أرشيف الأوسمة: مؤتمر أدباء مصر

الخطاب ووجهة النظر. عبد العزيز موافي

كتاب أبحاث ( السرد الجديد ) مؤتمر أدباء مصر 2008 بمرسى مطروح

كتاب أبحاث مؤتمر السرد الجديد، مرسى مطروح، 2008م،

الخطاب ووجهة النظر، مفهومان أساسيان في نظرية السرد. عبد العزيز موافي

م

إذا كان الشعر هو الفن القولي الذي احتل مكان الصدارة بامتداد العصور الكلاسيكية، اعتباره حامل قيم تلك العصور، فإن الرواية هي الفن القولي الذي بزغ مواكبًا لظهور الطبقة البرجوازية في العصور الحديثة، ووصولاً إلي ذروة نضجها بامتداد القرن الثاني عشر، والذي يعد بحق الأب الشرعي لظهور الفن الروائي بعد أن اكتملت ملامحه علي أيدي كوكبة من ألمع الروائيين في تاريخ الأدب مثل: دانييل ديفو (1689-1738)، وجوناثان سويفت (1667-1745) وصمويل ريتشاردسون (1689-1731)، والماركيز دي صاد (1740-1814)…. إلخ . ونظرًا لسطوع نجم الفن الروائي مع صعود نجم الطبقة البرجوازية البازغة، فقد صارت الرواية هي فن البرجوازية الأول . لذا فإن جورج لوكاتش يصف الرواية بأنها ملحمة الطبقة الوسطي في بحثها عن المعني والقيمة، في عالم يهتز فيه المعني وتضطرب فيه القيمة.

استمر في القراءة الخطاب ووجهة النظر. عبد العزيز موافي

السردي في الشعر، والشعري في السرد بقلم: أ. د. محمود الضبع

منشورات كتاب أبحاث مؤتمر أدباء مصر عام 2008


نظريا تراجعت نظرية الأنواع الأدبية بوصفها مدخلا للتصنيف، يتم اعتماده للفصل بين جنس أدبي وجنس آخر، ولكن علي المستوي التطبيقي لم تزل بعد – في أدبنا العربي- قائمة، ولم يزل بعد البحث – نقديا – يسعي لتأصيل مفهوم النوع، والبحث عن السمات الفارقة بين جنس وآخر .

استمر في القراءة السردي في الشعر، والشعري في السرد بقلم: أ. د. محمود الضبع

مدخل إلى نظرية الحكي. سيد إمام

. مرسلة بواسطة fawest في 3:41:00 ص

بحث مقدم إلى مؤتمر السرد الجديد..مرسى مطروح 2008م

ا

السرديات narratology هي الدراسة المنهجية للحكيnarrative ، أو هي، كما عرَّفها تودوروف الذي صك المصطلح في “نحو الديكاميرون” Grammaire du Décame ron (1969) «علم الحكي” la science du récit ولقد انسحب المصطلح ارتجاعياً علي مجموعة من النقاد والمنظرين الذين ينظر إليهم الآن بوصفهم رواداً لنظرية الحكي (السرد) ممن كانت أعمالهم توضع تحت مسميات أخري من أرسطو حتي فلاديمير بروب، ومن بيرسي لوبوك وحتي واين بوث. ولقد ارتبط المفهوم عند نشأته بالتحليل البنيوي للسرد الذي كان يهدف إلي الكشف عن الأنساق الكامنة في كل أنواع الحكي. كما ارتبط في بداياته الأولي بالنظرية الأدبية، ويرجع الفضل إلي رولان بارت وكلود بريمون و إ.ج. جريماس في تخليصه من النظرية الأدبية وإدراجه ضمن نظرية سيميوطيقية عامة تضم نصوصاً حكائية بالمعني الأوسع للكلمة مثل السينما والمسرح، وفنون الرقص والرسوم المتحركة والتصوير، والروايات والقصص القصيرة والسير الشعبية، إلخ.

استمر في القراءة مدخل إلى نظرية الحكي. سيد إمام

محطات للوصول.. سيراً علي الأقدام عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل


شهادة أدبية

مؤتمر أدباء مصر ، دورة 2008 مرسى مطروح

0 تعليق مرسلة بواسطة fawest في 3:51:00 م

لكم تساءلت: لماذا جاء ميلادي بالقرب من ساحة الحرب؟بسذاجة لم تكن هي التهور بعينه ، زعمت أنني جئت لأستل قلمي من بين الضلوع، لكي أطفئ لهيب المعارك فداست كلماتي علي مواقع في حياتي أحدثت انفجارا أشبه ما يكون بدوي معارك الحرب العالمية الثانية!!لنعد إلي النشأةولدت في مدينة المنصورة يوم 21/3/1938 علي إيقاع دبيب الراكضين في هلع عبر الحواري، كانوا يحذرون الأهالي من إشعال أي عود ثقاب، صيحات قلقة، ملحة في طلب نشر عباءة الظلام كدعوة صريحة للحفاظ علي الأرواح من خطر الموت، بعد أن تقدمت جيوش المحور من “العلمين” وقاست بأس الآلاف من جنود بريطانيا العظمي التي كانت تضع مصر تحت ما تسميه بالحماية.أدركت مبكراً أنني لم أعتد علي أحد حتي يرغمني علي ملء عيني بأشباح الظلام منذ طفولتي من يدخلني في أثواب، هل يستطيع الادعاء بأن ليل هذه الطفولة كان باسم القسمات؟ من يمكنه الزعم بأن السماء كانت علي إيقاع ذلك الواقع تضحك لي؟من رابع المستحيل أن أضع توصيفاً خارج جغرافيا المكان، خاصة وأن من هم علي شاكلتي لا يستطيع أحد منهم أن يصبح ذاتا مستقلة عن واقعها، وما أعرفه أنه إذا كانت هناك خصوصية في الثقافة فإن ذلك لا ينفي وجود الملامح المؤثرة في عدد من الثقافات الأخري، وهي التي تحفر في الذات أوتاداً من نسغ الإنسانية، وعبير الروح.ولكي لا نبتعد عن المواد الخارجية التي ساهمت في تكويني.أقول: ولدت لأب كان يعمل حدادا بورش السكك الحديدية، امتلأ سمعي بقعقعة عجلات القطارات في ذهابها وإيابها بالقرب من البيت الذي ولدت فيه.مشكلتي المبكرة مع هذه القطارات أنها لم تنقطع عن أدوار الوصول ـ في مختلف الأوقات ـ إلي بلاد لا أعرف إلي متي سأظل جاهلاً لمدن يعينها الله عند إقبال الصبح فترنم لملكوت السموات والأرض.القطارات التي كانت تسير بقوة اشتعال الفحم وضغط البخار أغوتني بالذهاب معها إلي مواقيت الشمس، أي قطار ـ بعد ذلك ـ يخرج من المحطة كان مطاردا مني، ومن أصحابي، مرات ومرات، كنا نتراهن علي الدخول معه في سباق، نراقبه عندما يلوح قادما من بعيد بصدره المنتفخ بالسواد.. من يفوز.. نحن أم القطار؟كم من المرات سبقناه .. كم مرة ضحكنا فيها علي فشله ؟ في زهو الفائزين وقفنا ـ علي مسافة قصيرة منه ـ في تحد .. كان يقبل ناحيتنا في تهافت مثل دودة عجوز، وعندما يقترب نروح نعيد السباق من جديد، إذ لم يكن في حياتنا شيء يبعث علي السرور سوي اللعب مع القطارات والدخول معها في سباق كانت نتائجه تأتي دائماً لصالحنا .تحت عمود النور ـ (نقطة تجمعنا) ـ استعدنا مرارا خيبته حتي أفعمنا الانتصار بنوع من الاعتداد بالنفس، ومن حيث لا أعلم أجدني ـ فجأة ـ غير مبسوط، غير مبتهج، شارد الذهن، إنه يصل إلي بلاد لا نعرف شيئاً عنها، أما أنا فلا عمل لي سوي إراقة الوقت في استعادة ضحكة صارت لا معني لها .لمحناه قادماً من بعيد كأنه إنسان يمشي في عرج .. صعد ثلاثة من أصدقائي إلي سلم العربة الثالثة .. كانت عربة السبنسة قريبة مني .. صعدت إليها .. نزل أصدقائي الواحد منهم تلو الآخر في تهليل وفرح .. عندما حاولت أن أنزل مثلهم وجدتني منطرحاً علي ظهري بعد أن داست آخر عجلة من عربة السبنسة علي ذراعي اليمني .أول رصيف علي شمال المحطةكأن القطار (وهو يمثل الزمن المتحرك) أراد أن يثأر مني، أن يعيد إلي نفسه شيئاً من الاعتبار، أراني كيف تكون نهاية الضحك عليه، لم يعد من المعقول أن يفكر مبتور الذراع في التحليق أو التفكير في الذهاب إلي المدن التي يصل إليها القطار، الأب والأم والأقارب رجحوا كفة عدم صلاحيتي للقيام بأي عمل، قال أبي: لن ينجيه من الغرق إلا القرآن، انتظمت في صفوف مدرسة المحافظة علي القرآن الكريم .دونما إدراك مني ـ آنذاك ـ لكينونة المكان ومدي تأثيره في الشخصية، أذكر أن المدرسة كانت تقع بين مبني “جماعة الإخوان المسلمين” و”حزب مصر الفتاة” لكي أذهب إليها لابد أن أمشي من أمام الحزب الذي كان يشغل الطابق الأرضي من عمارة لا تزال حتي اليوم تتمتع بشكلها الهندسي الجميل .أثناء المرور من أمامها كان يسترعي انتباهي لفيف من الشباب كأنهم جماعة في خلية نحل لا يحكمها سوي الحركة المستمرة داخل الصالة المطلة علي الشارع، كنت أحسدهم لأنهم لم يتذوقوا ـ مثلي ـ آلام عصا الشيخ إبراهيم عبادة بسبب عدم حفظ اللوح المقرر والذي ينتهي عند الآية التي قال فيها فرعون للنبي موسي عليه السلام “ألم نربِّك فينا وليدا ولبثت فينا من عُمرك سنينَ ؟!