أرشيف الأوسمة: قصة قصيرة

بيرستيرويكا. قصة: حاتم رضوان

                                 

    ابتسمتا وأشارتا لي بالجلوس إليهما عندما مررتُ بهما وأطلتُ النظر فيهما.

    افترشتا بقعة من أرض الرصيف في جانب هادئ وخافت الإضاءة من ساحة الفندق، وضعتا سيقانهما الخشبية إلى جوارهما، وجلستا تدخنان، بينما تمسك كل واحدة زجاجة صغيرة في يدها، تتجرع منها بين حين وآخر، كانتا صامتتين، وهائمتين في عالم بعيد.

   سيدتان شقراوان ينطق وجهيهما بجمال صارخ، آيتان من الفتنة والأنوثة، حوريتان هربتا من الجنة، ونزلتا هنا إلى الأرض أمامي، خمنت عمرهما، يتأرجح حول الأربعين، أفاقتا من السرحان وانتبهتا إلى نظرتي المفتونة والمحدقة بهما، ابتسمتا معًا، ووجهتا الدعوة لي: مشاركتهما الجلوس بإشارات فهمتها من حركات الأيدي وإن لم أفسر لغة الكلمات المصاحبة لها.

    كنت أتابعهما من مكاني وأنا جالس على حافة السور الواطئ، يحيط بالنافورة التي ترقص رشرشات مياهها على نغمات الموسيقا والأضواء الملونة، تتوسط الميدان السياحي أمام الفندق ذي السبعة نجوم، كانتا تروحان وتجيئان بسيقانهما الخشبية الطويلة وملابسهما الملونة، تنشران البهجة وسط السائحين بضحكاتهما، ومشاكساتهما للأطفال والنساء والرجال، يرقصون، ويلتقطون الصور معهما، بدتا لي في طولهما المفرط مثل برجين يتحركان بخفة راقصتي باليه، احتفظُ بصورتين لي معهما، أبدو في إحداها قزمًا وهما تحوطاني عن اليمين واليسار، أتأملهما كلما خطرا بذاكرتي، واسترجع قصتهما، وحديثهما الحميم معي، تحكي كل واحدة جزءًا منها بلكنة إنجليزية أجد صعوبة في فهمها، تتخللها بعض الكلمات العربية التي تعلمتاها بحكم الممارسة والاختلاط، قاطعتهما كثيرًا لإعادة بعض الجمل من أجل استيضاح نقطة ما، لكنني استطعت في النهاية رسم لوحة لحياتهما، تكاد تكون مكتملة، وتتبع خط سيرهما من بلدهما البعيد حتى موقع جلوسهما إليَّ في هذه اللحظة.

    صديقتان من الطفولة، عاشتا حياة بسيطة، تلبي أقل ما تحتاجا إليه من متطلبات، تضمهما قرية نائية تقع في أقصى الشمال الشرقي من العالم، تنام في هدوء على حافة الكرة الأرضية، تكسوها الثلوج معظمشهورالسنة، كل شيء فيها بطابور، الخبز، الزيت، السكر، والطعام، أما الملابس والأحذية بطلب مسبق، وعندما يصيبك الدور لتحصل عليها، قد تجد أن المقاس المتوفر لا يناسبك، تعود مكسور الخاطر، تتنظر أن يحالفك الحظ في مرة قادمة.

     تعلمَ أهل القرية من زمن بعيد المشي بواسطة السيقان الخشبية، في موسم ذوبان الثلوج تصبح الأرض موحلة، تتحول إلى برك ومستنقعات شاسعة، ووعرة، لا توجد وسائل مواصلات، تساعدهم على التحرك فيها من مكان لآخر، وسيلتهم الوحيدة تلك السيقان الخشبية، تجنبهم الخوض في الأراضي الطينية اللزجة، وبعد تحسن الأوضاع النسبي، وشق الطرق، وتعبيدها، وظهور وسائل تنقل مختلفة، صارت السيقان الخشبية شاهدًا من الماضي، توارثه الأبناء، يتعلمون منذ صغرهم  المشي والرقص بها كهواية، حتى أنه لا يوجد أحد من سكانها لا يجيد استخدامها، وحدد الأجداد يومًا من كل عام يجتمع فيه أبناؤهم وبناتهم في ميدان القرية الفسيح، يقيمون فيه احتفالًا كبيرًا، يلبسون بأقدامهم هذه العصي الخشبية الطويلة ويرقصون بها، ويأتون بحركات بهلوانية في تقليد يحيي هذه العادة القديمة، واطلقوا على هذا اليوم مهرجان السيقان الخشبية.

    أحسست مع السيدتين بألفة لم أعهدها مع الغرباء، وخصوصًا الأجانب منهم، من أجهل لغتهم وعاداتهم، زالت الحواجز بيننا، واحدًا إثر آخر، وحُلَت عقدة اللسان، وتجاوزنا مرحلة الارتياب والخوف من الآخر، وزادت مساحة الصدق والارتياح، وانساب تدفق الحديث والكلام بيننا، وكأن تَعَارُفَنا كان ممتدًا منذ سنوات طويلة، التقينا بعدها مرة أخرى من جديد بعد قطيعة وغياب.

     في أول تسعينات القرن الماضي ومع هبوط العلم السوفيتي الأحمر بنجمته وشعار المطرقة والمنجل من أعلى قبة قصر الكرملين تغير كل شيء، انقلبت حياتهما البسيطة، لتنحدر إلى ما تحت خط الفقر، عاشت كل منهما سنوات مراهقة صعبة، في أحيان كثيرة لم تجدا طعامًا كافيًا، يخمد آلام الجوع المتأججة في البطون، بحثتا عن أي عمل دون جدوى، لم يكن أمام الفتيات غير شوارع المتعة المنتشرة في المدن البعيدة، أو إعلانات العمالة في الخارج، كجليسات للأطفال، أو مضيفات في الحانات والفنادق، أو راقصات في فرق موسيقية مغمورة نظير أجور مغرية، مجرد التفكير فيها تجعلهن طائرات في السماء، تحلمن بالعيش في رغد، جافاهن طوال سنوات عمرهن الفائتة.

    قدمت لي إحداهن سيجارة، تناولتها رغم أني لا أدخن، وأشعلتها الأخرى، كنت كمن فتح لهما بابًا للذكريات، والبوح، انطلقتا من خلاله تحكيان لي ما حدث لهما، أيام الطفولة والصبا الأولى، مخاوفهما المتجددة من مستقبل غامض، مغادرتهما القرية والبلاد كلها، حتي ركوبهما الطائرة، والنزول في مطار شرم الشيخ بتأشيرات سياحية.

    ساقهما إعلان توظيف إلى هنا، لتكتشفا أنهما وقعتا ضحية لعصابة تمتهن الدعارة والاتجار في البشر وليس مكتبًا للعمالة، كان المخطط أن تقادا مع غيرهن عبر دروب ومسالك سيناء الوعرة، وغير المأهولة، ويتم تهريبهن إلى إسرائيل، واستغلالهن كفتيات ليل، يعانين من الامتهان، والعنف الجسدي، لو استسلمتا ورضيتا بهذا المصير لكان أحرى بهما أن تظلا بقريتهما، ولفتحت لهما شوارع المدينة ذراعيها، تعملان في بيوتها السرية، تحققان ثروة كبيرة، تغنيهما عن السفر والغربة، لكنه ولحسن حظهما ولمفارقات حدثت، يطول شرحها، استطاعتا التحايل، وسرقة جوازي سفرهما والهروب من الفخ المنصوب لهما، والمصير المجهول الذي ينتظرهما، لينتهي بهما الطريق بعد سلسلة من المطاردات والمغامرات إلى هذا الفندق، كل ما تحملانه من مؤهلات: إجادة المشي بواسطة هذه السيقان الخشبية، تعملان به للترويح عن الزائرين والترويج للسياحة كمهرجتين مقابل غرفة في السكن المخصص للعاملات ووجبتي طعام، وبعض المال، يكفي بالكاد لشراء الشراب والسجائر.

