كما في مسرحية ليونسكو، وجد في بيته جثةً. وكان عليه أن يتخلص منها. ولكنه بخلاف شخصيات يونسكو كان يعرف مصدر الجثة، بل إنه كان يعرف أكثر مما يعرفه أيُّ شخص، فقد كان يعرف أنه القاتل.
كرجلٍ صالح، كان عليه أن يدفن الجثة سريعًا قبل أن يُفتضح أمرُه، أو، بتعبيرٍ أدق، كان عليه أن يخفيها.
حتى لا ننجرّ مع ألاعيب اللغة؛ فلنقل إن المشهد كان قد تشكَّل على هذا النحو: هو واقف في ذهول في حجرة مكتبه في المسافة ما بين المكتبة والمكتب محملقا أمامه في الجثة الممددة، والتي لم تبرد بعد ووجهها مدسوس في السجادة، وزوجته في مكانٍ ما من البيت تفعل شيئًا مما تفعله الزوجات في صباح خريفي كهذا الصباح، لعلها كانت تقلّم أظافرها جالسة على الأريكة، أو ربما كانت، كالعادة كل صباح، تسقي إصص الزرع في البلكونة. وجارته التي أغوته، بالقتل، ما زالت في فراشها تحلم برجل آخر، أو لعله كاتب آخر، لتغويه بالقتل.
كان كاتبًا على عتبة الشهرة ولمّا كان خياله قد تعطل منذ فترة فقد سمح لأفكار جارته أن تراوده “إن كان عليك أن تكتب قصة عن جثةٍ؛ فعليك أن تجد جثةً ما، حتى ولو صنعتها بنفسك”. كانت جارته، وكانت تحب أن تقرأ له كل ما يكتبه، وكل ما لا يكتبه. بدت فكرتها وجيهة فاستسلم لإغوائها وببساطة قَتَل.
وهو واقف أمام الجثة الآن حائرًا في الطريقة التي سوف يخرجها بها دون أن تراها زوجته أو أي من الجيران أو حارس العمارة. لم يكن بمقدوره استعادة لحظة القتل، ولا تذكُّر أيٍّ من التفاصيل التي سبقت ذلك. بالنسبة لنا لن يكون ذلك مُهمًّا وعلينا من الآن مشاركته التفكير في الجثة التي لم يعد، هو أو نحن، في حاجة لوجودها في هذا المكان، أو في أيّ مكان آخر. في وقت لاحق سوف يتذكر وقوفه حائرًا في الطريقة التي سوف يُخرِج بها الجثة كخطوة أولى قبل إخفائها بينما يفكر في قدر الخِسّة التي صار عليها. ليس فحسب لأنه لحظة القتل لم يفكر في أنه سوف يكون عليه إخفاء الجثة في مكانٍ ما، ولكن تحديدًا لأنه لحظة القتل كان يفكر في أنه سوف يكون عليه إخفاء الجثة في مكان ما. ربما لو لم يفكر على هذا النحو لحظة القتل لكانت خسته أقل درجة مما هو عليها الآن. بالتفكير في ذلك بدا حادث القتل حادثًا عابرًا في تاريخ من الخسّة.
الحقيقة أن وصفه بالخسّة لم يكن نبت خياله وقدراته اللغوية، ولكنها الكلمة التي وصفته بها أمه حين علمت بأمر قتله إنسان. ولأنه ككاتب جيد حتى ولو كان على أعتاب الشهرة لا يزال. كان مشغولًا دائمًا باللغة، فقد بدا له اللفظُ في مكانه الصحيح، فبدأ منذ سمعه منها لأول مرة، يفكر في موقفه من العالم، أو لنقُلْ في موقفه من الجثة، مستخدمًا اللفظ نفسه. لم يتحمل ضميره، وعلينا التفكير أيضًا في أن شخصًا كهذا كان لديه ضمير كضمائرنا، لم يتحمل ضميره التفكير في أن إغواء جارته، بالقتل، كان مخدِّرًا على هذا النحو الذي جعله يقتل، بينما يفكر في أن أمر التخلص من الجثة سوف يكون سهلًا. كيف فكَّر في أنه سوف ينجو؟ تلك هي المشكلة. مشكلته هو لا مشكلتنا نحن، فبرغم كل ما لدينا من تعاطف إنساني فإن لا شيء يجبرنا على التورط في مشكلة كهذه.