حتي ولو ظل جرس المدرسة يرن في غلاثة ـ كأنه ينادي علي أنا بالذات ـ كنت أوهم نفسي ونفسي تقبل التصديق أن هذا ليس جرس المدرسة، لكنه جرس كنيسة الملاك الواقعة وراء المدرسة في السكة الجديدة.فعلت مثل الذين كانوا هناك، سددت نظراتي إلي صفحات جريدة الحزب المفرودة علي الجدران دون أن أعرف تناقضات الحركتين ـ الإخوان المسلمين، وحزب مصر الفتاة ـ في المنطلق والعقيدة، كنت لا أعرف أن جماعة الإخوان المسلمين نمت جذورها من الدين الإسلامي، وحزب مصر الفتاة بأصوله من الحضارة الفرعونية، الشيء المؤكد، وما شفته بعيني أن الرابطة التي تجمع بين الإخوان المسلمين كانت قوية، وتظل تتصاعد وهي تستمد حقها في الوجود بقوة الدين.أيام الهروب من عصا الشيخ إبراهيم عبادة لم يخطف بصري ويلهب مشاعري إلا حركة شباب حزب مصر الفتاة، حين كان يرتفع بينهم صوت يستنفر الجميع لكي يحتشدوا ويخرجوا في مظاهرة، وبمجرد أن ترتفع عقيرتهم بالثورة والتنديد بأعمال الحكومة كانت الدكاكين والورش الأهلية تغلق أبوابها، ويسير صبية الورش والأسطوات مع الجموع حتي تنقلب شوارع المنصورة ـ من شدة الزئير ـ إلي وحش ضار.يعتلي شاب الأعناق، يلوح بقميص أبيض مضرج بدماء طالب خرج في مظاهرة أمس، أردته إحدي الرصاصات قتيلا، كانت البندقية صناعة إنجليزية، الرصاصة إنجليزبة، اليد التي ضغطت علي الزناد مصرية!؟تساءلت في سن النضوج : أمن الحكمة أن يموت الشجاع ويعيش الجبان ؟، ثم هل كان من الحكمة أن يعيش كيفما كانت الحياة، أم يظل يخوض أهوال الصراع ؟ من كان محمولا علي الأعناق راح يهتف والمتظاهرون يرددون وراءه (جبل الطور اليوم بينادي .. القوا في عبد الهادي).عرفت لأول مرة أن في مصر حكومة موالية للإنجليز، وأن رئيس وزرائها كان يدعي إبراهيم عبد الهادي باشا، وأنه أمر باعتقال من يخرجون للتظاهر وإلقائهم في معتقل “جبل الطور”.تحول هروبي من المدرسة إلي متعة سياسية وثقافية، أصبح الشارع صديقي ومعلمي قبل الكتاب، وحتي بعد أن عرفت حياة الكتب كان هو المورد الأول للمعرفة، كما أذكر له بالامتنان والشكر سعة صدره لي حين استضافني علي إحدي التلتوارات ومنحني شرف الكتابة بين أسطوات دهان السيارات وميكانيكية علي الطريق وأصحاب ورش متنقلة للسمكرة وضبط وإصلاح أبواب العربات .هناك كتبت رواية “أولاد المنصورة”، وكنت كلما فرغت من فصل رحت أقرأه عليهم، وكنت أشجعهم، بل وأرجوهم أن يقولوا لي رأيهم بلا حرج أو تحفظ، ولكم استمعت إلي تعليقاتهم ـ في حب ـ كتلميذ يتلقي درجات النجاح من معلمه (1).العودة إلي خط فرعي في محطة مؤقتةذكرتني أجواء مظاهرات الطلبة والعمال بتلك الأجواء التي كانت تسود البلاد في عباءة من الظلام إبان الحرب العالمية الثانية، في ذلك الوقت كنت في سن المراهقة العمرية والفكرية، تمنيت أن أعود من تحليقاتي فأجد في طريقي مخرجا سينمائيا له عشق بالشوارع مثلي، وأن يعهد إلي بدور قريب الشبه من دور ممثل فيلم”سارق الدراجات” الإيطالي، طقت في دماغي حكاية التمثيل بعد أن شاهدت “سفير جهنم” ليوسف بك وهبي، و”عودة الغائب” لأحمد جلال، و”ابن الفلاح” لمحمد الكحلاوي، و”أحمر شفايف” لنجيب الريحاني .في ذلك الوقت، اعتاد أبي أن يشتري يوم الخميس مجلة “المصور” بأربعة قروش، وكان يطلب إلي أن أقرأها علي سمعه، كان أول عدد اشتراه يحمل غلافه صورة البطل “عبد القادر طه” الضبع الأسود الذي قاتل اليهود في بسالة وشجاعة حتي حاصروه في معركة “الفالوجا”.تابعت القراءة بعقل يسرح مع ميعاد صديقي رئيس فريق التمثيل بمدرسة الصنايع، كان دعاني في نهاية العام الدراسي لمشاهدة العروض المسرحية التي كانت تجري في مسابقة فنية بين فرق المدارس المسرحية علي مسرح الجامعة الشعبية “هيئة قصور الثقافة الآن”، كدت أقبل يده حتي يجد لي دوراً، أي دور، وقفت أمامه أرتجل بعض المشاهد من أفلام شاهدتها، كان ينظر إلي في رثاء، حاول جاهدا ألا يخدش مشاعري، وهو جالس وراء مكتبه في الغرفة التي خصصها أبوه له ليمارس فيها هوايته.لمحت علي مكتبه مسرحيات لموليير، وأحمد شوقي، وبرنارد شو، وتوفيق الحكيم، أعارني هذه الأعمال قرأت بدون فهم أو استساغة، اكتشفت أن القراءة تحتاج إلي تربية وجهد ومعاناه، ولكن بالتدريب عليها يمكن للمرء أن يحصل علي نوع من الابتكار، ولكني كنت أتعجل الدور الذي سيرفعني إلي قمة نجيب الريحاني.