عالم مصطفى الأسمر القصصي، ملف خاص في ذكرى مولده.

ذاكرة القصة المصرية تحتفي بعالم مصطفى الأسمر القصصي في ذكرى مولده

 

 

قصة: (بـزوغ)

(1)

حاولت جاهدا أن أتجاهل قلقي ولكنه كان أقوى من كل محاولاتي وأعمق .. أغمضت عيني واستدعيت طفولتي وانطلقت أركض كعادتي كل صباح قبل الذهاب إلى المدرسة مخترقا شوارع المدينة كأنني أخوض معركة أو كأنني أعدو في سباق دورة أوليمبية .. تلفت حولي استحث الآخرين كي يشاركوني العدو فيدفعني التنافس إلى التجويد .. ضحكوا .. لم أعبأ .. دخلت المدرسة في آخر لحظة قبل أن يغلقوا بابها الحديدي المرتفع بالسلسلة الطويلة .. انتظمت في الصف وأنا ألهث .. ومع ذلك تقدم نحوي ضابط النظام ووكزني في جنبي وقال: حذاؤك لا يلمع .. والقميص ينقصه أحد الأزرار.

طلب مني أن أمد يدي أماما وظهرها لأعلى .. فعلت .. هوى بعصاه الرفيعة على سلاميات أصابعي بعشر ضربات سريعة متتابعة كأنه قصد أن تكون الضربات بعدد أصابع يدي .. تماسكت، وصممت أن لا أسحب يدي بعد كل ضربة مهما كان الألم.

(كانت الأرض منبسطة، وكانت السوق الصغيرة تجاهد كي تصلب أعوادها .. ولكن الجذور المتشعبة للشجرة العملاقة كانت تخلخل التربة من تحتها).

(2)

من البداية لم يرتح إلي .. وحتى لا أكتم شهادة في قلبي فأنا بدوري أيضا لم أرتح إليه .. من أول عام جاءت تقاريره السنوية السرية عن عملي غير مرضية .. كانت دون المتوسط .. ومع ذلك صممت ألا أداهنه كالآخرين .. فما حاجتي إلى التقديرات العالية ولا مطمع عندي في إعارة .. كان يحلو لي أن أستثيره لأراه هائجا وأنا واقف أمامه أتلقى تأنيبه وتوبيخه وقراراته وعلى وجهي ترتسم البراءة كاملة، ناشدني الزملاء أن أغير من أسلوب تعاملي معه، فكنت أتصنع البلاهة وأقول لهم: وهل أملك أنا حياله شيئا .. إنه هو الذي يملك أن يحرمني من الحوافز والمكافآت وبدلات السفر .. ومن سلطاته أن يوقع علي الجزاءات .. وكانت حجتي تلجم ألسنتهم فيصمتوا .. مع الأيام بت أخشى أن يكون الحال قد وصل بي إلى حد استعذاب ما يصنعه بي .. ثم تبين لي بعد حين أن خشيتي لا مبرر لها، فسلوكي أنا معه دفعه إلى تعاطي المزيد من حبوب الضغط وإلى جحوظ عينيه.

(لمحت الشجرة العملاقة الورود المتفتحة الناعمة .. غاظتها ابتسامتها وتوردها .. مالت بأفرعها الثقيلة عليها تريد أن تئدها .. تماسكت الورود أمامها كي لا تنفرط أوراقها الرقيقة).

(3)

بدون تردد قلت لهم: سأكون معكم.

حاولوا أن يبصروني بخطورة ما سأقدم عليه وبما سيجلبه انضمامي هذا من مصاعب.

فقالوا: ستلاحقك المشاكل والمتاعب.

قلت: أعرف .. وسيكون هذا بالنسبة لي أفضل.

قالوا: عليك أن تفكر طويلا وتتدبر أمرك على مهل.

قلت: ومن قال إنني لم أفكر.

قالوا: أعط نفسك مهلة وبعدها قرر .. وتذكر ما يصيبك فقد تتراجع.

قلت: الآن أو لا!! أبدا.

قالوا: نذكرك نحن ..

: لا فائدة .. فكل المشاكل تهون بجانب ما أنا فيه.

شهادة صدق وحق حاولوا ردي كثيرا، أكثر مما ينبغي، فعلوا المستحيل كي يثنوني عن عزمي لكني ركبت رأسي، ليس حبا في المغامرة أو رغبة في ذيوع الصيت ولكن لأن طاقتي على الصبر كانت قد نفدت تماما .. فبعد ما حدث معي لم يعد أمامي من طريق آخر أسلكه غير هذا الطريق .. أخيرا وافقوا وقالوا: أبرأنا ذمتنا ونصحناك .. فأنت في مطلع العمر وقد يأتي اليوم الذي تندم فيه لأنك اخترت أن تكون في هذا الجانب.

(حنت نسمات رطبة على أوراق الورود المبعثرة تضمد جراحها وتواسيها .. تحاملت الأوراق وجاهدت كي تصنع من تبعثرها وردة كاملة .. زمجرت الشجرة العملاقة فتحولت النسمة إلى ريح صرصر عاتية).

(4)

قالوا: الصبر .. عليك بالصبر.

قلت لهم: ومن أين آتي به .. لم يعد في الصدر ذرة منه ولا متسع له.

قالوا: تمسك به تبلغ ما تريد.

قلت: صبرت بما فيه الكفاية وأكثر.

ضقت بهم وبنصائحهم وتحذيراتهم وتعليماتهم .. وتراءى لي أنه قد آن الأوان أخيرا كي أتصرف كما ينبغي أن يكون التصرف .. وكأنهم كانوا يقرؤون أفكاري إذ قالوا: تذكر أن العيون كثيرة ومبثوثة في كل مكان.

طمأنتهم متحديا: أعرف مثلما تعرفون.

تضخمت رغبتي الضاغطة في لقائه قبل أن تقل الحماسة وتضعف الصحة .. تحايلت حتى وصلت إليه متخطيا كل الحواجز التي تحيط به .. بالمصادفة كان بمفرده .. بهرتني الحجرة .. قاومت باستماتة كي لا تصرفني عما جئت من أجله لوحات الجدار “الجوبلانية” ومنمنمات السقف المذهبة والأرائك الوثيرة وسجاد الأرضية الصوفي .. وعندما استخلصت نفسي من نفسي تنبهت وتذكرت مهمتي .. كان قد قام من فوق مقعده الوثير وهو يبتسم .. خدرتني ابتسامته وبدت لعيني سنارة تحمل طعما مغريا وهي تتأرجح أمامي في محاولة لاصطيادي وترويضي .. أغمضت عيني وقلت: آن الأوان لنصفي كل الحسابات المعلقة.

