يقظة القصة القصيرة، بقلم: سيد الوكيل

مبتدأ:

في البدء كانت الحكايات والأساطير، وسيلة الإنسان لتفسير الوجود حوله، وفهم طبيعته الإنسانية، وإمكاناته، ومن ثم وعيه بذاته. هكذا كان الحكي طريقة القدماء للتفكير، لكن فلاسفة الإغريق، أعطونا مفهوما جماليًا للحكاية، فأصبحت فنًا مقصوداً لذاته، لما تحدثه في النفس من لذة جمالية، كما أن الفلسفة أدركت طبيعة العلاقة بين الزمن والحكاية.. الزمن من حيث هو فضاء لوجود الإنسان، وأفق لغيابه.

صحيح أن تعريفات الزمن ومفاهيمه وقياساته، أصبحت أكثر انطلاقًا مع الثورة العلمية التي بدأها كوبرنيكوس، وبرونو، وجاليليو. لكن المعنى الفلسفي للزمن، ظل تعبيرًا عن الوجود الإنساني، فحياة الإنسان سردية تتشكل في الزمن عبر أبعاده الثلاثة، على نحو ما يلاحظ (بول ريكوار). لهذا تأخذ الحكاية في تشكيلها بعدًا جديدًا، ينهض على دور العقل، ويشير إلى طبيعة الوجود الإنساني ومعناه “حيث يعتبر الزمن (الحكائي) في بعده الأول مخططًا لإدراك التصورات في الجهاز العقلي المجرد، فلا وجود للزمان في الخارج، بل هو مفهوم متعالق في العقل الإنساني نفسه، بينما يشكل الزمان عند البعد الثاني أفقًا لإدراك الوجود في العالم لا باعتباره ظاهرة طبيعية تحددها حركة الأفلاك، بل باعتباره منزعًا إنسانيًا لاستشراف المستقبل الذي يتربص به العدم” (1)

 لكن العدم الذي يتربص بالإنسان، هو وجود أيضًا كما يراه هايدجر، ولكنه مختلف تمامًا عن وجود جميع الكيانات. هكذا اكتسبت الحكاية بعدًا زمنيًا ثالثًا، دالًا على حلم الإنسان بالخلود، حين يسجل حكايته. إن الزمن بهذا المعنى، لا يتسع لسرديات الحضور فحسب، بل لسرديات الغياب أيضًا، تلك التي تنبثق عن أزمنة ماضوية لم نعشها، أو مستقبلية لن نعيشها، أي أن كل حكاية تنتزع زمنها ووجودها الخاص من الزمن الوجودي الكلي..     

إن المعنى الأكثر وعيًا بالسرد كما نعرفه الآن، لم يظهر إلا في عصر النهضة. وعلى استحياء تسرب إلى الحكايات الأولى عن الفرسان ومغامراتهم، وحكايات الشطار والمحتالين في فن البكارسك. حيث أصبح للزمن دورًا تقنًيا واضحًا لينمح الحكاية شكلاً، هكذا يصبح الشكل بعدًا جديدًا للحكاية المكتوبة، ويميزها عن الحكاية الشفهية، ومع ذلك، فقد ظلت بنية الحكاية البسيطة والمرنة، ملمحًا مميزًا للسرد حتى في أكثر أعمال هذه المرحلة تركيبا. ولو نظرنا إلى الأعمال التي اعتبرناها الروايات الأولى، سنرى أن زمنها الكلي، يتضمن أزمنة خاصة لحكايات صغرى، سواء كانت رمزية أم واقعية. أي أن كل رواية هي قصص قصيرة تدخل في نظام كلي.

 هذا النهج الذي لا يفصل بوضوح بين القصة والرواية، قدم لنا الكثير من روائع الأدب الكلاسيكي: (ديكاميرون لبوكاتشيو- 1313م)، وحكايات ( كانتربري ـ 1476م لتشوسر)، و مغامرات ( دون كيخوتي ـ 1605م لسيرفانتيس)، وكل هذه الأعمال، على الرغم من أنها قامت على حكايات صغرى ومنفصلة، لكنها عرفت نوعًا من الوحدة العضوية، عبر نظام من العلاقات المتنامية فيما بينها، بما يعني أن كل علاقة تنشأ بين وحدتين سرديتين، هي إمكانية لخلق حكاية جديدة، يمكنها أن تدخل في النسق الكلي.