باغتني صديقي المسرحي بقوله والحرج يتملكه : ليس الفن تمثيلاً فقط، أبواب الفنون كثيرة، ممكن ترسم، ممكن تكتب مسرحيات، ممكن روايات … قصص ….، أذكر أنه قال: ونظراً لأن التمثيل بالذات يحتاج لمواصفات جسدية محددة، تحرج أن يقول بأنني بذراع واحدة، ثم استطرد : إنما يمكنك أن تقرأ، فالقراءة إبداع آخر، عندما تتذوق جمالياتها ستكون قد غرزت في نفسك مجموعة من الفضائل، وقد يمكنك أن تعيد صياغتها وتقديمها في أنماط تكون ملائمة في التعبير عن هموم الإنسان المعاصر، وبذلك تتيح السيادة للأسلوب القادر علي معالجة أدق خلجات الإنسان وخلجات اللحظة المعاشة بتناقضاتها.ثم أعطاني مجموعة من الروايات الرومانسية :”بول وفرجيني”، “غادة الكاميليا”،”تحت ظلال الزيزفون”، وجميعها لفظته خشونة حياتي وتربيتي التي كان فيها الكثير من الصرامة، لكنني انطويت علي الكتب التي اخترتها بنفسي.أثناء البحث عن ما يشبع جوعي الثقافي، عثرت علي سلسلة “قصص للجميع”، و”كتب للجميع”، علي صفحاتها طالعت “ذئاب جائعة” لمحمود البدوي، توقفت طويلاً عند “دماء لا تجف” لعبد الرحمن الخميسي، دفعني حبي له للبحث عن مؤلفاته، انسكبت في روحي قطرات من دماء مجموعته القصصية “قمصان الدم”، ثم تعرفت علي عبد الرحمن الشرقاوي قبل أن تتسع أمامي شرفة المطالعة؛ فتعرفت علي بلزاك وموباسان وديكنز وشالوخوف وجوركي وتولستوي وتشيكوف.في “دعاء الكروان” استوقفني وصف طه حسين لحياة “آمنة” بطلة روايته بأنها “كلها شظف وخشونة”، وفي رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل وصف تقريري لحياة الفلاحين الذين ـ في خنوعهم ـ تكيفوا مع حياة الشقاء، وباتوا قانعين بما يقع عليهم، ويرضون عنه. عرفت المجتمع بأفراحه، بأتراحه، بطبقاته المستبدة، بفلسفاته الاجتماعية من الروايات و القصص، مع أنني كنت أحد الأضلاع الرئيسية في طابور التلاميذ الخائبين الذي كان أول من ترتفع علي قدميه وتهبط عصا الشيخ إبراهيم عبادة، في عز “طوبة وأمشير”.بيد أن ذلك كله لا ينسيني وجه الطالب محمد حسن عبد الله الذي أصبح أستاذاً للأدب الحديث في جامعة الكويت، ثم في جامعة القاهرة. كان قد سبقني إلي المعهد الديني بالمنصورة عام 1950 ـ 1951، وفي أحد الأيام جاء لزيارة المدرسة في زيه الأزهري، سألته عن طريق القبول بالأزهر، عرفت منه تاريخ تقديم الأوراق، في يوم الامتحان جلست أمام ثلاثة من الشيوخ، طلب إلي أحدهم أن أكمل ما بعد :”محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم”، وطلب الثاني أن أكمل ما بعد: “إنا نحن نحيي الموتي ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في كتاب مبين”، وطلب الثالث أن أكمل ما بعد: “يا معشر الإنس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان”.تعثرت في التلاوة لأول مرة، تفصد العرق من جبهتي، أغرق عيني في بحور الخوف والتلعثم: يا معشر .. يا معشر، والشيوخ الثلاثة يشجعونني قائلين في نفس واحد : هه .. فأقول: يا معشر الجن، وهم لا يزالون يشجعونني بكلمة: هه، لعلي أنطق وأقول: يا معشر الجن والإنس، ثم انفجرت في البكاء خوفا من الرسوب والعودة إلي محطات الهروب من المدرسة.لكنني فوجئت بأحدهم يقول لي: قم يا شيخ عبد الفتاح أنت ناجح، وأوصاني ثلاثتهم بالانكباب علي تلاوة القرآن كل يوم حتي أحفظة عن ظهر قلب، ثم سألني أحدهم قبل أن أغادر المكان، وهو يسجل اسمي في كشف الناجحين عن المذهب الفقهي الذي أريد أن أتلقي علومه، أجبت دون أن أعرف أوجه الاختلاف الفقهية في الإسلام :المذهب المالكي، بص الشيوخ إلي بعضهم في دهشة، ثم ابتسموا في غموض حين سألني أحدهم: أنت أصل جدودك مصريين؟لم أكن أعرف أن المذهب المالكي كان منتشرا في مصر إبان عهد أحمد بن طولون حين كان الشيعة يحكمون مصر، وبسقوط حكمهم أصبح المذهب الشافعي هو السائد.بعد أن حصلت علي شهادة الابتدائية الأزهرية سنة 1955 التقيت بصديقي الميكانيكي(ü) تحدث إلي عن فكرة الألوهية والأجرام السماوية وهندسة بناء الكون، أعطاني كتاب”أسس الدولة” لجون ستيوارت مل، وأعمالا لهارولد لاسكي، كان يمشي وفي جيب جاكتته الإنجيل، وفي الآخر القرآن، وفي الجيب الداخلي”أصل العائلة” لأنجلز، هو من أساتذتي الأوائل الذين كنت أجلس معهم علي التلتوارات، وعدني بأن سيأتيني بمجموعة مكسيم جوركي القصصية”الحضيض”و”مخلوقات كانت رجالا”.