الفردانية في مواجهة النسق الجمعي

في مجموعة “دفاتر عائلية”

د. أماني فؤاد

يحدث أن تقرأ إحدى القصص؛ فتدفعك إلى أن تكتب قصة أخرى لو أنك قاصٌّ، وتُسائل ذاتك: لماذا يظَل نَصٌّ بعينه عالقًا بذهنك، ويدعوك لتجادله أو تبني فوقه؟ هل أضاء حقيقة استشعرتها ذات مَرة ولم يبلورها وعيُك؟ أم أن هذا السرد بعينه فَسَّر موقفًا بطريقة أخرى لم تطرأ على خاطرك؟ هل بعث النَّص من الذاكرة حدَثًا تجسَّد ذات يوم أمامك فكان ضبابيا؟ أم لأن سياقه العام أعاد تجسيد بنية شخوص عاشوا حولك وأثَّروا فيك؟

في نَصِّ “كائنات معلبة” – ضمن المجموعة القصصية الأولى للدكتورة: إشراق سامي، من العراق، بعنوان “دفاتر عائلية”، والتي صدرت الشهر الماضي عن دار ميريت للنشر 2021([1])– استشعرتُ رغبة في كتابة قصة استدعتها “كائنات معلبة”، نَصٌّ لا يشبهها، لكنه يتماس معها بطريقة ما، أو ربما يخرج من ذات الروح.

تتكرر العلب أو الصناديق في نَصِّ “كائنات معلبة”، وتعيد إنتاج دلالات متعددة ووجودية، فالعلب تعد محور البنية الدالة في القصة، العلب التي تشتريها الساردة من الدكان الكائن أمام بيتها، العلب التي تأتيها في أحلامها، حيث يعدُّها مجموعة ممن تعرفهم بأشكال ملونة ويعتنون بها، العلب أو الصناديق الخانقة التي تتجسد لديهم في مقولات المجد والشهرة وتحقيق الذات التي يكررونها على آذانها.

يرى جميع من في محيط شخصية القَصِّ أنها تمتلك صوتًا رائعًا، صاحب الدكان وصديقتها، كما يقول لها أستاذ الإتكيت البدين الأصلع أيضا بعتاب قاسٍ: “إنها تفتقد ذلك الإحساس المعتد بالذات، وترسل صوتها للفضاء، دون دراية بقيمته!” (ص75)، ترى شخصية القَصِّ أن الجميع سجينو علب من صفيح خانقة، لكنهم سعداء بألوانها، مقولاتهم علب جاهزة لا تريدها، وتراها قبورًا، حيث يطغى طعم الصدأ في حلْقِها. فمهما اتسعت العلب وتلونت؛ تظل أُطُرًا يصعب القفز منها.

تقول: “لم يعلِّمها أحد الغناء، فهو غير مباح في هذه الصحراء الشاسعة المسماة بلاد! تعلمت فقط أن تبكي، هكذا صارت أنغامها الحزينة موحية بتَرَف الفن ربما،.. لكنها تريد الوقت حُرًّا وجريئًا وفتيًّا، لا يمل من الدهشة،.. حزينة هي منذ تلك اللحظة التي أعلن فيها الكُرْهُ احتلاله أرضها، أفاقت من صدمتها بعطش شديد للبكاء أو الجنون أو العشق، أرادت أن تسير فقط بصحبة اللاهدف أو اللاجدوى، لم تقع يومًا في غواية الصناديق التي يحنِّط الآخَرون فيها أعمارهم” (ص76)

ولعلنا نتساءل: متى تنقطع الآمال ويموت المستقبل هكذا بداخل الإنسان؟ متى تختنق رغباته في التحقق والنجاح؟ متى نُصاب بالقنوط ونشعر بلاجدوى كل المقولات؟ تتعدد الأسباب، لكن الكراهية والحروب والدمار هي المسببات المحبطة في هذا النَّص، لعلنا نلحظ أيضا قولها “المسماة بلاد” ولم تقل “بلادي”.

