أرشيف الأوسمة: قصص قصيرة معاصرة

وجه من زمن قديم – قصة لـ “مصطفى يونس”


وما هي الا شهور حتى تفارق “عالية” أيضا البيت كعروس بمساعدة اخوتها إلى حيث يقيم زوجها في بلد قريب، وسرع من اتمام زواجها حرص أمها على اتمامه..
– أريدها أن تبتعد عن تخت النغج ونار الجاموسة التي لا تنطفئ؟
وتمر السنون على وقع ما يدور في المنزل الصغير ،ولا تهدأ معارك “عنابة” مع “أم عالية”، وكثيرا ما شنفت آذان حارتنا معزوفات ردحهما المتبادل، ولكن رويدا رويدا يدب الوهن في عروق المرأة القوية، وينطفئ بصرها إلا من ضوء طفيف يتيح لها أن ترى اشباح البشر والأشياء، وتفرض في المقابل عنابة سطوتها على بيت صار لها وحدها واولادها السبعة بعد أن فارقه اخوة زوجها إلى غير رجعة بعد أن اسس كل منهما أسرة في مكان بعيد..فقط بقي لـ “أم عالية” – التي لم أعرف لها اسما سوى هذا طوال حياتي – شباك غرفتها المطل على الحارة تراقب منه الاشباح المارة ..
هاهم أبناء “عنابة” يستوطنون الارصفة حول البيت حيث كان يبيت أباهم وأخواه، والحكايات المخادعة تتكرر معتمرة وجوها جديدة.

“قدري الشواف” – قصة لـ مصطفى يونس

البدايات لا تنبئ أبدا
بالنهايات، ولا دليل في شروق الشمس من الشرق في صباح اليوم على حتمية غروبها غربا
في نهاية اليوم، وليس بالضرورة أن ينتهي اجتماع السحب في السماء بنزول المطر،
وحياتي أكبر دليل على كل هذا..

من كان يتصور بأن أتنقل في حياتي من مكان إلى مكان بعيدا عن الحارة – حيث نشأتي الأولى – حتى ينتهي بي المطاف أن أتناول فنجان قهوتي في تلك الشرفة الجميلة المطلة على تلك المساحة الخضراء الواسعة، التي لم أكن أتخيل يوما أن أقضي أيام شيخوختي قبالتها..

لعلها نادرة صارت تلك اللحظات التي تحضرني فيها ذكريات زمن الطفولة البعيد. تفنى الذاكرة فيما يبدو مع تقدم السن، أو ربما ضجيج الحياة صار لا يفسح مجالاً للحظات الصفاء التي يستلزمها اجترار الذكريات.

أيا كان الأمر، فدون
مقدمات يلح على ذهني منذ الصباح اسم استدعى معه كل روائح الزمن القديم..

 “قدري الشواف”..

ربما استدعى الاسم إلى ذهني مقابلتي بالصدفة لأحد أبناء أخيه منذ ايام في مصلحة الجوازات بينما أعد العدة
للسفر للعمرة.

 لقاء سريع، عرفت منه خلاله بأنه يعد نفسه للسفرلبلد أوربي لزيارة أحد أبنائه، كان الرجل يقاربني في السن تقريبا، ولكن كان لم يزل
في ملامحه شيئا من وجهه الشاب، جعلني أتعرفه فور لقائي به. لعله تذكرني بصعوبة، أوكان تعجله الخلاص مما أتى لأجله، جعل لقاءنا ينتهي سريعا، لكنه على العموم كان لقاء أسعدني بحق، ولعل جل ما كان سبب سعادتي هو انتعاش مفاجئ اعترى ذاكرتي على أثرها استدعت معه أشياء كثيرة من الزمن القديم، كنت قد ظننتها ذهبت عني إلى الأبد.
أسماء وشخوص وأحداث عادت لتشعرني بمدى غنى الطريق الذي أشرفت على بلوغ نهايته، وكان “قدري الشواف” من أبرز تلك الوجوه.