    التقطت صورة سيلفي معهما تجمعنا فيها لحظة إنسانية نادرة وفريدة، اقتربت فيها رؤوسنا الثلاثة حتى كادت أن تتلامس وكانت وجوهنا تعلوها ابتسامة واسعة، استأذنتهما في المغادرة، نهضتا معي من على الرصيف، وفُزْتُ من كل منهما بحضن دافئ، ذابت بيننا فيه المسافات، وأمسكتا بعصيهما الخشبية، التي ارتفعت بأيديهما لأعلى ملوحتان لي بها في الهواء، لتجلسا مرة ثانية، وتضعاها إلى جوارهما، وتصمتان، لمحتهما وأنا أبتعد عنهما، تريحان ظهريهما على سور الفندق في استرخاء ظاهر، تدخنان وتشربان وتدندنان بلحن معبأ بالشجن، أجهله، بينما عيني كل واحدة منهما تنظران في اتجاه مختلف.

تقنيات السرد بين التطبيق والتنظير. أ.د. محمد عبد المطلب

(1)

ظهر مع الحداثة ما سمي(علم الرواية) وتابعه (علم السرد) تأسيساً علي أن هناك نوعا من النصوص الأدبية التي حصرت وظيفتها في إعادة إنتاج الواقع بمجموع وقائعه وشخوصه، والعلاقة الجدلية التي تربطهم، ثم تقديم هذا المنتج في لغة توصيلية ذات مواصفات أدبية، وكان ظهور مصطلح (علم الرواية) وتابعه (علم السرد) ذا تأثير واسع في المحيط الأدبي والنقدي، وازداد هذا التأثير عندما زاحمت الرواية سواها من أجناس القول، وسعت أن تجد لها مقعداً في المقدمة.

إن ترديد هذين المصطلحين في زمن الحداثة، قد استهدف تخليص الرواية من القراءة الانطباعية التي صاحبتها منذ بواكيرها حتي أوائل القرن العشرين، ومما لاشك فيه، أن هذه الانطباعية كانت وليدة (المحكاة) التي كانت تنظر في النص بوصفه محاكاة الواقع، إذا كانت المحاكاة أمينة وصادقة نال النص الرضا والقبول النقدي، وإذا انعدمت الأمانة والصدق، كان الرفض الفوري، دون نظر إلي الأداة التعبيرية التي وظفها الأديب، سواء أكان صادقا أم غير صادق، ذلك أن الانطباعية احتكمت إلي (المرآة) النصية، وأهملت سواها من الأدوات المنتجة للنص، وتناست الهيكل البنائي للرواية.

استمر في القراءة تقنيات السرد بين التطبيق والتنظير. أ.د. محمد عبد المطلب

الدجاجة لم تعبر الشارع. قصة: د. هدى النعيمي/ قطر

                                           

لم يتبق أمام أبي بعد رحيل أمي، و إحالته إلي التقاعد، و بعد أن صار لنا – نحن اللذين كنا صغاراً نتقافر علي اكتافه بينما أمي تعد الغداء – صار لنا عوالم و عائلات، و حيوات ليس له منها إلا ما يفيض من الأوقات التي نحنُ عليه بها من حين لآخر. لم يتبقى أمامه إلا ان يأتي بعشرين فرخة من الدجاج و ديك واحد ليؤنس وحدته، و ليستمتع بصياح الديك فجراً،  وهو قائم يصلى الصبح حاضراً يتبعها بما تيسر من القرآن الكريم، و أدعيه الصباح، وحتى موعد صلاه الضحى التي طالما أصر على أنها فريضه، تجعل عدد صلوات النهار “ستة” لا “خمسه” .

استمر في القراءة الدجاجة لم تعبر الشارع. قصة: د. هدى النعيمي/ قطر

إنعكاسات. قصة: عزة مسعود

.. تطارده الأفكار ، تصارعه الظنون والشكوك ، تتقاذفه الأوهام . . يرفع جسده عن الفراش ينهض كل جوانحه ليسألها : من أنا ؟

يرتفع صوت الريح يضرب بنافذة العقل ، ترتعش الخلايا تتصلب بعد تجول في تلافيف المخ، تصبح مشلولة لا تستطيع الإجابة .

يبحث في أوراق مرصوصة على مائدة قذرة ، ينكر صلته بها وتنكره، يمسك بالقلم يصرخ : دعني .

يرفع رأسه رامياً القلم ، تلتقفه مجموعة الأوراق المبعثرة ، تصطدم عيناه بمرآة معلقة فوق المنضدة ، يتلمس وجهه ، يتفحص ملامحه وهو يسأل : من أنا ؟

تعكس المرآة الضواء الخافت و”المتسرسب ” من فسحات الشباك ، معها  “تتسرسب ” المشاهد متلاحقة .. تتداخل الأحداث تنتحر الذاكرة دون الفصل بينها ، فيعجز عن مقاومة الأشعة  ذات الخيوط المعقدة والمصوبة إليه انعكاسات يحللها لقطرات نور متجمدة يقهرها الظلام ، فتذوب ويذوب معها السؤال .

يفتح الباب .. تقوده قدماه ليلقي بجسده على أول مقعد ، يجلس متجمد الرأس والحركة إلا عينيه أخذت تقلب المارة ساعات ،، بعدها انتصب محملقاً في الجسد المار أمامه قسمه بنظراته إلى وجه .. عينان يفصلهما اَنف نهايته بقليل فم ما أحلاه .

تجرى عيناه مع خصلات الشعر المذهب تنسدل مع انسدلتها لتختطفها حبات العقد المعلقة بالرقبه، والتي تتلاصق متفرعة إلى أن تتجمع وترتكز عند التقاء “….. ” تتصلب نظراته ..

 يفكر .. ماذا لو رمى برأسهفي ذلك الحضن  ؟

يرفع مقلتيه المثقلتين عائداً لتلك الشفاه تصدمه سابه

 : من أنت أيها الوقح؟

يقذفه السؤال لدائرته يعود إليها من جديد ليسأل

:  من أنا ؟؟؟

مرونة القص وفاعلية الرمز في (حكايات البنت المسافرة)

بقلم / سيد الوكيل

 تقف نصوص ” من حكايات البنت المسافرة ” لمحمد عبد الحافظ ناصف على مجموعة من الروابط الدلالية والإحداثيات السردية المتداخلة ، بما يجعل منها تجربة واحدة ، جديرة بمفهوم ( حلقات القص ) الذي نوه إليه الكاتب في تقديمه لها ، وحلقات القص : شكل يشغل المسافة الفاصلة بين القصة القصيرة والرواية ، بما يعنى : أن القصة القصيرة التي تتمتع بدرجات قصوى من المرونة، وقابلية التجريب ، تكتسب – أيضاً – مقدرة على التشكل ، ومجاوزة قوالبها ، فالقصة القصيرة كانت – ومازالت – هي مقام التحولات السردية المثيرة ، وفضاء التجريب الجمالي  وقد نجحت ( القصة القصيرة ) في تسريب رهاناتها الجمالية وخصائصها، من ذلك قدرتها على مجاوزة النوع  إلى اقتراح  أشكال مختلفة من السرد، بل وجاوزت ذلك إلى الشعر ، إذا لم تعد قصيدة النثر خالية من تأثيرات سردية، وبهذه الإمكانات التجريبية والإحالات التقنية لفن القصة القصيرة ، الذي أصبح بمثابة معمل الطاقة المغذية، ليس فقط لفنون السرد المكتوب ، بل والمصور والممثل على نحو ما نجد في انتشار أفلام السينما القصيرة ولوثائقية، والتسجيلية والفيديو كليب، والمسرح النثري الذي يقوم على حلقات (اسكتشات) يغلب عليها الحكي، وغير ذلك من فنون السرد المجزوء.

       وفى ( حكايات البنت المسافرة ) ، نلمح – بوضوح – نوازع التجريب اللغوي والتقني  وتعدد مستويات الخطاب بين التوثيقى / التسجيلي المعايش للتجربة الذاتية، والشعري،  والمنولوج الداخلي والممثل لضمير الشخصية ، كما نلمح – وهذا هو الأهم – مجموعة من المترابطات التي تؤكد وحدة الذات الساردة بين النصوص على استقلاليتها فتقترب من فضاء الرواية، إذ تحضر هذه المترابطات، يوصفها مجموعة من الخبرات والمعارف والملامح النفسية والفكرية لمدرس في مدرسة بنات، قد يكون هو المؤلف نفسه، لما يتمتع به من صفات ثقافية تدخله عالم الكتاب، فضلاً عن الخبرة الحية التي يمتلكها الكاتب، بما يمكنه من رؤية عالمه عن كثب، والاشتغال على التفاصيل الدقيقة، والملاحظات التي تبدو عابرة، بما يمنح السرد ثراء وطزاجة، ليس لأن كتابة تجربة المدرس تجربة فريدة في السرد القصصي، ولكن لأن الكاتب لم يقع أسير الإعدادات الجاهزة، والنمطية عن صورة المدرس، بقدر ما اشتغل على قراءة هذه الصورة، من الواقع والخبرة العملية والمعايشة .

