تقنيات السرد بين التنظير والتطبيق: د. محمد عبد المطلب

(1)

ظهر مع الحداثة ما سمى(علم الرواية) وتابعه(علم السرد) تأسيساً على أن هناك نوعا من النوص الأدبية التى حصرت وظيفتها فى إعادة إنتاج الواقع بمجموع وقائعه وشخوصه، والعلاقة الجدلية التى تربطهم، ثم تقديم هذا المنتج فى لغة توصيلية ذات مواصفات أدبية، وكان ظهور مصطلح (علم الرواية) وتابعه (علم السرد) ذا تأثير واسع فى المحيط الأدبى والنقدي، وازداد هذا التأثير عندما زاحمت الرواية سواها من أجناس القول، وسعت أن تجد لها مقعداً فى المقدمة.

إن ترديد هذين المصطلحين فى زمن الحداثة، قد استهدف تخليص الرواية من القراءة الانطباعية التى صاحبتها منذ بواكيرها حتى أوائل القرن العشرين، ومما لاشك فيه، أن هذه الانطباعية كانت وليدة(المحكاة) التى كانت تنظر فى النص بوصفه محاكاة الواقع، كانت المحاكاة أمينة وصادقة، نال النص الرضا والقبول النقدى، وإذا انعدمت الأمانة والصدق، كان الرفض الفورى، دون نظر إلى الإداة التعبيرية التى وظفها الأديب، سواء أكان صادقا أم غير صادق، ذلك أن الانطباعية احتكمت إلى (المرآة) النصية، وأهملت سواها من الأدوات المنتجة للنص،وتناست الهيكل البنائى للرواية.

ومع سقوط الانطباعية، أوتحجيمها ـ على أقل الاحتمالات ـ اتجهت القراءة النقدية إلى البناء الداخلى للنص الروائى، وبخاصة بعد جهود فرويد فى مباحثه النفسية، وما قاله عن الوعى والقل الباطن، وهو ما هيأ المجال الأدبى لظهور (رواية تيار الوعى) التى أسقطت المحاكاة ولانطباعية نهائيا، إذا إنها تجاهلت وقائع العالم التى تسكن الخارج، وسلطت عنايتها على الوقائع  الداخلية للإنسان، أو لنقل: إنها جعلت وقائع الخارج انعكاسا لوقائع الداخل، وهو انعكاس عضوى، بل ربما يكون عشوائياً.

معنى هذا أن يبدأ السرد ممارسة وظيفتة من الداخل، وهو منطقة ليس لأحد سلطان عليها، وليس هناك رقابة تحاصرها، وربما لذلك اتسم هذا التيار الإبداعى بكثير من الغموض، ولم يكن غموضا من أجل الغموض، وإنما من أجل الإفصاح.

وهذا التحول الطارئ للخطاب الروائى، صاحبه عناية واضحة من الخطاب النقدى بالأبنية المنتمية (للوعى الداخلى)، مثل (الحوار الداخلى) و(الأحلام) و (التفريغ النفسى) و (الإسقاط) ثم عناية آخرى بتخليص النص من سلطة المبدع حتى لا تلاحق المتلقى.

وفى هذا السياق ظهرت بعض الإشارات لمصطلحات ما بعد الحداثة التى تختص الرواية، مثل الذى دار حول (الحوار الداخلى) من كونه حوارا مباشر أو غير مباشر، ومثلما هو الأمر مع بعض الأبنية الصياغية، (كالضمير) و(الإشارة) و (أدوات الربط) وبعض الأبنية الدلالية، مثل (المنجاة) و (التداعى الحر)، ثم رصد بعضتقنيات الفنون البصرية، كالمونتاج والسيناريو والفضاء النصى وغيرها من التقنيات.

