ساحة المحطّة تعجّ بالمسافرين. وأمام شبّاك التّذاكر طوابير طويلة : طلبة وطالبات وعمال وجنود يتدافعون بالمرافق ويتقاذفون بالسبّاب واللّعنات. وعلى سكّة الحديد قطار طويل راقد على بطنه كالزّواحف الأسطورية الخارجة من ذاكرة التّاريخ.
من أين أبدأ التَّحرّك فوق هذه الأرض المزروعة بالألغام وأنا هشّة كإبريق من البلّور (ماذا لو غيّرنا هذا الوصف ب: كبتلات زهرة برّيّة في أواخر فصل الرّبيع)، سيكون هذا الوصف أجمل وأكثر رومنطيقيّة، إذن سنعود للبداية:
ما عرفت النّوم ليلة البارحة (وهل كنتَ تنام حقّا في اللّيالي السّابقة؟)، فقد كان الحيّ الذي لعلع فيه الرّصاص قريبا جدّا من منزلكم حتّى أنكَ ظننتَ أنّ الطّلقات كانت تخرج من بين أبواب ونوافذ بيوت المنزل عندما اقتربتَ من المكان وأنت تدفع الجموع التي جاءت تستطلع الخبر، ولكنّك رغم ذلك خرجت باكرا تجري وراء قوت العيال.
ها هو جالس على كرسيّ عتيق من خشب الأرز أمام شاشة إلكترونيّة عملاقة عرضها كما بين السّماء والأرض، تلمع داخلها مليارات من فوانيس عجيبة. داخل كلّ فانوس صورة إنسان.
كان يكرّر بحركة روتينيّة الضّغط على زرّ بين يديه النّحيلتين، فينطفئ فانوس في جهة ما من على الشّاشة الإلكترونية العملاقة.
أعرف أنّني عشتُ معكِ عمرا آخر، عمرا قديما جدّا، منذ آلاف السّنين أو أكثر!
أعرف ذلك وأحاول تذكيركِ بما عشناه معا في ذلك الزّمن البعيد، فتنظرين في وجهي تلك النّظرة الآسرة التي ذبَحَتْني من الوريد إلى الوريد عندما التقيتكِ أول مرة، وتبتسمين.
أعرف أنكِ كنت تقولين إنّ هذا الرّجلَ لَمَجْنُونٌ،، وأنك لم تستوعبي بسهولة كلّ هذا الكمّ من الحبّ الذي كنت أُغدقه عليكِ في بدايات تعارفنا الجديد!
تملأ الأشياء الكون منازعة الإنسان وجوده، وكما إنها تفتح أمامه مجال الابتكار فإنها قد تمثل عائقا يصل حد التحدي، وإذا كان الحكي يتخذ من الإنسان مادته الحيوية فإنه لا ينتزع الإنسان من محيطه دونما اعتماده في بيئته التي تتشكل من كم هائل من الأشياء. تظل الأشياء على حيادها في الواقع حتى يأتي الفن ليجعلها في سياق قادر على إخراجها من حياديتها ، فهي تقيم حوارا صامتا بينها وبين الإنسان ، وفيما بينها وبين بعضها البعض ، فالأشياء تستمع للإنسان ولكنه لا يستمع لها ، هي تعبر عن كثير من طبائعه وأحواله ، فمنها ما هو قادر على الإشارة إلى حالة الإنسان الاقتصادية سواء نوعها أو كمها أو حضورها أو غيابها ( [1] ) ، ومنها ما هو قادر على الإشارة إلى حالته النفسية ( [2]) .