بدون اعتراض وافقني وقال: معك كل الحق .. اجلس أولا .. ثم اشرب قهوتك ثانيا، وبعدها نتفرغ لتصفية كل الحسابات، صغيرها قبل كبيرها .. أليس هذا هو هدفك ومقصدك؟

أدرت ما قاله في ذهني، بدا في ظاهره مقبولا ومعقولا لكني لم أكن مطمئنا له .. كان يناورني .. ملامحه كانت تفضحه وتقول هذا .. لاحظت أن عينيه تكتشف كل منافذ الحجرة تستنجد الآخرين لينتشلوه من انفرادي به .. تقدم نحوي وربت على كتفي وقال: تصور .. من زمن وأنا أبحث عنك لمكافأتك .. أين كنت؟

اندهشت وتأكد لي أنه يكذب .. فيقينا هو لم يرني قبل اللحظة .. بت على ثقة أنه ابتدأ يستعمل معي لعبة الوقت ليتمكن مني في النهاية.

(أضاءت الشمس الأرض المنبسطة فاتضحت الرؤية .. كشرت الشجرة العملاقة وهي تستشعر بالجذير الرفيع يضرب في باطن التربة ويستميت في التشبث بها كي يمكن للساق الوليد من النفاذ والصعود إلى سطح الأرض ثم البزوغ لأعلى حيث أشعة الشمس).

مصطفى الأسمر

مجلة الفيصل – العدد 1993 – يناير 1993

 

قصة: (تواصــــل)

‏بحياد‏ ‏استوعبت‏ ‏حواسه‏ ‏كل‏ ‏الأشياء‏ ‏المحيطة‏، ‏بينما‏ ‏ظل‏ ‏تركيزه‏ ‏الأساسي ‏على ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏من‏ ‏الشارع‏ .. ‏بدوره‏ ‏كان‏ ‏متواجدا‏ ‏هناك‏، ‏وكانت‏ ‏الإشارة‏ ‏الحمراء‏ ‏تفصل‏ ‏بينهما‏.. ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏انحشاره‏ ‏بين‏ ‏الجموع‏ ‏العديدة‏ ‏التقطته‏ ‏عيناه‏، ‏كأنه‏ ‏ينتظر‏ ‏مثله‏ ‏تغير‏ ‏اللون‏ ‏ليتبادلا‏ ‏الأمكنة‏، ‏أو‏ ‏يلتقيا‏ .. ‏طال‏ ‏به‏ ‏الانتظار‏ ‏والإشارة‏ ‏كما‏ ‏هي ‏جامدة‏ ‏على ‏لونها‏ ‏الأحمر‏ .. ‏فكر‏ ‏أن‏ ‏يغامر‏ ‏وينتقل‏ ‏إلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏متخذا‏ ‏طريقا‏ ‏ملتويا‏ ‏بين‏ ‏العربات‏ ‏والدواب‏ ‏كبهلوان‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يختفي ‏عن‏ ‏عينيه‏ ‏ويتلاشى .. ‏لكن‏ ‏الشرطي ‏نهره‏ .. ‏جمد‏ ‏في ‏مكانه‏ ‏وأن‏ ‏ود‏ ‏لو‏ ‏اعترض‏ ..

‏ارتجف‏ ‏جسده‏ ‏من‏  ‏قسوة‏ ‏الصقيع‏، ‏ومسح‏ ‏قطرات‏ ‏المطر‏ ‏العالقة‏ ‏بعدستي ‏منظاره‏ ‏الطبي .. ‏أبصره‏ ‏هناك‏ ‏على ‏الجانب‏ ‏المقابل‏ ‏يصنع‏ ‏نفس‏ ‏صنيعه‏، ‏فأرجع‏ ‏الأمر‏ ‏للمصادفة‏ ‏وحدها‏ ‏ولم‏ ‏يعط‏ ‏له‏ ‏أهمية‏.. ‏داهمة‏ ‏ألم‏ ‏فقرات‏ ‏الظهر‏ .. ‏تململت‏ ‏قدماه‏ ‏تعبا‏ .. ‏ثنى ‏ساقه‏ ‏اليمنى ‏كطائر‏ ‏البشاروش‏ ‏ووقف‏ ‏جامدا‏ ‏على ‏ساقه‏ ‏اليسرى ‏كالإشارة‏ ‏وقد‏ ‏رفع‏ ‏رقبته‏ ‏ومد‏ ‏رأسه‏ ‏إلى ‏الأمام‏ ‏يتأمل‏ ‏العربات‏ ‏وهى ‏تزحف‏ ‏أمامه‏ ‏ببطء‏ ‏متقاطرة‏ .. ‏ازدادت‏ آلامه‏ ‏فبدل‏ ‏من‏ ‏وضع‏ ‏ساقيه‏ ‏وهيأ‏ ‏عموده‏ ‏الفقري ‏لانتظار‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏ينتهي ‏بينما‏ ‏نظراته‏ ‏كعهدها‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏مشدودة‏ ‏إلى ‏هناك‏ .. ‏وصله‏ ‏الصوت‏ ‏مألوفا‏ ‏واضح‏ ‏النبرات‏ ‏فاستكان‏ ‏له‏ ‏وأوجد‏ ‏لمقعدته‏ ‏مكانا‏ ‏بين‏ ‏غابة‏ ‏السيقان‏ ‏المنزرعة‏ ‏ثم‏ ‏جلس‏ ‏على ‏إفريز‏ ‏الرصيف‏ ‏المبلل‏ .. ‏مد‏ ‏قدميه‏ ‏إلى ‏نهر‏ ‏الشارع‏ ‏ليريحهما‏ ‏من‏ ‏عناء‏ ‏الوقوف‏.