أزمنه عدمية.. بلا أثر:

ربما بدا الزمن المحكي عنه – في جُلِّ قصص هذه المجموعة – على مستويين، زمن الماضي الذي انقضى بكل حنينه وذكرياته، وزمن اختناق المستقبل وصدأه، اليأس هو ما يستشعره القارئ في بعض القصص مثل “كائنات معلبة”، فالزمن القادم لن ينتج شيئًا ذا قيمة، ليس بإمكانه حتى أن يُبقي على أطلال؛ ليعود إليها آخَرون ويشعرون بالناستولجيا، فأزمنة الساردة ووطنها تُختلق فيها مواجهات تُنتج هدمًا وأنقاضًا، فالتاريخ مخيِّب للأمل عندما يفصله تلعثمه عن أن يَهَب معنى أو يترك أثرًا فارقًا.

في نَصِّ “شبابيك” تقول الساردة: “وأنا غريبة بلسان عربي، أعبر حدود بلدي، باحثة عن مأوى، وأنتظر اسمي في قوائم اللجوء نحو بلدان باردة، لا تعرف طعم البلح الذي يُصنع منه دمي.” (ص31). هو الوطن والمرجع والأرض، وجع الساردة التي تبحث عن رائحة الأرض وطعم العسل، وحرارة البلح. تبحث عن هُويَّتها الحقيقية، يتشكل السرد وكأنها تضيف “المكان” أيضا لهذا الضياع.

في هذه المجموعة القصصية تطل الأغوار السحيقة لبعض حالات المشاعر البشرية، حيث يتحسس السرد – برهافة، وبشكل عابر، دون استغراق أو استرسال – مسافة شغف معينة بين معنى ولَّى واندثر، وتصوُّر راهن لم يكتمل، تصوُّر يشمله الحزن.

في قصة “شبابيك” تتبدَّى تلك المفارقات، التي تخرج عن توقعات الساردة تماما، حيث استلمت البطلة الغريبة عن بلدها رسالة عن طريق البواب، تقول إحداهن لها: “أنا جارتكم وأتمنى لو أستطيع مقابلتك، أنتِ تحملين بعض ذاكرتي” (ص32)، ذهبت توقعات بطلة السرد لجارتيها الفرنسية والهندية مباشرة، الأقرب لمحل إقامتها، لكن بمراقبة الأمر؛ اكتشفت أنه لا تواصُلَ حقيقيًّا بينهما، انقطاع في اللغة والثقافة والعادات، وتأتي المفارقة في أن الرسالة من امرأة من نفس بلدها لم تلحظها من قبْل، هو الوطن الذي يظَل يجذبنا إليه بخيوط حريرية غير مرئية، مسارب غير قابلة للانقطاع مهما تباعدت.

يقول مارك أوجيه عالم الأنثروبولوجيا: “يحتاج البشر إلى تمكينهم من النظر في علاقاتهم المشتركة، يحتاج كل إنسان إلى تمكينه من النظر في علاقته بالآخَرين، أو ببعضهم على الأقل، لذا يحتاج إلى تسجيل هذه العلاقة من منظور زمني. ويحتاج المعنى الاجتماعي (أو العلاقة) إلى المعنى السياسي، (إلى تكوين فكرة عن المستقبل) كي يتطور؛ بمعنى آخَر، يحتاج العنصر الرمزي (فكرة العلاقة) إلى الغائية([2]).

وتنوِّع القاصة في التعبير عن حركة الزمن؛ تقول في نَصِّ “كنزة آلاء”: “كنت ألبس زِيَّ المدرسة، وأسير بضفائري نحوها، قبل أيام فقط، لم يتغير شيء، فكيف كبرنا سريعا!؟ (ص15)، تطوي الزمنَ الطفلة، فتمُرُّ السنوات وتصبح هوايتها البقاء قُرْبَ الشبابيك التي تجعلنا نشعر بمغامرة اللحظات، التي تجمد ولا يمكن إعادتها، بمذاق مختلط بين المغامرة والفقد لما أفلتناه من بين أصابعنا ففقدناه.

