لايستطيعه ولا يتحمله إلا فنان أصيل ملتزم يقدر فنه ويقدسه ويعي قدر قرائه ويحترمهم مثل الراوي .
كانت لدى الراوي رغبة جامحة ملحة ضاغطة في إعادة تقديم نفسه لمحبيه ومريديه القدامى ممن فاتهم متابعة بعض محطات رحلة الإبداع عنده منذ لحظة انطلاقها الأول لخمسين عاما خلت، والجدد ممن جاءوا إلى الدنيا بعد سنوات – قلت أم كثرت – من بداية هذه الرحلة فلم يعرفوا الرجل إلا من خلال النذر القليل الذي عاصروه وعاينوه وتيسر لهم قراءته من ابداعه وأعماله .
 

 ببليوجرافيا الراوي تشي في وضوح باتساع بانورامي لإنتاجه، ورحابة حقيقية لعالمه، وامتداد واتصال متلازمين لمشروعه القصصي والروائي الذي دشنه ووضع بذرته الأولى في شبابه الباكر، فكانت انجازا يضاف إلى انجازاته ، ووثيقة عامة يضعها الراوي بين يدى كل راغب في البحث، أو طالب للدراسة والمعرفة، ووجبة فكرية وثقافية مفعمة بزخم الذكرى، حتى أننا نكاد نتنفس فيها رائحة الماضي الجميل المعبق بشذى سنوات البدايات ونوشك أن نستنشق منها غبار رحلته الطويلة، ومشواره الإبداعي عبر كل محاولاته ومحطاته .
الرواي دنيا من الكتابة، قوس قزح من الإبداع والفكر والثقافة لنا أن نفخر به ونفاخر، إنه عالم عريض من الأوراق والأقلام ، ومشوار طويل في صحبة المداد والحروف والكلمات والحكايات والأفكار، قطعة من القصة التي استهوته وملكت شغاف قلبه فكتب منها الكثير، ففي نوفمبر 64 خرجت إلى النور ” حياتي “أولى قصصه المنشورة، ثم تدفق سيل عارم من القصص والمجموعات والروايات : ” سحابة سوداء ” مايو 69 . فمجموعته القصصية الأولى ” الركض تحت الشمس ” 73 . “الثمار” ، ” الإتجاه نحو الظل ” ، ” دائرةالدم “، ” الطيور الشاحبة ” ، ” صوت الصمت ” 74 . فروايته الأولى ” عبر الليل نحو النهار” ، وقصصه : ” المستنقع ” ، ” مسافة السقوط ” ، ” أشكال الأشياء المجهولة ” ، ” الحصان الأسود ” ، ” الأبيض والأصفر ” ، ” المطر ” ، ” الشمعة ” 75 . ” زوج من البط البري ” ، ” السرير ” ، ” دليل الليل ” ، ” كابودستيريا ” ، ” مسافة خارج الجسد ” 76 . ” التحولات ” ، ” الرؤوس ” ، ” أشياء للحزن ” ، ” الحاجز الزجاجي ” 77 . فروايته الثانية ” الرجل والموت ” ، وقصصه : ” السور ” ، ” صديقتي ” ، ” للفرح عمر قصير ” 78 . ” الجثة “، ” الرعب “، ” الدهليز “، ” ساره ” 79 . ” الصوت “، ” في الليل ” 80 . فمجموعته القصصية الثانية ” أشياء للحزن “، وقصصه ” المتربص ” 81 . ” الرجل والفئران ” ، ” الشيخ عسران ” ، ” ثلاث حكايات قصيرة ” ، ” العجوز والجبل ” 82 . فروايته الثالثة ” الجد الأكبر منصور ” 90 . والرابعة ” الزهرة الصخرية ” في نفس العام ، وقصصه : ” انفجر البحر في قلبي ” ، ” المنحة العظيمة ” 94 ، ” العجوز والحب ” ، ” رائحة الشهداء ” 95 . ” الملك سوس ” ، ” زكريا المدهش ” ، ” ارسينوى ” ، ” غيرة – خائنة ” ، ” قصص قصيرة ” ، ” مأوى الجسد ” ، ” الوحيد ” 96 . ” آجي” 97 . ” حارس البحر ” ، ” قصتي القصيرة مع أمل دنقل ” ، ” فيرا امرأة كالفراشة ” ، فروايته الخامسة ” تل القلزم ” 98 . ” أم رامي ” 2002 . فصل من رواية ” وردة راعية الغنم ” 2003 . وفصل آخر بعنوان ” صديقي العزيز احبك مثل حبي لورده ” 2094 . و .” زوجتي أكلتها الفئران ” ثم ” احذر فجمالها اعمى ” في نفس العام، وهناك الكثير ..