‏( ‏لمح‏ ‏الشرطي ‏ساقيه‏ ‏المدلاتين‏ ‏في ‏نهر‏ ‏الشارع‏ ‏فجاءه‏ ‏على ‏عجل‏ .. ‏حرر‏ ‏المخالفة‏ ‏وتقاضى ‏قيمتها‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏رسم‏ ‏التمغة‏ ‏ثم‏ ‏سلمه‏ ‏الإيصال‏ .. ‏أخذه‏ ‏فمزقه‏ ‏إلى ‏قطع‏ ‏صغيرة‏ ‏ألقى ‏بها‏ ‏أرضا‏ .. ‏على ‏الفور‏ ‏عاد‏ ‏إليه‏ ‏الشرطي ‏وأمره‏ ‏أن‏ ‏يجمع‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏القطع‏ ‏ولا‏ ‏يترك‏ ‏منها‏ ‏على ‏الأرض‏ ‏قطعة‏ ‏واحدة‏، ‏وبعدها‏ ‏يذهب‏ ‏بها‏ ‏كلها‏ ‏غير‏ ‏منقوصة‏ ‏إلى ‏سلة‏ ‏المهملات‏ ‏المشدودة‏ ‏إلى ‏عامود‏ ‏الإشارة‏ ‏الحمراء‏ ‏أو‏ ‏فليتحمل‏ ‏غرامة‏ ‏جديدة‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الفعل ‏.. ‏رضي ‏بتحمل‏ ‏الغرامة‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يصرفه‏ ‏نقاش‏ ‏عن‏ ‏تركيزه‏ ‏الأساسي ‏عليه ‏.. ‏كانت‏ ‏نظراته‏ ‏كالمألوف‏ ‏مشدودة‏ ‏إلى ‏هناك‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يضيع‏ ‏منه‏ ‏بين‏ ‏الجموع‏ .. ‏سحب‏ ‏رقبته‏ ‏ورنا‏ ‏إلى ‏الإشارة‏ ‏أملا‏ ‏أن‏ ‏يتحول‏ ‏لونها‏ ‏الأحمر‏ ‏لينجو‏ ‏من‏ ‏جمود‏ ‏أخذ‏ ‏يغزوه‏ .. ‏ثم‏ ‏استطال‏ ‏برقبته‏ ‏كزرافة‏ ‏فأبصره‏ ‏بدوره‏ ‏يدفع‏ ‏مثله‏ ‏الغرامة‏ ‏الجديدة‏ ‏للشرطي‏.. )‏

‏******‏

لم‏ ‏يحل‏ ‏ألم‏ ‏الإحساس‏ ‏بالتبول‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏التركيز‏ ‏على ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏عابرا‏ ‏بنظراته‏ ‏نهر‏ ‏الشارع‏ .. ‏كانت‏ ‏ساقاه‏ ‏تتحركان‏ ‏في ‏مكان‏ ‏وقوفه‏ ‏حركة‏ ‏نشطة‏ ‏في ‏محاولة‏ ‏من‏ ‏جانبه‏ ‏للتغلب‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الإحساس‏ ‏الموجع‏ … ‏رفرف‏ ‏بذراعيه‏ ‏كعصفور‏ ‏ذبح‏ ‏لتوه‏، ‏لكن‏ ‏الألم‏ ‏ظل‏ ‏على ‏حاله‏ .. ‏أرجع‏ ‏قسوة‏ ‏الألم‏ ‏وضراوته‏ ‏إلى ‏امتصاص‏ ‏الحذاء‏ ‏لماء‏ ‏المطر‏ ‏فتشبع‏ ‏الجورب‏ ‏تماما‏ ‏بهذا‏ ‏النشع‏ ‏المائي ‏ولتتأثر‏ ‏في ‏النهاية‏ ‏أصابع‏ ‏القدمين‏ .. ‏لم‏ ‏يخفف‏ ‏هذا‏ ‏الاكتشاف‏ ‏عنه‏ ‏الألم‏ .. ‏انتهز‏ ‏فرصة‏ ‏اقتراب‏ ‏الرجل‏ ‏الوقور‏ ‏منه‏ ‏وسأله‏ ‏متى ‏يتغير‏ ‏اللون ‏.. ‏أشار‏ ‏الرجل‏ ‏بسبابته‏ ‏حيث‏ ‏المظلة ‏المرتفعة‏ ‏وأخبره‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏الجالس‏ ‏داخلها‏ .. ‏كاد‏ ‏أن‏ ‏يقول‏ ‏أن‏ ‏لو‏ ‏طال‏ ‏الزمن‏ ‏باللون‏ ‏الأحمر‏ ‏فسيجد‏ ‏نفسه‏ ‏لا‏ ‏محالة‏ ‏مضطرا‏ ‏أن‏ ‏يبول‏ ‏في ‏نهر‏ ‏الشارع‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏أوقعوا‏ ‏عليه‏ ‏كل‏ ‏الغرامات‏ ‏المعروفة‏ ‏وغير‏ ‏المعروفة‏ .. ‏تصاعد‏ ‏الألم‏ ‏رهيبا‏ ‏إلى ‏نحو‏ ‏الرأس‏ ‏فانفلتت‏ ‏الصرخة‏ ‏من‏ ‏صدره‏ ‏رغما‏ ‏عنه‏ .. ‏جاوبته‏ ‏نفس‏ ‏الصرخة‏ ‏قادمة‏ ‏من‏ ‏هناك.‏

‏(‏أقبل‏ ‏الشرطي ‏على ‏الصرخة‏، ‏بهمة‏ ‏حرر‏ ‏له‏ ‏مخالفة‏ ‏الإزعاج‏ ‏المتعمد‏ .. ‏دفع‏ ‏المطلوب‏ ‏منه‏ ‏ثم‏ ‏أقتسم‏ ‏مع‏ ‏الشرطي ‏كل‏ ‏ما تبقى ‏معه‏ ‏من‏ ‏نقود‏ ‏تحت‏ ‏حساب‏ ‏أية‏ ‏غرامة‏ ‏مستجدة‏)‏