فيما يبدو فإن زوجته لم تكن تقلِّم أظافرها، ولم تكن أيضًا تسقي إصص الزرع في الشرفة، فقد كانت قد انتهت من مثل هذه الأمور ودخلت مطبخها لتعدَّ الفطور. ولأنها لم تكن تعلم أن زوجها الآن قد أنهى حياةَ شخصٍ ما في حجرة مكتبه، فقد ذهبت لتسأله إن كان يرغب في تأجيل الفطور لحين انتهائه من حمَّامه اليومي أم أنه يرغب في الأكل الآن. على باب حجرة المكتب كانت قد نطقَتْ بنصف جملة، أو بالأحرى بنصف سؤال. منظر الجثة اختصر نصف السؤال الآخر واستبدله بشهقة مكتومة ولكنها مزلزلة لرجل قتل إنسانًا لتوّه ولا يعرف ماذا يفعل بعد. ولأن سؤالها لم يعُد له معنى الآن، ولأن أيَّ سؤالٍ لن يكون مجديًا في موقفٍ كهذا، فقد ظلت لوقت طويل واقفة عند رأس الجثة، في الجانب المقابل لزوجها محملقة في الجثة كأنها في انتظار أن يفلِت من بين شفتي صاحبها تفسيرٌ ما.
سوف يكون عليه من الآن فصاعدًا الامتنان لعاداته ككاتب. أولًا لأنه ـ كأغلب الكُتّاب ـ لم يكن يمكنه الكتابة إلا ليلًا. ثانيًا لأنه ـ كبعض الكتّاب ـ كان يمضي وقتًا طويلًا قبل أن يجد جملته الصحيحة الأولى، فقد وضع ستائر داكنة وثقيلة على نوافذ حجرته كيلا يسمح بتسلل شعاعٍ واحد من خارجها، مكتفيًا طوال الوقت بمصباح أخضر وحيد. وبسبب عاداته ككاتب، فقد اكتشفت زوجته الجثة ضمن مشهد لا يمكننا تجاهل رومانسيته إذا ما أخذنا في اعتبارنا تدرجات الإضاءة والظل في حجرةٍ شبه معتمة. لقد كانت بقعةُ الضوء الوحيدة في المكان مسلطةً على كتابٍ مفتوح على المكتب كعين محدِّقة، فيما كان ظهر الكرسي الملاصق للمكتب يمنع بقعة الضوء عن التمدد في غير المكان المقدَّر لها. لن نبالغ لو قلنا إن بقعة الضوء كانت على نحوٍ ما، محددة الإقامة في المسافة بين المصباح والكتاب المفتوح، والذي كانت زوجته لتتعرف عليه فورًا لو أنها أرسلت نظرةً ولو سريعة نحوه، فلم تكن زوجته تخطئ أبدًا في التعرّف على المُجلَّد الأخضر لرواية الجريمة والعقاب. أما الجثة فقد كانت راكدةً في الظلام وبالكاد يمكن رؤيتها بسبب النور الذي كانت تحمله زوجته في روحها.
رومانسية المشهد استبدلت أيّ صرخة محتملة لزوجته بمجرد شهقة ألم ولطمة على الصدر لم يسمعها أحد غيره.. والجثة. تمكَّن أخيرًا وللمرة الأولى منذ اكتشف الوجود المؤلم للجثة من جرّ كرسيه ليجلس، مما سمح لبقعة الضوء أن تنسكب على الأرض مفترشة جزءًا صغيرًا حتى أن ساقيّ الكائن المُمَدّد على الأرض والذي لا يرغب في وجوده أحد، قد صارت في محيط الضوء. بعد أن بادرته زوجته بالسؤال عن السبب الذي من أجله أصبح لديهما جثة في بيتهما، وخصوصًا حين وصلته رسالة غير مقصودة من زوجته باستخدامها ضمير المثنى في “لدينا”، تمكّن من الجلوس. كان في هذه اللحظة قد راقه التفكير في الجثة باعتبارها مشكلة مشتركة بينه وبين زوجته، عليهما حلّها. على الأقل فقد وجد زوجته إلى جانبه، وفي صفِّه، لا في صفّ الجثة، وفكر في نفسه أن محاولة حل نصف مشكلة أفضل كثيرًا من محاولة حل مشكلة كاملة. شعر في هذه اللحظة أنه يمكنه الذهاب للنوم أيضًا لولا أن سمع، وسمعت زوجته، صوت جرس الباب.
بالباب كانت أمُّه. يبدو أن قرون استشعارها كأمّ قد دعتها لزيارته رغم أن الوقت كان مبكرًا جدًا على هذا النوع من الزيارات. لم تقدّم أمه تفسيرًا جيدًا لمجيئها غير حلمٍ داهمها بالأمس. حلم غير لطيف بحسب تعبيرها رفضت أن تحكيه. مجرد وجود أمه وزوجته على يمينه ويساره على كنبة الأنتريه كان كافيًا لأن يُفكر في طلب كوب قهوة لولا أنه رأى ملايين الأسئلة آتية من كل مكان لتحتشد في عيني زوجته كيوم حشر، حتى أن دمعةً حمراء كادت أن تفلت منها مصحوبة بسؤال. تجاهل حشد الأسئلة في انتظار جملة ما قد تجعله يبدأ التفكير في أن ثلث مشكلة فقط أصبحت لديه. حتى أنه فكر أن أفضل طريقة للتخلص من المشكلة هي في تشاركها مع أناس كثيرين شرط أن يكونوا كأمه وزوجته. كان في هذه اللحظة قد تحوّل من التفكير في الجثة نفسها إلى التفكير في المشكلة التي تسبَّب فيها وجود جثة في مكتبه. بالنسبة لأمه كانت هذه الطريقة في التفكير دافعها لوصف ما فعله بالخسة.
