أرشيف الأوسمة: سعيد الكفراوي

كشك الموسيقى. بقلم: سيد الوكيل

سيد الوكيل

قدم القاص والروائى سعيد الكفراوى مجموعته الأولى فى بداية الثمانينيات فلفت انتباه النقاد إلى المستوى المتميز الذى ظهرت عليه المجموعة يتناولها لطرائق من الأداء السردى لم تكن شائعة من قبل ، وهى طرائق تهدف فى معظمها إلى خلخلة المركزيات التقليدية مثل مركزية الحدث ، أو الراوى  ، فضلاً عن الاكتشافات الأسلوبية التى خلخلت آلية  السرد الوصفى واستبدلتها بأساليب تمنح فضاء أكثر رحابة لحضور الذات الساردة لتعلن عن نوازعها وأحلامها وهواجسها ، بحيث تحل الذات الساردة محل المركزيات القديمة التى كانت تعيش خارجها، ومن ثم تضمن للغة مستوى من التناسق الشعورى بين الذات والعالم والأشياء ( الذات والموضوع )  فتقترب التجربة القصصية من الشعر ويعيشان معاً فى فضاء واحد من السرد والغناء  ، وبهذا الغناء تكتسب اللغة طاقة من الشجن والأسى ، فى حين يتجه السرد إلى استعادة الماضي وتنقيته بحيث يبدو كل مافيه جميلاً  وقابلاً للعمل فى الآنى بطاقة الحنين  ( النوستالجيا ).

استمر في القراءة كشك الموسيقى. بقلم: سيد الوكيل

التقيته ..حوار مع سعيد الكفراوي

حاوره خالد حماد

**التقيــــــــــــــــــــــــــــــــــــته..**

**حيث يعيش هناك.. فوق الجبل الذي يعلو هامة المدينة. ثمة أسطورة تروى أن جبل المقطم انفصل عن المدينة تحقيقًا لأمنية أحد الأباء القديسين من القبط، وظل قائمًا هنا في وحدته، قامة متوسطة، ووجه ريفي يحسن الاستقبال، ويعكس طيبة هؤلاء الفلاحين وأهل القرى.**

**هوالقاص “سعيد الكفراوي” من قال مرة “غايتي أن أستحوذ على زمن يضيع”، من يومها والزمن ينفلت من بين يديه مثل الماء الجاري.**

**كتب الكفراوي عن هؤلاء الذين لا تنفد أمانيهم، الباحثين دائما عن عدل مفتقد، أهل الهامش المفكرين في قلوبهم، الذين يجوسون في قصصه على الورق، يحملون حيرة السنين والسؤال، ولا يعثرون أبدًا على إجابة.**

**هؤلاء من كتب عنهم الكفراوي 12 كتابًا من القصص التي تزخر بالشخصيات والأجواء والمصائر، واللغة هنا هى سقف العالم. 12 مجموعة من الحكايات، من البدء: مدينة الموت الجميل، سدرة المنتهى، مجرى العيون، بيت للعابرين، كشك الموسيقى إلخ.**

**جدليات تتقاطع بين الحياة والموت، والمكان والزمان، والطفولة والكهولة، والرحيل والإقامة، والقرى والمدينة.**

**قيم هذا العالم يوما الناقد الدكتور”شكري عياد”، في دراسة نقدية عن مجموعة “سدرة المنتهى” فكتب: “الخيال القصصي الذي يحوم حول تجليات الروح، يقبل بسهولة الخرافي والمعجز، لأنه ينتمي لنفس العالم الذي ينتمي إليه القصص الشعبي، حيث يتحاور الواقعي اليومي بتفاصيله المحددة، مع الأسطوري والخارق، في تآلفٍ تام ولذلك نجد الزمن كأنه الزمن البئر فيه تنفطر تجارب، حيث يمثل الزمن البئر مفهوم الإنسان للخلود والحضارة”.**

استمر في القراءة التقيته ..حوار مع سعيد الكفراوي

(قراءة فى مجموعة سعيد الكفراوى: “ياقلب مين يشتريك“)