‏****‏

تأمل‏ ‏سيل‏ ‏الماء‏ ‏القادم‏ ‏من‏ ‏أعلى ‏الشارع‏ ‏فأيقن‏ ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏حين‏ ‏سيجرف‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يعترض‏ ‏طريقه‏ .. ‏خشي ‏أن‏ ‏يفقده‏ ‏وسط‏ ‏السيل‏ ‏فاستمات‏ ‏بنظراته‏ ‏عليه‏ ‏غير‏ ‏مهتم‏ ‏بأصوات‏ ‏الموسيقى ‏والأغاني ‏المنبعثة‏ ‏من‏ ‏داخل‏ ‏المتاجر‏، ‏كونت‏ ‏الموسيقى ‏بدورها‏ ‏سيولا‏، ‏تنفس‏ ‏بصعوبة‏ ‏كما‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏سمكة‏ ‏أخرجت‏ ‏لتوها‏ ‏من‏ ‏الماء‏ .. ‏تراقصت‏ ‏الأضواء‏ ‏المتحركة‏ ‏على ‏واجهات‏ ‏المتاجر‏ ‏بينما‏ ‏ثبتت‏ ‏أضواء‏ (‏الفترينات‏) ‏في ‏توهج‏ ‏شديد‏ ‏لتكشف‏ ‏عما‏ ‏يذخر‏ ‏به‏ ‏داخلها‏ ‏من‏ ‏معروضات‏ .. ‏ارتفع‏ ‏منسوب‏ ‏الماء‏ ‏المنساب‏ ‏في ‏نهر‏ ‏الشارع‏ ‏ففكر‏ ‏أن‏ ‏يلجأ‏ ‏إلى ‏واحد‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المحال‏ ‏يحتمي ‏به‏ ‏حتى ‏مع‏ ‏كونه‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏زبائنه‏ ..‏ بدوره‏ ‏كان‏ ‏هناك‏ ‏على ‏الجانب‏ ‏المقابل‏ .. ‏وتعبيرات‏ ‏وجهه‏ ‏توحي ‏بنفس‏ ‏الخاطر‏ ‏استغرب‏، ‏ولكنه‏ ‏لم‏ ‏يشأ‏ ‏أن‏ ‏يستسلم‏ ‏لهذا‏ ‏الاستغراب‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يغفل‏ ‏عنه‏ .. ‏على ‏غير‏ ‏ما‏ ‏توقع‏ ‏ماتت‏ ‏أصوات‏ ‏المطربين‏ ‏والمطربات‏ ‏وانطلقت‏ ‏صفارات‏ ‏التحذير‏ ‏وعندما‏ ‏توقفت‏ ‏اتضحت‏ ‏الاستغاثة‏ ‏المنبعثة‏ ‏من‏ ‏المتجر‏ ‏المواجه‏ ‏للإشارة‏ .. ‏رددت‏ ‏الاستغاثة‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏مكبر‏ ‏الصوت‏ ‏النداء ‏( ‏امسكوا‏ ‏اللص‏، ‏اقبضوا‏ ‏عليه ‏.. ‏لا‏ ‏تدعوه‏ ‏يفلت‏) .. ‏جاهد‏ ‏كي ‏يحتفظ‏ ‏برأسه‏ ‏مرتفعة‏ ‏فوق‏ ‏الرؤوس‏ ‏التي ‏كانت‏ ‏تتحرك‏ ‏كأفرع‏ ‏نخيل‏ ‏غير‏ ‏مثمر.‏

‏( ‏أبصره‏ ‏الشرطي‏، ‏فأيقن‏ ‏من‏ ‏نظراته‏ ‏أنها‏ ‏تشي  ‏بشيء‏ ‏خفي ‏لا‏ ‏يطمئن‏ .. ‏وقف‏ ‏أمامه‏ ‏وطالبه‏ ‏بأن‏ ‏يحتضن‏ ‏رأسه‏ ‏ويخفضها‏ ‏إلى ‏أسفل‏ ‏وإلا‏ ‏كبده‏ ‏غرامة‏ ‏التستر‏ ‏على ‏متهم‏ ‏وحجبه‏ ‏عن‏ ‏عين‏ ‏العدالة‏ ‏ومساعدته‏ ‏على ‏الفرار‏..)‏

‏******‏

أبصر‏ ‏الحمار‏ ‏وهو‏ ‏قادم‏ ‏من‏ ‏أسفل‏ ‏متجها‏ ‏إلى ‏أعلي ‏.. ‏صاعدا‏ ‏منحدر‏ ‏الشارع‏ ‏وهو‏ ‏يجر‏ ‏وراءه‏ ‏العربة‏ ‏الخشبية‏ ‏المكتظة‏ ‏بالأحمال‏ .. ‏كانت‏ ‏حركة‏ ‏الحمار‏ ‏بطيئة‏ ‏ومملة ‏.. ‏خشي ‏أن‏ ‏تحجب‏ ‏الحركة‏ ‏البطيئة‏ ‏عنه‏ ‏عندما‏ ‏تصل‏ ‏العربة‏ ‏وتصبح‏ ‏أمامه‏ ‏تماما‏ ‏رؤيته‏ ‏له‏ .. ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏حمل‏ ‏العربة‏ ‏المرتفع‏ ‏كفيلا‏ ‏بأن‏ ‏يصنع‏ ‏حجابا‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏تركيز‏ ‏النظر‏ ‏عليه‏ .. ‏وقد‏ ‏يطول‏ ‏ويمتد‏ ‏بفعل‏ ‏الخطوة‏ ‏البطيئة‏ ‏للحمار‏ .. ‏ود‏ ‏أن‏ ‏لا‏ ‏تسد‏ ‏أمامه‏ ‏كل‏ ‏الطرق‏ ‏فلا‏ ‏يبق‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏سبيل‏ ‏إلا‏ ‏الانبطاح‏ ‏على ‏بطنه‏ ‏كسحلية‏ ‏زاحفة‏ ‏ليمكن‏ ‏نظراته‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تصل‏ ‏إليه‏ ‏مارة‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏قوائم‏ ‏الحمار‏ ‏وعجلات‏ ‏العربة ‏.. ‏وصل‏ ‏الحمار‏ ‏وأصبح‏ ‏أمامه‏ ‏تماما‏ ‏وهو‏ ‏يلهث‏ ‏ويجاهد‏ ‏في ‏نقل‏ ‏خطواته‏ .. ‏أبصر‏ ‏حبات‏ ‏عرقه‏ ‏على ‏ضوء‏ ‏اللون‏ ‏الأحمر‏ ‏للإشارة‏ ‏كدماء‏ ‏تنبثق‏ ‏من‏ ‏جسده‏ ‏وتسيل‏ ‏في ‏غزارة‏ .. ‏رثى ‏له‏.. ‏ثم‏ ‏قاوم‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏ينسى ‏نفسه‏ ‏ويستغرق‏ ‏في ‏تأمل‏ ‏المنظر‏.. ‏بان‏ ‏الإجهاد‏ ‏واضحا‏ ‏على ‏وجه‏ ‏الحمار‏ ‏فانزلق‏، ‏ثم‏ ‏وقع‏ ‏وقد‏ ‏انثنت‏ ‏قائمتاه‏ ‏الأماميتان‏ ‏تحته‏ ‏وبرك‏ ‏بكل‏ ‏ثقل‏ ‏جسده‏ ‏على ‏ركبتيه‏ ‏فتبعثر‏ ‏حمل‏ ‏العربة‏ ‏وتناثر‏ ‏في ‏نهر‏ ‏الشارع ‏.. ‏ابتدأت‏ ‏العربات‏ ‏تتلمس‏ ‏طريقا‏ ‏بين‏ ‏الأحمال‏ ‏الساقطة‏ ‏والحمار‏ ‏في ‏رقدته‏ ‏مشدودا‏ ‏إلى ‏العربة‏ ‏عرضة‏ ‏للاختناق‏ ‏بفعل‏ ‏لجامه‏ ‏الجلدي.‏