(2)

لقد تردد فى زمن الحداثة مصطلحان متشابكان: (الخطاب ـ النص) وليس من همنا هنا الدخول فى جدل حول ما دار حولهما من حدود معرفية، وعلاقة أدبية، وثم فإننا نغادرهما إلى ماسبق أن أشرنا إليه (علم الرواية) و (علم السرد) ومردودهما المعرفى، إذا كان هناك يقين بأن كل خطاب له مستويان منفصلان على مستوى التحليل، وإن كانا متحدين على مستوى الإنتاج، أما المستوى الأول، فهو البناء الصياغى، والمستوى الثانى هو المنتج الدلالى، وكان السؤال النقدى الملح: هل من الممكن أن ينضوى المصطلحان تحت مصطلح (النص) ؟ وأهمية السؤال جاءت من أن قراءات ما بعد الحداثة أعطت للنص حقوقا كثيرة، وأولها :حق أن يكون النص منتجا لذاته، بل فى قدرته أن يكتب نفسه، على معنى أن يكون النص (القائل) أى (فاعل القول)، وبحق هذه القدرة، فإنه يسعى للتعبير عن مكنوناته الداخلية، وكيفية إطلالها على الخارج التى على ضوئها يشكل مواقفه وأحواله وزاوية رؤياه، ومن ثم رفضت النصية مجموع المرجعيات الخارجية بكل مستوياتها، سواء أكانت مرجعية واقعية، أم مرجعية فكرية، معنى هذا أن عناية النص البالغة تكون بالمستوى الأول .

ومن الملاحظ أن مصطلح النص ارتبط ارتباطا حميما بمصطلح (النوعية)الذى جاء ظهوره فى حوار مصطلح (العولمة) بكل متغيراته الكمية والكيفية فى كل المجالات الإنسانية، أى فى (متغيرات الثقافة) بوصف الثقافة جامعة للمسلك البشرى داخليا وخارجيا، ومن مكرور القول أن نعيد الكلام عن مرحلة (الوفاق الدولى) التى أوقفت الصدام بين الكتلتين: الغربية والشرقية.

ويبدو أن (العولمة) كان لها مواليدها، ومن هؤلاء المواليد (ظاهرة التجنيس) التى كسرت الحواجز النوعية، وكان مصطلح (النص) هو المناسب لاستيعاب هذا الكسر، على معنى أن الإيغال فى النصية، كان مصاحبا لتحجيم النوعية، وكان لذلك صداه ـ المباشر حينا، وغير المباشر حينا آخر ـ فى الرواية، حيث تنازلت عن بعض حقوقها المحددة لخصوصيتها، وهو تنازل باعد بينها وبين المفهوم التقليدى لها، وهو مفهوم احاطته المذاهب النقدية المتتابعة بإطار من القداسة الفنية.

ومع انكسار النتوعية، ضهرت بداية التداخل النوعى على نحو محدود، ثم أخذت فى الاتساع، فكانت تداخل الرواية بالقصة، وتداخلها بالسيرة، زالمذكرات اليومية، وتداخلها بالمسرحية، ثم تداخلها بالشعر.

(3)

إن منهج البحث يقتضى أن يكون الحديث عن الرواية بدءا من مصدر انتاجها، فمن هومنتجها؟ هل المؤلف أم الراوى؟ لقد استحضر بارت مصطلح (المؤلف) ثم أماته، ورأى أن حاشية حضورة كانت رهنا (بحقوق التأليف والنشر)، وقد سعى فوكو إلى فك الارتباط بين المؤلف والشخص الذى كتب العمل الأدبى، وهو ما يعنى أن هذا المؤلف قد استحال إلى كينونة ضبابية ليس دور أو وظيفة تنفيذية، ومن ثم فإننا نتقبل مقولة بارت ـ مع التحفظ ـ وتقبلنا راجع إلى أن هدف بارت من إماتة المؤلف، هو الحد من سلطته على النص (1).

وإذا نظرنا إلى المؤلف بصفه القائم بالكتابة فحسب، فإن النظر لابد أن يتجه إلى (الراوى) بوصفه المنتج التنفيذى لهذه اكتابة، ولن نطيل الكلام حول مفهوم الراور، فهو مفهوم يكاد يدركه عامة المثقفين، ذلك أن التراث العربى قد تعامل مع هذا المصطلح على مستوايات متعددة، منذ أن كان هناك رواه للشعر، ورزاه للحكايات والأساطير، وينضاف إلى كل ذلك الوظيفة الدينية التى أداها الراواة فى حفظ النصوص المقدسة.