د حسين حمودة

– 1 –

مثل أغلب أعماله القصصية، بل أيضا مثل كتابه الأخير (حكايات عن ناس طيبين)، تتأسس مجموعة سعيد الكفراوي (يا قلب مين يشتريك) (*) على ما يمكن تسميته “رؤية زمنية” خاصة، مركبة ومتراكبة، خلالها تطرح الكتابة بعض أسئلة تطال الوجود والأبدية وصيرورة الزمن، وعبرها تتفجر تصورات مختلفة للعلاقة بين الحاضر والماضي والزمن المحتمل، وفيها تتجسد الأزمنة خارج تجريدها الشائع؛ إذ “تتأمثل” فى مواقف وذكريات ووقائع، وأيضاً في أشياء وكائنات حية؛ كأن الموجودات جميعاً تنشغل بقضية الزمن، وتتحدث بلغته، وتتسائل حول وجودها وحضورها فيه ووجوده وحضوره فيها. ولعل إلحاح ما يتصل بالزمن من مفردات في عالم سعيد الكفراوي هو جزء مما انتبه إليه بعض من كتبوا عنه من النقاد (خصوصاً د. شكري عياد الذي رأى أن “الزمن عنده [سعيد الكفراوي] زمن بئر حيث تتحول القصة إلى تمثال حين يتحول الزمن إلى بئر تتقطر منه تجارب البشرية”، وأيضاً د . سيزا قاسم التي أكدت أن “سعيد الكفراوي لا يكتب عن الماضي الجميل ولكن عن قدرتنا في [كذا] أن نعيش في أزمنة مختلفة”)، ثم لعل هذا الإلحاح هو مادفع الكاتب إلى أن يتوقف عند هذا الحضور للزمن في تجربته، وإلى أن يسوق هذين المقتطفين من د. شكري عياد و د. سيزا قاسم، في المقدمة التي عنونها “صوت من الأبدية لراحل كريم”، وصدر بها مجموعته هذه.

استمر في القراءة (قراءة فى مجموعة سعيد الكفراوى: “ياقلب مين يشتريك“)

سعيد الكفراوي..الكاتب الذي حمل قريته في قلبه ..أينما حل

شهادة كتبها: سمير الفيل.

1

في سنتين فارقتين هما 1971 ، 1972 رأت مجموعة من الكتاب الشبان في مدينة دمياط أن تشكل جماعة أدبية خارج قصر الثقافة، وبدأت التحرك وزيارة جماعات مشابهة لها في عدد من المدن القريبة جغرافيا : بورسعيد، المنصورة، المحلة الكبرى . تلك المجموعة التي دشنت أول تجمع غاضب يرفض المؤسسة الرسمية كما جاء في مانفيستو ” جماعة 73 ” وقد كتبه محسن يونس ومعه سمير الفيل ومحمد علوش ،  ثم التحق بالمجموعة مصطفى العايدي ، ومن بورسعيد السيد النعناع.

مثلت زيارتنا لمجموعة المحلة الكبرى نقلة نوعية لأننا قابلنا كتابا متحققين يحمل كل منهم طموح التجاوز، والرغبة في التفرد ، في حجرة منفردة هي لجار النبي الحلو قابنا معه مجموعة من الأدباء: سعيد الكفراوي، محمد المنسي قنديل، أحمد الحوتي، محمد فريد أبوسعدة. وتردت أسماء منها: رمضان جميل، محمد صالح. وأظن أن زيارتنا عرفتنا باسم كاتب مهم من المنصورة قابلناه فيما بعد هو محمد المخزنجي.

في تلك الغرفة قرأ محسن يونس قصصه وقرأت أنا ومحمد علوش قصائدنا. ومازلت احتفظ برسالة من جار النبي الحلو ، تسجل انطباعه حول الزيارة والخطاب مؤرخ في 1 مارس 1973:

” كان اللقاء متوهجا ، ورائعا، وأحسست إحساسا رومانسيا خائبا في البكاء بعدما تحرك القطار .. كانت اللحظات عمرا.. وأشعاركم ـ أنت وعلوش ـ تاريخا من الصداقة .. ولم نكن نملك غير التفاؤل في أننا لابد سنراكم جميعا ” .

استمر في القراءة سعيد الكفراوي..الكاتب الذي حمل قريته في قلبه ..أينما حل

في حضرة الشرير..قصة : سعيد الكفراوي

في حضرة الشرير

“وآخرتها؟”.

وسمعتني أقولها وأنا أفزع من عز المنام، كأنها وخزة الوقت الداخلي التي تحدث فجأة، ملازمة لدقات الساعة المعلقة على الجدار يعلو رنينها في الجنبات، فتنهض.

انتبهت.

“ثمة أشياء تخصك تحدث من حولك، ولأنها شريرة بدرجة تثير الفزع تظن أنها من تدبير الشيطان”.

نهضت وأنا أشعر بزمتة العصر المشبعة بالرطوبة الثقيلة، وعفار الجبل، أمسح عرقي بكفي وأنظر من نافذة حجرة النوم إلى حيث جسم “الهويس” الذي أشرف على إنشائه، رابضا كان وصامتا، وعائد حفره تلة من الرمال على الجانبين، والرجل لم تبدأ الدب على الأرض بعد في يوم العطلة هذا.

