سيكتب التاريخ سيدتي . قصة: محمد مصطفى الخياط

– 1

فقدت كل الدروبِ عناوينها، وبقى عنوانٌ واحد. عنوانُ حبى لك. لا مدينة، لا شارع، ولا حتى رقم منزل يحتاجه رجل البريد سيدتي ليستدلَ به عليك. تكفيه حروف أربع كُتبت بخطِ النسخ بين قوسين – (إليها) – على الغلاف القرمزي، لتعرف الدنيا إلى من تسافر رسائلي صباح مساء.

ما زالت طقوسي كما هي قبل الكتابة؛ أتوضأ بعطر كلماتِك ثم اتناول قلميَ الغارقَ في ليلِ شعركِ واكتب بحروفٍ غزلتها ليلاً من نور القمر وضفرتها نهارًا بضوء الشمس وختمتها بخاتم العشق، لتضعها أسراب العصافير تحت قدميك.

سيكتب التاريخ سيدتي أن بحور الشعر تنبُعُ من عينيك، وأن ماء المطر يهطلُ من حدقتيك، وأن البحار، والأنهار، والمحيطات مرسومة خرائطها على مقلتيك، فمنهما تُقلع المراكب صوب وجه القمر، وبهما تختبئ الطيور عند هطول المطر.

سيكتب التاريخ سيدتي أن حبي لك تفتتح به كتب التاريخ صفحاتها. منقوش هو على جدران المعابد التي زرناها، وأحجار الأهرام التي صعدناها، وقاعات الأوبرا التي حَضَرنَاها. مطبوعٌ على محطات الباصات والمترو، وعلى أرصفة الشوارع الخالية إلا من قطرات المطر ونَزَقَنا.

وها أنذا أقف وحدى. مرت سنواتٌ ضوئية دون أن نتقاسم قطرات المطر كما اعتدنا. وكسرة الخبز كما اعتدنا. ونسمة الهواء كما اعتدنا.

خذلتني لغتي سيدتي عندما قرأت أعلى بواباتك السامقة (أَبعِد لاَقتَرب)، فلا لغة أسعفتني، ولا قاموس أغاثني، ولا مفرداتي الفقيرة التائهة بين قواعد اللغة ساعدتني.

سيكتب التاريخ سيدتي أن كل محاولاتي الفاشلة؛ السابق منها والقادم، للهروب منك ليست في حقيقتها إلا إصرارًا للاقتراب من أسوارك العالية. سؤال بسيط، متى نجحت قلوبنا في تجاوز قوانين الجاذبية، حتى أُفلِت من مجالات حضورك الطاغية؟.

سيكتب التاريخ سيدتي كيف مرت عقود من التشرد خارج فضاءاتك، دون أن انتبه إلى صورتك المنقوشة على صفحات جوازات سفري المتعبة، يَدُقُها الضابط في صرامة كلما سألته تأشيرة دخول لقارات العالم السبع.

سيكتب التاريخ سيدتي عن خيباتي كلما حاولت تجاوز حضورك، وعن هزائمي خارج حدودك وعودتي ممزقًا محطمًا اتسول الحب على قارعة الهوي. سيكتب التاريخ سيدتي عن عاداتك التي لم تغيرين؛ إذ تأخذين بيدي وتسامحين، وإلى فضاءات عرشك ترفعين، وإمامًا للعاشقين تُنَصِبين.

أضف تعليق