إن استبعاد الكلام حول مفهوم الراوى، يضعنا مباشرة فى مواجهة وظائفه ومواقعه التى على أساسها يتدخل فى بناء النص، وفى مسارات السرد، وفى اختيار أدوات هذا السرد، ذلك أن عقيدتنا ـ بعيدا على الجدل حول المؤلف والراوى ـ أن هذا الراوى هو الموكل بنقل النص من المؤلف إلى المتلقى، وبحق هذا التكليف، فإنه يتمكن من توجيه النص بما يتوافق ميوله الخاصة أو العامة.

وإذا كانت هذه الوظيفة المركزية للراوى، فإن مواقعة متعددة ومتنوعة، فله مواقع مكانية، وماقع زمانية، وفى المواقع المكانية منطقتان رئيستان، لأنه إما أن يكون خارج النص، وإما أن يكون داخله، ومن المتاح له أن يتحرك بين هاتين المنطقتين، وعندما يحتل منطقة الخارج تنحصر مهمته فى إنتاج الأقوال، وعندما يتحول إلى شخصية من الشخوص المنتجة للأفعال.

وسواء احتل الراوى منطقة الخارلاج أو منطقة الداخل، فإنه يؤثر ـ غالبا ـ المواقع الخلفية التى تتيح له قدرا واسعا من الرؤية الكلية، وقد يغادر هذا الموقع الأثير ليحتل المقدمة، بهدف أن يقود الأحداث والشخوص، وإحكام السيطرة عليهم، وقد يترك الراوى كل هذا المواقع، ليحتل موقعا فوقيا، يقود منه السرد إلى مسارات أيديولوجية أو فلسفية أو نفسية أو أسطورية بالغة التعقيد.

ويتوازى مع هذه المواقع المكانية، مواقه زمانية صالحة لحلول الراوى فيها، وإذا كان الوعى البشرى قد حصر هذه المواقع فى ثلاثية خالدة: (الماضى ـ الحاضر ـ الآتى) فإن الراوى يحتلها حينا، ويغادرها إلى هوامشها حينا آخر، ونعنى بالهوامش: الماضى البعيد والقريب، والآتى البعيد والقريب، والحاضر المتصل بالماضى، والحاضر الممتد فى الآتى، برغم تعدد هذه المواقع الزمنية، فإن الروائية لا تستريح إلا إلى الماضى، ومن ثم فإن متعلقات هذا الماضى من الأبنية الفكرية والغوية تكون صاحبة السيادة فى السرد، حيث يتعمد فتح ذاكرو الشخوص تارة، ونوافذ الحلم تارة أخرى، وإفساح مساحات واسعة للأحاديث النفسية، أما الأبنية اللغوية، فسوف نعرض لها فى المحور الخاص بلغة الرواية.

(4)

فى المحور السابق تناولنا الراوى ووظائفة ومواقعه فى بناء السرد بخصوصيتة التوصيلية، أم تخلص منه تخلصا محدودا أو مؤقتا ليرتفع إلى أفق الشعرية، حبث تكون الصياغة هدفا فى ذاتها.

إن طبيعة السرد أن يتخذ فى النص مسارا أفقيا، تتتابع فبه الأحداث وتتطور، وتتحرك فيه الشخوص حركة أفقية ـ أيضاُ ـ لكن ربما تخرج على هذه الحركة المألوفة، وتتحرك حركة رأسية، فبدلا من التتابع، يحضر العمق، وهذا يتعقد، وتتولد الدرامية.

ويجب أن يكون فى الوعى أن الرواية عندما تستعين بالسرد،تستعين به وهو محمل بميراث طويل من الحكى الذى جاءه من الشفاهة فى المرويات الدينية وغير الدينية، والذى جاءه من الموروث الشعبى بكل أعرافه وتقاليه وطقوسة، لكن يظل من بين كل هذا الموروث لنص (ألف ليلة) أهمية خاصة، بوصفه أهم نص سردى حفظته الذاكرة العربية، وقد أثرت هذه الأهمية تأثيراً بالغا فى أبنية السرد العربى حتى يومنا هذا، ولا نجاوز الصواب إذا قلنا إن هذا التأثير قد تجاوز العربية إلى سواها من اللغات الحية فى العالم كله.