تأملت أثاث منزلي المؤقت. أقيم دائما في بيوت مؤقتة، مقامة بالقرب من تخوم الصحاري حيث تبدأ مشاريع الري من عند فم الترع، وتنتهي داخل الرمال البعيدة. مكتبي بجوار النافذة. كتب على الرف، وعلى الأرض. كراسي من جريد هنا وفي الشرفة التي تطل على الطريق الترابي المسوّر بالكافور. خريطة على الحائط لموقع المشروع، ورسم لجسم “الهويس” . عدد من القلل تبرد على السور، وشجرة رمان بحديقةٍ عجوز، غبراء، وخالية من الثمر.

“وآخرتها مع ابن المعتوهة هذا؟”.

استمر في القراءة في حضرة الشرير..قصة : سعيد الكفراوي

دوائر من حنين ….سعيدالكفراوي

دوائر من حنين

قالت لي جدتي قبل أن تغادر، لحظة أن شاهدتني أنتفض قرب النهر: “ثق أن كل شيء ليس كما نراه. خذ هذا الدواء فربما يشفي قلبك، ويطهر روحك من الحنين. شربت الدواء فلم يبرأ القلب، ولم تتطهر الروح”؟

الغليون


أتى الصوت كأنه ينبع من حلم، كأنه يخرج من حكاية خيالية. يدور في الحواري الضيقة لبيوت الطين، كأنما تجمد هناك في الفضاء المفتوح، يرجف القلب كالصلاة المؤلمة.

“أوووو… أوووو”

لم يسبق للخلق سماع مثل هذا الصوت منذ بدأت الحياة تدب على أرض هذا المكان، لذا اندفعوا تجاهه رجالا ونساء وعيالا. كانوا قد وقعوا في قبضة السحر وانتهى الأمر.

خبطات من أقدام حية، وأصوات تصاحب خفقات طرح النساء الخافقة في لحظة الرضا الإلهي، وسرب من طيور بيضاء يحلق في البعيد.



كانوا يندفعون ناحية النهر
وكنت -أنا الصغير- أندفع وسطهم وقد اختلط علي زمني وبقلبي خوف غريب.

“أووو… أووو”

لما تجلى لنا النهر الذي نعرفه كراحة اليد رأيته سابحا على الماء فشهقت.

يقترب رويدا، رويدا كعمارة بيضاء زاهية. تطلق مدخنته دخانا رماديا كشبورة الصباح. يصعد في النهر سابحا في مداره كنجم.

“أووو…أووو”
صرخ أحد العجائز:
باجور البحر!!”
أجابه آخر:
“الغليون”

نهرنا منذ وجد لم يعرف سوى قوارب الصيد الصغيرة، والمراكب الراحلة تحمل الجرار والرمل. يدفع أشرعتها الهواء المواتي، أو يسحبها رجال هدهم التعب مطلقين أغنيات الحنين.

“أووو … أووو”

لما اقترب انفلق قلبي فلقتين، واحدة أخذته للدهشة، والأخرى رمت به للحلم، يشق الماء كإله قديم.

عمارة بطوابق ثلاثة. ستائر من قطيفة حمراء مسدلة على نوافذ مشغولة، وبحارة بملابس بيضاء ينظرون تجاهنا مبتسمين، وبنات يطلقن أغنيات تصاحبها موسيقى بنغم غريب.

صاح العجوز:

“غليون” عباس “باشا”

لمحت علما أخضر بهلال وثلاثة نجوم يخفق على السارية. أدركت لحظتها كأنني في غير زمني، وأنني أشاهد الصور التي تعرفت عليها في الكتاب.

حازانا الغليون وغادرنا. يسحبني خلفه من بين الجماعة. تركت البلد وعدوت على الشاطئ حتى خرجت إلى المدى المتوج بالأرض والسماء، أعدو خلف الغليون وبقلبي يشرق النور.

تعبت فجلست على الشاطئ محدقا. شاهدت امرأة تقف عند السور، على السطح تبتسم ناحيتي وقد رفعت يدها بالتحية. نهضت صارخا وأنا أشير: “مع السلامة”

كنت أقف على الشاطئ ألوح بيدي والغليون يغيب رويدا رويدا يتجعد الماء تحت ثقله حتى اختفى في الأرض البعيدة الموحشة.

مضت السنوات -العشرات منها- وكلما نظرت نهر قريتنا تصاعد من قلبي ذلك الصوت، وتذكرت تلك الأيام التي منحت روحي الثقة، والصدى المحمل بالحنين.

“أووو … أووو”



محطة سفر


“سينجلي الليل بعد قليل”.

تنفس الليل الريح. تبدو النجوم في مملكة السماء غير مطمئنة “برمهات” شهر قبطي تزهر فيه الأشجار، وفيه يعتدل الليل والنهار، وتزول الشمس الكبيرة، ويحتفل القبط فيه بأحد الشعانين.