اكتشفت أن الكتابة هي المؤامرة الوحيدة الشريفة في العالم ضد من يكيدون للإنسان، فعلمتني الخبرة المكتسبة من الحياة ، والثقافة أن أحرر لغتي من الأساليب المطروحة، أزعم أنني طبقت هذه التقنية أثناء كتابة “أولاد المنصورة”، اهتممت بالتركيز علي الجانب الحركي داخل حي شعبي مهمش، أعلن لفيف من أبنائه عن عزمهم الخروج من نطاق الفردية بالمشاركة في تكوين فريق لكرة القدم.انتصروا علي مختلف الصعوبات حتي تكوَّن الفريق، خاضوا به العديد من المباريات ضد فرق البلدان والقري المجاورة، حين يعودون إلي الحي مفعمين بنشوة الفوز، كانوا بعيدين عن روح الأثرة والأنانية فيهدون فوزهم للمدينة التي لم تعرف الانتصارات وهي علي ما يبدو ـ في ذات الوقت ـ لا تعرف شيئاً عنهم.الصعوبة التي قابلتني أثناء كتابة هذه الرواية ظهرت حين كنت أفكر: كيف أجعل الآخرين ـ بعد وقوع النكسة ـ يستمرون في حركة تصاعدية، بينما كان علي الطرف الآخر من يفشون ثقافة الهزيمة، والانكماش في مواقع الفشل، وتكتمل فصول المأساة عندما نري أن شباب الحي مستبعدون من كل تشكيل اجتماعي، لقد كونوا فريقاً لا يعرف غير الحصول علي نتائج الانتصارات، ولكن أحدا لم يستطع أن يشكل منهم قواما اجتماعيا، تتحقق علي يديه ـ أو قدميه! ـ طفرة تنتشل من هم علي حافة الانهيار من الانهيار .لم يكن من نصيبهم سوي العيش في حالة من ردود الأفعال المحبطة، وهي أعمال تعجزهم تماماً عن رد القهر؛ فاستعانوا علي الوقوف أمامه بالحبوب المخدرة، ونسيج الأحلم التي يختلط فيها الكابوسي بالواقع، بينما كانت الشوارع تغرق في أقوال ساسة لا يخلو أحدهم من ديماجوجية، تقول ما لا تفعل، وتفعل في النور والظلام ما لا تعلن عنه(!!).ثم أتذكر ـ أثناء الكتابة ـ الزقاق الذي انطلقت منه أعمال نجيب محفوظ لتناقش الكثير من قضايا الوطن وهموم المثقفين دون أن يبتعد الكاتب عن هذا السياج ليشارك في حركة النضال السياسي؛ فقضيته الكبري كانت الكتابة فقط والاهتمام بحياته الوظيفية، علي حين كانت الحرية ـ معذ 1939 حتي 1944 ـ هي قضية البلاد الأساسية، وبحيث لم يهد لمجتمع المثقفين دور مؤثر، أو ضمير يحفز القوي المقهورة للوقوف علي الأقدام في صلابة .حول عناصر البناء في قصصي القصيرة، إنها في جملة قصيرة ترهص بانهيار الفواصل بين الشكل والمضمون :”وأحياناً باحتفاظ كل عنصر تقني بخصائصه الموضوعية والجمالية في إطار اندماج الفواصل بينها» (2) .لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لتجربتي الروائية أثناء كتابة روايتي” العنف السري” لقد انتقلت بين الروافد الاجتماعية المستمدة من جذور تاريخنا القومي، الفرعوني، القبطي، الإسلامي، لكي أنفخ في روح عاطفة الانتماء، وجدت حرية الفرد لا تتحقق في مجتمع مكبل برذائل الاستئثار والأنانية .تابعت خطوات بطل الرواية، كان هو الذي يسوقني مع كل تجربة يخوضها حتي تنتهي بالفشل، ومع ذلك ظل يحاول، بوجه آخر، واسم آخر، في أمكنة مختلفة، ولقد تعدد فيه الأدوار، فهو “المعصوب العينين” الذي يري ببصيرته كل ما يدور في “الخلاء” ،والخلاء في الرواية هو البديل، أو المعادل الموضوعي للمدينة الفارغة من معاني الفضيلة.بعد أن استكملت ملامح هذا البطل تساءلت:هل يمكن أن يكون شاهدا علي عصر رديء؟إنه البطل العربي الذي نجده في السجين بملامح “فهيم المصراتي”، وهو “الجندي” العائد من معارك الهزائم، وهو سلمان “الفران”، وهو “الشيخ” ثم “الإمام” الذي كان يقف علي رأس حلقة الذاكرين مساء كل خميس “مستهلاً الإنشاد بالصلاة علي النبي وآل بيته، والترحم علي الشهيد الإمام علي ولديه الحسن والحسين وأمهما فاطمة الزهراء (3).لقد شجعني هذا البطل ـ كمنتقم لا يفتقر إلي بناء عقائدي- علي أن أتحمل معه تبعات كل شخصية تولي القيام بها، ومضيت معه وهو يحاول في أجواء بلا فواصل، حيث تداعت جدران الأزمنة والأمكنة، حيث باتت تنتظمهما حلقة في سلسلة من الشقاء، بين هو مستمر مع تقدم خطواته “فتسلمه الجدران إلي جدران أخري لا نهاية لها» (4).هوامش(1) فازت الرواية بالجائزة الأولي في المسابقة التي ينظمها نادي القصة .(ü) بطل قصتي “بصقات فرعون الملونة” المنشورة بجريدة القبس الكويتية عام 1980 .(2) د.محمد زيدان “نصوص تسبح في ملكوت الحلم” تأويلات لنماذج مختارة للقاص عبد الفتاح الجمل ، مجلة اوراق ثقافية، الهيئة العامة لقصور الثقافة إقليم شرق الدلتا) 2002.(3) العنف السري، المجلس الأعلي للثقافة 2007، ص 68 .(4) العنف السري، ص621