‏(‏أقبل‏ ‏الشرطي ‏نحوه‏.. ‏‏ ‏أخرج‏ ‏دفتر‏ ‏المخالفات‏ ‏من‏ ‏جيبه‏.. ‏كان‏ ‏واضحا‏ ‏أن‏ ‏صبره‏ ‏عليه‏ ‏قد‏ ‏بدأ‏ ‏ينفذ‏ ‏وأنه‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يكفى ‏معه‏ ‏مجرد‏ ‏فرض‏ ‏غرامة‏ ‏مالية‏ ‏يدفعها‏ ‏وينتهي ‏الأمر‏)‏

‏*******‏

ظهر‏ ‏الموكب‏ ‏فخما‏ ‏كالعادة‏ .. ‏الدراجات‏ ‏البخارية‏ ‏في ‏المقدمة‏ ‏ورتل‏ ‏العربات‏ ‏الفاخرة‏ ‏اللا متناهي ‏يتتابع‏ ‏والملصقات‏ ‏تظهر‏ ‏بوضوح‏ ‏على ‏الزجاج‏ ‏الخلفي ‏لكل‏ ‏عربة‏.. ‏كان‏ ‏كل‏ ‏ملصق‏ ‏يحتوى ‏على ‏الصورة‏، ‏وكان‏ ‏الجند‏ ‏على ‏الجانبين‏ ‏متقاربين‏ ‏وبطول‏ ‏امتدادهم‏ ‏اتخذوا‏ ‏شكلا‏ ‏مميزا‏، ‏جندي ‏وجهه‏ ‏إلى ‏نهر‏ ‏الشارع‏ ‏وجندي ‏وجهه‏ ‏إلى ‏الرصيف‏.. ‏خلق‏ ‏هذا‏ ‏التلاحم‏ ‏بين‏ ‏الجند‏ ‏المدجج‏ ‏بالسلاح‏ ‏قلقا‏ ‏شديدا‏ ‏له‏، ‏وأثر‏ ‏على ‏دقة‏ ‏التركيز‏ ‏عنده‏ .. ‏كاد‏ ‏يغيب‏ ‏عنه‏ ‏ويفقده‏ .. ‏ازداد‏ ‏التوهج‏ ‏باللون‏ ‏الأحمر‏ ‏كمرجل‏ ‏يتهيأ‏ ‏للانفجار‏ .. ‏وعلا ‏الصخب‏ ‏وارتفع‏ ‏الضجيج‏ .. ‏ومن‏ ‏الشرفات‏ ‏تابع‏ ‏العديد‏ ‏الموكب‏ ‏بعيون‏ ‏كالزجاج‏.‏

‏(‏أقبل‏ ‏الشرطي ‏نحوه‏ ‏وأكد‏ ‏له‏ ‏أنه‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏وهو‏ ‏منتبه‏ ‏إليه‏ ‏جيدا‏ ‏ويقظ‏ ‏تماما‏.. ‏أكد‏ ‏له‏ ‏بدوره‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏  ‏غير‏ ‏خاف‏ ‏عليه‏ ‏وأنه‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏على ‏ثقة‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏يتصيد‏ ‏كل‏ ‏حركة‏ ‏تصدر‏ ‏عنه‏ ‏كأنه‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يوجد‏ ‏أحد‏ ‏في ‏الوجود‏ ‏غيره ‏.. ‏لم‏ ‏ينكر‏ ‏الشرطي ‏الملاحظة‏ ‏بل‏ ‏أضاف‏ ‏أنه‏ ‏فعلا‏ ‏يحصي ‏عليه‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏الصغيرة‏ ‏قبل‏ ‏الكبيرة‏ ‏.. جادله‏ ‏مدافعا‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏واثقا‏ ‏من‏ ‏سلوكه‏ ‏وأنه‏ ‏ليس‏ ‏هناك‏ ‏ما‏ ‏يثنيه‏ ‏ولا‏ ‏يوجد‏ ‏ما‏ ‏يضيره‏ ‏وأنه‏ ‏منذ‏ ‏جاء‏ ‏لم‏ ‏يبدر‏ ‏منه‏ ‏ما‏ ‏يسئ‏ ‏وفوق‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏فقد‏ ‏دفع‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏وقعه‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏غرامات‏، ‏فمن‏ ‏الصواب‏ إذن‏ ‏أن‏ ‏يترك‏ ‏وشأنه ‏.. ‏اشتعلت‏ ‏أذنا‏ ‏الشرطي ‏غضبا‏ ‏ونظر‏ ‏إليه‏ ‏مستنكرا‏ ‏ما‏ ‏يقوله‏ .. ‏تماسك‏ ‏وقد‏ ‏استقر‏ ‏عزمه‏ ‏أن‏ ‏يتصام‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يقوله‏ ‏مستقبلا‏).‏