محطة قطار بعيدة عن الوعي، مقطوعة عن العمار بينها وبينه ليلة من سواد، التي بيدها متاعها -زوجها وزوادتها- حيث يقفان على الرصيف في انتظار قطار لا يجئ “غالدنيا ضلمة كحل”

قالها الكهل -زوجها- فسحبته من يده وأجلسته على مقعد تحت مظلة لا تبين.

للريح القادمة من الجبل صوت استغاثة، وللرمل رائحة الموت. هؤلاء صنف من الناس ينهضون على عجل حاملين آلامهم في انتظار قطار يحملهم إلى المدينة البعيدة.

لا أحد شاهدهما وهما يغادران بيتهما القصي عن العمار

“الدنيا ضلمة… أنا خايف”.

عوى ذئب البراري، واشتدت أصوات الليل المألوفة، وهوت المحطة في قبضة الظلام، ولا قدرة لهما على قهر سلطة الخوف.

“حالا القطر زمانه جاي”.

“أنا خايف”

سمعته يبكي ويتألم. وأحست بخوف يتدفق منه حين رأته يلصق ركبتيه في بطنه مقاوما ألمه “الصبر. القطر زمانه جاي”

ثمة شيء لا يمكن مقاومته يطوف حول محطة الليل المغلقة تماما، والتي هجرها أهلها، ونافذة مفتوحة يصفعها الريح فيحدث تلك الضربات الجائرة في عمق تلك اللحظة غير المباركة.

أدركت بذهول مدى خوف الكهل – زوجها – فدست يدها داخل “الزوادة” وأخرجت شمعة أشعلتها. انفجر في الليل ضوء نحيل، لين بدد مساحة الظلام. سور من حجر. مصلية من عارجين النخيل. بناء من قرميد مقام من الزمن الاستعماري. درج يهبط حيث بركة ماء ساكنة.

نظرت إلى الكهل فرأت الدموع في عينيه.

“الصبر”

سمعا على البعد صوت القطار يأتي راجفا قلبهما جاء مقتحما بلا رحمة. لم يقف بالمحطة، لكنه وعلى نحو مفاجئ وهو يمضي محدثا تلك العاصفة من الريح أطفأ نور الشمعة فحل على الدنيا الظلام.

التوت البري


كلما أمعنت أمك في زجرك تحركت قدمك وأطاحت بالثمرة بجانب الدرج.

“احذر الصعود لشجرة الجميز. الجميزة لا تسمى باسم الله. شجرة التوت لها القلب الرحيم”.

تعطيك ظهرها وتمضي، وبداخلك دوائر من القلق ورغبة في الفرار.

تعود قابضة على غربال تهف حبات القمح قائلة:

“وقع من فوق الجميزة” أحمد “بن المليجي فانكسرت رقبته. شجر التوت من خيار الشجر”.

تكون قد مارست نبش قلبك، وطاردتك مخاوفك، وتمنيت أن تنتهي من سيل النصائح التي حفظتها من طول تكرارها.

تحدثك بالعلم الخفي، وتحكي لك عن المواسم، وعن الطير وتفتح أمامك كتاب السحر. تغادرها صاعدا ناحية الحقول، موغلا حتى أشجار التوت. في الطريق ترى جميزة “السحيتي” تضرب جذورها وتمد أفرعها العجوز على السكك، خالية من الثمر، وشحيحة الورق.

“حاذر .. تنهض الجنيات في الليل وتقيم تحت الجميزة أفراحها بالطبل والمزامير”. تتجنبها وتخاف ظلالها، وتحتها تيارات من هواء ساخن.

التوتة بجانب سبيل الماء، لها الظل وخضرة الربيع وأنت تحت الخطو نحو مصيرك.

الآن تستقبلك محدقة في عينيك، وقد بذرت الأرض بثمرها الأسود. تهيأت لك لتمتطي ظهرها.

شجرة تلوح في النهار بحضورها القديم وارتباطك بها في كل وقت.

تصعد بدربة ومعرفة، وتتعلق بفروعها مطاردا الثمرات، عاصرا بشفتيك العسل، والنهار حواليك متوجا بالربيع.

يغويك الثمر فتصعد ورائه حتى الفروع البعيدة فيفاجئك عش اليمام حيث ترقد الأم بجانب فرخين صغيرين.

أنت واليمام. لحظة اختلج قلبك وددت أن تكون اليمامات لك. تصعد فلا تفر الأم ولا تتراجع عما انتويته.

تمد يدك للعش فتدفع الأم وقد أشرعت مخالبها مستهدفة عينيك. يدفعك الذعر إلى الهاوية متخبطا في الفروع صارخا وملتاثا. تفارقك أحلامك وصوت امك يأتي بالحديث عن التوت الرحيم. وأنت تهوي لا تنتظر رحمة الزمن ولكن تنتظر رحمة الشجرة.