 إن الحكاية القصيرة، على هذا النحو، هي الجين الحيوي الخلاق لكل عمل سردي مهما كان حجمه، بمعنى أن العلاقة بينهما علاقة تفاعلية، فلا وجود للرواية بدون القصة القصيرة.

 هذا التصور الحيوي، يوقفنا على معنى كلي للسرد، ويحررنا من أوهام الصراع بين طرائقه المختلفة، ومن ثم فحين نحتفي بالقصة القصيرة هنا، ليس لدينا شهوة منازلة الرواية في زمنها، فنحن نؤمن بأن الحكاية وجود كلي وإنساني، موزع على فضاءات متنوعة، منذ البداية، ولن يكون مباغتا لنا، أن نراها في فضاء عصر الصورة، عبر طرائق منبتة الصلة بالكتابة كما كانت في البدء، ربما لأن الحكاية كما كانت دائمًا، وستظل، طريقتنا للتفكير بالتصورات، في مواجهة التفكير المجرد.    

القصة وسنينها:

علينا قراءة التاريخ الحديث للقصة والرواية من وجهة نظر تحترم التفاعل بينهما، منذ كانت الانطلاقة الحقيقية نحو مفهوم السرد الحديث، التي تراوحت بين (روبنسون كروزو لدانيال ديفو -١٧١٩م) و ( كلاريسا لصمويل ريتشاردسون- 1748م)، وقد اعتبرت ( كلاريسا) بداية حقيقية للرواية الإنجليزية جيدة الصنع، التي بلغت نضجها عند تشارلز ديكنز.

 في فضاء السرد الحديث، كانت الرواية سابقة في وجودها على القصة القصيرة، ومع ذلك، فقد كانت حركة الرواية في سبيل تطورها بطيئة كما يخبرنا مالكوم برادبري: “لقد وصلت الرواية إلى وعى ذاتها متأخرة” (2) إذ ظلت الرواية مثقلة بتاريخها الرعوي، لتبدو حركة السرد نفسها بطيئة، وتسهب في وصف المشاهد ولا سيما الطبيعية، وقد تنحرف إلى حكايات فرعية لا علاقة لها بالحدث الرئيسي. ولهذا التعلق في القديم تفسير مضيء عند حنا عبود فيقول:” وبما أن الوعي لم يكتمل بعد، فلا بد من أن تكون فيه نوستالجيا معينة تشده إلى القديم, وهذا ما يفسر استمرار الأشكال الأدبية القديمة ردحا من الزمن ريثما يكون العقل قد تخلص من مرهقاته ومعوقاته” (3)

ربما، نتيجة لهذا النزوع النوستالجي للرواية –بتعبير حنا عبود- وتعلقها بالنماذج القديمة ( الأسطورة، الملحمة، السيرة) تعثر تطورها، وكان ثم ضرورة لانبثاق وعي جديد بالسرد. عندئذ ظهرت القصة القصيرة، بوصفها ثورة على أنماط السرد الروائي، وتلكؤه في المحاكاة، وانخفاض وعيه بالواقع الجديد الذي فرضته الحداثة، وما فيها من وعي مكثف بأهمية الزمن في المجتمعات الحديثة، وطبيعة العلاقات المركبة في مجتمع المدينة، وتنامي الأفكار الإنسانية التي أفضت إلى احترام خصوصية تجربة الفرد، ورغبته في تمييز نفسه بين المجموع، فانعكس ذلك على نحو تقني، برغبة في إزاحة ثبوتية الشكل سعيًا إلى التشكيل، ومفارقة الأنماط الموضوعية ذات الطابع الرومانسي، والولع بالاختلاف، والتجريب، كما أن (فرانك أكونورو) يضيف بعدًا آخر، فيقول:” يمكن أن نري في القصة القصيرة اتجاهاً عقلياً يجتذب جماهير الجماعات المغمورة علي اختلاف الأزمنة وأن الرواية مازالت بالفكرة التقليدية عن المجتمع المتحضر” (4)

يضيف (اكونورو) شرطًا للسرد القصصي، وهو الالتزام بالواقع، وقضايا الجماعات المغمورة فيه. ونحن لا نوافقة الرأي على مطلقه، فهذ اليس التزامًا فنيًا موجبًا، بل هو التزام أيديولوجي ابن ظرفه، فالجوانب الأكثر عمقًا في النفس الإنسانية، جديرة بالنظر السردي أيضًا، وقد حققت القصة هذا النزوع الداخي للإنسان، كونها (فن الصوت المنفرد ) على حد تعبير اكونورو نفسه، فالعمق الإنساني ملمح أصيل في القصة القصيرة يكسبها طاقتها الشعرية، نراه حاضرًاً بقوة عند تشيكوف مثلاً، وينعكس على طبيعة اللغة، وكثافة الدوال، وديناميكة التشكيل، حيث تصبح كل قصة جديدة، هي تجربة جديدة ومتفردة حتى بالنسبة لكاتبها.

