ملل. قصة: إبراهيم صالح

يَطلُ عليه من كل حدب وصوب، يجري مهرولًا ومحاولًا الهرب منه بشتى الطرق، يستخدم لتحقيق ذلك جسده النحيل، كما يستجمع ما تبقى من شتات نفسه لمواصلة الأمر. تستوقفه بقوة إحدى الناطحات العملاقة محبطة محاولته لفك الحصار. تُظهر يدها  خلسة من دواخلها بعدما تحركت من مكانها في سرعة. تنظر إليه بدونية تقول له في إنتهار وتحد:

  • لا مجال هنا للهرب أو الإنسحاب فأنت هنا بالأمر ألا تعلم هذا؟ أم نسيت؟ أم لا زلت تستنكر؟!

تنتابها ضحكات هستيرية متقطعة، وفي أثناء ذلك تظهر نتوءات غريبة من بطنها وبين فخديها مع الكثير من القيح، وأمام هذا كله يقف هو مذعورًا كفأر يائس لا يجد مفرا من أمام وجه مفترسه سوى إعلان الإستسلام له على أمل الحصول على جزاء من الرحمة، وبينما تراه بهذه الحالة المستكينة تبتسم في خبث، تتلوى بشكل كبير وتقترب من أذنه وتهمس قائلة:

  • يبدو أنك بدأت تفهم، لذا لا تحاول الهرب كما أخبرتك فالإستسلام هو الحل الأفضل لك.

تضحك كعادتها، ثم تقف منتصبة من جديد وتعود إلى حالتها الأولى كناطحة سحاب تسرق المكان بإرتفاعها وضخامتها.

يهدأ خوفه نسبيًا بعدما شاهدها وهي تعود لحالتها الساكنة الأولى. يتقدم للأمام وإن كان لا يزال ينظر إليها بنصف إلتفاتة من وجهه. يمضي سيرا على رصيف الطريق الذي بدا مكتظا على آخره بالمارة في تلك الساعة المتأخرة من الليل. يصطدم بأحدهم ويسقط من جراء ذلك بقوة ، ينهض وهو مستغربًا ما حدث لكنه على الرغم من ذلك  يواصل سيره بحرص أكثر. وفي خضم هذا يدور مع نفسه حوار مونولوجي داخلي، يخبرها بيأس وحزن:

  • يبدو أنني كائنا صغيرا بلا وزن، ويراودني شعور الإحساس بالنهاية، يلح علي بقوة.  

تجاوبه بعد دوامة صمت زادت من شعوره السلبي:

  • نعم الواقع من حولنا يؤكد ذلك، فماذا ستفعل حياله؟

يجاوبها بغضب إنفعالي:

  • أطلب منك المشورة فتطلبين مني الحل، يبدو أنك ستظلين هكذا وللأبد خاوية بلا حلول.

 يعود مجددًا إلى وعيه؛ لكنه يقول في تأمل:

  •  كما يبدو انني قد أخطأت عندما قررت الهروب  منذ البداية، لأنه كان يجدر بي أن أهرب ممن شكوتها لتوي.

يتوقف قليلا، يستعيد معه القليل من صفاءه وقوته.

ولكن وبقوة فجائية تمر من أمام عينيه الكثير من اللافتات الإعلانية المثيرة تعبر بسرعة كخواطر فكرية متسارعة، إلا أن واحدة تخرج عن هذا التتابع البصري والفكري، لتسقط بقوة وجهها ورقبتها الطويلة كرقبة زرافة نحوه تمد ذراعها لتحتوي خصره تسأله بصوت نشاز بدا صعبا على حواسه تقبلها:

  • من أنت يا هذا لتعبر من أمامنا هكذا دون أن تقف وتنتبه لنا

يحاول مجاوبتها فلا يجد مخرجا لكلماته؛ سوى حشرجة مكتومة تصدر من حلقه.