      كتب الراوي خلال رحلته عشرات المقالات والحوارات، فشهدت الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 73 باكورة باكورة انتاج الرواي في مجال كتابة المقال الأدبي والنقدي، إذ نشرت له مقالات أربعة بمجلة الثقافة الأسبوعية: التزام الأدب في مجتمع الحرب، الفن ضرورة، الإنسان والأدب النضالي، معركة الهويس .تناول فيها الرواي قضايا وثيقة الصلة بالأحداث الجارية آنذاك، والتي عاشها ورآها عن كثب في مدينة السويس فانفعل بها وعبر عنها .
ويجىء عام 74 محملا بوفرة من هذه المقالات في الفن والفلسفة والأدب والتاريخ : الفن والمجتمع، شارل لالو وعلاقته بالفن، الغموض الفني عند ضياء الشرقاوي، موقعة كفر أحمد عبده ماقبلها وما بعدها، الفلسفة الوجودية، التزام الأديب بين المسئولية والحرية كما بدت في هذا العام . سلسلة مقالات الراوي النقدية : الفنان من خلال عمله، والتي تناول فيها بالدراسة عددا من كتاب الجيل : ضياء الشرقاوي في رواية أنتم يامن هناك، زهير الشايب في المطاردون، الضحك الأسود والدم عند محمد مستجاب، محمد الخضري أديب اقليمي أم أديب فقط، محمد جبريل في رواية الأسوار، رأفت فتحي سلامة في الغرق فوق سطح البحر، زهير الشايب في كتابه فصول من التاريخ الإجتماعي للقاهرة العثمانية، فتحي سلامة في الجرار 45، محمد يوسف القعيد في روايته أيام الخوف، إلى الذين لايعلمون بمناسبة ترجمة كتاب وصف مصر بقلم زهير الشايب وزيارة الرئيس الفرنسي ديستان لمصر، ونشرت جميعا بمجلة الثقافة الأسبوعية المصرية .
       ويأتي عام 1975 ويمضي دون أن يخلف وراءه سوى ذلك الحوار الذي أجراه مع الدكتور على شلش والمنشور بمجلة الموقف الأدبي السورية في نوفمبر . كما يتراجع انتاج الراوي في عام 77 إلى خمسة مقالات : رائحة الرماد قصص لنبيل عبد الحميد، الحرية والعزلة في قصص دكتور نعيم عطيه، ونشربمجلة الثقافة الأسبوعية المصرية ، مشكلة الثقافة في مصر مقال على شكل بيان نشربمجلة الطليعة الأدبية العراقية، في المنهج البنيوي، من أفكارضياء الشرقاوي رسائل وتعليق ونشرا بمجلة الكاتب .
     وفي عام 1978 يقدم الراوي ثلاث مقالات نشرت بمجلة الكاتب :  ” رفقي بدوي كما يبدو في هرمونيكا الحزن والعبقرية ” ،  ” الصراخ في الريح :  مقال عن قصص رأفت سليم ” ، ويعيد نشر مقال ”  أنت يامن هناك : عن رواية ضياء الشرقاوي ” ، وفي الأعوام من 2001 حتى 2003 ، ينشر الراوي مقالا واحدا في كل منها على التوالي :  ” بعد أن انقشع غبار الروايات الثلاث ”  بجريدة أخبار الأدب، و  دراسة ”  ظلال تونسية :  عن القصة التونسية القصيرة لعبد الرحمن الربيعي ”  بمجلة ضفاف باستراليا، وفي السويس يكتب ”  حاجتي إلى صديق” ضمن ملف الشاعر أمل دنقل بجريدة أخبار الأدب، وفي عام 2004 ينشر الرواي مقالين : ”  ارفعي رأسك ياميريت الفن أجمل من الواقع بمجلة سطور” ، ثم”  تفاصيل الواقعة التي انهزم فيها محمد الراوي “بمجلة الثقافة الجديدة ..
وتمضي الرحلة .. وماسبق ليس إلا بعضا من كل ،  عله يفي بما يستحقه صديق جمعني وإياه سنوات طوال في عشق الأدب ومشاغبات الحياة ..