التسميات: شهادات

مؤتمر أدباء مصر بمرسى مطروح

دورة ( 2008م)

رئيس المؤتمر: خيري شلبي

أمين عام المؤتمر: سيد الوكيل

رؤية السارد لعمله، بقلم:محسن يونس

الصفحة الرئيسية

شهادات الأدباء عن أنفسهم

( مؤتمر أدباء مصر 2008م)

0 تعليق مرسلة بواسطة fawest في 3:49:00 م

الكتابة رسالة حضارية نبيلة . أنْ تبدعَ فأنت فنانٌ ..أن تكتبَ فأنت تؤدي رسالة سامية وتمارس وجودك بوعي، وتتجاوز ذاتك لتلتحم بالآخر أفقيا وعموديا وزمكانيا . الكتابة فعل إنساني قيمي يمارسه المثقف ،الكاتب الحر، الناقد لمسيرة مجتمعه ، نقْدٌ صادقٌ بنّاء غايته التغيير إلي ما هو أصلح ..الكتابة الحرّة تنقد الخطأ باعتباره سلوكا مُضرّا بالذات والغير كيفما كان الخطأ ومهما كانت قيمة ومرتبة فاعله .. الكتابة الحرة تبشر بالخير وتزرع الفرح والمحبة، وتفضح الظلم والتحيز والقهر والعدوان .. الكتابة وفق ما سبق تتجلّي أهميتها في ضبط وتنسيق الإنتاج الفكري، ليكون سندا ودعامة في التنوير ورفع مستوي الوعي والفكر للإنسان، والسموّ بالتذوق الجمالي والإحساس به في كل الكائنات، والإحساس بالمسؤولية، وتحريك إمكانات الفرد والجماعة لممارسة المسؤولية التي كلف بها الله سبحانه وتعالي الإنسان واستخلفه في الأرض من أجْل أدائها، ولن يكون لوجوده علي الأرض أي معني إلا بتأدية هذه المسئولية، إن الإنسان يحيا داخل المجتمع وبواسطته بما يوفره له من شعور بالوجود، إذ الإنسان مدني بطبعه حسب مقولة العلاّمة ابن خلدون ؛ وبما يتيحه له من ممارسة حياته وتوظيف إمكاناته وطاقاته، وبما يوفره له من أسباب العيش.. الكتابة فعْل واعٍ وليست نشاطا مجانيا في الفراغ، هي فاعل وفعّال من وعن حالات المجتمع، وترجمة لأفراحه وآلامه، وكشْفٌ لانتصاراته وهزائمه، وإضاءة لمستقبله وتوثيق فكري للآتين، وكلما كانت الكتابة ” واقعية”، والواقعية هنا لا بمعني التسليم للواقع أو التقاطه صورة طبق الأصل، بل بالمعالجة الواقعية، ومحاولة إعطاء شحنة مقوية لإعادة الإنسان إلي وعيه المتوازن، بأسلوب فني راقٍ كلما ازداد شفافية، كان أدْخلَ إلي القلب وأفْعلَ في النفس .إن الكتابة هي قضية الإنسان الواعي الذي يعايش قضايا عصره لا كمتفرج ولكن كفاعل، لأن الكتابة سلطة تمارس وظيفتها في التنوير وفي التوجيه آنيا وتستشفّ الآتي فتنير له الدرب .. والكتابة ليست بالأمر السهل، بل هي نشاط فكري مُضْنٍ يتطلّب الكثير من الجهد والتوتر العصبي والأرق والبحث الدؤوب المتواصل، من أجل العثور علي الفكرة وتنظيم العبارة وتكوين النصّ كيفما كان جنسه، وصبّ ذلك في قالب أخّاذ يستهوي المتلقّي ويمتعه ويبعث في نفسه الراحة والأمل . ولا يتصوّرنّ أحدٌ أن الكتابة مطواعةٌ تنصاع في كل لحظة، وبالإمكان الإمساك بها كلما رغبنا، وتنقاد لأي مخربش بسهولة، وقد قال الجاحظ قديما :(المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي و…..) لكن مَنْ يلتقطها ويقدمها لنا ثمرة ناضجة يانعة ؟من هنا أبدأ وأقول : كنت وما زلت أحب القصص – أي السرد – ذلك لأن الماء والسماء كانتا متعانقتين حيثما أولي وجهي، فهل لذلك علاقة بما قلت من أنني أحب القصص أي السرد ؟بين الماء والسماء توجد يابسة فوقها ناس، اكتشفت حين تم لي الوعي بما حولي أنهم يجعلون للماء والسماء كل الحضور لديهم، فها هو الواحد منهم ينظر للسماء مدة مفكرا، ليعلن بعدها أن الأوان قد صار مواتيا للخروج إلي الماء، وربما في إحدي هذه المرات التي يتطلع فيها إلي السماء يكتشف خبرا آخر، فيهيب بالآخرين أن يلزموا اليابسة، فهناك ” نوة ” في الأفق، كنت أري السماء حيادية، وأندهش من جرأة هذا علي التأكيد بيقين لا يقبل أي ذرة من شك، أن الرياح سوف تهب، وأنها ستكون عاتية، محددا أيضا اتجاهها وتعلمت أن الطبيعة يمكن قراءتها، مع أنها غشوم ما زالت، وسوف تظل، ينبغي التعامل معها بحكمة وفهم، بأفق واسع، كانت حياة هؤلاء البشر الذين نشأت بينهم قصة تولد نفسها، وليس لها من انتهاء، أثناء العمل كانت الحكايات كتاب الراحة من العناء، وكانت تتركز حول إشاعة عن فعل أحدنا الشبق، وتأتي أسماء النساء، يتجلي فيهن حضور الاجتماعي، وما هو طبقي وتأتي الأسرار منفلتة من سريتها إلي العلن، ثم تأتي الشكاوي من الحياة نفسها، وتأتي السياسة أيضا، وتحط بثقلها علي الألسنة، ولا شيء يمنعها من خوف، أو تحرز فنحن بين ماء وسماء ولا يوجد أي ممثل للسلطة علي المراكب في رحلة الصيد، كما أننا بعيدون عن اليابسة محط كل شر، ولا تأتي الأغنيات إلا علي شكل همهمات تستغل للتحفيز علي مواصلة العمل، لا شيء إلا العمل، وكل ما كان هو تكئة لا أكثر، أكتشف الآن أنه لم يظهر علي يابستي شاعر، وأندهش، فأنا أعرف أن أي جماعة تنتج شاعرها إلا جماعتي، وهذا ليس قدحا في الشعر، فأنا أحبه، وأقف هازا رأسي عندما أري كثيرا من الشعراء قد تحول إلي كتابة السرد .. هل السرد فيه سحر يجذب هؤلاء إلي مملكته ؟