منهج التفكير الجانبي عند شاكر عبد الحميد. بقلم: سيد الوكيل.

                                                        بقلم: سيد الوكيل

عند تعاملنا مع الإبداع الأدبي، هناك ضرورة أن نفرق بين الباحث والناقد، فالباحث تلميذ شاطر يجيد استخدام المنهج، ويستفيد من الأدوات والإحصاءات والإجراءات، ويوظف المصطلحات كمهني محترف، الباحث هكذا صنف من الناس لا غنى عنه في صيرورة الحياة وتطورها، إنه المهندس الذي يحفر الأرض الصلبة المصمتة ليستخرج منها كنوز المعرفة، فإذا هي ذهب والماس وياقوت، لكنها تظل خامات غفلا حتى تتلقفها يدّ الناقد فتستحيل تحفا لها من الجمال و الروعة ما يجعل قيمتها تتجاوز بمراحل قيمة الذهب و الماس. فالناقد الأدبى يضفي علي نظريات العلم مسحة جمالية. فإذا كان الباحث يحقق الأمانة العلمية، فعلى الناقد أن يخونها. وإذا كان الباحث يؤكد جدية النظرية فالناقد يلعب بها لصالح الجمال فى النص الأدبى.

 وهكذا فشرط الباحث الوحيد هو المعرفة الموضوعية، أما الناقد فيخلق منها جمالا؛ إذ ليس كل باحث جيد يمكن أن يكون ناقدا، وليس كل مبدع جيد يمكن أن يكون ناقدا، وإنما الناقد الحقيقي، صنف من الناس يتميز بالقدرة علي التفعيل الجمالي للمعرفة الموضوعية. ولا يتحقق هذا إلا بطاقة إبداعية مائزة، تلك التي نسميها الإلهام. إنه درجة من درجات العبقرية، يراها إداورد سعيد طاقة مذهلة من البحث الإبداعى المنظم، وليس مجرد هبة مجانية تأتى لواحد من البشر بلا جهد منه.

 وهؤلاء الذين منحهم الله الوعي الجمالي، هم القادرون وحدهم علي سبر أغوار الجمال في العالم، والوقوف علي أسراره ،وتحقيق تجلياته، وهم بذلك يمنحون العالم تفسيرا جماليا، فيجعلونه مفهوما ومحتملا وبسيطا ومتاحاً للجميع.

المرحوم الدكتور شاكر عبد الحميد، واحد من الباحثين القلائل الذين جمعوا بين جدية الباحث وإلهامات المبدع، أو بمعنى أكثر دقة، امتلك جماليات المعرفة، وهو ما يتضح بوعي دقيق ومنظم في كتابه: التفضيل الجمالي، الصادر من سلسلة عالم المعرفة بالكويت، مع طليعة الألفية الثالثة ( 2001م) ثم يلحقه بكتاب ( عصر الصورة ) وكأنما يستهدف لفت انتباهنا إلى التغيرات المثيرة في مسارات الجمال، تلك التي يمكن أن ترافق الثورة التكنولوجية. والواقع أن الذي يقرأ الكتابين معا، يمكنه أن يلاحظ التقاطعات المعرفية بينهما، بما يدل على أن شاكر عبد الحميد، كان يؤسس لمشروع معرفي متكامل.

 وبهذان الكتابان ( التفضيل الجمالي، وعصر الصورة ) على نحو خاص، يلحق شاكر عبد الحميد بقطار الباحثين المبدعين، الذين نحتفظ بهم في ذاكرتنا اعتزازا بندرتهم في تاريخ الفنون والآداب، من أمثال الدكاترة: مصطفى ناصف، شكرى عياد، عبد الغفار مكاوي، كمال أبو ديب.. وهم بتلك الصفة يختلفون عن الباحثين المؤسسين أمثال: محمد غنيمي هلال، وشوقي ضيف..

 كتاب (التفضيل الجمالي )  يسعى للوقوف على أدق العمليات الإنسانية وأكثرها تعقيدا، وهى تتلخص فى سؤال:كيف نتذوق الجمال؟ يبدو السؤال بسيطا، لكن عندما نبدأ في البحث عن إجابة شافية له، نراها شبه مستحيلة، نظرا لسعة تاريخ علم الجمال، وامتداده منذ فلاسفة الإغريق حتى الآن. مع اختلاف الأراء والنظريات وتعدد المشارب والتوجهات. 

احتاجت إجابة السؤال عند شاكر عبد الحميد إلى ما يقرب من خمسمائة صفحة مقسمة إلى ثلاثة عشر فصلا، وملزمة من اللوحات والصور والهوامش، وبداخل كل هذا عشرات من الأسئلة الفرعية والموضوعات الجانبية الدقيقة والمتخصصة،ليس فقط في نظريات علم الجمال، ولكنها تدخل بنا إلى مناطق ملغومة فى علم النفس والاجتماع والفلسفة، وحيث يختلف مفهوم الجميل بين البشر وفقا لنطاقات معقدة منها: الدين، واللغة، والموروث الشعبي، والقيم الاجتماعية، والبيئة، والتربية، والتعليم ..الخ.

وإذا أضفنا إلى كل هذا الميول والرغبات والنزعات الإنسانية التي مازالت من المناطق الملتبسة عند علماء النفس ،يردون بعضها إلى ذكريــات فى الطفولة كما فى مفهوم المكان الجميل عند (باشلار) أو إلى عقد وأمراض نفسية كما عند (الفتشيين) الذين يربطون الجمال برموز جنسية، فإننا فى النهاية نحصل على شبكة معقدة من العلاقات والعوامل اللامنتهية تدخل فى تحديد مفهومنا للجميل.