استمر في القراءة مرونة القص وفاعلية الرمز في (حكايات البنت المسافرة)

مكالمة عشوائية. قصة: عادل مناع

كانت ليلةً من تلك الليالي التي شعرتُ فيها بالهزيمة أمام فصل الشتاء رغم ولعي بأشهُرِهِ سريعةِ الانقضاء، فآثرت أن أقوم بذلك الاختباء المُحبّب فيما بين الفراش الوثير والأغطية الناعمة.

الدفء الذي أجده، مع البرد الذي يشاغب وجهي الذي لم أستطع قطعًا إخفاءه، يتموجان كضدّين متحابّين، يصنعان معًا مزيجًا فريدًا من الدفء البارد أو البرد الدفيء، والشعور المُدْمَج بين ما أفر منه وما أهواه.

تثاقل جفْناي كإرهاصٍ لزحف سلطة النوم الساعية لفرض سطوتها، لكنني انتفضت بشكل عفوي على نغمة هاتفي المزعجة، رقم غريب من خارج الحدود.

تناولت الهاتف، وألقيت التحية على المتصل، فأتاني الرد خافتًا بطيئًا واهنًا وكأن صاحبه يؤهلني لكي أتلقى خبرًا عاصفًا، خُيّل إليّ في البداية أنه صوت طفل، إلى أن سألتُ المتصل عن هويته، فأجاب وقد تلاشى منه الوهن والخفوت، كأنه مريض استردّ عافيته فجأة: أنا المنسيّة.

وهنا أدركتُ أنني أتحدث مع فتاة، عرضتُ صوتَها على ذاكرتي السماعية، لكنه لمْ يبد لي مألوفًا، فأعدتُ السؤال ذاته، فتلقيتُ الإجابة ذاتها.

أنذرتُها بإنهاء المكالمة إنْ لم تفصح عن شخصيتها، فباغتتني بما أثار فضولي ودهشتي معًا: “كيف حالك مع الصقيع، أتمنى أن تكون قد تناولت وجبة العشاء ومشروبك الساخن وآويت بعدها إلى فراشك الوثير، لم يبق لك سوى حلم سعيد تقصه على محبيك في الصباحِ”.

لفّني الصمت برهة وأنا أسلط تركيزي على نبرة صوتها وكلماتها التي باحت بها في ذات الوقت، ليست بنبرة استهزاء أو هزل، ليست نبرة غضب أو حنق، وليست بالقدْر الذي يجعلني أصفها بالودود، كان الصوت في حسِّي أشبه باجتماع زبَدِ البحر وأعماقه معًا على ظهر غيمة، هذا التصور هو ما داهمني في تلك اللحظات، ولم أجد لذلك تفسيرًا.

ارتكزَتْ هي على صمتي لتسترسل في حديثها: “عذرًا لأنني أصبتُك بالارتباك، صدقًا أنا لا أعرفك ولا تعرفني”.

لم تمهلني الفتاة لأطلق سؤالي، فتابعَتْ: “كل ما في الأمر أنَّ آخر وجبة تناولتها كانت منذ ثلاثة أيام، وحال البرد بيني وبين النوم حيث لا غطاء لي ولأبي سوى رداء من الصوف من رائحة أمي، فخرجتُ من خيمتي بلا هدف، كل ما جال بخاطري أن أرى كيف يعيش الناس في العالم الآخر هذه اللحظات، فضربت أزرار الهاتف بشكلٍ عشوائي”.

كأن الكلمات قد ارتطمتْ بوجداني فأحدثت فيه زلزلة، وقفز إلى ذهني مكان واحد رغم أشباهه المتناثرة في بقاع الأرض، فسألتها: “هل أنت مِنْ….”.

قطعت سؤال بقولها: “نعم أنا من الأرض المنسية”، هنالك تسارعت أنفاسي وأنا أقول: “ليس صحيحًا أننا نسيناكم يا…، عفوًا ما اسمك؟

أجابت: “وما الفارق لو كان اسمي “آمال، أحلام، وئام، زهرة، ياسمين، كلها معانٍ صارت مبتورة أو ذابلة، يمكنك أن تدعوني “نور”، كان هو اسمي قبل الانطفاء”.

حاولت جاهدًا أن أرتب أفكاري لأتمكن من الحديث مع هذه التي بعثرتْ استقرار منطقي، فشرعتُ في الحديث معها على الأساس الأول: “ليس صحيحًا أننا نسيناكم يا نور، بل إننا نعيش حالة غير مسبوقة من القهر بسبب عجزنا عن دعمكم”.

التزمت هي الصمت فأخذت نفسًا عميقًا مستطردًا: “لا أخفيك سرًا إن قلتُ بأننا مأخوذون كثيرًا بأمور المعاش ومواجهة أعباء الحياة، لكن أنتم في القلب، لا نكف عن الدعاء من أجلكم”.

أعقبْتُ كلماتي بصمتٍ، حاولتُ تبريره بسُعالٍ مُصطنع تلاهُ شهيقٌ عميق، فكأن الفتاة قرأت المشهد بتمامه، فقالت بصوت هادئ لا ينمّ عن أي لون من ألوان المعاناة التي تحدثت عنها: “لا تجهد نفسك بالتفسير والشرح، أجمل ما في محنتنا هذه أنها جعلتنا أقوى مما يجول في خيال بشر، وفوق ذلك جعلتنا ننظر إلى العالم بأسره في وضوح: من معنا، ومن علينا، من يناصرنا ومن يخذلنا، عرفتنا الأزمة بالصديق والعدو، سقطت جميع الأقنعة، لا عليك، لا أعاتب شخصك، فأنا لا أعرفك ولا أنت تعرفني، فقط تركت نفسي لرغبة جامحة في هذا التوقيت لم أستطع منعها”.

أزال حديثها أطنانًا من الأثقال عن كاهلي، لكن الفتاة قد أثارت إعجابي بحديثها وشعرت بألفة غريبة معها، وكأنني أعرفها منذ زمن بعيد، وتمنيتُ في تلك اللحظات أن أترك أثرًا طيبًا في نفسها، أو أقدم لها أي دعم معنوي.

وحتى لا أمنحها فرصة لإنهاء المكالمة، سألتُها عن أحوالهم مع القصف والنزوح، فقد استنتجتُ من حديثها عن الخيمة أنها لا تعيش بدارها.

ألفَيْتُها فتاةً تتمتع بنسبة عالية من الذكاء، يلتقط ذهنها أطراف الحديث الخفية في مهارة، وتُحدد المغزى في يُسر، فقالت بنبرة تكشف ابتسامتها وكأنها سوف تحدثني عن موقف طريف: “خرجت وأبي من تحت الأنقاض بعد أن قُصف منزلنا”.

شهقتُ بعد أن أخذتني رجفة وأنا أحوقل في تتابع، لكنها تابعت كأن لم تسمعني وبنفس اللهجة التي تظهر استعلاءً فريدًا على رهبة الموت: “ربما كان القصف الذي طال عددا من المنازل حولنا مقدمة جيدة لكي نتلقى الضربة، وأحمد الله أنني وأبي لم نُصب بسوء، شعرت حينها مع الفزع الرهيب بأن أسقف وجدران المنزل الذي قضينا فيه عمرنا تحمينا، كأنها تواطأت على أن تتساقط في أوضاع تخلق لنا فرصة للنجاة، كنا مُمَدَّدَيْن على الأرض وفوقنا متسع يكفي لأن نزحف في أريحية، إلى أن أنقذنا الأهالي.