أهلي وعشيرتي إذن كانوا من الحكائين العظام، حتي لو أخبرك واحد منهم بخبر ما، فسوف يقدم ويؤخر، ويومئ، ويمثل، ليصلك الخبر وأنت تفتح فاك دهشا، فقد استحوذ عليك كليا، ويثيرني هذا العنوان ” أسئلة السرد ” وأحاول تأمله من زاوية أخري غير تلك المقصودة بطرحه النقدي والجمالي مع تغير موجات من يكتبون السرد، ومحاولتهم الواجبة أن يكون سردهم مغايرا، والمغايرة مطلوبة بل حتمية ولا فكاك من حتميتها، فأبواب السرد تفتح لتسلمك إلي باب آخر عليك فتحه فتفاجأ بباب آخر عليك فتحه ولا يعطيك العمر وقتا كافيا لفتح كل الأبواب، ولو عشت إلي الأبد فلن تنتهي إلي الباب الأخير للسرد أبدا، أحاول أن أتأمل مقولة ” أسئلة السرد» من منظور الماء والسماء، فأما من ناحية الماء فيحضرني شيئان، الأول ما كانت أمهاتنا تفعله عند ميلاد طفل، فيؤخذ خلاصه في آنية، ويوهب للماء، بعض القبائل في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يدفنون هذا الخلاص، ولكنا نهبه للماء، ويحضرني هنا – وهذا هو الشيء الثاني – ما كتبه ميرسيا إيلياد – في كتابه صور و رموز – ترجمة حسيب كاسوحة ، حيث كتب : ” ترمز المياه إلي مجموعة القوي الكامنة، وإلي جملة الإمكانات الكونية .. إنها الينبوع والأصل، وإنها الحوض الذي يضم كل إمكانيات الوجود، وهي تسبق وجود كل شكل، وتدعم كل خلق، يشار إلي أن الصورة النموذجية لكل خلق هي الجزيرة التي تظهر بصورة فجائية وسط الأمواج، وبالمقابل يرمز الغطس في الماء إلي الارتداد إلي حالة سبقت تشكيل الشكل، وإلي استرجاع وضعية غير متميزة وغير واضحة المعالم سادت قبل الوجود. إن الطفو فوق سطح الماء يستعيد فعل الخلق الكوني المتمثل في ظهور الأشكال، وأما الغوص في الأعماق فيوازي انحلال الأشكال، لهذا تتضمن رمزية الماء الدلالة علي الموت وعلي الانبعاث علي حد سواء”.أما من ناحية السماء فهي الأفق الذي ينحني علي الماء محتضنا يمكن له أن يمطرها برذاذه وشمسه ورياحه باعتدال طقس أو بأعاصيره، هو الروح التي تظل تسعي ولا تهدأ أبدا، في مفهومي هذا المتواضع للسرد يمكنني أن أزيد وأفسر حالتي أنا كاتب هذا السرد والواقف كإنسان علي جزيرتي بين الماء والسماء، ينبغي علي السارد أن يكون في حالة كتابة دائمة حتي لو لم تتحقق هذه الحالة لتصير ورقا خطت علي وجهه رؤية السارد لهذا العالم، كما تلازم القراءة الكتابة تتعانق الحالتان، وقبل التحقق أخرج بصفتي السردية للناس، أثرثر كثيرا، وأثير الكثير من الأسئلة، وأرفض الإجابات النهائية وكأنها تمتلك الحقيقة، وهي لا تمتلكها، ويكون الجدل مستمرا لأنه يبدو أن السارد يحتاج إلي المعرفة، وهو يحتاجها بالفعل قبل الشروع فيما يسمي بالتجربة الإبداعية .. في كثير من الأحيان لا تكون هناك علاقة بين ما أقرأ وبين الثرثرة والمشاكسة، وبين ما يتحقق علي الورق، إلا أن حالة “البحث” و “الدهشة” و”التأمل” و”الانغلاق” و”التفتح” تلازم السارد فترة من الزمن، ثم تأتي الكتابة بعد أن تكون قد أحاطت بي، ولا فكاك منها، وهذا سر خاص بالسارد، يحاول أن يفض غموضه، إلا أنه ينسي أن يضع له إجابة أو يحاول صناعة إجابة تجعل هذا السر يخرج من قمقم السرية إلي العلانية، شيء آخر – مهم جدا – قبل الشروع في عملية الكتابة لابد للسارد أن يحيط بكل ما يريد أن يسطره .. لا يبدأ الكتابة باقتحام المجهول بأول جملة تكتب .. هذا مؤجل لما بعد، يعرف السارد أنه سوف يأتي إذا كان صادق العزم ممتلئا بحزن جميل وتوفز أصيل، طال توتر القوس، وعليه أن ينفك من عقدته وينطلق بعد معرفة موضع قدمه وموضع رأسه، يحاول السارد مجاهدة كل هذا، ويبقي مع هذا سر العمل الكتابي الذي تقوم قيامته علي الورق .. إذن يلزم السارد في هذه اللحظة قلم وورق وفكرة طال بها معاركته، وتظل تطارده إلي أن يصرخ، فقد جاء وقته وأمسك أخيرا بها وعليه أن يبدأ ..هل يخرج السارد عن هذه القاعدة ؟