القيم الدلالية والجمالية في قصص ” هروب “.بقلم: عبد النبي بزاز

تتوفر أهم مقومات وعناصر القص الموجز في مجموعة « هروب » للقاص المغربي أنس اليوسفي من تشذير ، وتكثيف ، واختزال … مما يمنح نصوصه خاصيات تغني متنه القصصي من خلال انفتاحه على « تيمات » اجتماعية وقيمية دينية تاريخية بأسلوب يعتمد الإيحاء والترميز والإشارة بدل التصريح والتقرير. فإذا كانت قصص الأضمومة تتمثل وتستجيب لخصائص القصة القصيرة جدا ، وما تستلزمه من عناصر فنية وجمالية وإبداعية توفرت داخل ثنايا قصص المجموعة بحكم صدورها عن مَلَكة خلق وابتكار لقاص نحت نصوصه في توليفة جمعت بين الومضة والشذرة لتشكيل لوحات ، رغم طابعها الاختزالي ، غنية بأبعاد دلالية ورمزية ذات موضوعات تمتح من محيط خارجي يعج بحالات ومظاهر موسومة بأنماط فساد ينخر كيان المجتمع ، ويجهز على مكتسباته الاعتبارية بشتى أشكالها وأنواعها …مثل موضوع الدين في ارتباطه بجانب الممارسة الشعائرية في نص « خلاعة » : ” التقى بها بعد التراويح . ” ص 12 ، أو في جانبه الرمزي من خلال شخصية النبي يوسف: ” كلما شاهد فتاة تذكر ( يوسف ).. ” ص 15 ، والنبي أيوب :

” نفد رصيد صبر ( أيوب ).. ” ص 15 ، مع ما تزخر به شخصيتيهما من زخم قيمي أخلاقي يتمثل في نأي يوسف بنفسه عن إغراء امرأة العزيز التي ( راودته عن نفسه ) امتثالا لتعليمات خالقه ، واستحضارا لما غمره به من كرم ونِعَم ، فضلا عما متعه به من جمال ووسامة . وصبر وجَلَد  أيوب الذي قاوم المرض بعُدة من إيمان راسخ بربه ، وثقة ثابتة برحمته الواسعة : ” نفد صبر أيوب..” ص 15،أو استيحاء، محمل بإشارات وإيحاءات، من النص القرآني في قصة « وفاء » : ” رد قائلا :« ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» ص 29 . والموضوع الاجتماعي في ارتباطه بمعاناة فئات عريضة من الأشخاص الذين لا يتوفرون على سكن لائق حيث يعيشون في بيوت تعاني من التصدع والاهتراء : ” أصبحت حياته مظلمة؛ يحس بضنك شديد في بيته الآيل للسقوط.” قصة « غموض» ص  21 ، وتكاليف تسديد فاتورة الكهرباء : ” تذكر أنه لم يسدد فاتورة الكهرباء..” ص 21 ، مما يزج بهذه الشريحة المعوزة في دركات خصاص مهول تنعدم فيه الشروط الأساسية للحياة من سكن وإنارة … فيصيرون مهددين بالتشرد والضياع جراء أحكام جائرة تكرس سلطة الفساد مجسدا في قصة « عدالة» : ” قدمت للقاضي دلائل ومستندات تفضح لوبي العقار ؛ نظر في هاتفه ، حكم علي بالإفراغ؛ معللا حكمه بروح الدستور. ” ص 23 ،وهو حكم جائر وقاس يعرض المحكوم عليه لحياة مشرعة على المجهول وما يمكن أن يفرزه من مخاطر وخيمة التبعات والعواقب لما يستدعيه العثور على مأوى من متطلبات وتكاليف . وضع لم يُقدِّر القاضي أبعاده الاجتماعية والإنسيانية وهو يصدع بحكمه ببرودة واستهتار دون الاطلاع على ما قدم له من وثائق ومستندات تكشف جشع لوبيات العقار . لينتقل هذا الكشف من مستوى الفضح الفردي إلى صيغة احتجاج جماعي عبر تنظيم مظاهرات منددة بمظاهر الظلم الاجتماعي ومطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية في نص « إجماع» : ” بعدما تزايدت مطالب البؤساء هنا وهناك ؛ وأصبح الشارع نهرا جارفا من المتظاهرين… ” ص 31. ويبرز موضوع الكتابة كذلك على شكل هاجس يشغل بال الكاتب ، ويستأثر بحسه ووجدانه حيث تتضمن قصة « استشراف » ما دار حول جنس القصة قصيرة جدا  بين ناقد ومبدع : ” سأل مبدع أحد النقاد عن هذا الجنس الأدبي الجديد ؛ رد الناقد : يعتمد التكثيف ؛ الإضمار … طأطأ المبدع رأسه ، استدرك الناقد ؛ السخرية والاستهزاء… ” ص 13 ، حوار بين مبدع وناقد حول خاصيات القصة قصيرة جدا كجنس سردي برز بشكل لافت على الساحة الإبداعية . وما يفتأ موضوع الكتابة ينحو مناحي مغايرة فيتحول من هاجس يشغل عقل الكاتب ، ويستحوذ على حسه إلى فعل يبحث عن صدقيته ومشروعيته في خضم حياة تعج بالمفارقات والمتناقضات : ” تاه في البحث عن مشروعية الكتابة ؛ أحس باختناق الفكر وهشاشة الخيال … ” ص 16  ، وهي هموم يحملها كل مبدع يبحث عن ولوج دائرة الخلق والابتكار عبر مشروع كتابة تنشد التغيير والتطوير. وهذا ما نلمسه في استعمالات تشكل انزياحا عن منظومة الكتابة بصيغها المألوفة حيث تتمرد الورقة على القلم : ” انتفضت ورقة على القلم : يئست من ( حمل ) كلماتك التي لا تنتهي . ” ص 16 ، في تلميح لنوع من الكتابة تغرق في الإسهاب عكس نصوص المجموعة ( قصص قصيرة جدا ) الموسومة بالاختزال والاقتضاب.