لعل ابن أخيه هذا قد نساه أو تناساه، أو ربما كان يجهله برغم صلة الدم، وقد يكون كل ما يعرفه عنه لا يتعدى ما أعرف بالفعل، وكل خبر بعد ذلك يعد دربا من التوقعات والأساطير..

تستدعي الذاكرة بصعوبة ملامح الأستاذ “قدري الشواف”، فلا أتذكر سوى أنه ليس في ملامحه شيء مشوه أو مستفز يعلق بالذاكرة، ولكن لا تخطئ تذكر طلعته الأنيقة قياسا إلى زمنه، واهتمامه بمظهره، كونه منتميا لطبقة المتعلمين القلائل في حارتنا وما يجاورها من أحياء..


كان الابن الثالث في أسرة فقيرة الحال، يعولها أب بائع طرشي أورث صنعته لأغلب أبناءه، غير أن تفوق “قدري” في دراسته كفل له من المعونات الحكومية والمنح ما جعله يسلك طريقا آخر، ولكنه اكتفى بالحصول على الابتدائية، وهو ما أهله ليعمل مدرسا في إحدى المدارس الأهلية القريبة من محل سكنه، وخلال سنوات ابتاع بيتا صغيرا بالحارة قريب لمحل إقامة
عائلته، وافتتح سلسلة زواجات الأسرة حين اقترن بـ “منيرة” بنت “عطوة الفحام” وهي خطوة جعلت أسهم أسرته ترتفع في المنطقة ورقتها قليلا
في السلم الاجتماعي..

لعل حياة الأستاذ “قدري” كانت لتمر بشكل عادي، أو هكذا كانت لتبدو في سنواتها العشرة التالية، منذ استقراره مع عروسه في بيته الصغير، ثم انجابه لثلاثة أبناء نابهين، وعلاقة المودة التي كانت تربطه وعائلته بعائلات أخوته، وأيامه العادية الموزعة بين عمله وبيته وجلساته شبه الإسبوعية على مقهى “الوردة الفينيقية” في الميدان مع ثلة الأصدقاء الذين لم يكن ليتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، ولكن كل شيء تغير فيما بعد..


2

ربما بدأ الأمر في تلك
الليلة التي سمع فيه الناس في حارتنا صوت الصراخ والولولة يتصاعد من نوافذ بيت “شعلان” فتوة الحارة حاملا نبأ وفاته المفاجئ، ودون سابق انذار.

أعقب تلك الليلة ثلاث ليال صامتة كئيبة، غلقت فيها الدكاكين والبيوت، واعترى سكانها التوجس متغلبا على الحزن لوفاة فتوتهم، واحتل صوان عزاء الفقيد صدر الحارة مستقبلا المعزين من سكان الأحياء المجاورة وعصابات فتواتهم.

كان أعداء “شعلان” المتربصين أكثر من محبيه، وأغلب زيارات العزاء تلك كان لا تخلو في باطنها من غرض استطلاع ما تمضي إليه الأمور في حارتنا بعد سقوط فتوتها القوي، والاحاطة باسم خليفته المنتظر، ومدى استعداده لاحترام معاهدات الصداقة والسلام التي أبرمها سابقه أو تسخير الحارة ورجالها في استكمال معاركه مع أعداءه..

كانت تسري في العزاء همسات ببعض الأسماء التي سمحت لطموحها أن يتمدد في اتجه احتلال مكان “شعلان”، وبدأت الأصوات تعلو بها رويدا رويدا حتى ليلة العزاء الثالثة والأخيرة، حين انبرى “صابر العتماني” شيخ الزاوية بخطبة عصماء في حضور”غالي النطع” فتوة الحبانية عن فضل الصبر على المصائب، وما تركه “شعلان” من سيرة طيبة وأعمال خيرة كان أولها الدفاع عن حارتنا ضد أعدائها حتى أنه أبى أن يترك مهمته دون أن يسلمها إلى من يأتمنه على استقرارالحارة وأمنها، وهو ما جعله يزور الشيخ “صابرالعتماني” في منامه ويؤمنه على اعلام أهل الحارة بأنه لا يأمن عليهم من بعده إلا بأن يضعهم وأهليهم وأموالهم تحت حماية فتوة الحبانية.