وأعتقد أن أهم خصيصة تسربت من (الليالى) إلى الروائية، هو ما يمكن أن نسمه (بالسرد المركب) أو (المتعدد)، إذ يتحرك السرد فى مساره الأفقى المألوف، ثم ينتابه توقف فجائى فى منطقة بعينها ليفسح المجال لسرد إضافى ـ مؤقت ـ يعود بعدها إلى مساره الأول.

وبتأثير ألف ليلة، يمكن أن نلاحظ (أسطرة السرد) على الرغم من أن النص قد يكون موغلا فى واقعه وتحولاته الصاعدة الهابطة، لكنه يقود هذا الواقع ـ فى خفاء ـ إلى عالم الأسطورة بعد تخليصة من بعض ركائزه، ليكون صالحا لعملية الإسقاط التى يستهدفها النص.

وأنا على يقين أن من يعاود التأمل فى الليالى، سوف يكتشف أن كثيرا من تقنيات الحداثة السردية تمتد بنسب متين إلى تقنيات هذه الليالى، سواء فى ذلك تقنية الحوار أو الوصف، أو تقنية قطع الحدث، وتخليق الفجوات (بالحذف)  الذى يغيب بعض الأحداث أو المعلومات، أو الحذف الذى يغيب مساحة زمنية قصيرة أو طويلة، أو تخليقها (بالختصار) الذى يكاد يؤدى وظيفة الحذف على نحو دلالى، بينما يؤدى الحذغ وظيفته على نحو مادى.

وهذه الفجوات بوسائلها المتعددة، تعمل على كسر قانون السبب والمسبب الذى يحيط النص الروائى بأسوار المنطق، وهو ما ينشط (قانون التداعى) بكل ما فيه من عشوائية، ويتيح للسرد أن يقدم قفزا فيما سمى (بالاتساق) أو يتراجع فيما سمى (بالاسترجاع) إلى غير ذلك مما جاءت به تقنيات الحداثة.

(5)

إن السرد مخزون الذاكرة، ولا يصل إلى المتلقى إلا بعد تعبئته فى مواد لغوية، وكل ما ذكرناه عن النصية والنوعية والراوى والحدث والشخوص لا يقع تحت طائلة القراءة إلا بعد تحوله إلى لغة، ومن ثم فإن القراءة الصحيحة، وهى التىتطل على النص من نافذة اللغة أولا.

وهذه الإطلالة الأولية سوف تلاحق عناوين النصوص وافتتاحايتها،ثم تلاحق الصياغية التى تكشف طبيعة النص فى مداخله وحواشيه، وتكشف عن أبعاده الزمنية والمكانية، وترصد وقائعه وأحداثه، وتحدد ملامح شخوصه، وهو ما يتيح للقارئ الحكم على النص بحسب توجهه الغالب، إذا يكون النص ريفيا أو حضريا أو تايخيا أو حربيا أوبوليسيا أو صحراويا أو دينيا أو خياليا إلى آخر هذه التعريفات التى يمكن أن ينتمى إليها النص، وليس معنى هذا أن النص ينفرد بنوعية من هذه الانتماءات، وإنما معناه أن نوعية منها قد تغلب على سواها، فينسب النص لها.

وبرغم تكاثر المادة اللغوية معجمياً ونحوياً، نجد أن الرواية لها غواية خاصة مع مواد بعينها، وفى مقدمة هذه المواد (الثنائيات) ذات المرجعية المتعددة، فبعضها مرجعه لغوى خالص، وبعضها مرجعه بلاغى خالص، وبعضها مشحون بأبعاد فلسفية أو نفسي أو أيديولوجية، ومن بين هذه الثنائيات، هناك ثنائية تتقدم سواها من الثنائيات، ولا يكاد يخلو منها نص سردى، هى ثنائية (المرأة ـ الرجل) (الذكر ـ الأنثى) وتوابعها: (الزواج ـ العزوبة) (الإنجاب ـ العقم) وحواشيها: (الضعف ـ القوة) (الحب ـ الكره) ثم (الحياة ـ الموت).