قبل أن تدك الأرض بدنك يبرز فرع أمك التوتة فيلقفك فتتعلق به متأرجحا بين الحياة والحياة.

شيخ المنسر


“زمان وأنا عيل، يمكن كان عمري أيامها ست، أو سبع سنين كنت ألمحه واقفا عند شلال المياه الهابط من النهر حتى الترعة الصغيرة”.

خلفه كنت أرى الشمس وأسمع الريح تضرب باللسان، وأرى بندقية معلقة بكتفه بروحين، مرتديا معطفا من صوف أحمر وعلى رأسه (لبدة) من وبر، وله شاربان يقف عليهما الصقر.

عمك الششتاوي العداسي “أوعاك تقرب منه ده شيخ منسر”. يقولون.

كفي بكف أبي وطريقنا حيث يقف. أسمعه:

– ابنك ده يا سلامة؟

– خدامك.

– ابعته.

أحرن كجحش صغير وألبد في حضن أبي الذي يدفعني في ظهري بقبضته “مد يا ان…” فأخطو مقاوما أن ينفرط بولي، فإذا وا وصلته رفعني بين يديه وأنا انتفض من الخوف والمذلة منتحبا في وجه الشمس والريح حيث تحملان ضحكته التي تجلجل في المدى.

وكنا ونحن نتشمس على البحر مثل جراء الكلاب، بعد أن سبحنا ضحوة النهار والظهيرة، نحكي عن الصبايا اللائي خطفهن، وبيوت الكبار التي نهبها، والأرواح التي سلبها من أصحابها.

وعندما أنام بالليل بجانب جدتي “هانم” على أرض المقعد العلوي ويجافيني المنام، كنت أسمع ركض جواده وصهيله يأتيان من قلب قلب الليل.

بعدها غاب سنوات طويلة، ولما سألت أبي أجابني “اعتقلوه” فقلت له كيف؟ قال لي “في السجن يعني”. وظللت طوال سنوات طفولتي وصباي كلما مررت على مكمنه عند النهر أنظر حيث كان يقف، أو يجلس وسط رجاله، تجلجل ضحكته المرعبة في الأنحاء.

سنوات كثيرة مضت وحكاياته تلمع كحد السكين، ويأخذني الحنين لحضور الآسر، وإلى أيامه وفي كثير من الأحيان كنت أسأل نفسي: هل كان بالفعل يعيش بيننا رجل مثل هذا في قرية التراب هذه؟.

لمزاولة الشمس حساب السنين، تلون هامات الرجال بالمشيب. عدت بعض سنين وقد فارقني الغلام الذي كان يقبض بوله، ويخاف في الليل من ركض وصهيل الحصان.

في المكان -عند شلال المياه- عريشة من دوالي، وشجرة ليمون، ونخلة بلا ثمر، وكافورة وسياج من الطين، وجراء تتزاحم حول ثدي أمها الغافية.

كهل يعيش الحد الأقصى من عمره تقوس منه الظهر، وكف بصره أو كاد، بجانبه جرة ماء، وعلى فرع الليمونة تستقر صرة الخبز، وعلى الأرض حفرة النار وقد خبت، وعليها كوز مسود لتجهيز الشاي.

كأنني أعرفه.

تلمع الذاكرة لحظة فيبرق ما طواه النسيان:

همست ..

عم “الششتاوي” .. هو. وأنت لا تستطيع أن تدعي خداع النظر. سمعته ينادي:

– وله.

– نعم

– تعالى روحني يا ابني للدار.
خطوت ناحيته، ولدهشتي أحسست بخوفي القديم لا يزال كامنا بقلبي، لكنه كان هرما وقد تقوس ظهره وبدا لي كغلام نحيل بدرجة مؤسية.

خرست ولم أنبس بحرف، وحوطت وسطه بيدي، ووضع ذراعه على كتفي ومضينا. تنشقت رائحة العظام الرميم، وأدركت للحظة والرجل يذوي في عيني بأنه يفتش عن موته.

اتجهنا ناحية بيته نسير على سكة من تراب.

استمر في القراءة دوائر من حنين ….سعيدالكفراوي

بيت للعابرين…قصة: سعيدالكفراوي

بيت للعابرين

” رن” التليفون “آخر الليل، فرفعت السماعة، وسمعتُ صوتاً نسوياً:

– آلو…

– نعم

– منزل الأستاذ “صبري” ؟..

صبري سالم..؟.

– نعم

– أنت متأكد؟

– طبعا..

أنا “صبري” بنفسه.

تهلل الصوت:

– “صبري” ابن العم “سالم”. المولود في “كفر الغنايم” مركز “سمنود”؟.

– بالضبط. معلوماتك صحيحة.

لكن أنت من يا أفندم؟

– أنا “سمّة ” يا “صبري”.. “سمية فيض الله”.. المنصورة.. فاكر.. سنة 1957.. فاكر…

هتفتُ مأخوذاً:

– “سميّة”!