ويرمي السرد في قصص المجموعة ببعض أسئلته الوجودية عن ماهية الإنسان، ونقاط التوتر المحتدمة بحياته، متى تخاتله السعادة والشغف؟ خاصة وأن “العراق” الوطن العريق هو الحيز المكاني للمجموعة، بكل صفحات تاريخه الدامية من حروب ونزاعات، كما تتماس قصص المجموعة مع مآسي الإنسان في كل بلد عانَى مواطنوه من الحروب.

فالحرب ترمي بظِلالها وصراعاتها على حياة النماذج البشرية في القصص، وكأنها المياه الجوفية التي تمُرُّ؛ فتقطع شرايين الوجد الإنساني، وتضعه في مواجهات عدمية. تُعشِّقها الكاتبة في أرابيسك عربي أُسري أو عائلي، أو شناشيل، وتهندسها بالسرد بداية من رائحة الأرض حتى ملمسها وزرعها وأنهارها مع اليوميات الإنسانية.

لا تغرق هذه المجموعة في التهاويم والانفصال عن الواقع؛ بل يرى القارئ نفسه وبعض أشواقه، وجوانب من إنسانيته في النصوص، فيتعلق بالسرد ويتفاعل معه، يرى أيضا بعض معاناتنا الجوهرية في بلداننا الإسلامية، في إطار إنساني ومجتمعي أيضا.

فتعرِّج القصص – بطريقة التصريح تارة، والكناية تارة أخرى – على دَور الخطابات الدينية في مجتمعاتنا، وسلوك وطبيعة بعض رجال الدين غير السوية، والتي لا تتسم باللياقة، لكنها تشير أيضا لعمق وتغلغل موقعهم وتأثيرهم في العقل الجمعي للمجتمع، مهما أتوا من أفعال، ولذا تظل سطوة وجودهم وخطاباتهم على العقول، ففي قصة “أنا شجرة”، تقول بعد أن حكت أن القرية أمسكت بشيخ جامعها الحاج (معروف) وهو متلبس بفعل رذيل: “وفي وسط دوامة معتادة عاد الشيخ إلى الجامع، وعادت مجاميع الرجال هنا تجلس تحت منبره، وتصدق صوته العالي، وكلماته المتبخترة باعوجاج لسانه، وخبث صوته حين يطلقها”. (ص9)

في مستهل مقصود لمجموعة “دفاتر عائلية”، تأتي قصة “أنا شجرة” وفيها – مع قصص أخرى – نلمح حرص الكاتبة على فردانية الوعي وتميُّزه، مقاومته للتيار الجارف، الحث على إبراز قدرة الفرد واختياراته حتى لو خالفت الجموع، تقول: “أتذكرها جيدا تلك اللحظة التي عبرت فيها وهم الجماعة إلى وهمي الخاص” (ص11)

في اختيار الشجرة ذاتها للكينونة المخالفة؛ نلمس القوة والرسوخ، الرغبة في مقاومة الضياع والتلاشي، نوعًا من تثبيت الوجود في تلك الأرض رغم الحروب والمعارك، واستمرار مقاومة كل المقولات المغلوطة في الخطابات الدينية، التي اكتسبت رسوخًا وتقديسًا لدى الجماهير.

تجسد الكاتبة – بفنية شفيفة – الإنسان الذي يقوده عقله، يرى الأشياء دون الضباب الذي أحاط بها، وقتها يشعر بمتعة الانسلاخ والتجدد والولادة، تقول الساردة الشجرة: “للحظة يستطيع سِرُّ كينونتي الأخضر لمْسَ باب السماء والابتسامة لكل من يمر هناك، الملائكة أو الحالمون مثلي، هذا ما تيقنت منه بعد أن مارست غرابتي بشجاعة، لا شيء مما يقوله ذلك العمود الحجري المرتفع في القرية صائب” (ص11)، لعلنا هنا نلاحظ كيف وصفت الكاتبة الشيخ وما يمثله من مقولات بذلك العمود الحجري، ومن خلال هذه الصورة ندرك مرامي الوعي السارد في المجموعة بإبراز بعض قضايا مجتمعاتنا الملِحَّة، لكننا أيضا نلحظ أن الحلول لم تزل فردية واستثنائية.