‏****‏

طرأ‏ ‏له‏ ‏الخاطر‏ ‏كملاذ‏ ‏أخير‏ ‏للخلاص‏ ‏من‏ ‏المأزق‏ ..‏فماذا‏ ‏يضير‏ ‏لو‏ ‏كسر‏ ‏الإشارة‏ ‏الحمراء‏ ‏وانتقل‏ ‏إلى ‏الجانب‏ ‏المقابل‏ ‏حيث‏ ‏يبدو‏ ‏بدوره‏ ‏وكأنه‏ ‏ينتظره‏ ‏ليتحدا ‏مهما‏ ‏شوشر‏ ‏الموكب‏ ‏بطقوسه‏ ‏العديدة‏ ‏على ‏محاولته‏ ‏الجديدة‏ ‏الدءوبة‏ ‏لترتيب‏ ‏الأشياء‏ ‏في ‏فهمه‏ ‏وصياغتها‏ ‏من‏ ‏جديد .. ‏ضاق‏ ‏بجمود‏ ‏الإشارة‏ ‏وبثباتها‏ ‏على ‏اللون‏ ‏الواحد‏ ‏مقيدة‏ ‏بهذا‏ ‏حركته‏ ‏المرجوة‏ ‏في ‏العبور‏ ‏والتلاقي .. ‏اختلس‏ ‏نظرة‏ ‏خاطفة‏ ‏للموكب‏ ‏فاستلفتت‏ ‏نظره‏ ‏العربة‏ ‏ذات‏ ‏الجرم‏ ‏الهائل‏، ‏كان‏ ‏عرضها‏ ‏مساو‏ ‏تماما‏ ‏لعرض‏ ‏الشارع ‏.. ‏وكانت‏ ‏تحرث‏ ‏بمقدمتها‏ ‏الحادة‏ ‏أرضه‏ ‏كما‏ ‏لو‏ ‏كانت‏ ‏تبحث‏ ‏عن‏ ‏شيء‏ ‏محدد .‏. ‏انتهز‏ ‏فرصة‏ ‏انشغال‏ ‏الشرطي ‏عنه‏ ‏فقذفها‏ ‏حجرا‏ ‏عساه‏ ‏يعرقل‏ ‏تقدمها‏ ‏واكتساحها‏ ‏للأشياء‏ ‏المتواجدة‏ ‏أمامها‏، ‏لكن‏ ‏المقدمة‏ ‏الحادة‏ ‏سحقت‏ ‏الحجر‏ ‏سحقا‏ ‏فما‏ ‏تركته‏ ‏إلا‏ ‏وقد‏ ‏أحالته‏ ‏إلى ‏حفنة‏ ‏من‏ ‏تراب‏ ‏ناعم‏.‏

‏(‏أقبل‏ ‏الشرطي ‏ليتقاضى ‏منه‏ ‏غرامة‏ ‏وضع‏ ‏العوائق‏ ‏أمام‏ ‏موكب‏ ‏رسمي أثناء‏ ‏سيره‏ ‏وإتلاف‏ ‏منافع‏ ‏عامة ‏.. ‏تجاهل‏ ‏يده‏ ‏الممدودة‏ ‏بالإيصال ‏.. ‏نفخ‏ ‏الشرطي ‏في ‏صفارته‏ ‏ليستدعي ‏زملاءه ‏.. ‏صنع‏ ‏صوت‏ ‏الصفير‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الاختلال‏ ‏في ‏الموكب .. ‏انتهزها‏ ‏فرصة‏ ‏فضم‏ ‏أصابعه‏ ‏الخمسة‏ ‏وصنع‏ ‏منهم‏ ‏قبضة‏، ‏ثم‏ ‏سدد‏ ‏اللكمة‏ ‏إلى ‏بؤرة‏ ‏الشعاع‏ ‏الأحمر‏ ‏وقد‏ ‏وضع‏ ‏فيها‏ ‏كل‏ ‏طاقته ..

أحاطت‏ ‏به‏ ‏فورا‏ ‏عشرات‏ ‏الأذرع‏ ‏الحاملة‏ ‏إيصالات‏ .. ‏ثم‏ ‏صنعت‏ ‏من‏ ‏كثرتها‏ ‏سياجا .. ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏يُحكم‏ ‏السياج‏ ‏حوله‏ ‏تماما‏ ‏انفلت‏ ‏من‏ ‏ثغرة‏ ‏به‏ ‏قافزا‏ ‏إلى ‏نهر‏ ‏الشارع‏ ‏مادا‏ ‏ذراعيه‏ ‏أماما‏ ‏تجاه‏ ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏غير‏ ‏ملتفت‏ ‏للحركة‏ ‏المكتسحة‏ ‏للكيان‏ ‏الضخم‏ ‏ذي‏ ‏المقدمة‏ ‏الحادة‏ ‏الساحقة‏).‏

مصطفى الأسمر

مجلة الإنسان والتطور – عدد إبريل 1987

قراءتان، من إعداد أيمن السمر

قراءة في قصة “بزوغ” 

نشرت منذ أسابيع قليلة قصة “تواصل” لوالدي الراحل مصطفى الأسمر، وأرفقت معها قراءة نقدية موجزة حاولت أن أكتشف فيها ـ ويكتشف القراء ـ معي السمات الأساسية لأسلوب مصطفى الأسمر ورؤيته الفكرية، والحق أنني لم أتعمق كثيرا في تحليلي للقصة المذكورة واكتفيت بذكر بعض السمات التي توضح أسلوب مصطفى الأسمر الذي تمسك به طوال عمره وبكافة مراحل تطوره.

واليوم أنشر قصته “بزوغ”، مجلة الفيصل – عدد 193 – يناير 1993 محاولا أن أتعمق بصورة أكبر في قراءتي النقدية لتلك القصة، وتسليط المزيد من الضوء على سمات أعمال مصطفى الأسمر السردية.

القصة كعادته تتناول تيمته المفضلة التي اشتغل عليها كثيرا ألا وهي صراع الإنسان الفرد البسيط من أجل الحرية ومواجهة السلطة أيا كانت، فبطل القصة يواجه أشكالا متعددة من أشكال السلطة القاهرة المتحكمة القادرة على إنزال العقاب بصور متعددة، فضابط النظام بالمدرسة، والمدير بالمؤسسة الحكومية، ورأس السلطة العليا ـ ملكا أو أميرا أو رئيسا ـ يمثل كلهم تجسيدا رمزيا للسلطة التي يواجها الإنسان الفرد البسيط في سعيه نحو الحرية، وتأكيده على ضرورة الاختلاف والتمايز، وحضه على المقاومة ـ حتى وإن كانت سلبية ـ لكافة أشكال القهر والتنميط.