   وإذا تركنا الآراء الذاتية المتأثرة بالانطباعات العابرة ، وتوخينا الموضوعية بعيدا عن المجاملة ، و اقتربنا من عالم الأدب ، كإبداع في الثقافة اللغوية للإنسان  في هذا الفضاء الجغرافي: ( السويس ) ، فلن نغامر بتضييق مفهوم المقاومة  ـ  بفضل إغراءات التاريخ البطولي للمدينة ـ فنحتفل بالنصوص الكثيرة لأدباء السويس المكافحين ضد المستعمرين ـ الإنجليز والصهاينة ـ ومن ثم يصبح المحتوى السياسي الاجتماعي معيارا للانتقاء . وساعتها لن نعدم نماذج رائعة فنيا وصريحة مضمونيا ، ولايعيبها المباشرة في التعبير احيانا.

  وكما قال ( مجدي أحمد توفيق ـ 1997) في السويس من قبل : أحب أن أنظر لتعبير أدب المقاومة بشئ من الريبة ، لأنه يوهم بأن كتابا معينين لانعدوهم هم وحدهم الذين يكتبون أدبا يقاوم محتلا ، فننسى حينئذ أن الأدب الحق من شروط ماهيته أنه مقاومة لكل القوى التي تحتل إرادة الإنسان و وعيه ، حين تحتل لغته .

 ويقول الباحث الأدبي وهو بصدد دراسة ( محمد الراوي ) : [ الناس يظنون أن الأدب لايختص بالمقاومة حتى يقدم بطلا يضحي بحياته في سبيل انتصار الوطن على القوى التي تقمع إرادته ، وحتى يرفع الأدب شعار المقاومة والفداء عاليا مرفرفا مجلجلا مسموعا ]  .

    يسهل انتقاء نماذج أدبية [ شعرية وقصصية ]  تصرخ بشعارات الحرب ، وتجهر بالمعاني السياسية ، وتركز على ثيمات الفترة الواقعة بين الحروب الأربعة ( 48 ـ 56 ـ 67 ـ 1973) بالقرن الماضي ، فما أوفر النماذج الناطقة بذلك ، والمعبرة عنها ، سواء في صورته المكتوبة عند ( محمد فضل إسماعيل ) أو عند عطية عليان أو الكابتن غزالي أو كامل عيد أو فتح الباب عبد العال بدر أو محمد عطا أو على المنجي أو محمد الراوي .

    ومما ييسر هذا الانتقاء  ـ رغم صعوبة النشر المستقل ـ أن المفاهيم الفنية المسيطرة على الذهن الأدبي في تلكم الفترة ( الحروب الأربعة وما أعقبها) ـ مفاهيم تغلب الاجتماعي على الفني ، وتحفل بالعام على حساب الخاص ، وترى أن من الكرامة الوطنية أن يورد الأديب مفردات ( واقعية ) ولو كان رومانسيا ـ في نصه الأدبي ، وعليه أن يكون حاضرا في إشاراته المرتبطة بهموم الوطن ، ارتباطا واضحا .. ارتباط بالحوادث .

