حيوية النظام اللغوي في العربية. يقلم: سيد الوكيل

سيد الوكيل

روائي وناقد

إذا أخذنا بالفكرة الأكثر شيوعًا، والتي تقول إن اللغة وسيلة، أو أداة لنقل المشاعر والأفكار بين المتكلمين، فمعنى هذا أن اللغة تحيا على ألسنة المتكلمين بها. أي أن فكرة عزل الفصحى الموحدة عن لهجاتها المتعددة تجعل مفهومنا للغة – ولا سيما العربية- منقوصًا. فالعربية هي أكثر لغات العالم تعددًا، حتى فيما قبل الإسلام. والواقع أن هذا العزل مجرد إجراء للتمييز بين لغة الكتابة ولغة الكلام. ومع ذلك فلغة الكلام، دخلت دوائر الكتابة الأدبية أيضًا، وأنتجت بلاغتها وجمالياتها فى بعض الفنون، منها الشعر النبطي والعامي والمسرح والسيناريو. كما نراها الآن على مواقع التواصل الاجتماعي ذات فاعلية واسعة تؤكد معنى التواصل.

ولن استبعد أن دخول اللهجات في دوائر الكتابة، سينتهى إلى (لهجة) عربية موحدة، كما حدث قديمًا مع الفصحى. وهذا الاحتمال ليس رجمًا بالغيب، بقدر ما هو ملاحظة عن تقارب طرائق التعبير اللغوي على مواقع التواصل الاجتماعي بين مواطني البلدان العربية.  

الواقع أن لغتنا العربية مثل طائر يطير بجناحين، وهذا يمنحها قدرًا من القوة والحيوية، بل والتناسق الجمالي بين الجناحين وحركتهما. فكل منهما يضبط إيقاع الآخر في نظام لغوي دقيق وجميل، يضمن فاعليتها في الفضاءات العامة.     

الواقع أيضًا.. أن القواميس والمعاجم في كل لغات العالم، لم تمنع الناس من أن يطوروا لغتهم، ويخضعونها لمستجدات عديدة تناسب الحياة اليومية المعيشة، واستخدامها في مجالات العلوم والفنون التي  تدخل في سياق الاتصال الجماهيري، كالمسرح والسينما والصحافة وكرة القدم. بل وفي كثير من المهن والحرف، كونها فضاءات تعبر عن التشارك الاجتماعي، كما أن الفنون والرياضات تعبر عن التشارك العاطفي والشعوري. وهذه الفضاءات تنتج لغتها ومصطلحاتها الخاصة، ونتداولها فتصبح جزءًا من لغتنا بفضل تأثيرها في المحيط الاجتماعي العام.

مع ظهور التلفزيون حاول المجمع اللغوي أن يضع مصطلحًا معجميًا يقابل كلمة (تلفزيون) فجاء بكلمة (مرناء) من الفعل (يرنو). لكن المرجعية المعجمية للكلمة، لم تجبر الناس على استخدامها، فظلوا يقولون (تلفزيون) لكنهم استطاعوا تطويعها لتخضع للنظام الفصيح، فاشتقوا منها تلفاز، وتلفزة، ومتلفز، ويتلفز. ونفس الأمر حدث مع ظهور الموبايل والكمبيوتر وكل  الفضاءات المستحدثة، التي تستخدم كوسائط لنقل اللغة وما تحويه من أفكار ومشاعر. ومع الوقت، دخلت مفردات جديدة في حياتنا، مثل: setup)- delete –  Canceled). خضعت لقواعد الصرف العربي، وولدنا منها اشتقاقات، وتعبيرات، أخذت معاني لم تكن موجودة في خطابنا اليومي، ولكنها الآن أصبحت جزءًا منه. إن مثل هذه التفاعلات، تؤكد قوة لغتنا العربية، ومرونتها، وقدرتها على التفاعل مع اللغات الأخرى.

خاصية التفاعل ضرورية جدا لتطور اللغة وبقائها، بعكس ما نظن، ونقلق من شيوع مفردات غريبة على لغتنا. لقد فعلنا هذا على مر التاريخ، اكتسبت لغتنا مفردات فارسية وتركية. كما استطاعت العربية أن تصدر مفردات مثل: (كوب، وكحول، وسكر، وقطن.. إلخ) إلى لغات أجنبية، نجحت بدورها في إخضاع هذه المفردات لنظامها الصوتي والنحوي. هذا الأمر كان يحدث طوال الوقت، ولاسيما بين المجتمعات التي تفاعلت فيما بينها على نحو مباشر كما حدث بين المجتمعات العربية والفارسية والتركية والإسبانية. غير أن التفاعلات اللغوية بين المجتمعات، أصبحت أكثر نشاطًا في العصر الحديث نتيجة لتطور أدوات الاتصال، والقوانين التي ترعى حقوق السفر والهجرة سواء الدائمة أو المؤقتة لأسباب العمل مثلا.