برق الشعاع ضارباً أقصى تجاويف الدماغ فضوّت الذاكرة، وتبدد ظلام النسيان، فيما تجمعت صورتها جزءاً، جزءاً. الصبية الصغيرة التي كانت على عتبة الشباب، بضفيرتها الوحيدة، وقلادة الذهب، والبسمة المنوّرة، والغمازتين.



صحتُ بلا وعي:

– ” سميّة “..

والله زمان.. والله زمان يا “سميّة” كيف أحوالك؟.

قالت بعدم تصديق:

– بخير..

نفسي أشوفك.. أصل أنا شفت صورتك في الجورنال.

.. أخذني الشك، ولم أصدق نفسي..

– أصلك تغيرت خالص.. اتصلت بالمسئولين فأعطوني رقم تليفونك.. نفسي أشوفك.. ياريت تحضر.

وأعطتني العنوان، ثم وضعت السماعة.

خرجت إلى شرفة البيت، كنتُ أتطلع إلى الليل، وأنا أقف وحيداً أقاوم ما أنا فيه “سبعة وثلاثون عاماً منقضية تنهض فجأة، وكأنها كانت محبوسة في كهف”. شعرتُ كأنني غير قادر على مواجهة الحنين، وبأنني لا أستطيع أن أقاوم ذلك الماضي الذي لا يخص أحداً غيري.

“المنصورة”.. سنة 1957.. أول الشباب.. زمن هؤلاء الذين يأتون من القرى محتشدين بقلة تجاربهم، وخجلهم، يتخبطون في شوارع المدن تائهين، حتى إذا ما وجدوا الملجأ كان لهم العزاء.

وبيت ” سميّة ” كان عزائي، مأواي، عندما سكنت حجرة على سطح بيتهم.

الآن.. ماذا في الآن؟.

هي هرمة تقترب من الستين. كانت أكبر مني بسنوات ثلاث. ربما هي الآن جدة، أو أرملة ودعت زوجها ووارته التراب، وتعيش وحدتها بلا آمال، منتظرة مثلي حسن الختام.

تذهب؟.

إلى أين تروح؟.

لتتفرج على مشيبك، أم لتتعرف آخر المطاف على ماصنعه بك زمنك الخاص؟.

خيل إلىّ في هذه اللحظة أنني أعدو من غير حسبان، متجاوراً سنينى، عائداً لتلك المنطقة السرية من ذلك الزمن البعيد، لأطل على لحظة من ألق، حيث كانت تأخذ بيدي- أنا القروي- ونحن نسير على كورنيش المدينة نتطلع إلى الضوء، والقوارب المركونة، والصور المعلقة، والناس على “الكازينو”، وكنت أنظر في عينيها فأعثر على الفرح، وأتأمل الغمازتين، وأطمئن نفسي بسؤالها: “بأن كانت تحبني؟ ” فتزوغ مني ضاحكة “حاذر يافلاح النبي لا أحد يأخذ كل شيء”.

في الصباح بدري ملأتُ صندوق السيارة فاكهة، وحلوى، وقطعاً من قماش، ومزهرية من زمن الخريف، وتوكلتُ.

دخلت “المنصورة” في الضحى. المدينة التي لم أرها من سنين. “المنصورة”.. لؤلؤة من ذكريات تسكن في القلب.. حكايات من الزمن القديم تنهض من النسيان حزمة من شرايين حيّة.

رأيت قاعدة الرخام، والكازينو العتيق، والنادي “اليوناني”، و “منيرفا” قائما على الكورنيش تلحس المياه قواعده الأسمنية، بينما يجلس “مراكبي” عجوز على مؤخرة قاربه يتأمل الماء. قلت: ربما هو من كان شاباً ينقلنا على النهر ساعين في ذلك الزمن الذي كان. طرز البناء، وسينما “عدن”، والأزقة الصغيرة التي تحبس روائح البيوت انتفضت حيّة بملامحها وكأنني تركتها بالأمس.

كان البيت يقع بعد ضاحية “توريل” بالقرب من شاطئ النهر، تحوطه أشجار الكافور التي تفرش فروعها العصافير.

ركنت السيارة، وحملتُ هداياي، وضغطت على جرس البوابة الخارجية للبيت، ففتحت لي فتاة لها ملامح قروية سمراء، ونظرات تلمع في النور.

خطوت إلى حديقة مزهرة على غير أوان، ورأيتُ نافورة مسوّرة بحجر من رخام، تفوح من الحديقة روائح معطرة بذكريات تضرب خاصرتي من غير رحمة.

ليس هو البيت القديم، الذي كنتُ أسير بصالته، وأطل من نوافذه، وأسمع غناء الجارة الست “هدى” منطلقاً بأغنيات الحنين.