وبالضرورة، فإن هذه الثنائيات سوف تشحن النص بكم وافر من التوتر الذى يتيح للمفاقة أن تحتل مساحة واسعة فى السرد، سواء أكانت مفارقة صريحة أم ضمنية، وسواء أكانت ملفوظة أم ملحوظة، سواء أكانت موقفية أم حالية، وبالضرورة ـ أيضاً ـ فإن هذه المفارقة سوف تتخلى تدريجيا عن ارتناطها بهذه الثنائيات، لتحل فى الأنساق الكلية، والوقائع الممتدة، دون أن يحجب ذلك الدور اللغوى لكل ثنائية.

وفى هذا المحور اللغوى، يفرض (الضمير) حضوره بوصفه أداة مركزية فى بناء السرد، بل هو عنصر أساسى فى تحديد النوعية،فالضميران (أنا ـ نحن) وتوابعهما، يقودان النص إلى منطقة (الشعرية) حينا، وإلى منطقة (السيرة) حينا آخر، وربما لا يكون هذا ولا ذاك، وانما يكون حضورهما علامة واضحة على توحد المؤلف بالراوى الداخلى.

أما ضمير المخاطب (أنت) وتوابعه، فإنه يقود النص إلى دائرة (الحوار) المسرحى على وجه العموم، والملاحظ أن هذا الضمير له صلة حميمية بمناطق التوتر والصدام،سواء أكان صدام مواقف، أم صدام شخوص.

معنى هذا أن ضمائر (التكلم والخطاب) ليست من الأبنية الأثيرة فى السرد، إذ إن الضمير الأثير لديه، هو (ضمير الغياب) هذا الضمير الذى أسماه البلاغيون القدامى (ضمير الحكاية).

وغواية السرد مع ضمير الغائب، يوازيها غوايته مع فعل الكينونة (كان) الذى يكاد يكون صاحب الحضور الأول فى السرديات عموما، ولا يرجع ذلك إلى كونه فعلا مساعدا، بل إلى طاقته التى اكتسبها مكن مواضعته الأولى، ومن هوامش الاستعمال الممتدة فى الزمن، فهو قادر على فتح أبواب (الحدث) الماضى البعيد والقريب، وهو مشحون بطاقة تراثية اكتسابها من وظيفته فى المرويات والحكايات، وهو قبل ذلك وبعده، له قدرة إنتاج (الحدوث والوجود والصيرورو والثبوت والوقوع).

إن اعتماد القراءة على المادة اللغوية ببعديها: الكمى والكيفى، وجابيها الإفرادى والتركيبى، يكاد يغلق النص على ذاته، وهذا ما أصاب اهتزاز كبير فى المرحلة الثقافية الأخيرة والتركيبى، يكاد يغلق النص على ذاته، وهذا ما أصابه اهتزاز كبير فى المرحلة الثقافية الأخيرة التى لم تعد تستريح للتعامل مع النص حال انغلاقة، ذلك أن المنجز النقدى فى زمن ما بعد الحداثة لا يعول كثيرا على مثل هذا الانغلاق، لانه ضد طبيعة النصية ذاتها، إذا لا يكاد يفلت نص روائى أوغير روائى من الانفتاح على سواه من النصوص القديمة والحيثة، ولا يكاد يفلت نص من امتصاص أنساق الثقافة المحلية أو الإنسانية، فالزمن أصبح زمن إنفتاح النص،لا زمن انغلاقة.

(6)

إن متابعة تقنيات السرد على هذا النحو النظرى أو التنظيرى، يقودنا إلى تحول التنظير إلى مجموعة إجراءات تطبيقية، وبخاصة فى المرحلة الأخيرة من مسيرة النقد، وهى المسيرة التى يحتل فيها جيل الشباب من النقاد مساحة واسعة، وبخاصة بعد أن ابتعد كبار النقار عن متابعة النصوص الإبداعية، إلى مناقشة قضايا الثقافة على وجه العموم.