بعدها خرجنا من هذه المنطقة مع الناس في رحلة النزوح، كانت منطقتنا عبارة عن عالم آخر لم نعرفه، لم نعد نعرف أين كانت بيوتنا، تاهت عنا الشوارع، ولم يعد شيء مما كان على ما كان.

لم نستطع أن نأخذ شيئا من أمتعتنا، ولاحتى عصا والدي التي كان يتوكأ عليها، فقمتُ بوظيفتها، وأمسكتُ بيده وهو الشيخ المريض ضعيف البصر، لنشق طريقنا وسط الركام والأنقاض في المنطقة التي صارت أثرًا بعد عيْن.

آثار الدمار في كل مكان، فكنت أتحرى ممرات سهلة، من أجل والدي لكيلا أُجهده، فأدور يمينًا ويسارًا، لأجد الآخرين في كل مرة يتزاحمون لشق هذا الطريق السهل، فحدّثني أبي بأغرب ما يكون الحديث”.

هنا تنفست في عمق، بينما يسيل لعابي لأن أستمع إلى ذلك الأمر الغريب، وبدا زمن تردّد أنفاسها كأنه دهْر، ولم أكبح جماحَ نفسي عن إطلاق أمنيتي: “أكملي”.

تابعت الفتاة بقولها: “قال لي: يا بنيتي، لم نعد نملك مالا ولا قوتًا لكي نعطي هذا وننفق على ذاك، فاتركي السهل للناس، واستبقي لنا الصعب، تعلمي أن تفتحي لنفسك أبوابًا مختلفة من الصدقة، ثم أنشدني بيتًا من الشعر خالف فيه المتنبي بمفردة واحدة”.

قلت في شغف: “وما هو”، أجابت على الفور:

لا خيلَ عندك تُهديها ولا مالُ…….فليُسْعِد (السيرُ) إنْ لمْ يُسْعِد الحالُ”.

هنا شهقتُ من فرط الدهشة وأنا أقول: “يا الله، يا الله، أي رجلٍ هذا، وأي قومٍ أنتم، لم أر مثل هذا في التصالح مع الذات والثبات والرضا”.

هنا طرق جزءٌ من حديث الرجل ذهني في عنف، وكأن هذا المقطع يُعلن عن نفسه أنه بيت القصيد: “اتركي السهل للناس، واستبقي لنا الصعب”، ماذا يعني بها؟ أهو توصيف لحالهم وحالنا؟ أهو عتابٌ في ثوبِ إقرار؟

برهة من الصمت المتبادل، لم يشقه سوى صوتٌ بغيض، اعتدنا على سماعه في وسائل الإعلام، صوت القصف، وعلى الرغم من الخوف الذي أثاره الصوت في نفسي، غمرتني الدهشة إزاء حديثها المازح: “ها قد جاءت تحايا الموت الليلية، في ودائع الرحمن”.

قالتها وقد أغلقتْ هاتفها، تاركةً إياي صارخًا: “انتظري، انتظري”، أجريت اتصالا على الرقم فجاءتني رسالة بأن الهاتف مغلق.

 وضعتُ هاتفي إلى جانبي وقد تسارعت أنفاسي، شعرتُ حينها أنني أعاين حلمًا لا واقعًا، وتدفقت الأفكار برأسي في تزاحمٍ مُرهِق، أتراها تنجو هذه الليلة؟ وهل تعود لتقص عليّ مزيدا من حكايات الحياة والموت؟ هل ترجع فتفسر لي حديث والدها؟

عصفتُ ذهني في التفكير بهذه المكالمة العشوائية، وما إذا كانت رسائل حملتها الأقدار إليّ، وإلى اليوم أرتقب أن يظهر ذلك الرقم مجددًا على شاشة هاتفي، لأعثر على إجابات لكل الأسئلة الهائمة في عقلي.

الركن الذي تنتمي إليه. أسماء عواد

          الركن الذي تنتمي إليه لا يزيد عن مترين فقط . تذكر الآن وهي تقبع فيه الأركان المماثلة التي مرت عليها في مراحل عمرها. ولعها بالأركان منذ الصغر جعل لها ذكريات لا يشاركها بها أحد.  أولها  ذلك الذي كان أسفل الدرج في منزلها الصحراوي الكبير. كانت تفوح منه رائحة الطلاء الجيري ممزوجة بالرطوبة، تلك الرائحة التي كلما صودف وأن صادفتها في مكان ما، تعود إليها ذكرى ذلك الركن، وتشعر بالحنين إليه وإلى السنين المتتالية التي عاشتها فيه .

          الركن السفلي هو الاسم الذي أطلقته على ركنها الأول في منزلها الصحراوي الكبير. كانت في السادسة وهي تلعب فيه بفستانها القصير، تشعر ببرودة أرضيته الأسمنتية تتسلل إلى ساقيها وهي تقبع فيه مثل قطة صغيرة. تعودت أن تستمتع فيه بكونه لها وحدها، الشيء الوحيد الذي تمتلكه ويحوي أشيائها التي لا يشاركها فيها أحد. دمية بلاستيكية بلا رأس، علبة مناديل ورق فارغة جعلتها سريرا للدمية. غطاء قارورة الكلور الأزرق والذي جعلت منه طاولة في غرفة نوم الدمية. كرة بينج بونج بيضاء، وحصان بلاستيكي صغير انشق إلى نصفين بمرور الزمن.

الآن لا تعرف لماذا كانت محتويات هذا الركن  تمدها بالخيالات، وكيف كانت تأتيها بالأحلام المتجددة كل يوم؟ لكنه يظل ركنها الحبيب والذي حفر في ذاكرتها خلايا الفرح .

           ركنها الثاني انتقلت إليه بانتقالها إلى العاصمة، مقعد كبير يقع خلف الباب مباشرة بجوار المكتب الذي تقتسم أدراجه مع أختها الكبرى، درجين فقط اعتادت أمها أن تعبث في محتوياتهما . كانت تغوص في المقعد وهي تمسك في يدها بكتاب مدرسي وبداخله كتاب آخر، تخفيه عن عيني والدتها. هي لا تنسى ما اكتشفته وهي تقبع في ذلك الركن، روايات الجيب، أغاني عبد الحليم، ومساحيق الزينة. تذكر كيف أغرمت بطلاء الأظافر على وجه الخصوص، وتذكر كيف اكتشفت عشقها للرسم بسبب فرشاته التي ألقت عليها بسحرها الأبدي. تلك الفرشاة التي تموج لها أحاسيسها وهي تسحبها على أظافرها، كم من متعة عاشتها في كل مرة كانت تضع فيها الطلاء ثم تزيله لتعود وتضعه من جديد. لم تقلع عن هذه اللعبة حتى انتقلت للصف التالي في المدرسة، وبدأت تتلقى دروس الرسم بالفرشاة بدلا من أقلام الخشب .

استمر في القراءة الركن الذي تنتمي إليه. أسماء عواد

عبد المسيح” إلى فريدة / سبتمر 1950. قصة. يوسف محب

 

أكتب إليك يا فريدة بعدما تركني الجميع. و أقصد بالحميع أنتِ. منذ ما رأيتك في حديقة القصر مع صديقاتك و تكون في قلبي ركناً خاصاً بالحب و الحزن.

كل صديقاتك هروّلوا إلي إلا أنت. كنت تتفحصيني بعينك و كأن سحر الغيب مسّك بالمستقبل، فعكفتي لمدة دقائق طويلة تشاهدي ما سيحدث بيننا. تتأملي و تخافي منه، ثم ترضي به و تبتسمي في وجهي. مذعنة للحكاية كلها.

و لأول مرة في حياتي قررت أن أختارك أنتِ. نعم.. فالملوك لا تختار أبداً يا فريدة. علمني ذلك كرباج أبي الذي مزق جلدي عندما وقفت صغيراً أمام صورة “سعد باشا” و صرخت ” سعد سعد يحيا سعد” كما يقول البقية متأثراً بسجع الكلمات. لم أعرف أنه عدو أبي اللدود. مات أبي و حرقت أنا الكرباج و لازلت أحمله على ظهري.