 القصة القصيرة على وجه التحديد، اعتنقت النزعة الإنسانية منذ ظهورها الأول، وظني أن التزام بعض كتاب القصة العربية الحديثة، بالقضايا السياسية والاجتماعية وفقًا لمقولة اكونورو قد استهلكها كثيرًا، وأدخلها في قوالب نمطية، وعطل من إمكانات التجريب فيها، وطغى على وجهات نظر أخرى في الموضوع القصصي، نلمحها في قصص يحي حقي ومحمود طاهر لاشين ونجيب محفوظ، وغيرهم، وفيما بعد نجدها عند كتاب الحساسية الجديدة وفق إدوار الخراط، وغيرهم ممن استوعبوا الطبيعة المرنة للقصة القصيرة، وتعددية نماذجها، وانفتاحها على فضاء تجريبي متسع.

 الخطوات التي قطعتها القصة في مصر قبل ظهور الرواية، كانت مهمة لتأتي الرواية على هذا النحو من النضج الفني عند نجيب محفوظ مثلاً، مؤكدة لطبيعة التراسل وآلية التنامي في العلاقة بين طريقتين للسرد، وهو ملمح انتبه إليه عيسى عبيد في معرض مقدمته لمجموعة قصص (إحسان هانم -1921م) إذ يقول :”وقد حذونا حذو بلزاك شيخ الروائيين الفرنسيين في مؤلفاته الموسومة بالإنسانية الممثلة.. بمعنى أننا قد نتتبع في قصصنا المقبلة حياة الأشخاص الذين صورنا صفحة من حياتهم في هذه القصص، أو نأتي على صفحة أخرى من حياتهم ..” (5)

تعكس كلمات (عيسى عبيد) وعيه بالفرق بين القصة والرواية على أساس أن القصة بنية صغرى في رواية محتملة، كما تعكس عدم قناعته بالفصل الحاسم بينهما فثمة قصص يمكنها ـ في كتابة أخرى ـ أن تتحول إلى روايات بجهد يسير مثل تتبع حياة الشخصية القصصية، كما يمكن لهذه الشخصية أن تصاغ على نحو مختلف في قصة جديدة، بما يعنى أن السرد في معناه الواسع، متجاوز لحدود نوعه، إنه بنية توليدية، تتناسل من داخلها، وتصل حدها من الإشباع وفق رؤية كاتبها، ومن ثم لانجد في ذاكرتنا الأدبية، ما يميز القصة القصيرة عن الرواية سوى مساحة السرد، فثم قصص قصيرة يمكنها أن تنفتح على أفق زمني واسع، فيما تظل محتفظة بكثافتها، كما أن لدينا نماذج لروايات التزمت زمنًا محدودًا كما نجد في رواية ( قلب الليل) لنجيب محفوظ، التي يسردها الراوي أثناء مقابلة طارئة مع موظف الأوقاف، لكنها بفضل اتساع الدلالة وكثافة الرمز، تنفتح على زمن الوجود البشري كله منذ الخليقة، بل وتفتح أفقًا لانهائيًا لزمن مستقبلي.  وعكس ذلك، فإن إمكانية تنامي الزمن القصصي ليصل إلى زمن روائي بالغ الاتساع، مثبتة ومجربة أيضًا، فرواية ( الحارس في حقل الشوفان) لجيروم ديفيد سالينجر، كانت في الأصل قصة قصيرة موجهة للناشئين، لكنه حولها إلى رواية متسعة الدلالة، وإن ظل زمنها محدودًا بواقعة واحدة تستغرق يومًا واحدًا، كما أن الروائي محمد جبريل، يخبرنا في مقدمة ( فتوة العطوف) لنجيب محفوظ، أنها قصة قصيرة نشرت في إحدى الدوريات في نهاية الثلاثينيات، لكنها كانت البذرة الأولى لصورة الفتوة التي تنامت في كثير من روايات محفوظ، وبرزت على نحو مدهش في ملحمة الحرافيش.