من التقنيات المحببة لمصطفى الأسمر التي لجأ إليها في هذه القصة وفي قصة “تواصل”، وفي الكثير من أعماله السردية أن يحتوي المتن على حكايتين متجاورتين متوازيتين توضحان نفس الفكرة، فالحكاية الأولى (المرقمة) تسرد لنا أحوال بطل القصة مع الأشكال المتعددة من السلطة والتي أشرت إليها سابقا، أما الثانية (المقوسة) فهي حكاية رمزية تسرد لنا ما دار بين الشجرة العملاقة وهي ترمز هنا للسلطة القاهرة، والنبتة الصغيرة الناشئة ذات الورود الناعمة التي تحاول النمو والوصول إلى الشمس وهي ترمز للإنسان الفرد البسيط الذي يواجه تلك السلطة، إنها تقنية ساحرة استخدمها مصطفى الأسمر في أعمال كثيرة، وعمل كثيرا على تطويرها على مدار سنوات متتابعة من مشواره الإبداعي.

من التقنيات التي استخدمها مصطفى الأسمر في هذه القصة وعمل على تطويرها بصورة أكبر في أعماله السردية اللاحقة عودته إلى مرحلة الطفولة والاستفادة من بعض أحداثها وذكرياتها لربط الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل، ويتضح ذلك في المرقومة الأولى في حكاية الطفل مع ضابط النظام بالمدرسة.

كما أن المرقومة الرابعة وعند لحظة اللقاء برأس السلطة العليا تذكرنا إلى حد ما بقصته “الصعود إلى القصر”، وهي تقنية أخرى لجأ إليها مصطفى الأسمر كثيرا وطورها في أعماله الأخيرة ألا وهي العودة إلى أعماله السابقة والبناء عليها أو تضمينها في أعماله اللاحقة بشكل واضح.

ولا يخلو هذا العمل كسابقه من سمات مصطفى الأسمر في الكتابة وقد أشرت إلى أهم تلك السمات عند قراءتي لقصته “تواصل”، وسأحاول كلما سنحت لي الفرصة عرض المزيد من  أعماله السردية وبصورة خاصة في مجال القصة.

 

قراءة في قصة “تواصل” 

 

في قصته “تواصل” المنشورة بمجلة الإنسان والتطور – عدد إبريل 1987، يتكشف لنا بوضوح تام السمات الأساسية لأسلوب مصطفى الأسمر ورؤيته الفكرية، وتجيب قصته بطريقتها الخاصة عن سؤال هام هو: لماذا يكتب الكاتب؟

سنجد على الفور سيلا من الإجابات المحتملة عن هذه السؤال، فقد يبسط البعض الأمر كثيرا لكنهم يزيدونه تعقيدا بقولهم أن الكتابة بالنسبة للكاتب هي الحياة، وقد يقول البعض أن الكتابة هي تعبير عن الذات، وسيقول غيرهم الغرض من الكتابة هو التأثير في الآخرين، وسيقول آخرون الكتابة بالنسبة لأي كاتب جاد هي رؤية نقدية ـ وربما فلسفية ـ لنفسه وللحياة وللمجتمع بل للكون بأسره، وفي رأي البعض الغرض من الكتابة هو التواصل مع الآخرين وتحفيزهم على إعمال العقل والبحث عن خفايا الأشياء وعدم الاكتفاء بظواهرها .. الخ

وبغض النظر عن الإجابات الكثيرة المحتملة التي قد نتوقعها أو لا نتوقعها، فمصطفى الأسمر يحاول أن يقدم لنا من خلال قصته “تواصل” ـ وغيرها من قصصه ورواياته ـ إجابته الخاصة على هذا السؤال، والواقع إن هذه الإجابة قد تتغير بتغير الكاتب نفسه، فالكاتب ينمو مثل الشجرة، كما أنه يتطور ويمر بمراحل مختلفة مع التقدم في العمر واكتساب المزيد من الخبرات التراكمية، إلا أن البذرة التي تنمو منها تلك الشجرة تحمل بداخلها جينات لا تتغير مهما طال الزمن، ومهما تراكمت الخبرة.

وهذا ما نجده في قصص مصطفي الأسمر ومنها قصته “تواصل”، فالبذرة التي نبتت منها شجرة الأسمر الإبداعية تعنى بالإنسان وصراعه الدائم من أجل الحرية والتواصل النقي مع الآخرين، وفكرة الحرية هنا ليست فكرة مطلقة وحسب، لكنها حرية مرتبطة بالعقل وبالمسئولية، وبالرغبة الملحة في مواجهة أشكال التنميط المختلفة، وهذه النظرة للحرية تؤدي بالضرورة للاصطدام بالسلطة .. أية سلطة، تلك السلطة التي تعمل بشتى الطرق على أن يفكر الناس بمنطق واحد، ويتصرفون بأسلوب واحد، فالأسمر يريد أن يختلف البشر ويتمايزوا، لكنه يريدهم أيضا أن يتواصلوا على خلفية هذا الاختلاف والتمايز، فالتواصل والتفاعل بين أحرار مختلفين متمايزين، أجدى وأهم نفعا من الارتباط الجبري بين قطيع من العبيد فاقدي الإرادة.

فالإنسان هنا في قصته “تواصل” هو إي إنسان في إي زمكان، الإنسان الباحث عن الحرية وعن المسئولية الناتجة عن تلك الحرية، والباحث عن أيضا عن التواصل مع الآخرين بل الاتحاد معه إذا أمكن ذلك، تحديا لأية سلطة تسعى جاهدة لتنميط البشر وإيقاف عقولهم عن التفكير والتساؤل، فهو إنسان تحاصره محاولات التنميط والقولبة بوسائلها المتعددة، والشرطي في هذه القصة ليس إلا رمزا، رمز لتلك السلطة التي تحارب الاختلاف والتميز، تحارب التفكير والتساؤل، تحارب الأنماط غير التقليدية من السلوك.

القصة تذخر بالكثير من السمات التي توضح أسلوب مصطفى الأسمر الذي تمسك به طوال عمره وبكافة مراحل تطوره، ويمكن أن نوجزها في الآتي

  • السخرية المريرة
  • الاستفادة من التراث الشعبي
  • المفردات اللغوية البسيطة ولكنها الدالة
  • سعة الخيال واللجوء إلى الفانتازيا
  • اللجوء إلى الرمز أحيانا وإلى التجريد أحيانا أخرى

وبعد، ليست هذه إلا قراءة بسيطة لقصة “تواصل” لمصطفى الأسمر، أهدف منها إلى تسليط الضوء على سمات الكاتب وشخصيته في الكتابة، آملا أن يحذو حذوي غيري من الكتاب والنقاد، فأعمال مصطفى الأسمر المتعددة تستحق دراسات جادة تعطي هذا الكاتب بعضا من حقه وتثري بها المكتبة النقدية العربية.