 ويقابلنا مشكلتان في هذا الانتقاء ـ ينبغي التنويه بهما قبل الخوض في هذا المعترك الأدبي إحقاقا للواجب المفترض في ذمة الكتابة  :

أولاهما : أن مفهوم الواقعية ( سواء الطبيعية أو النقدية أو الاشتراكية ) أصابه التطور والتوسع ، وإذا كان مقبولا في زمن ماض التعبير عن الهم السياسي بشكل مباشر ، يعد الوضوح ميزة ، فلم يعد هذا مستساغا في ظل إعلاء شأن القيم الجمالية ، واعتبارها عنصرا أساسيا من قضية الالتزام نفسها ، ومحورا لا ينفصل عن ضمير الكاتب الملتزم .

 ثانيها : اختيار النماذج وفقا لأي مقاس ، هل هو الانتماء المعيشي ؟ أم  يفرضه محل الميلاد بالسويس أو قريبا منها ؟؟!!!! أم الهوى والميل والالتصاق بقضايا المدينة ؟

وإذا تحدثنا عن القصة في السويس فلا يمكن المرور دون التوقف طويلا عند اسم ( محمد الراوي ) … وكل واحد من قصاصي السويس يستحق وقفة متأنية خاصة ، سواء كان ( عادل أبو عويشة أو عادل شطا أو السيد فاروق أو علي لاشين أو علي المنجي أو محمد عطا أو محمود الجمل ) . ولكن الراوي هو الذي أخلص للكتابة القصصية فيهم ـ بعد أن اختطفت الأنشطة الثقافية والعمل العام الأسماء الأخرى : كالصحافة والتعليم .

 وتبرز قيمة (محمد الراوي ) في انتاجه المتعدد والمتنوع والإنساني ـ القادر على تصحيح مفاهيمنا للأدب والحياة والمقاومة والالتزام ، فقد حرر الكتابة القصصية من أسر الأيديولوجيا ، أو بالأحرى الانغلاق في خطاب أيديولوجي محدد ، تمليه العاطفية الوطنية أو الأقليمية .. مع أنه على المستوى الشخصي أو الأنواع الأدبية الأخرى لاينقصه العاطفة أو الانتماء للمكان أو الانحياز للوطن .

    لكن يبقى ( الراوي ) مثالا لأدباء السويس  في إخلاصه للحقيقة الأدبية ـ والمعبرة عن إخلاصه لقضايا مجتمعه ، فاستطاع تطويع اللغة الأدبية ، لتكون جسرا يعبر عليه نحو قضايا إنسانية أكثر كونية وجوهرية ، انطلاقا من حوادث المكان والزمان الخاصين القريبين الحميمين . فقد استوعب الراوي أن الأدب بطبيعته فعل مقاوم ، يتوسل بسلاح الكلمات ، والمجاز ، والتخييل ، فعل تعبيري يقاوم الصمت ، ويتحدى العجز وقلة الحيلة ، ولايقر بالاستسلام . وبالتالي : الأدب هو المقاومة : المقاومة بلا شعارات ، المقاومة بلا صراخ أو ادعاء

   واستمر( محمد الراوي ) عبر مجموعاته ( الركض تحت الشمس ) ( أشياء للحزن ) و( الرجل والموت ) في تأكيد هذا المعنى النبيل : الأولى سرد لتاريخ المدينة عقب النكسة في 1967 . والثانية ، سرد لأحوال البلد بعد ثغرة الدفرسوار المؤثرة ، والثالثة تأمل في المصائر الإنسانية بشكل راق .  شكل يذكرني برواية (المطر الأصفر ) للأسباني ( خوليو ياثاماريس ) فكلا النصين يتعاملان مع موت المدن وتحللها عقب الحرب ،  وحضور الموت في كل أجزائها ، وتبدد الحياة. ولكن نص الراوي أسبق حضورا من الرواية الأسبانية ، مع ان المقارنة غير واردة إلا لاستكمال الصورة الأدبية الإنسانية ، وتأكيد الفكرة التي أرمي إليها : فكرة مقاومة الأدب للنسيان والتجاهل برصد المكان الذي يقاوم الموت والتجاهل أيضا .