 إننا لا نجد ما يمكن أن نكتبه في الرواية، ولا نستطيع كتابته في القصة القصيرة، وفي المقابل تكتنز الرواية الحديثة، بكل أساليب التعبير والتقنيات التي عرفتها القصة القصيرة.  

الوعي بالتراسل بين القصة والرواية، يفسر لنا أمرًا طالما تغاضينا عنه، فكثير من الروايات يتكامل بناؤها عبر حيازات قصصية مستقلة، ليس فيما نطلق عليه (متتالية قصصية) فحسب، ولكن في أعمال قد لا يطالها الشك في كونها روايات -على نحو ما نجد في رواية الأصوات، أو فيما يمكن تسميته برواية ( البروتريه) ونموذجها الفريد عند نجيب محفوظ في ( حديث الصباح والمساء) التي تجعل لكل شخصية زمنها الخاص وحكايتها الخاصة، لتصبح أقرب إلى مجموعة قصص قصيرة، تترابط فيما بينها بتقنية  معجمية فريدة في السرد العالمي.

وفي هذا السياق لدينا مئات من الشواهد عن قصص مهدت أو تحولت إلى روايات لأصحابها، أو روايات نهضت على بناء قصصي، والتزمت بخصائصه، أو كتابات بينية تتبادل مسميات من قبيل: الكتاب القصصي، والنوفيلا، والمتتالية القصصية، تنبثق من ثورة القصة القصيرة، لتؤكد قدرة السرد على التشكيل والتنوع ” فمنذ تنظيرات إدجارآلان بو الأولى، ظلت القصة القصيرة لدى غالبية منظريها واقعة بين القصة والرواية، حيث السعى لتمثيل الحياة الواقعية. والشعر، حيث العناية الخاصة بالتصميم الكلي الرهيف، وأسبقية الدال وجاذبيته. والدراما، حيث تكثيف العالم المتسع وتركيزه في وحدة واحدة، أضف إلى ذلك أنها كانت على الدوام نوعًاً صالحًاً للتجريب، لأن كل تجربة جديدة كانت تحتوى ـ كما قيل ـ على قالب جديد” (6)

البحث عن هوية

لقد بدت القصة منذ نشأتها ظاهرة أو ثورة ثقافية أكثر من كونها فنًا أدبيًا جديدًا، وعلى هذا النحو تتحدد هويتها، بوصفها فضاءًا للتجريب، واستشرافًا لآفاق سردية جديدة، غير تلك التي كانت مطروقة، فضمنت لنفسها جمهورًا ـ من الكتاب والقراء ـ  طليعيًا مختلفًا عن جمهور المدفاة، على نحو ما كان يطلق وقتها على جمهور الرواية على سبيل التهكم.

فالقصة ذات طبيعة متمملة، تدعوها للبحث عن تجديد نفسها، وظني أنها قد ضاقت بانهماكها في الواقعية المؤدلجة في منتصف القرن الماضي، فراحت تختبر لنفسها مواضعات عديدة، ليس في مصر وحدها، من ذلك بحثها عن أفق لواقعية جديدة عند آلان روب جرييه في فرنسا، فقدمت نماذج مغرقة في تجريديتها، وراهنت على التشكيل أكثر من رهانها على واقع الحياة الإنسانية كما نرى عند (ناتالي ساروت) وفي مصر شهدت نزوعا سورياليًا مميزًا عن محمد حافظ رجب، وتشكيليًا لا يبتعد كثيرا عن آلان روب جرييه عند إدوار الخراط، في محاولة عرفت بالحساسية الجديدة،  وبالكتابة عبر النوعية فيما بعد، لفتت الانتباه إلى إمكانية الحضور الشعري في السرد القصصي، ومن الطريف أن هذا التوجه الأخير، لم يفد القصة القصيرة بقدر ما أفاد الشعر، عندما تسلل السرد، وتقنيات قصصية أخرى مثل المشهدية وبنية المفارقة إلى ما اصطلح عليه (قصيدة النثر) بما يعني قدرة القصة القصيرة على التأثير في أجناس أدبية أخرى لها تاريخها العريق في ثقافتنا العربية.