للغة أيضا هوية، مكتسبة من الجذور المعرفية والثقافية مثل: الدين والعرق والبيئة الطبيعية. وهي التي تضمن عمليات التواصل والتفاعل بين المجتمعات العربية.  بل وتمكّن المتكلم، من أن يتنقل بين لهجات مختلفة – داخل اللغة العربية- من غير أن يشعر بالاغتراب أو التعثر. فالمطربة الجزائرية أو التونسية يمكنها أن تغني بالعامية المصرية بسلاسة، والمصريون الذين يعيشيون في مجتمعات الخليج العربي، سرعان ما يتكلمون بلهجة أهله، بل يمكنهم أن يستخدموا  نظامهم الصوتي بلا تعثر، فيستخدمون الكشكشة مثلا عند نطق حرف الكاف.

صحيح أن اللهجات المختلفة تتخذ لنفسها أنظمة صوتية مميزة، لكنها في النهاية تخضع لهوية واحدة، تعمل بمثابة وعاء للطاقة الشعورية للغة، وهذه الطاقة، تسري في لغة الحياة اليومية بقوة، وكذلك في لغة الاتصال  الجماهيري، على نحو ما نجد في الإذاعة أو التلفزيون والسينما. والواقع أن هذه الطاقة الشعورية للغة أهم من دقة المعنى أثناء الكلام.  فنحن في مجال كرة القدم، نستخدم (شاط الكرة) بدلا من ركلها، والأخيرة هي الأدق في المعنى. لكن لفظة (شاط) تضمر طاقة شعورية أكثر أثرا في التعبير عن حدة الانفعال، والمباغتة الذي نجدها في اللعبة. والجدير بالذكر أن معاني كلمة (شاط) في القاموس تدور حول أثر الفعل، لا الفعل نفسه، على نحو ما نقول: شاط الطبيخ أي احترق، واستشاط غضبًا أي انفجر، والشطط هو الانفعال والتجاوز في الكلام. ويبدو أن الطاقة الشعورية هي الجذر الأصيل في أي لغة، فثم اعتقاد أنها نشأت عن محاكاة الإنسان الأول للطبيعة في أصواتها وصورها. ربما لهذا السبب نجد (shoot) في الإنجليزية بمعنى أطلق النار، وقذف، وهو معنى قريب جدًا منه في اللغة العربية.

المؤكد أن الوظيفة الصوتية للغة، لها الأولوية عند التواصل الجماهيري، كونها تحمل التعبيرات وتجسد المشاعر الإنسانية كالحزن والغضب والألم. إننا جميعا، وباختلاف لغاتنا، نتألم وننفعل، ونضحك بأصوات متقاربة أو واحدة. وهذا الأمر ليس مرتبطا بالمكتسبات الثقافية بين المجتمعات، بل يبدو غريزيًا. فقد اكتشفت الدراسات اللغوية المرتبطة بالسلوك الإنساني، أن كل الأطفال يبدؤون اللغة بأداءات صوتية واحدة يعبرون بها عن مشاعرهم من جوع أو ألم أو خوف.. إلخ. وأن الأمهات تفهم هذه اللغة على نحو غريزي فيما يعرف بالـ (mothers) وأن تنامي العاطفة بين الأم والابن، رهن بتنامي هذه اللغة. ويكون لها أهمية خاصة في حالات التواصل مع الأبناء المعاقين حركيًا وعقليًا.

لكن اللغات الأرقى، تعمل على حشد مستويات عديدة من الطاقة الشعورية. وفي لغتنا العربية، تمثل الفصحى المكتوبة هذا المستوى الأرقى. الذي يرتقى بلغة الأدب والرسائل والفنون المكتوبة كافة. ويقف الشعر على قمة هذه الفنون، فهو فن العربية الأول، وحامل تراثها الشعوري. لكن فنون الأدب الشفهية والمنطوقة، التي تخضع للهجات المحلية على نحو ما نجد في الشعر النبطي وشعر العامية المصرية، نجحت أيضًا في امتلاك طاقتها الشعورية. ومن ثم، فهذه الوظيفية التهذيبية، التي تقوم عليها الطاقة الشعورية، تصل أيضا إلى لغة الحياة اليومية على اختلاف مستوياتها، وهي لا تظهر في المفردات والتعبيرات فحسب، بل تظهر في نبرات الصوت، وتعبيرات الوجه والإيماءات، فيما يسمى بلغة الجسد فتعمل على ضبطها وتهذيبها، كما أن علميات النحت أو الاستبدال لبعض المفردات اللغوية التي يأنف الناس النطق بها، تعمل بدورها على ضبط السلوك الاجتماعي في التخاطب. وبها نتجنب النطق بالألفاظ المبتذلة والبذيئة بغض النظر عن صحتها المعجمية ودقتها اللغوية، أو نلطف من أثر وقع الكلمات على السامعين كقولنا (فلا بعافية) أي مريض، أو نستخدم مفردة تحمل معنى التقدير، كقولنا: كيف حال الوالدة، أو الحاجة؟ عند سؤالنا عن الأم. مثل هذه التحورات البسيطة في اللغة، ذات أهمية قصوى، وهي نتاج لعمليات كثيرة ومعقدة، تعمل طوال الوقت في الفضاءات العامة، ودونما جهد ملحوظ، لتمنح الكلام بلاغته الخاصة، تلك التي تترجم الحكمة العربية الفصيحة: لكل مقام مقال.     

أضف تعليق