سقطات الأمهات .. ضريبة باهظة تلاحق البنات.. دراسة عن “بئر الحرمان “

مقارنة بين رؤية إحسان عبد القدوس .. ورواية زمن النساء ل. يلينا تشيجوفا

عبير سليمان

إن كان الخالق يغفر لنا نزواتنا الأولى .. فالمقربون والمجتمع كله لن يغفروا ولن ينسوا .. ستظل وصمة النزوة الأولى تلاحق صاحبتها ولو بعد عشرات السنوات، سيظل المحيطون بها يرونها الإنسانة المغفلة التي استسلمت لعشيق نذل ، ضعفت أمامه وملكته أمر نفسها فألقى بذرته  بداخلها واختفى ، والكارثة أن الوصمة تنتقل إلى الطفل الذي يأتي للحياة بريئا ، ثم يكبر ليجد نفسه المرآة التي ترى فيها الخاطئة جريمتها حية أمامها فتسقط عليها كل شعورها بالعار وكراهية النفس .

ترى كيف ينشأ طفل كهذا خاصة لو كانت أنثى ، وما هو سلوكها الذي يجب أن نتوقعه في مرحلة المراهقة وحتى النضج وربما الكهولة أيضا .

أمامنا نموذج هنا وهو بطلة فيلم “بئر الحرمان ” ، سنلاحظ مبدئيا وجود عدة اختلافات بين القصة والفيلم ، الذي قدم  من خلاله كل من نجيب ومحفوظ ويوسف فرنسيس معالجة سينمائية جاءت أكثر منطقية مما يسهل على المشاهد تقبلها رغم جرأتها وتعقيداتها ، وأضيفت تفاصيلجعلت من القصة المكتوبة أكثر ثراء ،منها ما يخص علاقة البطلة بخطيبها ، فقد صنعا سوياً نسيجا متماسكا ، حتى أن الجرأة في بعض المشاهد كانت أقل من جرأتها في القصة.أهم الاختلافات أن ناهد التي قدمها إحسان لقارئه على أنها امرأة متزوجة ، كانت في الفيلم فتاة عذراء حديثة التخرج، تستعد للزواج من خطيبها رؤوف “نور الشريف” وكلاهما يحب الآخر ويتلهف للاقتران به. لكن ناهد تشعر بأعراض مرضية غريبة ، وصداع مزمن يهاجمها فتشعر بانها دخلت في غيبوبة أو تفقد الإحساس بالزمن ليلة بكاملها لتستيقظ وهي في حالة إجهاد ، تصفها للطبيب قائلة ” أشعر كأني قطعت مسافة طويلة ركضا !

يقع الطبيب المعالج في حيرة بالغة ، عندما يلاحظ آثار ألوان وخدوش على جسدها ، كما أنها تفقد تمثالا أهداه إليها خطيبها ولا تعلم كيف وأين ضاع ؟

تتعاظم حيرة ناهد عندما يحاول السائق “سليمان” أخذها إلى مكان بعيد في طريق زراعي ، ليتهجم عليها ويحاول أن يغرر بها ، فتصرخ فيه وتتركه وتركض وتلجأ للطبيب تروي له ما حدث ، والطبيب يندهش وتتعقد أمامه المسألة وتتكاثر أمامه علامات الاستفهام .

ناهد وخطيبها رؤوف في بئر الحرمان

من أهم نقاط الاختلاف أيضا بين أحداث القصة والفيلم ، أن كاتب السيناريو اختار للشخصية الأخرى التي تتقمصها ناهد اسم “ميرفت” ، وهو مالم يرد في القصة، وحجبت عن المشاهد بعض تفاصيل العلاقات التي أقامتها ميرفت مع عشاقها السريين ، وربما فضلت المعالجة السينمائية أن تظل ناهد عذراء، ليظل أمامها بابا للأمل وحتى لا تصل لليأس التام من أن تحيا في يوم ما حياة سويةمختلفة عن حياة الأم الجافة عاطفيا .