وتضمنت الأضمومة أيضا مظاهر المفارقة في مجتمع تراجعت فيه العديد من القيم وآلت إلى التلاشي والاندثار ؛ كقيمة  النضال : “سمى نفسه مناضلا … يخشى على نفسه الدخول إلى سراديب الخنوع … فتح عينيه وجد « غيفارا» أراد منه نورا؛ أعمى بصره تأسِّ بالمجتمع. ” ص 28 ، مصورا حالة البؤس والخنوع التي انحدر إليها كل مناضل متشبع بروح التضحية التي يستمدها من رموزها التاريخيين ك « غيفارا» . وفي قصة « إحالة » حيث تتجلى المفارقة في تاريخ أمة خبا إشعاعها المرتبط بمجد الفتوحات ليؤول إلى هجرة بحثا عن شغل يقي دخله من براثن الفقر والفاقة : ” تحدث العالِم  عن التاريخ الغابر؛ كيف شد المسلمون قواربهم البسيطة للفتوحات الإسلامية … من أجل نشر الإسلام … خرج كل الشباب إلى سواحل المدينة يعيدون تاريخ أجدادهم ؛ للقضاء على الفقر . ” ص 29 ، وما تتضمنه مظاهر المفارقة بين تاريخ الفتوحات الإسلامية البطولية ، ومرحلة ركوب قوارب الموت في هجرة محفوفة بالمخاطر هروبا من حياة الضنك والعوز.

فقصص « هروب »، بالإضافة لانتمائها إلى جنس القصة قصيرة جدا من خلال استيفائها  لعناصره بحمولاته الفنية والإبداعية، تضمنت قيما جمالية ودلالية منحتها إشعاعا وتميزا وفرادة. 

عبد النبي بزاز ـ المغرب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ الكتاب : هروب ( قصص قصيرة جدا ) .

ــ الكاتب : أنس اليوسفي .

ــ المطبعة : مكتبة سلمى ـ تطوان / طبعة ثانية2021

أضف تعليق