عرفت عندئذ أني لا أمتلك رفاهية غموض الغد. فالطريق مخطوط بحبر لا يمحيه شيئاً. أما أنتِ فرأيت في عينيك متعة الاختيار. صممت أن أصطحبك أنت و

أهلك إلى أوروبا. كنت أريد أن أراها في عينيك. سجنتني جدران البهو الملكي طويلاً. و ذلك السؤال باقي في خاطري. لم يشفع وسع الحدائق في تذوق الحرية. و لم تنفع الأسمال من فرو الفهود في تدفئة البال. و ذلك السؤال يا فريدة.. ذلك السؤال لم يغب أبداً. كيف تكون الحياة في عيون الفنانين؟

هؤلاء العشوائيون الذين يفعلون ما يحلو لهم. آه لوقع تلك الكلمات! ترى يا “فريدة” كيف يكون العالم في عينيك. جذبني أنك رسامة. تلك الموهبة التي وُلدت من رحم الله. الفرق الوحيد بين الوجه المرسوم و المخلوق هو الروح. لكن أنتِ يا فريدة رسوماتك حية تماماً. فمن أنتِ حقاً؟

بنيت كل أحلامي معك في أوروبا. لم أكن أعلم العالم سيجعلني أخسر رفقتك للأبد. ربما لم يكن العالم، ربما كنت أنا.

كان الولد الذي لم يتكون في بطنك هو بدء الخلاف بيننا. لم يسعفني حب فريال و فادية أو حتى فوزية المقربة إلى قلبي في نسيان الولد المنتظر. كنت أريد أن يحيا فاروق بعد مماته فمات فاروق و هو يحيا عندما ذهبتي إلى إيطاليا.

أكتب لك على تلك الصخرة الكبيرة على الأنفوشي التي أثارت انتباهك و نحن مارين بالموكب. يحملق في عجوز ما يصحب ابنه يجر عربة بطاطا ناقشاً على خشبها الخرب “بطاطا السعيد”. أراه يتسائل، هل يحلم أم لا. هل هذا هو الملك أم شبيهه؟ لا أعبأ أبداً لنظراته و أفكر، ماذا لو كنت أنا صاحب عربة البطاطا تلك؟ يوقظني الفجر و هشيش الحقل. تطبخي البيض مع الفول الصابح على الوابور و تجعليني أذهب بعدما حصنتني قبلاتك و رائحتك. أجمع المحصول و رزقي على الله. هكذا فقط.. دون حكم أو صراعات. بطاطا الفاروق. يا له من حلم بعيد الآن.

يسألني البحر أثناء جلستي بلغة لا يفهمها إلا أنا. هل بالفعل كرهت العيشة معك كما صرخت في وجهك أمام البنات؟

تستقر زرقة الموج في عيني ثم في روحي. يفتش السائل عن جوابه داخل حنايا صدري فيجدها مدفونة بغبار الكبر و الأنا. لا.. لم أكرهك أبداً، بل لطالما كرهت نفسي. كنتِ مرآة تبرز هشاشتي و قبحي؛ فكان عيبك هو نقاءك.

خَلّف أبي الإنجليز. زادوه في المكر فقط. ورثوا عنه الأغلال خاصتي. فلم أقدر على حب ذلك الضعيف يا

فريدة. كنت أعتقد إنها فقط المصالح. أن الكل يربح في نهاية المطاف. حتى تمكنت الغفلة مني و سرقوا كلمتي. و ما الحاكم إلا كلمة!

منذ ثمانية أعوام، لم أر في النحاس أن يكون مشروعاً لأفكاري و تنفيذاً لسلطتي. أظهرت نواياي أمام الشعب أجمع و أبعدت عنه الكراسي كلها. و بعدها بأيام صحى الشعب على خبر تعيين النحاس رئيسا للحكومة. أخبرني الإنجليز أن أعينه رغما عني. كسروني يا فريدة! تذكرت كرباج أبي. انقصم ظهري، و عندها أدركت أني أدمي جروحا كنت قد نسيتها دهوراً.

آه يا فريدة، كم مددت يدي للحرية. و لكنها تسحب يدها دوماً مشمئزة من أياد الحكام. استسلمت لقدري في فقري بها، و لكني قررت أن أدعيها كالأحرار. فالحرية الكاذبة أجمل من الأسر الباق. امتلكت كل ما و كل من أحببت. كوّن سحر النساء مع كؤوس الڤودكا اكسيراً للنسيان. تجرعته كل الليالي و أصبحت من أريد، ليس من أنا.

أما أنتِ يا صغيري العصفور. أثقلك همّ الخيانة على همّ نزاعات أمي ثقلاً مضاعفاً. أصبحت تستخدمي اللون الأسود كثيراً في رسوماتك. تسرب إليك الموت و أنا كنت ذلك الموت. كنت الشيطان الذي رأيته في أخر

الحكاية في حديقة القصر. و لكنك رضيتي، أليس كذلك؟

تصورت أني عندما أعدو نحو الغاية، سأستطيع تحمل ادعائها. و لكني لم أستطع أبداً. نعم، اشتقت لأن يتملكني أحد ما. حقاً، كم هي مرهقة تلك الحرية! ربما كان أبي و الإنجليز أكثر فهماً مني لحقيقتي. ربما لم أكن أريد أن أحيا في وهج الشمس يوماً، إنما في ظلال الآخرين. هما فقط من أدركوا أن الشمس لن تضيء نفسي، بل ستحرقها.

أنتِ كنتي ذلك الوهج.

أما هي..

فوهبتني برودة الظلال.. “كاميليا”.

نعم.. “كاميليا”

سرت كالأعمى على صوت أجراس خصرها. لم تسمع أبداً لهاثي خلفها، فلم تتوقف إلا عندما غطى الطين وجهي. كيف لأنثى أن تمتلك كل تلك الأمومة و كل ذلك الشر في آن واحد. سحبتني حواء إلى ثدييها و أرضعتني و لم تفطمني قط. و عندما أدركت عريي في حضنها رفعت أصابعها العشرة لتدين ضعفي. تذكرت العيال يا فريدة؛ فعرفت أني عاري أكثر مما كنت. لم أحبها، بل أعتقدت أني سأعود إليكِ بها أو إلى ذاتي ثم

إليكِ. في نهاية الطريق كان التيه لا أنتِ.

و اليوم، العالم كله يتساءل هل أنا من أحرقت طائرتها. نعم، أنا من أحرقت تلك الطائرة. أول البارحة، استلقيت على فراشي. أطلب من الله أن تموت و هي على متن تلك الطائرة. أغمضت عيني كالصغار الراغبين أمنية عيد الميلاد. و صليت لذلك من قلبي. فسمع الله يأسي و صراخي المنبجس في صدري. أرسل “أنيس منصور” ليحقق ما أملت. بعد أن وهبها تذكرته متفضلاً. تذكرة العتق من الخطيئة. شعرت بعدما احترقت، أن فاروق المظلم مات و ها هو فاروق جديد يجلس على صخور الأنفوشي يكتب كالمراهقين عن الحب التائه منذ سنين. كان يجب أت تُضرم النيران كضحية لقيامة فاروق جديد. فاروق أخر.، يشعر. أنا الآن أشعر يا فريدة و كم اشتقت أن أشعر. أبحث عنك يا فريدة منذ ذهابك. بحثت عنك في “كاميليا” و حتى في “ناريمان”. كل النساء التي رغبتها لم أرغبها إلا لرغبتي فيك.

لن أرسل تلك الرسالة بالطبع، بل سأرميها في جوف الرمال البارد. لا يصح أن يعرف أحد أن الملك يراسل طليقته. ألم أخبرك؟ الملوك لا تختار.

ابتسم الآن و أنا أعترف لكِ بحبي. لا أعلم حقاً لما أكتب هذا الآن؟ ربما السر في تلك البلدة العجيبة. هواءها

يجبر الناس على قول الحقيقة. ذلك الرذاذ المالح ينتشل الأرواح من فرحها الملفق فيحررها. و البحر.. البحر يشبهني يا فريدة. مهما عظم تحده تلك الصخور القاسية.

يخبرني “النقراشي” بأن هناك مخططات سرية من الجيش لسلب الحكم. أتعلمين، جزء من يريد ذلك اليوم قبل غداً. أعرف أن ذلك الكرسي هو الحائل بيني و بين الحياة. و لكني لا أستطيع إلا أن أموت عليه. و كل يقين أني سأموت عنه يوماً دون إرادتي. أتحرر منه و آني إليكِ، أضع رأسي على صدرك الناعم.