 وفي التسعينيات، ومع ثورة التكنولوجيا، ظهرت القصة الرقمية، ثم قصة الومضة، والقصة الشاعرة التي احتضنها المجلس الأعلى للثقافة منذ بضعة شهور في مؤتمر اختص بدراستها.

غير أن هذه الانسلاخات العابرة أرهقت الجسد الأم للقصة القصيرة، بل وهددت بتناثر الوجود السردي ذاته. ومن المفارقات التي تدعو للدهشة، أن يطالعنا أحد الأكاديميين باكتشافه لما أطلق عليه (الرواية القبضة) وهي رواية تكتب على صفحة واحدة ، (*)

 وظني أن كل هذه المحاولات الشكلية، على ما لها من قيمة، لم تكن كافية لإخراج القصة القصيرة من اغترابها، بل كانت تؤكده وتمعن فيه، فيما كانت الرواية التي أفادت من تقنيات وأساليب السرد القصصي، تتطلع إلى حضور واسع، مع فرص جديدة ومتاحة للنشر، غير تلك التي اعتمدت عليها القصة في الصحف والمجلات، وتتطلع إلى الإفادة من طرائق التعبير البصري مثل المونتاج والمشهدية ليصبحا مداخل للتشكيل خلفا للبلاغة اللغوية التي انشغلت بها القصة في طموها إلى ميراث شعري.

ومع ذلك فالمطلع عل تفاصيل المشهد الروائي يلاحظ أنها تتجه إلى تفكيك قيمتها حد الابتذال والشيوع المجاني في كثير من الأحيان، سواء في فضاء البث أو التلقي، حيث تحركهما عوامل لافنية، خارج منظومة الإبداع الأدبي ذاتها، مثل: دعايات البست سيلر، ووفرة المسابقات، ومهارات تسويق يستطيع كل من يشاء أن يمتلكها على شبكة الإنترنت، ويحقق من خلالها زيوعًا وشهرة، فضلاً عن نمط استهلاكي يخضع لموضات جماعية، بدلاً عن التنافسية الفردية التي تميز تطور الأدب، إنها موضات تفضي إلى تحولات سريعة بين أنماط مختلفة من الرواية لا تصل إلى نضجها قبل خفوتها، فيبدو اننا نعيش مشهدًا روائيًا مشتعلاً، تتطاير ألسنته هنا وهناك، وعلى نحو عشوائي لا يمكن السيطرة عليه، ولا الإلمام بأبعاده، في غياب شبه كامل للنقد. ومن ثم لا يمكن التنبؤ بمستقبله.

 غير أن كل الاحتمالات واردة على نحو ظاهراتي، فلكل فعل رد فعل، ومن ثم يمكن التنبؤ بأننا ذاهبون إلى مازق للرواية مماثل لما وقعت فيه القصة القصيرة قبل بضع عقود، وربما تنتاب المشهد كله، حالة من النكوصية، والعودة إلى الأصوليات، سواء كان فرارًا إلى كلاسيكيات عريقة أو إلى رومانتيكيات بائدة، ويقيني أن بوادر كل هذا تلوح للمدقق في المشهد الأدبي الآني، وليس لدينا النية الآن للخوض في ذلك.

غير أن الصورة، ليست قاتمة على نحو كامل، فثم هامش دائمًا، يرقب، ويثابر على قناعاته، سواء كان من بين كتاب جيل الوسط، الذي داهمته التحولات السريعة غير الناضجة فانتحى جانبًا، أو من بين الأجيال الشابة، وظني أنهم طاقة الأمل المتاحة، الجديرة بالنظر والرعاية.

وقد عكفتُ على مراقبة المشهد القصصي الشهيد، ورأيت حالات عديدة، نجحت في استعادة رونق السرد القصصي، وقد أعطاها الصمت فرصة الاجتهاد الفردي بعيدًا عن مهرجانات البست يللر التي حظيت بها الرواية. وعلى الرغم من أن الفرصة غير متاحة لتقديم أكبر عدد منهم، لكننا نبدأ بالممكن والمتاح، فما نقدمه هنا قليل من كثير، يشير في مجمله إلى يقظة جديدة للقصة القصيرة، لو انتبه إليها الناقدون، واحترمها الناشرون، الذين لا يدركون أن القصة القصيرة على مواقع الشبكة العنكبوتية هي الأكثر مقرؤية، فيبدو لنا أن الواقع المعيش متراجع في بصيرته عن الواقع الافتراضي..