لم ينتهي الشيخ من خطبته، فقد غطى على صوته، وصمت صوان العزاء تكبير وتهليل رجال “غالي النطع” ومن ورائهم أغلب رجال الحارة ممن رأوا في رؤيا “العتماني” سبيلا للخلاص من قلقهم وترقبهم على مستقبل حارة تنقصها يد فتوة قوي يحميها من أطماع الفتوات والعصابات، بينما اكتفت الأقلية بصمت المندهش وهي تشاهد فتوة الحبانية وهو يخرج من الصوان محمولا على الأكتاف من صوان عزاء “شعلان” الذي تحول بلحظات لصوان فرح لمبايعة “النطع”.


3

في اليوم التالي حملت نسمات العصر الهادئة نبأ مجاهرة الأستاذ “قدري” بالمعارضة والسخرية مما حدث في عزاء فتوتنا المتوفي، ورفضه مبايعة الفتوة الجديد الذي أتى بناء على رؤيا وصفها بأنها مشكوك فيها وتحتمل الكذب أكثر مما تنبئ بالصدق في فحواها..

“لم نعرف في سيرة”شعلان” ما يجعله وليا من الأولياء، ولا عالما من العلماء حتى نلتزم حتى لو من باب الحياء بوصيته المشكوك في صدقها أصلا”

بل لقد ذهب الأمر إلى
شخص الشيخ “العتماني”..

“”العتماني” ضرير، ولم ير “شعلان” في حياته حتى يتعرف عليه في
منامه.. ومنذ متى كان لـ “العتماني” كرامات الصالحين؟!”

 كان “قدري الشواف” رافضا، وبشكل قاطع، لان نولي أمرنا من لم نعرف بناء على رؤية في منام أحدنا..

 بدأ الأمر بهمس انساب في جنبات الحارة يتهم الأستاذ بالخروج عن جماعة المسلمين، ثم سرعان ما تعالت الأصوات، وكان أغلب أصحابها
من العربجية وأصحاب المهن الذين تجمعهم ليالي الأنس في مقهى الحارة الوحيد، تسخرمنه وترميه صراحة بالجنون والكفر لطعنه – من وجهة نظرهم – في حقيقة البشائر الإلهية في رؤى الصالحين.

– كثيرا ما خاطب الله أنبيائه في منامهم وأمرهم، وأبو الأنبياء رأى أنه يذبح ابنه فامتثل للرؤيا، فكيف لا نطيع ونمتثل؟

– الأستاذ بيته مليء بكتب الأجانب الكفرة.
– بل لعله جاسوس مندس وذنب من أذناب الانجليز المحتلين!

– كيف نسمح أنيكون بيننا كافر كهذا؟!

بل ووصل الأمر ببعض السفهاء – في الأيام التالية – ان يسلط عليه أطفال الحارة ليزفوه بالأغاني والتهليل في ذهابه وايابه.. وبقي هو مصمما على رأيه دون أن يمالئ أو يوارب.

 من ناحية الفتوة الجديد فلا أذكر أنه قد احتك به. أظن أنه كان يكن له نوعا ما من الاحترام، كان يسمع ما يدور في الحارة ويكتفي بالصمت الراضي، بعضهم كان يتقرب له بسب الأستاذ في حضرته ويصيح غاضبا أو مصطنعا الغضب..

– كيف يطعن في أحقيتك بزعامة الحارة وأنت خيرالفتوات وأحقهم بها.