ربما في عالم آخر، دون عروش أو نساء..

يا حبيبتي “صافيناز”.

إمضاء:

“الملك فاروق الأول”

انعكاسات “. قصة: عزة مسعود

قصة قصيرة

.. تطارده الأفكار ، تصارعه الظنون والشكوك ، تتقاذفه الأوهام . . يرفع جسده عن الفراش ينهض بكل جوانحه ليسألها : من أنا ؟

يرتفع صوت الريح يضرب بنافذة العقل ، ترتعش الخلايا تتصلب بعد تجول في تلافيف المخ، تصبح مشلولة لا تستطيع الإجابة .

يبحث في أوراق مرصوصة على مائدة قذرة ، ينكر صلته بها وتنكره، يمسك بالقلم يصرخ : دعني .

يرفع رأسه رامياً القلم ، تتلقفه مجموعة الأوراق المبعثرة ، تصطدم عيناه بمرآة معلقة فوق المنضدة ، يتلمس وجهه ، يتفحص ملامحه وهو يسأل : من أنا ؟

تعكس المرآة الضوء الخافت و”المتسرسب ” من فسحات الشباك، معها  “تتسرسب ” المشاهد متلاحقة .. تتداخل الأحداث تنتحر الذاكرة دون الفصل بينها، فيعجز عن مقاومة الأشعة  ذات الخيوط المعقدة والمصوبة إليه انعكاسات يحللها لقطرات نور متجمدة يقهرها الظلام ، فتذوب ويذوب معها السؤال .

يفتح الباب .. تقوده قدماه ليلقي بجسده على أول مقعد ، يجلس متجمد الرأس والحركة إلا عينيه أخذت تقلب المارة ساعات .. بعدها انتصب محملقاً في الجسد المار أمامه، قسمه بنظراته إلى وجه عينان يفصلهما اَنف نهايته بقليل فم ما أحلاه .

تجرى عيناه مع خصلات الشعر المذهب تنسدل مع انسدالتها لتختطفها حبات العقد المعلقة بالرقبة، والتي تتلاصق متفرعة إلى أن تتجمع وترتكز عند التقاء “….. ” تتصلب نظراته ..

 يفكر .. ماذا لو رمى برأسه في ذلك الحضن  ؟

يرفع مقلتيه المثقلتين عائداً لتلك الشفاه تصدمه سابه

 : من أنت أيها الوقح؟

يقذفه السؤال لدائرته يعود إليها من جديد ليسأل

:  من أنا ؟؟؟

أصـابع العَــــــوز. قصة: مراد ناجح عزيز

…………..

تحت ضغط ..

إلحاحها الشّديد ومعسول كلماتها الناعمة أحيانًا والتي تَجيدها ببراعة أو كما يُقال: (تعرف من أين تؤكل الكتف) واللّاذعة أحيان أخرى, تفككت قسمات وجهه الغاضبة وقد أبدى موافقته المبدئيّة على التّقدم لشغل وظيفة ما في احد الشّركات الخاصة, ربّما كان ذلك سببًا لمضاعفة دَخله الزهيد من عمله الحالي, وإعادة ما كان بينهما من حياة هادئة.

بوجهها الصّبوح أشرقت فتاتهما الصّغيرة بعد قسط من نومها, كان من شأن وجودها تهدئة الموقف دون أن تتصاعد أبخرة من فوّهات كلماتهم المحتبسة ضيقًا, مداعِبة راحت زوجته تقرأ من كتاب في يدها, بينما هي جالسة أمام شاشة التلفاز كأنّما توجه كلماتها لطفلتها الصّغيرة: أي الأمثال يتّفق مع مقولة لا تستطيع بمفردك فعل كل شيء؟ بعفويّة الأطفال قالت ابنتها:(القفّه اللي ليها ودنين يشيلوها اتنين)

استمر في القراءة أصـابع العَــــــوز. قصة: مراد ناجح عزيز

رُؤيا الحَبْل. قصة: حسام المقدم

                                     ..

 أوشكتْ ألعاب العيال، في ذلك الزّمن، أن تكون كذا وعشرين لُعبة. خُذوا مثلا: جَمعُ أغطية الكُوكاكولا والبيبسي وغيرها، ولضمها في بعضها بخيط، ثم ثنيها لتصير عَجلة صغيرة تصنع مع زميلة لها شيئا يمشي بعجلتين، مُثبَّتتين في خشَبة صغيرة، وعمود طويل للقيادة يكون دائما من جريد النَّخل. كان هناك وشيش لصوت العجلتين فوق التراب. هذا الوشيش هو الدّافع للإسراع كي يعلو أكثر، وكي يسمعه كل الأولاد ويتحلَّقوا حول صاحبهم الماهر، مُستمعين له وهو يشرح طريقة العمل. بعد يوم أو اثنين، تكون كل الشّلّة في قِمة الانتشاء مع العجلات المُتكاثِرة الصّاخبة، والتي تعدّدتْ فوائدها: مثل اصطحابها في جَولات الصباح الباكر للإغارة على عناقيد البلح المُدلَّاة من أعالي النّخل، أو نهب وبعثَرة أكوام التِّبن المُشَوَّنة في الأَجران. تأخذ الأيام القليلة مجراها. يجرون ويطيرون ويلمعون بالعَرق. وحين يبدأ الوشيش في الخُفوت المُتدرّج، حتى السُّكوت الكامل؛ تكون لُعبة أخرى قد ظهرتْ للوجود. لكن قبل اللّعبة الجديدة، لم يكونوا يقفون ليسألوا. أعمارهم وقتها، وعقولهم الغَضّة لن تلتفت لنار الأسئلة المُقلِقة: لماذا لا تبقى اللعبة بنفس حضورها وغلَيانها في الرؤوس؟ كيف ننساها كأنّها لم تكن، وندخل في أخرى؟ لكنَّ ولدًا منهم كان يُخايله طيف سؤال وراء سؤال. يُذَكِّرهم بأيام لعبة حُلوة قديمة، ويتعَجّب كيف برَدتْ حرارتها. لا يشغلون بالهم، ويمضون في لعبة بعد أخرى: طيّارات الورق، اللعب في الطين وتشكيل دُمَى الذئاب والثّعالب، تقشير حطَب الذُّرة وصُنع العرائس من اللُّب الأبيض..