 ولقد لاحظ هذا الملمح ( نعيم عطية ) : قصص الراوي تفسح المجال لبطولة المكان ـ الذي يخلق الشخصيات ، ويخلق المأساة ، وحتل حضورا طاغيا لامهرب للقارئ منه ، ومن معايشته وتمثله ويستجيب له . رغم أن ( الراوي ) لايردد اسم ( السويس) أوأسماء  أحيائها أو أوليائها أو ناسها وشخوصها البارزين . عدا البحر الذي تهيمن الإشارات إليه على مساحات النصوص والمكان ( الفني).

  المكان المجرد الذي يقاوم ضيق التحديد ، وسجن اللحظة ، في زمان مجرد أيضا ـ حيل فنية  دؤوبة استمر الراوي في الزج بها في كتاباته ليحرر المكان من أسر اللحظة ويطلق الزمان من الحقيقي للمجاز ومن الواقع الفاني إلى خلود الفن . حتى ( القلزم ) عمله الروائي المتأخر ، خلا من فجاجة الإشارة ، وحفل بغموض العبارة .. وصار مكانا عاما وزمانا كونيا إنسانيا ـ يحمل نكهة سويسية ، لايهم فيها الماضي أو المستقبل ، فالمهم هو الحضور .. حضور المكان المتجاوز للزمان والتحديد والتصنيف والتأطير .

   إذن كان محمد الراوي متجاوزا  لمحددات الزمن السياسي بتخطيه حدود اللحظة التاريخية ، و استحقاقاتها الثقافية المتوقعة ( فريدة النقاش : الجمهورية 1974 ) إبراهيم سعفان ( الزهور 1975 ) وأصر رغم دماثة خلقه وحيائه على الاستمرار في درب الكتابة الجديدة المجتازة لتقاليد الرواية الواقعية والرومانسية في مطلع السبعينيات . فتخطى أيضا حدود التاريخ السردي  المعروف .

  أخلص الراوي فقط لضميره الأدبي ، وللفن القصصي وجمالياته ( شعريته) .. في ( الزهرة الصخرية ) مثلا يتعقب   (ماقبل الكتابة ) أو يتتبع زمن ماضي السرد  ـ بحثا عن مكان إسماعيل الذي كتب الرواية واختفي فوق الجبل . بدءا من ظهور شخصية غامضة عابرة ( عسران ) . ويبدو أن محمد الراوي المنغمس في السياق الحداثي للقص والسرد بشكل عام ـ يدرك عبر هذه الراوية فكرة تواري المؤلف وغيابه .

     ثم ينتقل لوصف عالمه الجاذب : المكان ( الجبل ـ البحر ـ البيوت ـ الطرقات ) فيقول : ”  البلدة صغيرة وغامضة، بيوتها قصيرة متلاصقة، تبدو حواريها الضيقة وكأنها ممرات تفصل بين البواب القصيرة المتقاربة، ورغم ذلك فإن ميادينها واسعة ومستديرة. كأنهم استغلوا الخلاء في عمل الميادين. أناس لا أعرفهم، لا يعطوني الفرصة لأعرفهم ، فهم منغلقون على أنفسهم ، يعرفون بعضهم بعضا بالشكل أو الرائحة والعشرة الطويلة .” 

  ويتماهي الماء والرمل ، أو البحر والصحراء ، لينخرط في مغامرته الاستكشافية ـ بحثا عن السر والمعرفة ، ويحضر الحلم كمكون رئيس في وعي البطل ( الشخصية المحورية ) ، يضمنه الراوي بلا تمهيد ، يدرجه في مسار الشعور . كما يدرج الوصف للمكان و رصد المنازل والماعز والخراف والفرس و … الشيخ عسران

فكرة واحدة بشأن "راوي السويس..قراءة في عالم محمد الراوي بقلم / قباري البدري"

أضف تعليق