انتابني قدر من الخوف، وأحسست برعشة الذاهب ليلتقي بحياة كان قد عاشها من زمان.

صعدتُ درجات السلم الرخامية وانتظرتُ.

بعد قليل رأيتها تخرج، ترتدي فستاناً من الحرير الأحمر، موشى ذيله بقطيفة حمراء، ومطرزاً بوردات زهرية. كانت أمامي بشكلها القديم، وصباها الذي أعرفه.

شهقتُ، وصحتُ:

– “سميّة” كأنني فُتك البارح.

توجست قليلاً، ووشت ملامحها بالاضطراب، في كنتُ أهوي أنا مصعوقاً كلما تأكدت أن الزمن لم يمر بها.. نفس الملامح، والقامة، وخفة الروح.

مددتُ يدي فقبضت عليها:

– أهلا يا “صبري”.

خُيّل إلي أنني أهوي من مكان عال، وخفتُ أن أصرخ من ضربة المفاجأة. نظرتُ إليها بقلبي، وتأملتها بحواسي الخمس في سطوع النور، يشع منها ضياء الشباب، وعبير له رائحة الياسمين. هتفتُ في نفسي” شابة بنت الحلال، كأنها لم تتجاوز الثلاثين، تقف أمامي وكأنني غادرتها بالأمس”.

خفت من اختلاط الأمر عليّ، وحاولتُ بقدر ما أستطيع السيطرة على مشاعري.

دخلت أمامي مرحبة، تفرش الأرض بالتحايا، والضحكات فيما تستولي على البيت رائحة البخور الهندي، وشذى الياسمين.

– والله زمان يا “سميّة”.

ضحكت، فيما أتأملها متشككا وكأنني في حضرة أخرى.

هتفتُ لنفسي ” ممكن؟ كيف تستطيع أجساد أن تقاوم الفناء بهذه الكيفية المرعبة ؟ “.

جلستُ أتأمل بشرتها التي تضيء في النور الذي يسطع من النافذة: فاجأتني:
– والله وكبرت يا “صبري”.. شاب شعرك وعجزت.

– الغريب إنك عكس ذلك تماما.

ابتسمت، واستأذنت لحظة، ولكي انتزع نفسي مما أنا فيه، تأملت صالة البيت الواسعة. كانت كبيرة وعلى قدر رفيع من الذوق، والغنى. ستائر القطيفة على النوافذ. صالون مذهب يستقر بطرازه الفرنسي. تحف، وصور على الحائط لمستنسخات من القرن الماضي، لحوريات، وملائكة مجنحين، وسجادة فارسية على الأرض موشومة بزخارف نباتية. صورة شخصية لها من ذلك الزمان، صبيّة في إطار من خشب بني اللون، وذي رصانة وُضعت في مكان ظاهر عمداً، وسبق إصرار.

أعرفها تلك الصورة غير الملونة، وأتذكر دقائق زمانها حينما استعرتها لأيام لأضعها في ألبوم صوري، حتى طلبتها مني مبتسمة “مالك.. الأصل معك”.

عادت ببهائها، ووجهها المنور تطلق ابتسامات طيبة، ويجلجل صوتها بكلمات الترحيب.

قلت:

– فاكرة هذه الصورة؟

– وهل هذه أشياء تنسى. كنت تحبها كثيراً.

أطلتْ من الباب الموارب يد تحمل صينية عليها فاكهة، وطقم شاي من البورسلين، ولمحت ظلاً لسيدة تكتسي بالسواد، وسمعتها وهي ترحب بي:

– أهلا وسهلا.

– أهلا بك.

سألت “سمية”:

– من هذه؟

– قريبة.

واكتفت.

بعد ذلك كنت أسمع خطوات السيدة تطرق سمعي دائرة في البيت بإيقاع رتيب، وصوت تنهداتها يأتيني مضمخا برائحة البخور والياسمين.

صمتُ راحلا إلى بعيد.

حينما كنت فيما مضى ألبدُ على “البحر الصغير” تحت “البونسيانا” ذات الأزهار الحمراء، متظاهراً بقراءة كتاب بالقرب من المدرسة “اليونانية” التي تتوسط الطريق لمدرستها ومعهدي، وأراها قادمة بمريلتها الزرقاء، وضفيرة شعرها المشبوكة بشريط أحمر، تضم حقيبة كتبها لصدرها، تعرف أنني أكمن عند الشجرة أنتظر رؤيتها في الخارج، إلا أنها آخر النهار كانت تعنفني “بطل تلصص”، وتكون فردت شعرها فانطلق في كثافة الليل، وأكون أنا قد أحببتها أكثر، وطويت جوانحي على الحلم، وتكون قد اقتربت مني قائلة “يالله يافلاح دعنا نذاكر”.