هنا يبدأ الكاتب بذكائه يقدم للمشاهد رويدا رويدا أحد مفاتيح حل اللغز ، فميرفت هم إسم الأم وهي منبع الأزمة والمفتاحالذي يساعد الطبيب على فهم الحالة المرضية الغريبة للإبنة ناهد.تبدأ الأمور تنكشف أمام الطبيب بزيارة ناهد له متقمصة شخصية فتاة الليل بثوبها الاحمر اللامع وباروكتها ذات اللون الصارخ ، تحاول إغواء الطبيب بأسلوب خال من الحياء ، لا تسلكه إلا فتاة ليل محترفة، فيضطر أن ينهال عليها ضربا ، تصاب المريضة بصدمة تؤدي إلى تبدد غيمة الشخصية الفاجرة “ميرفت ” وعودة ناهد ببراءتها ، لتتفحص نفسها باستنكار وذهول ، فتشعر بالخجل الشديد وتنهمر الدموع من عينيها غير مصدقة ما وصلت إليه ، مما يؤكد أنها مصابة بحالة فصام .

لا بد أن نتوقف عند تفصيلة مدهشة ، فبعد أن هدأت بفعل المهديء ، قصت على الطبيب الحلم الذي تكرر في منامها وهي طفلة ، حول البئر الذي يسقِط الأب زوجته فيه وهي تصرخ وتستغيث ولكنه يقودها بقوة ويقذفها في عمقه بمنتهى القسوة.

في مشهد حي وصادق أدته ببراعة الرائعة سعاد حسني ،لن تملك إلا أن تتفاعل معها وتتعاطف مع الفتاة المسكينة المريضة غير المدركة لمرضها وأسبابه ، وعن نفسي رأيت كأنها تستدعي كل مشاعر الحزن الدفين المخزونة داخلها وتخرجها عندما تتطلب الشخصية ذلك ، كما يُلاحظ أيضا أن أداءها هنااتسم بنضج غير عادي ، فقد برعت في تشخيص كلتا الشخصيتين باحترافية عالية مستغلة موهبتها الفريدة في تجسيد ناهد ببراءتها وحيائها ورقتها الطبيعية العفوية ، وميرفت بهيئتها الصارخة ونظرتها الجريئة الوقحة ، وأسلوب حديثها ونبرة صوتها التي تتميز بها فتيات الليل ، وكراهيتها لناهد وتعمدها لأن تطلق عليها صفات كريهة وبغيضة مثل أنها فتاة سمجة ثقيلة الظل ، لا يجب أن تحظى بالمحبة أو الاهتمام من أي رجل!ولا ننكر فضل مخرج رائع مثل كمال الشيخ والفريق المصاحب له من إضاءة وديكور ، الإضاءة دائما تلعب دورا كبيرا في تجسيد الصراع النفسي داخل أبطال أفلامه ، وهنا نرى في عدة مشاهد استخدام إضاءة ملونة ، مثل المرسم ومثل غرفة ناهد والجراج ،كما أن الإضاءة مع ملامح وجه سعاد حسني  ونظرة عينيها للأسفل رسمت صورة صادقة لإنسانة تفعل شيئا عكس قناعتها ولا ترغبه ، إنما تفعله فقط من باب التعويض النفسي عن الحرمان .

تنقشع الغيمة الأخيرة عندما يظهر في نهاية الفيلم سبب المرض ، ويُحل اللغز بما يوافق خيال المشاهد ، حيث لم يجعل من ناهد هنا ابنة غير شرعية للأب ، بل هي ابنته ولكن الزوج يكتشف بالصدفة أن زوجته على علاقة بحبيبها القديم وتقابله في غيابه أثناء سفره لتأدية عمله ، وتذهب للقائه بفستان أحمر وهي في كامل زينتها ، والطفلة ببراءة تجيب والدها عند سؤاله عن الأم قبل عودتها ، بأنها مع أنكل محمود.

فتحاصر ناهد عقدة الذنب ، وتشعرأنها المسؤولة عن التعاسة التي لحقت بأمها ، مما جعلها دائما حزينة تجلس وحدها لا تتوقف عن البكاء، رغم وجود الزوج الذي يعيش معها تحت سقف واحد لكنه ينفر منها ، ويفضل النوم في غرفة منفصلة ،والمؤكد أن الطفلة التي تفوهت بما تراه ببراءة وعفوية لا ذنب لها ،وهي بالطبع لم تدرك أن براءتها قد تجلب للأم الإحباط العاطفي والشعور بالدونية والنبذ بقية حياتها ، ومن حظ ناهد السيء أن ضربات القدر القاسية تتساقط فوق رأسها، مكتملة بالحادث الذي تسبب في موت حبيبها الأول وكان من المفترض أن يتقدم لخطبتها فور تخرجهما ، مما أدى إلى تضخمالعقدة داخل منطقة اللاوعيمضافٌ لها عقدة الحرمان التي تعاني منها الأم.

