كشك الموسيقى. بقلم: سيد الوكيل

سيد الوكيل

قدم القاص والروائى سعيد الكفراوى مجموعته الأولى فى بداية الثمانينيات فلفت انتباه النقاد إلى المستوى المتميز الذى ظهرت عليه المجموعة يتناولها لطرائق من الأداء السردى لم تكن شائعة من قبل ، وهى طرائق تهدف فى معظمها إلى خلخلة المركزيات التقليدية مثل مركزية الحدث ، أو الراوى  ، فضلاً عن الاكتشافات الأسلوبية التى خلخلت آلية  السرد الوصفى واستبدلتها بأساليب تمنح فضاء أكثر رحابة لحضور الذات الساردة لتعلن عن نوازعها وأحلامها وهواجسها ، بحيث تحل الذات الساردة محل المركزيات القديمة التى كانت تعيش خارجها، ومن ثم تضمن للغة مستوى من التناسق الشعورى بين الذات والعالم والأشياء ( الذات والموضوع )  فتقترب التجربة القصصية من الشعر ويعيشان معاً فى فضاء واحد من السرد والغناء  ، وبهذا الغناء تكتسب اللغة طاقة من الشجن والأسى ، فى حين يتجه السرد إلى استعادة الماضي وتنقيته بحيث يبدو كل مافيه جميلاً  وقابلاً للعمل فى الآنى بطاقة الحنين  ( النوستالجيا ).

وهو موقف يختلف فى أهدافه عن الرومانسية الأولى كملاذ ( هروبى ) من قبح الواقع ، ويبرر ارتباطه بالواقع من حيث أن ما يتبقى فى الذاكرة هو صورة الواقع الذى نعرفه ، أو بمعنى آخر هو كل ما أدركناه ويهمنا فى الواقع ، إذ لا واقع خارج الذات ، بل هو جزء منها ، وبهذه الطريقة يندمج مفهوم الواقع الموضوعى بمفاهيم أخرى أكثر ذاتية  كالخبرة الشخصية والذاكرة والمتخيل والأسطوري ، وبهذا الدمج يصبح الواقع أكثر شعرية ومن ثم أكثر انكشافأ  وألقاً بما يتيح لنا رؤيته على نحو أكثر عمقا، لأن الواقع الخارجى سطحى وخادع ، فالجزء الظاهر من جبل الجليد لا يمثله أبداً ، وبهذا المعنى يصبح الإدراك نوعاً من الاستبطان والوعى كشفاً وبصيرة وليس تبصراً ، وهو نفس الموقف الذى راهنت عليه تجربة الشعر فى السبعينات عند كتاب قصيدة النثر على نحو ما يمثله بقوة أدونيس.

وهذا التماس السردي الشعري هو المسئول عن الحضور الصوفى الشفيف في تجربة سعيد الكفراوى ن على نحو ما تمثله بعض قصص مجموعته ( كشك الموسيقى ) مثل قصة ( تلة الملائكة ) ، ( فى حضرة السيدة ) ،( بيت للعابرين ) .

صدرت ( كشك الموسقى ) عن مكتبة الأسرة ، وهى المجموعة التى احتوت مختارات من قصصه التى كتبها على مدار ما يقرب من ربع القرن، ومن ثم فهى تجسد مشروعه السردي الذي تحددت ملامحه منذ ( مدينة الموت الجميل )  وظل يعمل على صقله وتطويره بإصرار، حتى انتهى إلى مجموعة من الخواص المميزة ، التي تجعل القارئ  يفطن بقليل من الجهد إلى أن سعيد الكفراوى واحد من الكتاب القلائل الذين امتلكوا مشروعاً سرديا خاصاً.

غير أن أهم ما يميز هذا المشروع أنه لم ينطلق من الأساس الأيديولوجى ولا من نفس القيم الواقعية التى قامت عليها مشاريع الكتابة فى الستينات، فمشروع الكفراوى هو مشروع جمالى بالدرجة الأولى .