  لا شيء ألهبَ قلوبهم مثل تلك اللعبة الخطيرة التي لم يعرفوها من قبل. لعبة شدّت نور العيون، وجعلت سُوس الدّماغ يلعب وينخر انتظارا للموعد في الظَّهيرة مقطوعة الأنفاس، حين يُقبِل الولد العفريت وفي يده الحبل المفتول. يكونون هناك.. على شطّ التّرعة، تحت التّوتة الوارفة ذات الفائدة في أوقات الطوارئ. فحين رؤية أي مخلوق قادم على السِّكَّة، يكون في الإمكان الطُّلوع والاختباء في تشابُك الأوراق الخضراء، والتَّسلِّي بالفُصوص المُسكّرة. الأهمّ أنّ رَبط الحبل يكون في فرعها المُمتد الواطئ قليلا. في البداية أرخُوا الحبل، لدرجة وصول الحلقة الملفوفة لرقبة الواقف على الأرض. يتمايل ويُجرِّب القُعود، فتشُكُّه رقبته المشبوحَة. يضحكون، ويتبادلون الدُّخول في الحلقة وإحكامها على رقبة ممدودة بلهفَة. لم يشفِ غليلهم ذلك. فكَّروا في تقصير الحبل، بأن يكون بطول قالب طوب يقف عليه صاحب ضربة البداية، ثم التَّدرُّج: قالبان، ثلاثة.. واحد منهم تذَكَّر فيلم “عمر المُختار”، لحظة أن رَكَلُوا الدِّكّة من تحته. هُم كذلك ركَلوا الطوب من تحت صاحبهم المشنوق، لكنّ يديه كانت حُرَّتين تعفقان الحبل وتتعَلَّقان به. لا تسمحان للعُقْدة أن تَحُزَّ الرّقَبة. يتدخلون في أقرب وقت ويعيدون وضع القوالب تحت القدمين الضَّاربتين في الهواء. اتَّفقُوا أنّ تقييد اليدين آخِر مرحلة.. لابد أن نُجرّب. نُقيِّد اليدين ونلحَق في الوقت المناسب. ماشي. أنا! قال الولد المُبتكر وقرّرَ أن يُجرّب بشرط ألا يُقيّدوا يديه. ضبطوا له طول الحبل، قبل أن يرفسوا القوالب الثلاثة من تحته. قُوَّته كُلها هربتْ وتجمَّعتْ في يديه. كان يضحك، ويرفع جسده ويُخفِضه طالعًا نازلًا بالحبل. أحسَّ برُوحه تُشفَط مع ابتعادهم قليلا. في القُربِ كانوا دائما في مرمَى العين، أقدامهم على استعداد لزحزَحة قالب أو اثنين تحت القدم التائهة. عيناه تُناديهم، جُحوظُهما يتَّسع. الوجه كله في طريقه للتَّقلُّص. اليدان تشُدَّان الحبل بارتعاش. أيها الأوغاد اقترِبوا. يضحكون ويشيرون ناحيته. هل تخونُه يداه؟ مُجرد التّفكير أن رقبته يمكن أن تحتمل ثِقل جسده أمر مرعب. لن يستمر في اللعبة. ضَرَبه الرُّعب. صرخَ بوجه مخنوق مُحتقِن: الطُّوب يا أولاد الكلب! أخيرا يتدخلون، ويستقِرُّ واقفا لاهِثًا. يحلفُ لهم أنّهم أنذَال. وبعد أن يهدأ؛ يحكي لهم عن غيامات العينين وارتعاش اليدين على الحبل. يقول إنّه رأى أباه المَيِّت وجَدّه، وهُما يمُدَّان أيديهما لإنزاله، إلا أن عشرات الأيدي الممدودة لجماهير غريبة، بوجوه مطموسة، حالَتْ دون ذلك. في اللحظة الكاشِفة، حين أوشَكتْ العينان على البياض، واليدان على الارتخاء، رأى وُجوهًا يعرفها.. كانت تنكشِفُ واحدًا وراء الآخَر. هذا فُلان وفُلان وفُلان.. لو طالت اللّحظة لرآهم كُلّهم.

  استمعوا له يحكي. بعضهم خاف، وآخرون انتَشُوا وسخنتْ دماؤهم. سيضعون جَدوَلًا كي يمرَّ الدّور عليهم جميعًا. تراهَنوا على مَنْ يبقَى لأطول وقت ممكن. وفي كل مرّة، بعد أن ينزل المشنوق دائِخًا غائِمًا، يحكي ما أحسَّه ورآه، في لحظات هي الحافَّة ذاتها، هي الشَّعْرة الفاصلة الرَّهيفة. حكايات كثيرة كانت تَتَوالد في الرّؤوس مع الوهَج المُغوِي.. فهذا ولد يرى مشانق كثيرة تتَدلَّى من سقف الفصل، تتأرجَح فيها أجساد العِيال بوجوه مُزرقَّة، وذلك يُمسِك رَشّاشًا يكنسُ به مدينة كاملة، لتبقى شوارعها خالية.. كلّ هذا لم يكن يُساوي شيئًا مع ذلك الأناني الذي غامَرَ لوحدِه. أغواهُم بأنّ التَّجربة أجمل كثيرا بهذا الشكل، حكىَ لهم حكايات مختلفة عن حوادث وأطياف ووجوه تمنح نفسها له وهو بمفرده. فقط على اللاعب أن يأخذ باله من وضع الطُّوب جيدًا. نظروا إليه، ذابُوا في الكلام.. وَهَج مختلف وأكثر إغواء، يشتعل في القلوب التي تأكل نفسها.    

  امتَدَّ التَّسلُّل المنفرد في الظَّهيرات والمساءات، وليالي الصيف المُقمرة. النّار تسرح في هَشيم الأدمغة. يذهب واحد أو اثنان أو ثلاثة.. التّوتة موجودة ومُتاحة للجميع. الحبل أصبح حِبالا كثيرة تتَوزَّع على الفُروع الخضراء الكثيرة. وحين رأى الآباء والأجداد ما يحصل؛ نهَرُوا العِيال بلا حَسْم، إلى أن أخذوا الأمر باعتياد وتعنيف مُبتسِم لهؤلاء العفاريت الصّغار.

  هل يستمر الأمر هكذا؟ سقطَ واحد واثنان في التّرعة، مع طقطقة فُروع التّوت تحت الثِقل المُتزايد كلّ يوم. كاد الحبل أن يشنُقَ أحدهم للنّهاية، لولا تدَخُّل رجُل يمُرُّ بالصُّدفَة على الجِسر. وحدَه الولد الذي لا يَملّ من السؤال يُفكّر في مجرى الأمور، ويحلُم بلُعبة جديدة تُزيل أثَر هذه العدوَى الرَّهيبة، التي شاهَتْ مع هذا العدد الكبير من الحِبال. لقد خاصَمَهم ولم يعُد يلعب. عاد لألعابه القديمة، وجاء بأُخرى جديدة لم يعرفوها، التَفُّوا حوله يستوضحون ويُجرّبون. كان يغيظه أن بعضهم لم ينسوا التّوتة والحِبال. وما زالوا يلعبون هناك.

                                             ***

 حسام المقدم

ساعة معصم، قصة: عادل مناع/ مصر

انتصفت ليلةٌ باردة، وقد خيّم السكون على تلك الغرفة، إلا من صوت أنفاس صاحبها، والذي وقف أمام النافذة المُشرعة متجهمًا شاردًا ينظر إلى اللاشيء.

بخطواتٍ جنائزية، اتجه إلى مكتبه، وسلَّ قلمه من غمده، ثم رفع رأسه إلى سقف الغرفة مُغمض العينين، كأنما يستجمع شتاته، سرعان ما أقبلت أنامله على تلك الخربشة الناعمة على الصفحة البيضاء:

“لست أدي من هو سعيد الحظ الذي ستقع في يده هذه الرسالة، التي أختم بها تلك الحياة البائسة، فربما تعثّر خلالها في عِبْرةٍ تقيهِ عَبَراتِ السنين.

كنت ذلك الطفل الأوسط الباهت، الذي يقبع في ترتيبه بين أوائل العنقود وأواخره، ولم يكن ثمة شيء لدي يجعلني موضع جذب للانتباه، فسلكت طريق المثالية المفرطة، تميزتُ بالطاعة المطلقة فيما أهوى وأكره، وأمسكت لساني عن البوح بأي مطالب، بل تماديتُ في ذلك العبث الذي أضرني، ورفضت قبول مصروف اليد من والدي، كانت عيوني على ذلك الثناء قانعًا به.

ذات يومٍ أخبرني والدي أنه سيقتني لي ساعة مِعصَم، حتى أُدرك بها الوقت، وانطلاقا من مسلكي الأخرق أبديت ذلك الرفض المُسيَّس، تعلّلت بأنني لا أكترث لمعرفة الوقت، فأمي تتولى مسؤولية إيقاظي كل صباح لأبدأ يومي الدراسي، وموعد مسلسل المساء لن يفوتني، فالأسرة تجتمع في انتظاره، وأنا معهم، ما حاجتي لمعرفة الوقت؟

تجاوزت طفولتي إلى مرحلة الشباب بلا ساعة معصم، وبلا أمّ توقظني، لكنني بعدُ لم أرَ أن احتياجي لاحترام عقارب الساعة أمرٌ حيوي.

 تجذّرَ في كياني بُغض الدوائر المغلقة، الأساور التي تشبه القيد، الأشياء التي تذكرّني بنفسها كلما نظرت إليها أو تحسستها، وكأنها كانت بداية عقابٍ أبديٍّ يوقّعه الوقت على حياتي بأسرها.

غدَتْ كل أزماتي في الحياة نابعة من وصولي المتأخر، دائمًا أصل على هامش الزمن، دائمًا أدرك الأمور بعد أفولها، فتنطلق مني ألف ألف “ليت”.

لم أجد الوقت الكافي لأدرك أن التحصيل الدراسي الذي توقفت فيه عند شهادة الثانوية العامة، ليس كما زعمتُ مجرد اعتراف حكومي بشهادةٍ دراسية أعلقها في إطار على الحائط، وأنه ليس مجرد رغبة لأمي اندثر بموتها وانعدمت الحاجة إليه.