أيمن مصطفى الأسمر

مايو 2019

سيرة ذاتية

الاسم مصطفى أحمد محمد الأسمر

تاريخ ومحل الميلاد 25/06/1935 دمياط ـ مصر

تاريخ ومحل الوفاة 11/10/2012  دمياط ـ مصر

سيرة إبداعية مختصرة:

كتب مصطفى الأسمر فى مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرحية والدراسة الأدبية، نُشرت أعماله بالعديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية مثل الأدب ـ الآداب ـ الهدف ـ آخر ساعة ـ الأهرام ـ الجمهورية ـ أخبار الأدب ـ المساء ـ الشراع ـ الثقافة الجديدة ـ إبداع … الخ.

كما نُشرت بعضها إلكترونيا بمواقع متنوعة على شبكة الإنترنت.

أحد مؤسسي جماعة ثم جمعية الرواد الأدبية بدمياط.

عضو اتحاد كتاب مصر

عضو نادي القصة

عضو رابطة الأدب الحديث

عضو جمعية الأدباء

جوائز ومشاركات:

شهادة تقدير – مسابقة إحسان عبد القدوس عن قصة “اختيار” عام 1990

شهادة تقدير – مسابقة إحسان عبد القدوس عن رواية “جديد الجديد في حكاية زيد عبيد” عام 1990

شهادة تقدير – هيئة قصور الثقافة – مجال المسرحية الطويلة عام 1991

المركز الأول مسابقة محمود تيمور (مجموعة انفلات) عام 91/1992

شهادات تقدير متنوعة عن مشاركاته كمحكم في مسابقات للقصة القصيرة

المركز الأول مسابقة محمود تيمور (مجموعة غوص مدينة) عام 1995

المركز الثاني مجلة الشراع (قصة الأشياء المريبة) عام 1985

المركز الثالث هيئة الإذاعة البريطانية (قصة روتينيات) عام 1969

المركز الثامن نادي القصة (قصة فى اللحظات الحالكة) عام 1965

درع التفوق (مؤتمر أدباء مصر عام 1990 ـ أسوان) مجال القصة

3 حلقات برنامج (كتابات جديدة) / 8 حلقات برنامج (مع النقاد) البرنامج الثقافي

عالم مصطفى الأسمر القصصي حلقة من (الأمسية الثقافية) يونيو 1997 القناة الثانية ـ التليفزيون المصري ـ إعداد وتقديم الشاعر والإعلامي الكبير فاروق شوشة وبحضور الدكتور حمدي حسين ناقدا ومحللا

شهادة بمؤتمر القاهرة الدولي الأول للإبداع الروائي عام 1998 / المجلس الأعلى للثقافة

ندوة بالمجلس الأعلى للثقافة لمناقشة الجزء الأول من رواية “المشوار العظيم” سبتمبر 2010

إصدارات:

القصة

  1. كتاب القصة (28 قصة) – كتاب مشترك مع آخرين صادر عن جمعية الأدباء – 1971

  2. المألوف والمحاولة، إصدارات الرواد، فبراير 1984

  3. لقاء السلطان، رابطة الأدب الحديث، أغسطس 1984

  4. الصعود إلى القصر، هيئة الكتاب، ديسمبر 1987

  5. انفلات، هيئة قصور الثقافة، فبراير 1991 (جائزة محمود تيمور المجلس الأعلى للثقافة)

  6. غوص مدينة، هيئة الكتاب، نوفمبر 1995 (جائزة محمود تيمور المجلس الأعلى للثقافة)

  7. الحظ، إقليم شرق الدلتا الثقافي، مايو 1996

  8. ابتسموا للحكومة، بمساهمة اتحاد الكتاب، يونيو 1996

  9. حيوانات، هيئة الكتاب، يونيو 2000

  10. هذه الأقوال .. لكم، المجلس الأعلى للثقافة، ديسمبر 2001

  11. هنا ، نادي القصة، الكتاب الفضي، 2007

  12. رحلة “س” هيئة الكتاب، 2008

الرواية

  1. جديد الجديد في حكاية زيد وعبيد، هيئة الكتاب، 1993

  2. الغالب والمغلوب، هيئة قصور الثقافة، فبراير 1998

  3. جديد الجديد في حكاية زيد وعبيد، (طبعة ثانية) مكتبة الأسرة، 2004

  4. المشوار العظيم (الجزء الأول)، المجلس الأعلى للثقافة، سلسلة إبداعات التفرغ، 2009

  5. الرعية تبتسم .. والحكومة تشاطرها الأحزان، هيئة الكتاب، 2010

  6. متتابعة الموت والحياة، هيئة قصور الثقافة، 2011

  7. المشوار العظيم (الجزء الثاني) ، المجلس الأعلى للثقافة ، سلسلة إبداعات التفرغ ، 2017

  8. المشوار العظيم (الجزء الثالث) ، المجلس الأعلى للثقافة ، سلسلة إبداعات التفرغ ، 2017

  9. المشوار العظيم (الجزء الرابع) ، المجلس الأعلى للثقافة ، سلسلة إبداعات التفرغ ، 2017

المسرح

  1. لقاء السلطان، الهيئة العامة لقصور الثقافة، يونيو 2003

  2. إظلام في الظهيرة (مسرحية بالعامية المصرية)، انفلات (مسرحية بالفصحى)، اتحاد الكتاب، 2003

الدراسات

  1. الشاعر محمد الأسمر، سلسلة أعلام دمياط، يونيو 1982

  2. دمياط الشاعرة، مديرية ثقافة دمياط، 1987 مع آخرين

  3. رحلة شاعر، هيئة قصور الثقافة، مارس 1997

أعمال قيد النشر/بالمطابع/معدة للنشر

الرحيل والأحلام/ وجوه إنسانية/ حروف وأرقام/ الموظفون/ المأوى/ طقوس الموت (مجموعات قصصية)

انصهار (مسرحية)

انفلات / البحث عن ملامح (تمثيلية إذاعية)

رحلة شاعر (مسلسل إذاعي)

الرواية

رعية وحكومة .. وحكايات

الزلزال وتوابعه

هذا ما حدث

أحلام شيطانية

هروب معالم وجه

أضف تعليق