 وفي إطار تعرية العقل الجمعي لعموم الجماهير؛ تحكي الكاتبة أيضا في نَصِّ “حكاية عمتي” لتكشف النسق الثقافي العميق للنساء، كما دجنتهن الثقافة الذكورية تقول: “النساء في قُرانا مجبولات على طبيعة متناقضة غريبة، فهن في الغالب مكسورات ومظلومات، واعيات لهذا الكسر والظلم، لكنهن مع ذلك ورغم ذلك قاسيات على بعضهن بطريقة غير مفهومة لنا، القسوة وسيلتهن الشاذة للتعاطف”. (ص26)

وفي قصتها “أول الحب.. أول الخذلان”، تتحدث القاصة حول أن أصعب رهانات المرء هي أن يفوز بنفسه، فبعد أن كان “محمد السبع” البطل معتدًّا بنفسه وقوته، مستنكرًا فِعل أمه وخاطرها المكسور، بعد أن تزوَّج أبوه عليها، وتركهم في غرفة في حديقة بيته، يقول واصفًا أياها: “كان شيءٌ قد انكسر في صدر أمه، شيءٌ كالابتسامة، أو المحبة أو الدهشة، أصبحت منذ تلك اللحظة باهتة الكلمة والإحساس، تدور ضمن الأيام بحياد، تمُرُّ عليها الفصول ولا تنفعل، لا تفرح ولا تبكي، ولا يهتز قلبها شغفًا ولا رغبة في شيء”. (ص12)

ثم تصف القاصة شعور بطل قصتها بالحب، فلا تفصح بمفردة الحب؛ لكنها تهيِّئ سماء القَصِّ وطقسه، فتدفع باللغة مفردات وتراكيب وطاقة عشق حزين داخلي، تقول: “أبصر نورًا غريبًا لا يشبه نور الشمس التي تدخل غرفتهم الطينية؛ فتزعجهم، وتسمح للحشرات بالمرور، كان الضياء هنا دافئًا منعشًا، ومكسورًا بالأخضر الزاهي الذي يلوح قرب النافذة”. (ص14)، وعي البطل بالانكسار الطبقي أضفى اختيار خاص لمفردات تكوين الجمل المعبرة عن الحب الذي باغته كصفعة.

ما انتقده محمد السبع، واستنكره في أن يرهن إنسان سعادته على آخَر، صار يسائل أمه حين كابده ذلك الشعور: “أمي هل انكسار النفس مؤلم جدًّا يا أمي؟!” يُشعر هذا الانزياح اللغوي بالإشارة البعيدة دون تصريح بواقعة العشق بدلالتين مندغمتين؛ أحدهما أن البطل يشعر بالانكسار للفارق الطبقي الهائل؛ فتأبى كرامته، كما أنه أصيب في قوته وبطولته، أصابه العشق غير المتكافئ بالانكسار. فالحب أيضا استلاب يجابهه الإنسان.

تنوُّع تقنيات السرد في مجموعة “دفاتر عائلية”:

تتنوع تقنيات السرد بالمجموعة، فتوظف القاصة قدرًا من الفنتازيا أو غرائبية التناول في بعض النصوص مثل نَصِّ “أنا شجرة” و”الجائزة”، تقول في الأخير: “كيف أنتهي وعندي مشكلة مع ختام الحكاية؟ خلل فني يجعل أجهزة الحاسوب تبتلع الأسطر الأخيرة”. (ص21)

التوجس في إهاب فنتازي، والشعور بالاضطهاد في بنية شخصية كاتب القصة في نَصِّ الجائزة، كأن القاصة تشير لبعض الظواهر السلبية لدى بعض المبدعين حين تنطلق كتاباتهم فقط من أجل التقدم لنَيل الجوائز، وطباعة أعمالهم وترجمتها.