. كما أني حرصتُ على ألا أجعل من اختياراتي حكمًا ومعيارًا لذائقتي الشخصية، إذ كنت أعهد لبعضهم أن يدلوني على البعض الآخر، ليعبر ما نقدمه هنا عن ذائقة شابة خالصة، فربما يشي هذا بتيار أو اتجاه ينظم المشهد القصصي الجديد، ويضبط إيقاعه، على الرغم من أن النصوص المنشورة هنا، مجرد نماذج لكتاب في بداية طريقهم، ومن بيئات مجتمعية موزعة على أقاليم مصر، وأملى أن تكون هذه المبادرة، واعدة بأن تثير الانتباه، وتحرك محاولات أخرى لآخرين على صفحات ( عالم الكتاب) بوعيها الطليعي.    

واخيرًا..فقد حرصت على أن تكون مقالتي هذه، رصدًا للظاهرة القصصية، مبتداها ومآلها، وليست نقدًا لكتاب هذه النصوص التي بين أيديكم، ولا نقدًا لنصوصهم فيما يحدوني بعض الأمل لنرى عكوفًا من نقادنا على دراسة الظواهر والتحولات، والاجتهاد في تحليلها، فربما يوقفنا هذا على مزايانا وخطايانا في مسيرة الأدب المصري، لندرك عن بصيرة موضع أقدامنا القلقة من خريطة الأدب العالمي، فيما نحن سادرون في محليتنا الضيقة.

 ومع ذلك يمكن استشراف بعض السمات المشتركة عند أبناء هذا الجيل، فالحضور التأملي للذات يبرز على نحو جلي عند تيسير النجار وريهام إمام، ويأخذ بعدا صراعيا يتجلي في طغيان الجسد عند أميمة صبح.

 كما يمكن ملاحظة حركة الخيال السردي وهي تتراوح بين الذاتي والواقعي المعيش والفانتازي عند محمد السيد سمير ويس محمود ليبدو الواقع نفسه، فانتازيا، مفعمة بالأخيلة الغرائبية، حتى لم تعد ثمة مسافة بين الكيانات البشرية والأشياء، بل والأرواح -كما في قصة أحمد عبد العاطى – التي تحدوها رغبة في اكتشاف ذواتها ومراجعة وجودها البشري المعذب قبل أن تموت وتتحول إلى وجود شبحي بلا ظلال، وكأن الوجود نفسه غير موجود.

  ويظهر الخيال على نحو خافت وبنزعة شعرية عند عمرو عاطف، ليبدو أكثر احتفاء بالمكان، عبر سرد مشهدي متنوع وثري، وهو ملمح نجده عند محمدد علام، مشغولا بالتفاصيل الصغيرة، لتبدو الشخصيات كما لو كانت تتحرك على شاشة سينما، لهذا فحركة السرد تمضى على خط مستقيم متنام ومتمهل،  لتمنح نصه جوا كابيا، يتسق مع أزمة الشخصية، وهي تتعثر بين تفاصيل الحياة وترصدات القدر التي تتربص بالبشر، منذ وجودها الأول في الحياة.

إن الرغبة في تأمل الواقع الإنساني عند مجمل كتاب هذا الجيل، تبدو لنا أكثر طغيانًا من رغبتهم في تأمل الواقع المعيش وقضاياه الاجتماعية والسياسية، ليمكن القول: إن القصة الجديدة، تبحث عن نفسها في وجود رمزي / داخلي، أكثر عمقا وثراء من الواقع المعيش.     

_____________________________________________

1– بول ريكوار: الزمان والسردـ الحبكة والسرد التاريخي ـ ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم ـ 2006م – دار الكتاب الجديد المتحدة بيروت

.  2- مالكوم برادبري: الرواية اليوم ـ  ترجمة أحمد عمر شاهين – مكتبة الأسرة الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 2005م.

3- ـ حنا عبود: من تاريخ الرواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 2002م.

4 – فرانك اكونورو: الصوت المنفرد ( مقالات في القصة القصيرة) – ترجمة محمود الربيعي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 1993م.

5- أحمد هيكل: الأدب القصصي والمسرحي في مصر –دار المعارف –القاهرة -1983

6- خيري دومة: ـ خيرى دومة : تداخل الأنواع الأدبية فى القصة المصرية القصيرة ـ دراسات أدبية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1998.

*  *https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1014239935444559&id=100005756850340

أضف تعليق