من هنا نصل إلى حقيقة أن ناهد وجدت نفسها تدفع ثمن سقطة الأم التي استجابت لضعفها ، وانساقت وراء عاطفة قادتها إلى هوة الحرمان ، التي أجمع كل من الثلاث كتاب على أن الزوج والحبيب كلاهما أفرط في قسوته ، وللأسف إن كان رب الخلق يعفو ويغفر ، فإن البشر يتمادون في قسوتهم ، وشعرت أثناء مشاهدتي للفيلم أن الكاتب غاضب من الزوج الذي أفرط في عقابها وكان يمكن إما أن يطلقها أو يعاقبها لفترة ثم يعود لعلاقته به ، حفاظا على الصحة النفسيةللإبنة. وهنا يضع إحسان عبد القدوس أمامنا حقيقة مؤكدة أن من أهم عناصر بناء شخصية الطفل بناء سليما دون عقد نفسية هو تحقيق الإشباع العاطفي لدى الأبوين ، وفي الفيلم وضع الكاتبان نهاية مريحة ، حيث استجاب الأب لنصيحة الطبيب فتنازل عن تعنته تجاه زوجته وغفرلها أخيراً .

زمن النساء يلينا تشيجوفا .. أدب روسي

الرواية الروسية زمن النساء

هنا نرى معالجة مختلفة حول موضوع سقطات الأمهات ، تدور أحداث الرواية في مدينة بطرسبرج العاصمة الروسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . جسدت الكاتبة في روايتها عدة نماذج للمرأة الروسية . فبطلة الرواية أنطونينا – الفتاة التي تعاني من عدم القدرة على التكيف مع حياة المدن وهي التي نشأت في إحدى القرى في الريف – ضعفت أمام محاولة أحد الرجال التغرير بها ، فاستجابت له لسذاجتها وعدم خبرتها  ، وكانت ضريبة ضعفها فادحة ، واكتشفت بعد عدة شهور أنها حامل ، وتغافلت عن مصيبتها بجهل وعدم إدراك ، حتى أنجبت طفلة عاشت سنوات لا تقوى على النطق .

تبدأ الرواية بالفتاة التي تحكي قصتها ، وتنتهي بها أيضا ، وبين البداية والنهاية ، تأتي الحكايات الأساسية بعدة أصوات ، تسردها الأم والسيدات العجائز الثلاثة “يفدوكيا ، أريادنا ، جليكيريا”.

تقول الأم وهي تصف طفلتها الصغيرة :” ابنتي ذكية بارعة في الرسم ، تفهم كل شيء لكنها لا تتحدث مر عامها الخامس والسادس وهي صامتة تماما لا تتحدث ، أنا السبب فقد صمت ولم أتكلم حتى كبرت بطني وظهر حملي ” .

وتروي لنا تشيجوفا موقفا لبطلتها أنطونينا عندما أسقطت كل غضبها من الرجال الذين خذلوها على طفلتها التي لم تتعد الخمس سنوات ، بالتالي لا تعي شيئاً عن اليأس والإحباط اللذان لحقا بالأم ، تصف المشهد بقولها :” هرعت إلى البيت ، فتحت الباب وإذا بصغيرتي سوزانوتشكا تستقبلني وعلى وجهها ابتسامة مشرقة وهي تمسك بلعبتها يولا ، عند مشاهدتي للعبة في يدها ارتجف جسمي كله وصرخت فيها :” لا أريدك أن تلعبي بهذه اللعبة اللعينة ” وانتزعتها من يدها ، فوقفت والدموع تملأ عينيها ” .

لكن الكاتبة هنا جعلت الطفلة الصغيرة أكثر حظاً من بطلة بئر الحرمان ، فربما لو استمرت أم بهذه النفسية المدمرة على قيد الحياة ، لما أنشئت الابنة نشأة صالحة ، وربما كانت ستظل هي الأخرى تعاني من فقد النطق ، أو ربما كبرت لتجد نفسها – نتيجة للتربية الغير سوية – فتاة عابثة مستهترة وفاشلة أيضا ، إذ أن مفتاح بناء طفل معافى نفسيا ذي شخصية قوية سوية وقادر على تحصيل العلم والمعرفة وبناء مستقبله هو التربية النفسية السليمة الخالية من المنغصات والعقد والنفسية ومركبات النقص .