تتركه من يدها ليقع بقوة على الأرض يشعر بقوة الصدمة في جسده يتأوه قليلا وهو ينظر بوهن ناحيتها بينما تشير هي إليه بسبابتها، وتقول:

  • هيا أخبرني بسرعة فلا وقت عندي للمجادلات السخيفة، من أنت؟

أجابها بعد أن فاق من الصدمة وقام على ساقيه معتدلًا:

  • أنا إنسان 

تجيبه بتهكم دون أن تفارقها مشاعر غضبها:

  • وهل قال أحد غيرك ذلك

أنا أسألك كيف تجرأ على العبور دون أن تهتم؟

أجابها بدهشة :

  •  وكيف لي أن أهتم؟

تجيبه:

  •  يبدو أنك لا تفهم قواعد كثيرة، ومن ثم تحتاج لتعليم توضيحي حتى تصبح قادرا على العيش في المملكة.

يسألها في لهفة:

  • وكيف أتعلم هذه القواعدة الملوكية؟

هنالك تعود إلى مكانتها بسرعة، وتستدعي أحدى اللافتات الإعلانية الصغيرة تشير لها بيدها، وتقول لها آمرة:

  • علمي هذا ما ينبغي أن يتعلمه إمنحيه أول دروسنا

توميء إليها بالموافقة وتتحرك بلا تأخر لتقترب منه.

ينظر إليها في خوف إلا انها سرعان ما أخذته من مشاعر إضطرابه عندما مدت يدها في هدوء نحوه لتأخذه إلى حيث تقف  

تضعه على إحدي قوائمها الإثتنين بعد ثنيها، وتنظر إليه قائلة:

  • لابد أن تفهم أن وجودك هنا يعني وجوب النظر إلينا بتمعن كل يوم، مع تدوين ذلك للتأكيد.

ينظر إليها متعجبا ويقول:

– ولماذا أفعل ذلك وجوبا خاصة وأنتن كثيرات كما أرى؟  

تجاوبه في حزم:

  • هذه شريعتنا وليس لك سوى الإمتثال، يجب عليك أن تمنح كل لافتة موجودة نظراتك بشكل يومي ولكن بحسب كبر حجمها وقوة إضاءتها.

ينظر نحوها بطمانينة ويقول:

  • أشعر فيك الرحمة

تجاوبه بقوة بعد أن تفلت من نظراته نحوها:

  • خدعتك نفسك ،لا وجود للرحمة هنا، ولكنك شعرت بذلك لأنني الصغرى

لم يجد بدا سوى أن يوميء برأسه، ويقول:

  • إذا لأفعل ما لم أفهم

تجيبه بعد أن تكون قد وضعته من جديد على الطريق:

  • أحسنت.

فعلت به هذا، وتركته لتنظر ناحية اللافتة الكبيرة لتقول لها بثقة:

  • لقد تعلم أول درس

أجابتها أحسنت أيتها الصغيرة، ومن ثم فلتحصلي على ترقية مناسبة يزداد بها حجمك نسبيا وتضيء على نحو أكبر مما أنت عليه، خاصة وانك تقدمت بهذا الطلب مرارا ولم تحصلي عليه، ولكن هاهي فرصتك، ولكن لتستعيدي مكانك الآن

تنحني لها وتقول:

  • سمعا وطاعة

تتركها لتنظر ناحيته قائلة:

  • وانت لتذهب ولا تنسى ما تعلمته، وإلا ..

 قالت له هذا، وهي تحرك سبابتها كعلامة تهديد ناحيته.

 يتركها ليجري من أمامها مسرعا وقد بدا أكثر فهما وإستيعابا من الأول ومع نهاية الطريق الذي بدا مسدودا بلا مفترق. يلقي بجسده على الأرض مستلقيًا إلى جوار صندوق قمامة تبعثرت نفاياته في إهمال خارجه، كان أكثرها زجاجات صودا، وأوارق لأغذية سريعة التجهيز، بالإضافة لأوقية ذكرية مُستخدمة.

 يعقد يديه خلف رأسه وأسند ظهره إلى الصندوق الحديدي، يمعن النظر في السماء التي كانت سوداء خالية من أية علامات.

 تُكلمه نفسه قائلة:

  • أشعر بالملل.. .

 يضحك ضحكات هستيرية، ويجاوبها دونما إهتمام:

  • لكنه على أيه حال ملل أفضل من ملل.

أضف تعليق