لكن الغضب الموالي للفتوة الجديد لم يقتصر على الكلمات وقتا طويلا. جائت تلك الليلة التي كان “زينهم الدرزي” – وكان من أشقياء الحارة – يجلس مع بعض صحبه الذين نجحوا فيما بينهم في جمع ثمن زجاجتي “براندي” اشتروهما من “البار”الجديد الذي افتتح حديثا تحت المبنى الزجاجي الضخم في الميدان مع نصف كيلو من الترمس وبعض الخيار واتجهوا لتجمعهم السهرة ببيت “زينهم” القريب من بيت الأستاذ، ويبدو أن الحديث المخمور اتجه نحو موقف الأستاذ من رؤيا “العتماني”..

– هذا الأستاذ مجنون.

– انها المدارس والكتب التي تفسد عقول هؤلاء وتجعل إيمانهم يتآكل حتى يكفروا بالخالق تماما وينكرون كرامات الأولياء والصالحين.

وارتفعت نبرة الحديث ومعها موجة غاضبة في العيون التي كساها “البراندي” بلون الدم، وصارت الكلمات تتشابك لتنسج نهاية دموية خطتها العقول المخمورة؛ فلم تنته الليلة إلا ومعها حياة الأستاذ وأسرته الذين كانوا يغطون في نوم عميق حين ارتفعت حولهم ألسنة الحريق التي فشل كل جهد في مكافحتها؛ فلم تترك شيئا أو أحدا في البيت إلا كتلة متفحمة دون معالم.

4


تغيرت معالم الحارة بعد ذلك بفترة وجيزة، فمنزل زينهم الهارب من أيدي الشرطة تحول لشونة غلال يمتلكها الشيخ “العتماني” ويديرها ابنه “صالح”، أما فتوتنا “النطع”، فقد حد انشاء نقطة الشرطة في الميدان من سلطته في حارتنا وما حولها؛ واضطر تحت انحسار وتضاؤل حصيلة الاتاوات إلى الاتجاه لتجارة الحشيش.
أنا أيضا تركت الحارة بمجرد تعييني بوظيفة مفتش للري في إحدى قرى الصعيد ولكنني لم أزل أزور حارتنا كلما استطعت للاطمئنان على الأهل والصحبة وإن كان على فترات متباعدة، وكلما مررت بالأطلال المحترقة يعتصرني الألم لمصيره البائس الحزين. شيء ما بداخلي كان يستغرب موقفه كلما تذكرته. 

بعين القلب يجمعني به اللقاء في المنام، فأراه في مقام الشهداء، وأسأله، فيجيبني راضيا..

– لم أكن تقيا ومستقيما كما ينبغي، ولربما لولا كلمة حق صبرت عليها، ولم أحد، ما وصلت مقامي الذي ترى. ….

الكشوفات – الكشف الأول “غروب”

كان مشهداً رائعاً للغروب. وكانت السماء مصطبغة بلون نحاسي رائق لا يفتأ يزداد شحوباً وقتامة، وأريج الزهور يسبح حولنا في تيارات من النسيم بارد عليل مع نغمات حزينة من ” كمان ” بعيد مجهول، أنغام بدت وكأنها تأتى من أعماق الغيب الغامض.
في بعض لحظات كان المكان يبدو لأنظارنا كقطعة من الجنة، وكنا نحن كأهلها سعادة وارتياحاً، وقد ألقى كل منا بجميع ما يعج به عقله من أفكار وذكريات لتسبح حوله في دعة وصمت طويل، لم يقطعه سوى بعض تنهدات غامضة، ربما لذكرى عزيزة تمر بالخاطر أو إشراقه وجه حبيب من صفحات التاريخ المنسي.
وأخيراً ينتهي العزف الغيبي تاركاً مساحات لا متناهية من السكون والشجن، ويغرق الأفق في ظلام سرمدي دامس، فيقول احدنا وهو يمسح صفحة السماء بنظرة ذابلة..

“حتى الفردوس لا يخلو من الظلام والشجن.”
تمر فترة من الصمت الثقيل قبل أن يشير أخر إلي نجم بعيد…

“الظلام أيضا لا يخلو من بريق نجم ما…”