“إنت خسيس” هذا ما قالته أمه حرفيًا، وهذا ما أنقله عنها بشكل أمين للغاية، حين أخبرتها زوجته بأمر الجثة. أمه التي قطعت المسافة ما بين حجرة الجلوس وحجرة المكتب بسرعة لا تتناسب مع سنّها، لم تطلق شهقةً مثلما فعلت زوجته بل إنها لطمت وجهَها كما لو كانت حتى هذه اللحظة لم تصدّق ما قيل لها منذ لحظات رغم الجدية التي كانت بادية عليه وعلى زوجته. “مين دي؟” كانت الجملة التالية مباشرة. نظر، ونظرت زوجته، للجثة واكتشفا أن الكائن الممدد على الأرض داسًّا وجهه في سجادة المكتب، امرأة لا رجل رغم أنها مرتدية ملابس صالحة لرجل، كما لو كان ثمة فارق بين أن تكون الجثة غير المرغوب فيها جثة رجل أو جثة امرأة. بالنسبة لزوجته فقد جلست في الأرض وقلّبت وجه المرأة لكنها لم تتعرف عليها فيما راح يفكر هو في أن نوع الجثة غير مهم على الإطلاق في هذه اللحظة. “على أية حال فإن المشكلة كلمة مؤنثة وهو ما يجعل الفارق ليس مهمًّا” هكذا قال بينه وبين نفسه.
الحقيقة أنه لم يفلح هو أيضًا في التعرف على صاحبة الجثة. كان كل ما يتذكره هو اللحظة التي سقطت فيها أمامه بعد أن باغتها بمنفضة السجائر التي على شكل ضفدع مقلوب على ظهره، مشهرًا أقدامه الأربعة في وجه الجميع. حتى أنه فشل في تذكُّر كيف وصلت هذه المرأة إلى هذا المكان قبل أن تتحول من امرأة لجثة، وقبل أن تتحول من جثةٍ لمشكلة.
ما لاحظته أمه كان صالحًا لقصة بوليسية أكثر منه لحل مشكلة ابنها، فقد لاحظت أولًا أن المرأة ليست بها قطرة دم واحدة ولا أي أثر للضرب رغم أن أحدًا ليس عليه أن يشك في أنها قد فارقت الحياة، وثانيًا أن المرأة تشبه إلى حدٍ ما زوجته، فقد كان لهما اللون نفسه والتقطيبة نفسها. زوجته لم تكن مشغولة بالتحريات التي تجريها حماتها فراحت في هذه اللحظة تبكي بحرقةٍ، بل إنها تكوّمت على الأرض منهارة. بينه وبين نفسه قرر أن يستمر في وصف نفسه بالخسة متوقعًا أن يخلّصه ذلك من خلايا الخسة التي اكتشفها في نفسه كمريض سوف يقطع نصف مشواره للشفاء إذا ما اعترف بمرضه.
دعنا نتوقف هنا لنسأل، فعلينا نحن أيضًا إذا ما قررنا الاستمرار في القراءة أن نسأل سؤالًا مهمًّا بالنسبة لنا بقدر أهميته لسكان هذا البيت المسكون بالمحبة والخبل. ليكن سؤالنا هو إذا ما كان صادقًا أم لا؟ أو ـ وهذا هو الأهم ـ إذا ما كان علينا أن نصدقه أم لا. بالنسبة لي فليس لديّ ما يجعلني أميل لتكذيبه رغم كل الحماقات التي أعرفها عنه والتي أحتفظ بها بيني وبينه، ولا أقول رغم خسته، فلست مضطرًا لاستخدام مفردات أمه حتى ولو كان هو نفسه قد رآها مناسبة. ذلك أن معرفتي به تجعلني أقول مطمئنًا إن ما يحركه كشخص، وكشخصية، هو التمرد والتطلّب. كان كإنسان وكاتب لا يمكنه الاستمرار كثيرًا في لعب الدور نفسه ولا في تبادل الآراء نفسها ولا في كتابة الكتابة نفسها بل ولا الجلوس على المقهى نفسه مفسّرًا ذلك دائمًا بالدودة التي تسكن روحه، وللأمانة تلك عبارة لألبير كامي وليست له. وفوق ذلك كان لا يمكنه كبح نفسه في تطلبها لكل شيء. كان كطفلٍ مدلل يرغب في أن يبادره الجميع بكل معونةٍ ممكنه حتى قبل أن يطلبها. باختصار.. كان كاتبًا.