والذى أراه فى الإجراءات التطبيقية، يستدعى ـ من وجهة نظرى ـ  بعض المهن الحرفية التى تكاد تتوافق فى إجراءاتها العملية مع هذه الإجراءات النقدية.

وبداية أوضح إحترامى لكل المهن والحرف اليدوية وغير اليدوية، وما أذكره هنا لا ينتقص من أى مهنة أو حرفة، ومنه(حرفة السباكة) ذلك أن الواقع الأدبى العام ـ فى المرحلة الأخيرة ـ قد ساده نوع من (تداخل الاختصاص) وهو تداخل مخل، ومنه تداخل النقد الأدبى مع (حرفة السباكة)، إذا اعتمد بعض النقاد الجدد كثيرا من تقنيات السباكة فى نقدهم.

فى سبعينيات وثمانيات القرن الماضى قامت حركة هائلة لنقل الثقافة النقدية الغربية إلى الواقع العربى، وقد ساعدت هذه الحركة على تغيير النقد الأدبى، والصعود به إلى أفق الحداثة بكل اجراءاتها الكاشفة عن جوهر الأدبية، لكن الملاحظ أن هذا النقل قد أعطى عنايته الأولى للتنظير الذى طرحته المناهج ةالجديدة، مثل البنيوية والأسلوبية التفكيكية، وعندما انتقل النقاد من التنظير إلى التطبيق على النص العربى، تبين لهم أن (مرحلة النقل) فى حاجة إلى مرحلة تكميلية، هى: (إنتاج الثقافة النقدية) التى تلائم خصوصية النص العربي، خصوصية بيءته، ومن النقل إلى الإنتاج، تمت مرحلة منأهم مراحل النقد فى العصر الحديث.

وكان المأمول من جيل النقاد الشباب أن يكملوا  هذه المسيرة، وبخاصة فى إجراءاتهم التطبيقية، لكن الذى حدث، أن هذا الجيل تراجع مرة أخرى إلى مرحلة النقل، واستخلص كل ركائزها التحليلية، تم أقدم على قراءة النصوص الأدبية النثرية والشعرية محتكما إلى هذه الركائز التى قادته إلى مزلقين، الأول: تطبيق إجراءات نقدية مستخلصة من  نصوص غير عربية على نصوص عربيةلها خصةوصيةتها الثقافية واللغوية، وبهذه الخصوصية يمكن أن تنفر من هذه الإجراءات التطبيقية، وارغام النصوص على تقبلها قد يؤدى إلى تشويهها وتحويلها إلى مسخ بلا المزلق الثانى: توظيف اٌجراءات على أجناس القول شعرا ونثر دون فرق، وهنا يأتى التداخل الذى أشرنا إليه بين (النقد والسباكة)، وهو تداخل بلا قصد، إن عامل السباكة يجمع فى حقيبته (السمسونايت) أدوات محدودة صالحة للتعامل مع كل الأجهزة التى تدخل فى دائرة اختصاصه، كذلك الناقد الأدبى، إذ يختزن فى ذاكرته مجموعة محددة يوظفها فى قراءة كل النصوص، فإذا كان النص الذى يقرأه روائيا، فتح ذاكرته على أدواتها المحفوظة: العنوان ـ الزمن ـ الاسترجاع ـ الاستباق ـ المحمل ـ الوقفة ـ المشهد ـ الحذف ـ الراوى الخارجى والداخلى ـ الحوار المباشر وغير المباشر، إلى آخر الأدوات التى تحضر فى كل قراءة نقدية، ومن ثم استحالت النصوص كلها إلى نص واحد.

وهذا هو التداخل الأول بين النقد والسباكة، ذلك أن أدوات السباك المحدودة صالحة لكل الأجهزة، وكذلك إجراءات الناقد صالحة لكل النصوص، أو لنقل أن النصوص كلها تستحيل إلى نص واحد يجرى فيه تقنياته التى لا يستطيع تجاوزها،لأن ذاكرته ليس فيها سواها، والمتلقى المسكين يتأمل ما يقدم له دون أن يدرك الفارق بين نص لنجيب محفوظ، ونص لإدوار الخراط، أو جمال الغيطانى أو يوسف القعيد أو فؤاد قنديل أو أحمد الشيخ، (فكله عند العرب صابون)كمايقول المثل القديم.