لذا فإن هنا في “زمن النساء ” نجد العجائز ينجحن في القيام بمهمة تربية الطفلة الصغيرة ، بعدما أصيبت الأم بمرض خطير ” ورم في الرحم ” ، فانهارت  صحتها سريعا ثم فارقت الحياة ، وربما هنا موت الأم بكل أحزانها وإحباطاتها يكون من حسن حظ الفتاة التي تكبر وتشب فنانة موهوبة تتقن الرسم  وتصبح مشهورة .

تستحضر صوفيا حديث الجدات الذي طالما ألهمها وكان لها منقذا من السقوط في بئر الحرمان واليأس الذي سقطت فيه أمها من قبل ، فتتذكر تلك الجملة “لا تصدقي كل ما يقال أمامك ، فالناس مختلفون فيما بينهم .. وشكل الإنسان خادع لا يشي بما في داخله . بين الناس من هو ماكر مثل ذئب ومنهم من هو كالغراب .. ستكبرين وتتعلمين كل شيء وتعرفين كيف تميزين بين صنوف البشر “

من خلال حكايات أخرىتحكيها العجائز في الرواية ، ندرك أنهن أكثر خبرة من الأم الساذجة ، وأكثر قدرة على التعامل مع أزماتهن ومشاكلهن ، لذا أحطن الطفلة بالرعاية وأغدقن عليها من حنانهن وعطفهن،  وقدمن لها خلاصة تجاربهن ، فنشأت قوية الشخصية ، تحررت مبكرا من بكمها ، وهنا أيضا لابد من الإشارة إلى نقطة هامة ، وهي أنه من الواضح أن الأمهات التعيسات تنتقل تعاستهن لاشعورياً إلى الطفل ، فينشأ معتل الصحة إما بدنيا أو نفسيا .

تدق لنا تشيجوفا أيضا جرس الإنذار بجملة قالتها أنطونينا لنفسها وهي حزينة لما وصلت إليه من انهيار صحتها فتقول : ” كم غريب أمر الحياة ، عشت أحافظ على نفسي وصحتي وإذ بي أُصاب بمرض كهذا .. فيما النساء حولي يعشن حياة مستهترة ويعبثن مع الرجال ولا شيء يصيبهن ” ، فربما أرادت الروائية التأكيد هنا على فكرة أهمية حفاظ المرأة على شرفها وكرامتها ، حتى تضمن لنفسها حياة شريفة وكريمة ، وأحداث الرواية واردة الحدوث ليس فقط في زمنها ولكنها واردة أن تتكرر في زمننا هذا ، ما يختلف فقط هو وسائل التعبير عن المشاعر ووسائل التغلب على السقطات والعثرات .

إذا أردنا ربط كل ما ورد في قصة “بئر الحرمان ” و” زمن النساء”  بواقعنا الحالي ، سنرى أن هناك عدة أمثلة على حقيقة انتقال المشاعر السلبية والأفكار والتصورات الخاطئة من الأم التي تعاني من جفاف وإحباط عاطفي إلى ابنتها ، ويتحكم لاوعيها في سلوكها نحوها بشكل واضح ، فأحيانا توهمها مثلاً بأنها قبيحة بينما هي في الحقيقة جميلة ؟و غير مرغوبة وفاشلة عاطفيا ومهنيا ؟ بينما هي ليست كذلك ، كما أن هناك الأم التي تغار من حب خطيب ابنتها لها فتزرع في نفسه الشكوك تجاهها وتحاول التفريق بينهما ، أو الأم التي تصحب ابنتها التي تبلغ ستة عشر عاما لتجري لها عملية ختان بحجة الخوف على شرفها ؟ والتي تجبر ابنتها على القبول بزوج لا يليق بها ولا يتوافق معها نفسيا ولا اجتماعيا ،فإن رفضت تهينها وتعايرها بعنوستها ، لتفرغ عليها كل مخزون القسوة الذي تراكم داخلها طوال سنوات ، إما بسبب قسوة الأب أو الأم  في الماضي أو بسبب أنها وقعت في حب رجل آخر غير زوجها ، فخذلها وأهانها بهجرها فجأة بعدما مل منها ، مفضلا عليها فريسة أخرى تلبي له رغباته .

فكرة واحدة بشأن "سقطات الأمهات .. ضريبة باهظة تلاحق البنات.. دراسة عن “بئر الحرمان “"

أضف تعليق