بينما كنّا نسأل إذا ما كان علينا أن نصدقه أم نكذبه، كانت أمه لا تزال تُجري تحرياتٍ غير مكتملة بفعل فقدان ذاكرة لحظي انتاب ابنها، فلم تكن ذاكرتُه في هذه اللحظة تحتفظ بغير معلومتين محددتين: جارته التي أغوته بالقتل كأسهل طريقة لكتابة قصة عن جثة، والمرأة أو الرجل سيان عنده الذي تسبب في موتها أو موته. كانت لحظة الإغواء ولحظة القتل هما كل ما يمكنه الآن اكتشافه في أكوام الذكريات التي تزدحم بها رأسه كحديقةٍ عامة تعيسة. وبينما بدت أمه مُصرّةً على إرغامه على الاعتراف، بدت زوجته التي توقفت عن البكاء مصرّة على تقديم المعونة اللازمة للتخلص من الجثة، المعونة التي كان في انتظارها، والتي هو في انتظارها دائمًا. بالنسبة لها فقد كان بيتها لا يزال مستحقًا للدفاع عنه مهما جرى. “بيتي ليس البيت الذي تقيم فيه جثة” قالتها قاطعةً كل شكٍ وكل يقين، حتى أنها بعد ساعتين بدأت في تشغيل المكنسة مكان الجثة التي أخفتها في مكانٍ ما، مصممة على ألا تترك أيَّ أثر قد يَدُل على وجودها في يومٍ من الأيام، حتى أنها ملأت حجرة مكتبه بالأزهار بعد أن أجبرته على نزع الستائر من على نوافذها والسماح للضوء بأن يعيد التعرّف على المكان.
كيف تجري الأمور على هذا النحو؟ هذا ما ليس لنا أن نفكر فيه، فهكذا تجري الأمور في الحياة وفي المسرحيات العبثية. جثثٌ تظهر وجثث تختفي وجثث تلاحق قاتليها وجثث تسكن الأحياء. فضلًا عن أنه لم يسأل عن الطريقة التي أخفت بها زوجته الجثة، فلم يكن مهتمًّا منذ البداية بغير إخفائها، وكيف لي أنا أن أعرف إن لم يكن قد سأل وإن لم تكن قد سُئلت فأجابت، فلست ـ وأظن أن هذا كان واضحًا من البداية ـ راويًا عليمًا.
وبالنسبة للذين يفضلون نهايات محددة فعليهم معرفة أن الأمر لم ينته على هذا النحو، فبعد عدة أيام بدأت زوجته أولًا في اكتشاف أن الوجود الخفي للجثة التي تسبب فيها زوجها قد خلّف رائحة لا يمكن تجاهلها. رائحة لا يمكن وصفها من فرط عاديتها، كرطوبة الجو في شهر يونيه، رطوبة يمكن تجاهل الحديث عنها ولكن تجاهل وجودها غير ممكن. في اللحظة التي اكتشف فيها الرائحة فكر في أن الجثة بريئة منها. “تلك عقوبة خستي” هكذا فكر مفضِّلًا استخدام أول كلمة نطقت بها أمه على كل الكلمات التي كانت ذاكرته اللغوية تحتفظ بها كمدد للكتابة. وبمناسبة الكتابة فقد اكتشف أن ما جرى يصلح للكتابة على نحوٍ ما، ما خفَّف عنه التفكير في الألم، كما لو كان بكتابة ما جرى سوف يكتب تعويذةً تفيد في طرد الرائحة التي تصّاعد كزوبعةٍ من سجادة المكتب إلى أنفه، بل إنه فوجئ بنفسه يبتسم حين فكر أن الظهور الأول لجارته في قصة، وهو الظهور الذي حلمت به كثيرًا، سوف يقدمها كعاهرة.
وها نحن الآن في صباح من الصباحات التي حاول فيها تجاهل الرائحة وتجاهل الحديث عنها وقد شرع في كتابة قصة، وها هي زوجته قد فتحت كل النوافذ في البيت آملة أن يطرد هواء الخريف تلك الرائحة من جسد البيت، وها هي تناديه من البلكونة، وها هو يقوم من مكتبه لينظر إلى الوجهة التي أشارت إليها، ليجد جارته تعبر الشارع باتجاه سيارتها وخلفها رجل آخر لعله كاتب نصف موهوب يقفز كبهلوان مختال ليلحق بها، رجل له اللون نفسه والقامة نفسها التي له، وها هي زوجته تسأل متعلقة روحها بأمل: “هل تذهب الرائحة؟” وها هو يجيب متعلقة روحه بأمل: “ألم تذهب بعد”.