يقول الكاتب والناقد الكبير محمد برادة فى مقدمة  كشك الموسيقى : ( .. عند سعيد الكفراوى ومعه آخرون ولا شك ، نحس أن صوت الذات لم يعد يرضى بأن يظل قابعاً فى الخلف ، متدثراً بـ ( المعادل الموضوعى ) ، وبالمعاينة الباردة ، إنه على العكس ( يهجم ) على كل ما هو ملتصق بكينونته ، الطفولة ، العلاقة بالأم ، القرية ، لحظات الحب ، المدينة المفترسة ، الوحدة ، الموت … وفى ثنايا الكتابة والشكل ، يشعرنا بأنه يريد أن يتبين موقع ذاته من كل ذلك ،لايريد أن يتخفى وراء عجائبية الوقائع وطرافتها ، ( وهى كثيرة وحاضرة ) ، وإنما يريد أن يقترب من تلك الحقائقية التى تستعصى على الوصف لأنها محفورة فى المسام ، تشعل الذاكرة وتذكى الحنين ) .

وعالم الطفولة يبرز على نحو خاص في تجربة الكفراوى ، ويأتى مفعماً بالطزاجة والعفوية والدهشة التي تسم ممارسات الأطفال وألعابهم وأغانيهم وتشوفاتهم وأحلامهم البسيطة المستحيلة ، وعلاقاتهم المشتبكة بالأماكن والأسرار الصغيرة والأشياء الخاصة التي تتحول بفعل المخيلة من العادي إلى المقدس ، ولعل هذه القداسة تمتد إلى بعض الشخصيات التي يرتبط بها الطفل على نحو تخيلي كشحصية عازف الرباب أو شاعر القرية أو شيخ الكتاب أو الجد الذى يحاط ـ عادة ـ بهالة أسطورية وتنسب له بعض القدرات الخاصة التي تقترب به إلى الخوارق أحيانا، ولاسيما فيما يتعلق بقواه الجسمانية وشجاعته في محاربة الجان أو لصوص الطرق ، وهكذا تحمل مثل هذه الشخصيات بعداً أسطوريا .

والراوى فى قصص الكفراوى غالباً ما يكون طفلاً أو رجلاً كبيراً يستدعى الطفولة ، إذ تبدو الطفولة هى كلمة السر فى قصص الكفراوي ودافع الإلهام العفوي والخيال السحري اللعوب .

ففى قصته المدهشة ( تلة الملائكة ) نجد هذا الراوي الطفل ، وهو يحكي عبر مخيلة مفعمة بالخيال عن عالم الغجر الذين يسكنون التلة البعيدة ويثيرون المخاوف والهواجس في نفوس الصغار بعالمهم الغامض وأهازيجهم الساحرة ، إنه عالم يثير دهشة وفضول الراوي / الطفل ، الذي يضيء الفانوس ويمضي لاكتشاف عالم التلة المثير .

وفى هذه القصة يمتزج البعد التخييلى بالثقافة الدينية على نحو رائع ، فالطفل يمضي  إلى تلة الشياطين / الغجر مدفوعا بالفضول الذاتي لكنه يحتمي في فضوله بتخيله  أن فانوس رمضان له القدرة على تبديد وحشة الظلام، وتظهر الثقافة الدينية عندما تمده بيقين على قدرة شهر رمضان على سجن الشياطين ووضعها في الأصفاد ، وبهذا المعتقد الذي يبلغ حد اليقين يذهب الطفل إلى التلة ، وهناك يتجسد المعتقد ويتحول الخيال إلى حقيقة ، حيث يجد التلة تعج بالملائكة فعلاً .

 تستقبله الملائكة في طقس تطهيري مستمد من الثقافة الدينية أيضاً ، عندما تنزع قلبة وتغسله ثم تعيده ، ليمضى بعدها الطفل أكثر يفاعة وثقة فيما يعتقد .

أضف تعليق