وتتناول قضايا الكتابة أيضا في نَصِّ “طعام سيِّئ” تقول: “للكُتاب أيضا مزاج خاص في اكتشاف الأطعمة اللذيذة، فالنَّص الساخن والطري هو الأكثر إثارة لجوعنا نحن القراء، الجوع لنوع خاص من الحياة، تلك التي تنمو على حافة الصور الملونة، حياة لا يرسم الحرمان فيها خطًّا حزينًا على العيون ويغادر، الحرمان من الطعام الجيد”. (ص35، 36)

في نَصِّ “طعام سيئ” تختار الكاتبة – لِبُنية السرد – طريقة الحكي عن طريق الحلقات، الحلقات التي تسلِّم إحداها إلى الأخرى دون رابط حقيقي ظاهري، فضول العجوز نحوها، واستياء الساردة من الذين يطيلون الوقوف على ما يخصها، يليها رائحة الدجاج الذي أعدَّته أمس، ثم صوت موسيقى تالفة لاسطوانات قديمة تنبعث من عند الجارة، الطعام السيئ، قطعة بيتزا خروجا على النظام، ذائقة الكُتاب في النَّص الساخن الطري، الروائح وأغاني خيليو، الندم، إعداد مائدة في صورة مبهرة لطعام سيئ، ثم تصويرها ووضْعها على الانستجرام.. حيث التقاء السأم، كأنها تشير لكيف تبعث بنا الأشياء والمواقف العادية إلى المزاج الحيادي أو الرمادي، إلى الاستياء. غرْق الحياة في العادي والتشيؤ، في الصور والمَشاهِد دون معنى حقيقي، حلقات من سأم.

ذات البنية التي تعتمد على نمو القَصِّ بالحلقات التي تفضي إحداها للأخرى؛ يأتي نَصُّ “مسرحية”، لكن بإضافة تنويعة جديدة للقَص؛ حيث يتكرر – ثلاث مرات بالنص – مفتتح: “في عام الحزن ظهرت بوادر الحكمة على شاعر منسي”. (ص39) كأننا بصدد موشح حزين، المفتتح ثابت، لكنه يدفع كل مرة بمتغيرات متعددة، كلها تشير إلى ظواهر بلا منطق، مجموعة من العلاقات الغرائبية القمعية لمحاور القوى بمجتمع الفن والسلطة، وتجار السلاح، والقابضين على رؤوس الأموال، تظهر هذه المحاور من خلال كنايات يجسدها العادي والمتداوَل، لكنه حين يوظَّف على هذا النحو؛ يدلل على معانٍ تتجاوز الظواهر لتكمن في عمق دلالاته.

ولعلنا نتساءل: لماذا لا تكتفي القاصة بالواقع لتحاكيه؟ لماذا لا تكتفي بتسلسل حكاية لها مراحل نعرفها حيث البداية والذروة والنهاية؟ هل لأن الواقع والسرد التقليدي قد انغمس في الزيف؛ (أحسب هذا) أصبحت الكاتبة بحاجة للتقنية التي تنهض بما تريد قوله عن الواقع؟ حيث يتبدى التمثيل الجمالي السردي لقَمْع الواقع وزيفه في تلك الحلقات المتصلة المنفصلة.

في تجربة سرْدٍ مراوغة، ثنائية المستوى الزمني، تضفر القاصة رحلة عائلة إلى اسطنبول وأكف ثلاثة مزدوجة في يد الأم، وكراسًا صغيرًا ناقص الواجهة والنهاية، كانت قد وجدته في غرفة كُتبٍ منسية في بيت جدها بالعراق، تحكي انطباعات ومقارنات بين الفتى الذي سافر إلى اسطنبول، ووجد عشقه هناك، تقول: “اللحظة الأولى التي نظر فيها إلى الوجه الجميل قرأ إشارة ما في العينين الواسعتين، لم تكن الإشارة شيئًا ساحرًا بالمعنى الثقافي لسحر الأنوثة، وليس مدهشا بمقاييس الجمال المعتادة، لكنه كان خيط تواصُل غريبًا ومعقدًا، منحه إحساس الألفة والسكون، منحه عطر الصحبة في هذا البلد الغريب”. (ص46)، “النقصان” في الكراس بنية دالة (البداية والنهاية)، رغم كونها عارضة في السرد.

