لا تخافوا .. نحن معكم. قصة: محمد عبد القادر التوني

1 ـ

في سبعينات القرن الماضي ؛ كان شيخ كُتاب قريتنا في العقد السابع من العمر ، كان رجلاً بسيطاً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً ؛ غير أنه حافظاً للقرآن الكريم ، يتلوه آناء الليل وأطراف النهار وهو جالس فوق حصيره ؛ في بيته المتواضع الذي استأصل منه غرفة ؛ يقوم فيها على تعليم القرآن الكريم لأبناء القرية ، كان نحيل الجسم ؛ يشبه الشيخ الشعراوي إلى حد كبير في شكله وملبسه ، كُنت طفلاً في تلك الفترة ؛ وممن يترددون على الكُتاب عنده ، أذكر أن أمي كانت تعطيني رغيفاً من الخبز الشمسي لأعطيه للشيخ ؛ وأحياناً كانت تعطيني بيضتان ، وكانت زوجته هي التي تستلم منا هذه الأشياء ، كان رجلاً جميلاً مرحاً ؛ يفرح بالأطفال الذين يحفظون ويفهمون معاني الكلمات ؛ فيقربهم إليه ويوليهم عناية خاصة ، لكنه شديد مع من يتعثر في الحفظ والفهم ؛ حتى أن ذلك كان يثير غضبه فينهال عليه بجلدة في يده ؛ فيهرب المتعثر ويدس نفسه بيننا فتصيبنا الضربات مثلما تصيبه ؛ فنضحك ونفر جميعاً من أمامه ،

كان أعيان القرية يتوددون إليه ويدعونه إلى بيوتهم لقراءة القرآن والتبرك به ؛ وذات يوم عند عودته من زيارة من هذه الزيارات ؛ أهداه صاحب البيت حوتاً كبيراً من السمك ، كانت المسافة إلى بيته بعيدة ؛ وحوت السمك ثقيل في يده ؛ فلمحه ” خلف ” الذي كان عائداً من السوق فوق حماره في هذا التوقيت ؛ فطلب من الشيخ أن يحمل عنه ما في يده حتى يخفف عنه ؛ فلم يمانع ، وأعطاه حوت السمك ، وسبقه ” خلف ” ، وعندما وصل الشيخ إلى البيت ؛ طلب من زوجته أن تسارع في إعداد السمك ؛ فاندهشت المرأة : ” هو فين السمك ”  ! ؛ فبهت الشيخ وتلعثم بعض الشيء ؛ لكن أمرها أن تُعد الأواني ؛ وتُشعل النار في الفرن  ! ، وخلع عباءته ، وجلس على حصيره يرتل قرآناً ،

كانت زوجة ” خلف ” تُعد لطهي الحوت ؛ فوضعته في إناء كبير مملوء بالماء حتى يحتفظ بحيويته إلى أن تنتهي من إعداد أدواتها ، وبينما هيّ مشغولة بذلك ؛ هبطت حدأة وقبضت على الحوت بين منقارها وطارت به في الهواء حتى أسقطته في بيت الشيخ ! .

2 ـ                                                                                                   مات الشيخ منذ زمن طويل وكان عمره وقتها أكثر من ثمانين عاماً ، وفي ندوة عن انتصارات أكتوبر المجيدة ، استدعينا من هم على قيد الحياة من أبناء القرية الذين شاركوا في لحظة العبور ، كان بينهم ابن عم لي ؛ وهو معلم فاضل من خريجي دبلوم المعلمين ؛ تتلمذنا على يده في المرحلة الابتدائية ، أذكر أنني كنت بالصف الثالث الابتدائي عندما تم استدعاؤه ، وفاجئنا وهو يحدثنا عن هذا الانتصار العظيم وهو خير من يتحدث قائلاً : إنني  وزملائي كنا على أتم الاستعداد للتضحية ؛ وأننا كنا في انتظار قرار القيادة السياسية بفارغ الصبر ؛ لكن عندما جاء القرار وفرحنا وهللنا واندفعنا ؛ أصابني شيء من خوف ؛ لكن في تلك اللحظة وأقسم بالله أنني أقول الحق ؛ رأيت شيخ الكُتاب في ثوبه الأبيض فوق تلة عالية أمامنا مبتسماً ؛ وهو يشير إلينا بالعبور مردداً : لا تخافوا .. نحن معكم ، فاندفعت بأقصى قوتي ؛ وبأعلى صوتي مردداً : الله أكبر .. الله أكبر .

أضف تعليق