إنها بلاشك شبكة يتوه فيها (فرويد ) نفسه، الذي توقف كثيرا عند ابتسامة (موناليزا) الساحرة الغامضة، فحاول فهمها وردها إلى نوع من الذكريات الحميمة فى حياة (ليوناردو دافنشي ) أو علاقته بأمه التي حرم منها مبكرا ،وربط (فرويد ) هذه العلاقة بموروث دينى عبرت عنه لوحة أخرى لدافنشي هي ( العذراء والطفل يسوع والقديسة آنا اليعقوبية) حيث لاحظ ( فرويد) أن العذراء والقديسة (آنا ) لهما نفس ابتسامة موناليزا فانتهى إلى أن الأمومة هي القاسم المشترك بين المرأة بوصفها (جندر ) وابتسامة موناليزا عند دافنشى. لنلاحظ، أن موسوعية المعرفة لدى شاكر عبد الحميد جعلته متجاوزا إلى أصناف عدة من التعبير الجمالي، ليس في الإبداع الأدبي فحسب، بل في الفنون التشكيلية، والفلسفة، وعلم النفس – بطبيعة الحال – نظرا لتخصصه العلمي. لهذا يتمكن من ملاحظة عوامل نقص تعتري وجهة نظر ( فرويد ) في تفسيره لجمال ابتسامة(موناليزا).

إن فرويد، فى غمار انشغاله بالبعد النفسي والاجتماعي للفنان لم يلتفت إلى المقومات الجمالية التي تنطق بها اللوحة سواء فى درجات الألوان، أو اختيار الخلفية، ودرجات الضوء، والظل إلى آخر مثل هذه المؤثرات الجمالية، ومعنى هذا أن فرويد أخرج ابتسامة الموناليزا الغامضة من سياقها الجمالى وسجنها في سياق التحليل النفسي فحسب. أي فى سياق علمى بحت.

ما يفعله شاكر عبد الحميد مرتبط بوعى جدلى وكلى ليرى فى الوحدات الصغرى، والعلاقات الهامشية شيئا له قيمة العلم والجمال معا. هذا ما نعنيه بالتفكير الجانبي، الذي يكسب التفكير الموضوعي سمتا جماليا، يزيد من فاعلية المعرفة.  

إن كتاب شاكر عبد الحميد (التفضيل الجمالي ) لا يكتفي بأن يجعل موضوعه هو (الجمال) فحسب، لكنه يغمر القارئ بطاقة مدهشة من التعبير الجمالي، سواء فى طريقة عرضه، أو فى أسلوب تناوله لموضوع لا يتصدى له إلا باحث مبدع بحق. كما أن قيمة الكتاب البحثية، تتجلى عبر منهجية تاريخية دقيقة، يمكن ملاحظتها في ترتيب فصول الكتاب على النحو التالي: “الجمال ومفاهيمه، نظريات فلسفية أهتمت بالتفضيل الجمالي، التحليل النفسي والتفضيل الجمالي، نظريات الجشطالت والإدراك الجمالي “. كما تتجلى ملكاته البحثية في الإحاطة بالتباينات المختلفة للجمال، وتجلياتها في الفنون والآداب، بدءا من الطفولة ومسارات الإدراك الجمالي في المراحل العمرية المختلفة مثل: :”ارتقاء التفضيل الجمالي لدى الطفل، التفضيل الجمالي والموسيقى، التفضيل الجمالي والأدب، التفضيل الجمالي والفن التشكيلي، التفضيل الجمالي والبيئة.. إلخ “.

 المثير في الأمر، أن الكتاب لا يكتفي بقيمة بحثية، دقيقة وممنهجة، ولا يقف على المسارات المتعددة للإدراك الجمالي عبر التاريخ الإنساني فحسب، بل هو يتشح بطاقة جمالية في حد ذاته. وبمعنى أدق، أن اللغة التي يستخدمها ( شاكر عبد الحميد ) تتجاوز حدود الإخبار المعرفي إلى التشكيل الجمالي، بما يؤكد توافق الحدس الإبداعي مع إمكاناته المعرفية، وآلياته البحثية. لنقرا هذا الشاهد من الكتاب، لندرك أهمية التوافق المعرفى والإبداعي للكتاب، الذي أعتبره أيقونه ثقافية، لامناص من مراجعتها مرات ومرات، لكل مبدع أو باحث في الإبداع.

( حيّر علم الجمال عبر تاريخ البشرية المفكرين والفلاسفة والفنانين وعلماء النفس، والناس بشكل عام، وتعددت تفسيراته بتعدد المنطلقات الفلسفية، والنقدية والإبداعية والعلمية والإنسانية له. تلك التي حاولت تفسيره أو الإحاطة بظاهره ومخبره، وظل الجمال يراوغ دوما من كل التفسيرات، ويقف هناك في الظل أو النور متألقا، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامه تشبه ابتسامة موناليزا، تلك التي حيرت الملايين منذ قرون عدة، ولا تزال تحيرهم. كل ما استطاع هؤلاء القيام به هو أن يقتربوا منه، وأن يقفوا على مسافة منه ثم يتأملوه).

الشاهد السابق، يوقفنا على أن شاكر عبد الحميد، في سياق بحثه عن تاريخ وتحولات التفضيل الجمالي، أفاد هو نفسه من سمات التفضيل الجمالي في اللغة، والمحاور، وانهج الذي قام عليه الكتاب. بحيث يمكننا إدراك آليات التفكير الجانبي عنده، في كل صفحة من صفحات الكتاب.

أضف تعليق