قِدم هذا الكراس أيضا يشكل جزءًا من سحر السرد في هذه القصة، خاصة لو أضفت إليه معاينة فجوة حائرة بين حيرتين وعذابين، ربما يطل المسكوت عنه في هذا النَّص برأسه منذ العنوان، “واحد..اثنين..ثلاثة”، هناك ثلاثة أزواج من الأكف الصغيرة التي تعلَق بالروح، وتعيق المشي أحيانا، ربما ليس المشي فقط؛ بل تجعل أي تجربة – تقع تحت نطاق خيوط التواصل الغريبة والمعقدة – محكومًا عليها بالانتهاء سريعا. استحضرت تجربة الساردة الكراس وما وجدته فيه من قصة الحب، أو ربما العكس؛ الكراس هو المحفز الذي استدعى سرْدَ شخصية القَص.

في تخلُّص سريع وواقعي من التوغُّل في البَوح، تقول الساردة بعد أن وصلت وطنها ووصَف زوجها عتبة بيته للسائق: “ترى بماذا تفكر عتبات البيوت حين تغادرها الأقدام التي تعرفها؟ هل تذوق هي الأخرى لوعة الفراق ذاتها التي ترسمها قصص العشاق؟ واحد..اثنين..ثلاثة وصلنا بخير”. (ص48) “المسئولية” بنية دالة أخرى في المحور الزمني الحديث في القَص.  

ما يشدنا إلى الأطلال، حين نراها، قدرتها على جعلنا نحِسُّ بالزمن “الصافي” من دون تلخيص للتاريخ أو إنهائه في وهْم المعرفة أو الجمال، وهكذا تتخذ الأطلال – الذي يمثله الكراس هنا – شكْلَ الأثر الفني.

وتنوِّع القاصة في أصوات رواة القصص في مجموعتها، كما تنوِّع في تقنيات السرد، في قصة “عيد ميلاد” يأتي السرد على لسان جنين في اللحظات الأولى لولادته، وتنمو الأحداث لنُواجَه بالرحيل، بمغادرة الأوطان لما تقاسيه من الحرب، تقيس الكاتبة العمر بسنوات الرحمة فقط، تقول إن موظف الجوازات لم يصدقها حين أخبرته أن عمرها خمس سنوات فقط، تقول: “ربما لأنه لا يدرك أن الحرب تجعلنا نحبس الأنفاس ونغمض العيون بانتظار أن تمُرَّ دون حَمْلِ بعض أحزاننا وأوراق انتماء لمكان سيئ الحظ، كيف سنكبر ونحن نخاف؟ الخوف يعيق البهجة الضرورية للنمو”. (ص38)، كما سبق الإشارة إلى السرد بصوت شجرة في نَصِّ “أنا شجرة”. 

شخصيات المقاومة في دفاتر العائلة:

معظم شخصيات النصوص، حتى الأطفال منهم، لديهم تَوْق للخروج عن الأُطر التقليدية المعتادين عيشها، حيث السعي لالتقاط لحظة تحرُّر، والتطلع لنوع من المغامرة بعيدًا عن قيود الواقع وتكلسات مقولاته وموروثه، شخصيات تقاوم العقم، الحرب والدمار والكراهية، قيود الأفكار سابقة التجهيز، ترفض الخطابات الدينية غير الإنسانية المتشددة، ملل وسأم اليومي المكرور، التشيوء والغرق في عالم الصور، الكتابة لأهداف مادية.