أتنقل من عمل إلى عمل، لا تثبت لي قدم، لم أفكر في أن الوقت لن يسمح بفوضى التجارب، وأنه يتوجب علي الاستمرار لجني الثمار، سقط من قاموسي الـ “غد”، اعتدت أن أتجاهل مرور عقارب الساعة واضعًا عينيَّ أسفل قدمي.

قطار العمر يمضي، لا بل كان طائرة العمر، التي لا تشعر داخلها بأنها تتحرك إلا إذا تعرضت إلى مطبّ هوائي، هكذا كنت، لا أدرك أن الوقت يمر، كيف لا؟ فأنا لا أرتدي ساعة معصم.

كل شيء فاتني، حتى الحب، وصلت إليه في الوقت الضائع، ولم تقم له في حياتي قائمة، ضاق بي الوقت، ضاق بي العمر، زحفت إلى هامته في بلاهة، كم صار وجه الحياة قبيحًا قاتمًا، ليس هناك ما يدعو للتمسك بها، وإني لأرجو أن يعتبر بقصتي من يطالعها، فالعاقل من اتعظ بغيره، قبل أن يكون هو عظةً لغيره”.

أنهى الرجل الكتابة، ثم دفن وجهه بين راحتيه معتمدا بمرفقيه على سطح المكتب، ثم عدل من وضعه، وهو يمسح دمعة وجدت طريقها على وجنته، نهض بعدها متجهًا إلى نافذة الغرفة التي لم يوصدها بعد، وهو يتأمل من ذلك الارتفاع الشاهق، منظر المدينة ونواحيها، ثم يسدل بصره إلى الطريق بنظراتٍ خاوية.

أسفل البنايات، كان ذلك الشاب يسير في هدوء وبطء، واضعًا يديه في جيْبَيْ سترته الداكنة، وعلى بضع خطوات منه، كان يسقط ذلك الشيء على الأرض.

وفي الوقت الذي مال ذلك الشاب ليلتقط من على الأرض مُجسّمًا ورقيًا تُغلفه مخمليةٌ حمراء ويبدأ في تفقدّها، كان ذلك الرجل يطل عليه من النافذة بابتسامة عريضة، اتجه بعدها ليستخرج من أحد أدراج مكتبه ساعة معصم، ارتداها وهو لم يزل بعد غارقا في ابتسامته، بينما تقبع على سطح مكتبه صفحة جديدة، دوّن عليها عنوان الجزء التالي من قصته: “وارتديتُ ساعة معصم”.

قراءة في (يوميات امرأة مشعة) للمرحومة نعمات البحيري. بقلم: سيد الوكيل

 “نزلتُ، وسرت فى ردهات مركز الأورام متجاهلة أننى أنا “نعمات البحيرى” بلحمها ودمها، زاعمة أننى شخص آخر خارج دائرة الورم الخبيث، يرى الأطفال المرضى المحمرة احمرارًا مصفرًا، ورؤوسهم الخالية من الشعر من آثار العلاج الكيماوي”.

هذا مشهد له طبيعة مأساوية، لكنه دال بقوة على الروح التسجيلية في رواية ( يوميات امرأة مشعة)، واستخدامها لكلمة يوميات يدعم الطابع التسجيلي. وكأن ثم (كاميرا) تمشي وراءها، وتصور لحظة بلحظة كل تفاصيل رحلة الألم التي عاشتها نعمات البحيري، ليس فقط رحلة مرضها المميت، بل رحلة حياتها التي تناوبت عليها الآلام من كل حدب وصوب. لكن الشاهد، أن نعمات البحيري، قدمت نموذجًا متفردًا لرواية اليوميات.

استمر في القراءة قراءة في (يوميات امرأة مشعة) للمرحومة نعمات البحيري. بقلم: سيد الوكيل

النافورات، قصة: عماد مجاهد

النافورات

 

الطيور التي تحب المحيطات  الدافئة ،تغادرها تصل عواصم بلاد بعيدة

لتجد مياه أخرى،

تخرج من نافورات ميادين واسعة ،نافورات مياه مضيئة بلون الخوخ

 حمرة الشمس, حول النافورات عشاق متحابون ،يغنون أغنية للحب

في برلين،

يغنون للحب في نيويورك ـ موسكو، في القاهرة حول نافورة،

قرب النيل يغنون للحب بالعربية، في كل الدنيا طيور عشاق،

هناك في القدس لا يوجد مكان يغني حوله أحد،فقط  ××× أسفلت فوقه

طفل فلسطيني،يحاول رسم حمامة بالطباشير، جاءته قذيفةاخترقت جسده

 من عند المنتصف تماماً،قذيفه من جندي، مغلف بالدروع الواقية ،

 قذيفة من جندي مغلف بحماية وزارة الدفاع والطائرات،

الطفل الذي جاءته القذيفه بددتة،تمزقت أصابع يده ومعها محترقة،

كل الكراسات التي ،كان سيملأها رسماً كتابة، كل الزهور التي تنتظره

 يذهب ليجمعها ،احترقت الأرض التي تنتظره ،حتى يكبر . يزرعها ،

إحترقت   ، الشظايا مزقت قلبه ،كل دقات الحب المختزنه داخله ،لبنت

ما تنتظره

في المستقبل كي يحبها ،لكنه لا يصل وتنتظر وتنتظر وتنتظر وتظل

معلقة في الإنتظار .

في عواصم العالم حول النافورات طيور عشاق،

تنشر تلفزيونات العالم النبأ ( مشهد الإغتيال ) تذيع مازال التمايل

أثناء الغناء،تذيع تلفزيونات العالم مشهد الإغتيال،مازال التمايل أثناء الغناء.

( )

         

تخرج دماء الطفل من كل النافورات، تغرق الميادين فتفزع العيون

بمنظر الدماء، وهي تصعد تصعد لارتفاع أعلى فأعلى فأعلى ،

يخرج جسد الطفل كإنفجار كوني ،من فوهات النافورات في باريس جسداً

بلا ذراع,

يخرج كقذائف حرب    من فوهه نافورات موسكو،

في القاهرة :يخرج كانفجار كوني طافيا فوق دماء نافورة ،ميدان

التحرير جسداً بلا جسد،

من جديد         من جديد

يخرج من نافورات برلين

ليرسم حمامته في الهواء …. فتصيبه قذيفة عن المنتصف … فيسقط يسقط    يسقط .

 

                                         

 

.

    خريطة  للحـزن والريــاح، قصة/ أحمد محمد عبده

        

                   

“لا نسبَ اليومَ ولا خلَّةً /  اتّسع الخرقُ على الرّاتق”

أنس ابن العباس

جغــرافيا:

       ربما تكون هذه الرقعة جـلد  بقـرة  أو جلـد  جاموســة ‍‍!

فاتساعها وترامي أطرافها, وهي مفرودة  ومنشورة ومثَّبتة علي حائط الفصل, يشي بأنها – لابد –  لحيوان مستأنس!

فالحيوان الدموي  دائماً:  ضئيل و خفيف ورشيق.

يقابِلُك الوجـه المسـلوخ تواً, صفحة من نتف  قطنيـة مُشـرَّبة ببقع حمراء, من الصعب أن تحدد هُويتها, فالحيوان المسلوخ, المُلقي علي مُنحدر رشَّاح، أوالمعلق أمام دكان جزارة,  نُحدِّد طبيعته ونحكم علي نوعه,  من خصوصياته، المفردات التي قلَّمـا تتشابه مع نظائرها في غيره من الحيوانات, مثل لون وتقسيمات الجلد والفروة, وكذلك الذيل أواللّيـة والقـرنان والأذنان, وهيئة الرأس.

تتكون تلك الرقعة من صفحتين, يتوسطهما – تقريباً –  أخدود يأخذك من أسـفل لأعلي, مشروم من فوق, عن قرنين أو إصبعين،  ُيشكِّلان  في تحد مُزمن, وفى كل حالاتنا..علامــة النصـر!

قد يكون ذلك الشرخ هو مكان سلسلة فقـرات الظهر، أوهوالعمـود الفقرى, حتي منبت القرنين أو الإصبعين!

استمر في القراءة     خريطة  للحـزن والريــاح، قصة/ أحمد محمد عبده