قلت:

– شيء غريب.

ردت

– ما هو الغريب؟

لم أرد، لأنني شاهدتُ السيدة المسنة من الباب المفتوح على الحديقة تشذب بمقص في يدها أشجار الزهور. كانت ترتدي فستاناً أسود بكمين طويلين، تطل من تحت طرحتها ذوائب من شعر في لون الفضة، وعندما رأيت جانب وجهها كانت تلبس نظارة سميكة، تستقر على وجه محتقن يشيع منه- الأسى والحزن.

سمعتها تطلق غناء كالعديد تدفع به نسمات. الخريف محملا شجنا.

قلت:

– غريبة.

– خيراً.

– كأنني أعرف هذه السيدة.

ارتعش صوتها عندما قالت:

– أبدا.. هذه قريبة من بعيد.

ثم قالت مغيرة الموضوع:

– فاكر “بريسكا” ؟

“حكاية من زمان” قلت:

– تقصدين “كوثر حجازي” – البنت التي كانت تمثل معكم مسرحية “أهل الكهف”. كنت عامل دور “مرنوش” الرجل الذي عاد من نومه بعد 300 سنة، يبحث عن امرأته وابنه.

– فاكر طبعا.. حتى أنت أيامها فكرت أنني أحبها.

ضحكت قائلة:


– كانت أياما حلوة يا “صبري”.. كانت أيام. خُيّل إليّ أنني أسمع صوت بكاء يأتي من تحت النافذة، وأن هناك من يتنصت علينا. وانشغلت بالسيدة العجوز الغريبة. سألتها: إن كانت سمعت صوت بكاء؟ فردت عليّ:

– أبداً.

تناولنا الغداء، ولم تكف عن الحديث. كلمتني عن نفسها، وبأنها تزوجت بعد أن سافرت أنا ولم أعد، وكلمتها عن نفسي حتى خف بنا الزمن فعدنا لسطوح الدار القديمة، وشوارع المدينة.

راحت الشمس.

استمر في القراءة بيت للعابرين…قصة: سعيدالكفراوي

الرائحة ..قصة: سعيد الكفراوي

وجعل يحدق في الشمس التي على الماء. يشد مطاط “المايوه”، ساتراً كرشه الصغير، ماسحا ثدييه الساقطين أعلى بطنه، وكتفيه المجعدين بجلد محتقن. يتلصص بعينين ضيقتين، تبدوان عاشقتين للحياة، لكنهما في حقيقة الأمر كليلتان بدرجة تبعث على الحزن.

يهمس لنفسه “امش أيها الكهل. لا تقف هكذا خلف الشماسي”. سار بين الصفوف تواجهه الجزيرة الصغيرة، يلطمها الموج من كل جانب. تأملها وهمس لنفسه “الجزيرة”.

صوته يخرج نحيلا من مسامه إلى المدى المتوج بالماء، وصهيل الشمس، وهواء سبتمبر الذي يهب من هناك بالحنين.

استمر في القراءة الرائحة ..قصة: سعيد الكفراوي

عالم سعيد الكفراوي الصغير. جذوره وتجلياته. بقلم : سيد الوكيل

بعض كتابنا الكبار لديهم ملكة خاصة تمكنهم من صناعة الحكايات عن أنفسهم. ربما نجيب محفوظ وحده صنع حكايته بالصمت، فسارع عشاقه بنسج الحكايات عنه. أما القاعده الغالبة فإن الجلسات الخاصة تكون حلقة لحكايات الأدباء خارج قوانين السرد، كونها حكايات عن أنفسهم. علميا، الحكايات المروية لا دليل على صدقها، لكن منطق الحكاية وقوة حضور المحكي عنه، تحول المرويات -ومهما كانت شخصية المروي عنه – إلى حقائق نتذكرها في مناسبة ما، وربما نعيد إنتاجها على نحو مختلف يجعلها أكثر شيوعا وتحققا.

استمر في القراءة عالم سعيد الكفراوي الصغير. جذوره وتجلياته. بقلم : سيد الوكيل

طارق إمام يكتب : زبيدة والوحش ” لسعيد الكفراوي ..المهد والكفن

 ( 1 )

“مقدَّر عليّ أن آتي بالماضي وأثبته على صفحات هذه الحكايا.. هل هو الصوت الذي يأتي من الآماد البعيدة، عبر الحلم وكهف الذاكرة؟؟ أم أنها طفولة ما مضى من أيام؟” هكذا يُصدِّر سعيد الكفراوي سِفره القصصي “زبيدة والوحش”، والذي يضم مجموعاته القصصية الست الأولى، كأنه سيزيف المحكوم بصخرةٍ هي الحكاية.

استمر في القراءة طارق إمام يكتب : زبيدة والوحش ” لسعيد الكفراوي ..المهد والكفن