وفى رأى أن هؤلاء النقالد قد تناسوا أهم مقولة جاءت مع نقد الحداثة، وهى أن النص يختار الأدوات التى تصلح للتعامل معه، وهو النص الذى يفرض على القارئ طريقة الدخول إلى عالمه الجمالى، فما يصلح لنص، ربما لا يصلح لآخر.

هنا يأتى التداخل الثانى بين النقد والسباكة، ذلك أن عامل السباكة ـ وبخاصة فى المرحلة الأخيرة ـ قد وسع من دائرة اختصاصه، وضم إليها بعض اختصاصات لم تكن فى مهمته أصلا، أى أن قد ألغى مفهوم (الاختصاص)، وهو ما يحدث ـ تقريبا ـ فى الحركة النقدية الأخيرة، إذ تناسى بعض أفرادها مفهوم التخصص،وأصبح الواحد منهم يجلس مجلس المتكلم فى كل مجالللكلام؛ فى النقد، فى الفن، فى الفلسفة، فى السياسة، فى التاريخ، فى الدين، وإذا سئل فى موضوع من هذه الموضوعات انطلق يتكلم فى طلاقة وثقة، ولا مانع أن يوثق كلامه بمقوله لهذا الناقد أو ذاك مكن الأعلام، وبمقوله لهذا المستشرق أو ذاك، وكأن ذاكرته تختزن كل ثقافة العالم، وقد استمعت يوما إلى واحد منهم منذ فترة قريبة يقدم بعض آرائه وأفكاره، ثم يوثق ما قاله ببعض أقوال لصه حسين والعقاد، وبآراء الباحثين الغربيين ـ كنت استمع اليه، وأفتح ذاكرتى على هذه الأسماء والمقولات التى رددها الناقد منسوبه لهم، بل إن أعدت النظر فى بعض ومؤلفاتهم، فلم أجد فيها شيئا مما ذكره الناقد.

التداخل الثالث بين النقد والسباكة، يدفعنا غلى استعادة مرحلة قديمة نسبيا عندما ـ بدأ استعمال (بلاط السيراميك) وظهر الإعلان الشهير: (انسف حمامك) وراجت حرفة السباكة رواجا هائلا نتيجة للمكاسب الباهظة التى حققها السباكون من عملهم، وفى هذا الزمن زاد الطلب على (عمال السباكة) زيادة ضخمة، وهو ما أغرى كثيرا ممن لا صلة لهم بهذه الحرفه إلى احترافها، وخدع كثير ممن أسرعوا بهدم حماماتهت، لأن هؤلاء الدخلاء أفسدوا كل شئ، وتسببوا فى خسائر فادحة بسبب إقدامهم على ما يجهلون.

و الملحوظ فى الزمن الأخير سكوت معظم كبار النقاد عن متابعة إبداع الحداثة، وربما كان السكوت، سكوت رفض، وربما كان السكوت لأن أدوات الناقد لم تعد تصلح للتعامل مع هذا الإبداع  بكل تجاوزاته ومغامراته مع الشكل والمضمون، وهو ما اتاح لأدعياء النقد الذين لا يمتلكون الثقافة والخبرة النقدية أن يقتحموا الساحة الإبداعية ويفرضوا أنفسهم فى الندوات ووسائل الإعلام المختلفة، والمؤسف أن بعض المبدعين قد داخلوا هذه الساحة، وتحولوا إلى نقاد قساة، يسرفون في المديح تارة، وفى الهجاء تارة أخري، وهذا من طبيعة المبدع، لأنه ينحاز ـ بالضرورة ـ إلى مذهبه الإبداعى، وإلى ذوقه الجمالى.

إن قصدى من ذلك كله الإشارة إلى التداخل الخطر الذى يهدد مسيرة الإبداع والنقد معا، وأن تكون هناك وقفة تصحيحية، تعطى كل اختصاصى لأهله، وأن يقود هذه الوقفه كبار نقادنا خلال منابرهم الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية.

أضف تعليق