أرشيف الأوسمة: عبده جبير

الأشياء وتشكلاتها في القصة القصيرة. د. مصطفى الضبع

د. مصطفي الضبع

تملأ الأشياء الكون منازعة الإنسان وجوده، وكما إنها تفتح أمامه مجال الابتكار فإنها قد تمثل عائقا يصل حد التحدي، وإذا كان الحكي يتخذ من الإنسان مادته الحيوية فإنه لا ينتزع الإنسان من محيطه دونما اعتماده في بيئته التي تتشكل من كم هائل من الأشياء.  تظل الأشياء على حيادها في الواقع حتى يأتي الفن ليجعلها في سياق قادر على إخراجها من حياديتها ، فهي تقيم حوارا صامتا بينها وبين الإنسان ، وفيما بينها وبين بعضها البعض ، فالأشياء تستمع للإنسان ولكنه لا يستمع لها ،  هي تعبر عن كثير من طبائعه وأحواله ، فمنها ما هو قادر على الإشارة إلى حالة الإنسان الاقتصادية سواء نوعها أو كمها أو حضورها أو غيابها ( [1] ) ، ومنها ما هو قادر على الإشارة إلى حالته النفسية  (  [2]) .

استمر في القراءة الأشياء وتشكلاتها في القصة القصيرة. د. مصطفى الضبع

سوق السيدة زينب.. قصة قصيرة/ عبده جبير.

  خرجت السيدة “أم علي” من باب الحجرة وأصبحت في المدخل المظلم في الساعة السادسة صباحا، بعد أن حبكت الملاءة حولها وهزت يدها بسلسلة المفاتيح وأغلقت الباب جيدا، متجهة إلى السوق كالعادة، في هذا الوقت المبكر وقبل أي شخص آخر، وسرعان ما أصبحت في الحارة ونظرت إلى النوافذ والشرفات، رأت الغسيل “البايت” والمفارش المتدلية وقارنت بين نظافة هذه المرأة وتلك، وتشربت غضبها على هذه الأشياء، وفي الغالب كان الأمر يبدو لها بتلك المعاملة التي تبديها إحداهن لها في هذه المناسبة أو تلك، ووجدت مبررات كثيرة لغضبها معتبرة أن المسألة تبدأ بالتجاهل الذي تلقاه من سكان الحي، وفسرته على نحو خاص: لموت زوجها الذي ترك لها الدكان واضطرت لبيعه ووضعت عائده في البنك لتحصل على ربح تعيش به ما تبقى من العمر، فليس هناك حل آخر بعد أن تركها ابنها الوحيد وهاجر إلى “الدول العربية” كما تقول هي، وأن لم تكن تعرف أي بلد على وجه التحديد، لكنها ظلت تنتظر العربة التي سوف تقف أمام البيت عدة سنوات حتى نسيته، على الرغم من أنها عندما تبدأ في البحث (داخل بيتها المكون من حجرة وفسحة ودورة) عن شخص تتحدث إليه، تقول لنفسها ـ عندئذ: أريده أن يأتي حتى ولو بلا شيء، أشعر بأن قلبي يخفق وأن الموت هناك، أخشى ألا.. وعند هذا الحد يتوقف بها التفكير، على الرغم من أنها سمعت عن إحداهن (في الناحية الأخرى من السيدة زينب) تعفنت دون أن يعرف أحد بموتها، وتقزز الجميع (ما عدا الحانوتي الذي طلب مبلغا مضاعفا لقاء غسلها وحملها) بعد أن اكتشفوا الحادث ورفعوا أيديهم بالمناديل إلي أنوفهم، كما تفعل هي الآن وهي تقترب من كوم الزبالة المكتظ بجثث الفئران والقطط، ومشت بسرعة أكبر متحاملة على نفسها، ليس فقط لتصرف تلك التداعيات داخل نفسها، بل، وحقيقة، لتبتعد عن تلك الروائح، وحتى (وهذا بدوره يصحو داخلها دفعة واحدة) لا تتأخر عن الوقت المناسب لتكون في السوق، قبل أن تأتي جحافل النسوة من كل صوب فيقضين على كل ما تحتاجه. وها هو ذا الغضب نفسه يجتاحها، لكن بمعدل أكبر، عندما بدت الصورة نفسها، وقبل أن تصل إلى الميدان (ميدان السيدة) وتدخل السوق: النساء غليظات جدا تتدلى مساحات ضخمة من صدورهن الغليظة خارج فتحة الصدر، يحملن الشنط البلاستيك والقفف ويمسكن بأكياس النقود في أيديهن ولا يبالين بالرأس التي انكشفت أو بالجلاليب التي غالبا ما انفكت عند المفارق أو تحت الإبط لتبدو منهن مساحات إضافية. وكانت (هي نفسها) ترى الشرر يكاد يقدح من عيونهن، وفي الصورة التي تراها قبل أن تتخطى الطوار إلى الناحية الأخرى من الميدان (ميدان السيدة زينب) وجوه كثيرة متقاربة على مسافة من عينيها وهي ـ تراها جميعا متجاورة ودفعة واحدة، فأحست بالعداء، واجتاحتها قشعريرة أشعرتها بالخوف فاندفعت تركض بقدر ما استطاعت لتتخطى الميدان وتصبح علي الطوار الآخر بالقرب من مدخل السوق. كانت العربات الكارو محملة بأقفاص الطماطم والخضروات الأخرى، إلا أن أهم ما يقلقها ألا تجد الطماطم؛ أو تجدها بالسعر الذي يعني تعدي الميزانية التي لا تستطيع (وقد حسبتها بعمر الإنسان) تجاوزها، أو تستطيع إلا أنها تصبح في جو أكثر كآبة ووحدة، لذا فإنها في الغالب كانت تلجأ إلى الانتظار: حتى يحمل الرجال الأقفاص من فوق العربات إلى الأرض، ثم تنتظر مرة أخرى حتى يفرغ التجار الأقفاص ويفرزونها فتشتري هي من تلك التي تباع ـ لعطبها ـ بسعر أقل، وهي لكي تنتظر ولا يشعر بها أحد، فهي هناك دائما، ويعرفها تقريبا، كل الباعة، كما أنها تحسب بسرعة هائلة الوقت الذي تضيعه، تظل يقظة للغاية، ولكن: تمشي من بداية السوق إلى نهايته وتدور في الشوارع المتقاطعة التي هي جزء من السوق لكنها متفرعة عنه، حتى تدخل الحارة التي تنتهي ببائع “الحصر”، وتفكر في أن تذهب إليه لتشتري واحدة، لكنها سرعان ما تصرف الفكرة عن رأسها وتعود (مرة أخرى) لتمشي بأقل ما يمكنها من السرعة، دون أن ترفع عينيها عما يتم، ودون أن تغفل الوقت (تحسب حسابه) قبل أن تأتي الجحافل وهي بين هذا وذاك، حيث تزداد مشاعر الوحدة، تقول لنفسها: “الطماطم الدامعة. الطماطم التي تبكي”. لكنها، وغالبا، بل ربما كل صباح، وهي تذكر ذلك، ولا تعرف ما الذي جعلها تحسبه بالوقت الذي مات فيه زوجها، بتلك الأيام، وينتهي بها الأمر أمام ذلك الرجل، الذي يظل عجوزا ومتجهما وهي تقف فيقول:

استمر في القراءة سوق السيدة زينب.. قصة قصيرة/ عبده جبير.