تتجسد العَمة – في قصة “حكاية عمتي” – عاشقة للحياة، خارجة من مائها الدافق كحورية، تقول عنها الساردة: “تطير مع الزمن بتحدٍّ، فتحاول أن تزرع في كل دقيقة تمُرُّ عليها منه بِذْرة ما”. (ص24) لنعرف مع تقدُّم السرد أنها تحارب العقم الذي فُرض عليها حين اقترنت بزوجها، دائما ما شكَّلت النساء العاشقات للحياة والفرح علامات استفهام في مجتمعاتنا، وكُنَّ مدارًا لتعدُّد التأويل والشك. وبالرغم من استسلام الشخصيات لأقدراها فترات طويلة؛ إلا أنهم يتمتعون بقوة الخروج والتغيير في بعض القصص.

في قصة “القاموس”، تتجسد الأم ضمن البشر الذين جُبلوا على انتظار هطول الأشياء الجميلة، تمارس الحلم كطقس يومي جاد، المؤقت هو ما تمُرُّ به وتعيشه، فهي من الشخصيات التي تؤمن بالغيبيات، وتعلِّق اليوم في مقابل الغد الذي لا يأتي. حيث يعاني كثيرون من البشر من متلازمة تعليق الحياة وانتظار القادم الذي لا يأتي في الغالب.

تتعجب الساردة الابنة من موقفها من قناعات أمها الغيبية، تقول: “حتى الآن لم أفهم سِرَّ تلك السخرية، أكانت حقيقية أم أنها خوف من أسرار الكون الدفينة”. (ص15)، وتعلِّق على البومة المرسومة على صفحة القاموس التي اختارتها أمها، وتربط بينها وبين البومة التي وجدها أخوها في البيت، وما تعرضت له الأسرة بالفعل من سوء طالع تقول: “هل يمكن أن يقول القاموس حقائق الغد؟ من يومها تركت أنا كل آلاعيب فتح آفاق التلصص على المستقبل ولو مزاحًا”. (ص17)، يشير النَّص للمناطق التي تظَل متحركة ولا يمكننا أن نغلقها في لاوعينا العميق، مساحات الغيبيات بحياتنا، فبالرغم من رفْضنا لبعض ما نرثه من عوائلنا؛ إلا أن تأثيره يبقى في نسقنا الثقافي العام.

وكثيرًا ما يتضمن السرد بعض الجُمل التي تصف الطبيعة البشرية، وهو ما ينجزه الأدب ضمن وظائفه غير المحددة، تقول الابنة الساردة: “الإنسان كائن من وَهْم لا يتوق لشيء أبدًا كما يتوق لأوهامه”.

في نَصِّ “كنزة آلاء” تفكر الطفلة: “كم سيبدو لطيفًا أن تطير هذه الكنزة في الهواء، ربما ستسقط تحت العجلات، أو تعود إلى البيت ملوِّحة لأمها، ربما ستطير بعيدا لتطرُق باب الله”. (ص19)

تتمتع لغة المجموعة بقدر من الشاعرية، التي تتساوق مع معانيها الوجودية المضغمة بالحكي، فتقول الشجرة في القصة الأولى: “أنا شجرة الآن، أتوحَّد مع الأرض والهواء، مع الضوء والماء، أذوب كعاشق سَارَ مئة عام ليبلغ كَفَّ حبيبة منتظرة، أشرق كزهرة غسل وجهها مطر آذار، أتكاثر كوجه الله في عيون المخذولين، والمظلومين”. (ص11)

في قصص أخرى تبدو شعرية اللغة تواقه لخصوصية الإنسان وفرديته، عن رغباته حول كيف يرتضي عيشه، ولذا يأتي عنوان المجموعة “دفاتر عائلية” عنوانًا مراوغًا؛ فهي على الأحرى دفاتر يتجادل فيها الإنسان مع محيطه بغية أن يجد ذاته ويتسق معها.


([1]) إشراق سامي، دفاتر عائلية، دار ميريت، القاهرة، 2021.

([2]) مارك أوجيه: الزمن أطلالا، ت. جمال شحيد، هيئة البحرين للثقافة والآثار، البحرين، 2016، 131

أضف تعليق