قد تحدث – رغم هذه القاعدة ـ استثناءات، فجأة بلا مجاهدة، فقد يكتب السارد أعمالا لمجرد الخروج من التوتر، والغضب، ولا يهم المكان .. حجرة هادئة أو مقهي يعج بضجيج الحياة، إذا قلنا مع “أرنست فيشر” في كتابه الهام ” ضرورة الفن ” إن المضمون تقليدي بينما الشكل ثوري، يجابهني فورا سؤال جاءني من القائمين علي أمر هذا المؤتمر والشعار الذي رفعوه ” أسئلة السرد الجديد ” توقفت قليلا إلي أن تذكرت ما كتبته ماري تيريز عبد المسيح في مقال يحمل عنوان «فضح الذات البطولية» كتبته وجاء فيه: «وصل الفن القصصي في مصر في السنوات الأخيرة من القرن العشرين إلي حال من الأزمة والالتباس، إذ بدأت الأجيال الجديدة من الكتّاب المصريين ترفض الفرضيات التي كانت سائدة خلال فترة ما بعد الاستقلال، وهي تعتبر أن الكتّاب والفنانين هم رسل الأمة، وأن الفن حالة من التجلي.ومنذ مطلع التسعينات بدأ الاهتمام يتركز في شكل متزايد علي مكان الكاتب، وعلي الأبعاد «السياسية» للسرد – علي رغم عدم التوصل إلي اتفاق علي تعريفه. وفي نهاية المطاف، بدأت «السياسة» تعني قلب كل المعاني الثابتة الناشئة عن السياسات الرسمية والأعراف الاجتماعية. ففي هذا النوع من الكتابة يوجد دائماً صراع بين النفس والمجتمع، والتلقائية والنظام الاجتماعي، ويكون الاهتمام قليلاً بالشكلية أو الرمزية والمرجعية التاريخية، مما أدي إلي انفصام تام عن اعتبار اللغة «مقدسة».إلا أن الكتابات لا تتسم بالفردية مع أن الكثيرين يلجأون إلي مساءلة الذات، وكشف صورة الإنسان الواثق بنفسه في الأعمال السردية التي كتبت قبل عام 1967 . إذ يتداخل صوت كاتب السيرة الذاتية بصوت الراوي، فيعكس الصوت المضاعف ازدواجية في الأعراف الاجتماعية التي أصبحت راسخة.إلا أنه لا يمكن اختزاله كذلك لاعتباره مجرد نقد للأعراف الاجتماعية أو السياسية المتباينة. بل أصبح يتناول المواضيع التي حظر التطرق إليها منذ زمن بعيد بقصد أو من دون قصد، ويتطرق إلي المعضلة الوجودية، والخيارات المتناقضة أو علاقات الحب المتضاربة، وقلب رأساً علي عقب ما كانت وسائل الإعلام تصوره علي أنه بطولة أو رومانسية. ويبحث في العلاقة التي تربط بين الحب والعنف، وبين الحب والكراهية، وبين اللوعة والمتعة، والمواقف الاجتماعية إزاء العلاقات الجنسية، والصعوبة التي تكتنف إقامة علاقات غرامية تتجاوز القوانين الاجتماعية. ويصف الغموض واللبس بين الخيال والرؤية بعدما أصبح الفن السردي يعتمد اللغة البصرية، والتناقض بين «البصر» و «البصيرة».وفي النهاية، يمثّل هذا الانشقاق أزمة الفن السردي الذي تخلي عن علاقته المرجعية مع «الواقع» ليصبح نشاطاً يومياً ضرورياً، بل نشاطاً سياسياً مستتراً. ومع الكشف عن الأقنعة التي تغلف النفس – وكذلك دولة الحزب الواحد – فإن الكتابة الجديدة تفضح النفس الموحدة البطولية، الفكرة الاستبدادية للأمة، والصوت الواحد.أدرك هؤلاء الكتّاب الشباب الصعوبة التي تكتنف وضع الحياة في إطار واحد. فتخلوا عن الحبكات المحكمة التي تشمل عناصر مترابطة منتظمة، ليصوروا العناصر المشتتة، المراوغة والطارئة التي تشكل الحياة اليومية».أردت بهذا النقل المطول بعض الشيء أن أقول إن الإيمان بقدرة الساردين الآخرين علي تجاوز ما وصل إليه السارد كاتب هذه الشهادة هو إيمان كالعقيدة تماما، ورجوعا إلي استكمال شهادتي الشخصية ودخولا إلي معترك الفن والسحر أقول إن القصة تعني لي كتابة مستحيلة تتحقق بنفس كنه هذا المستحيل، تخرج عن شروطه لتقيم شروطها الخاصة، وهذا المستحيل شرط يصبح سهلا ميسورا وممتلكا حينما تكون القصة ممتلئة برؤية غنية وثابة مستقبلية غير تبعية أو تقليدية، كما أن عقيدتي الفنية تعتقد أن القصة هي ساحة التجسيد، وأعدي أعدائها هو التجريد، إذن القصة عندي هي حياة لها إيقاع التشابك والأفعال الحادة الصاخبة والسرية رغم ذلك، ولا أعطي تلك الروشتة أهمية والتي يقولون إن القصة لا تكون قصة إلا بها : شخصية واحدة – موقف واحد إلي آخر تلك التعليمات .. أنظر إليها – هذه الروشتة – إنها ضد عقيدتي – إنها تحمل داخلها وضعية جامدة غير قابلة ومعترفة بالتطور وقدرة الفن علي التجاوز دائما، خاضعة داخل حلقة ميتة لا تنفك عن ذلك التجلي الدهش المستحيل عبر بلاغة غير الممكن عندما يتحقق .. القصة عندي هي الفارق بين ما تراه العين وتسمعه الأذن ويحلله العقل بشكل العدسة، وبين ما لا تراه العين وما لا تسمعه الأذن – وهو الأكثر وجودا وحضورا وأهمية وصراع العقل الفني فيما هو الأكثر غيابا، إذن أنا أهتم بما بعد تلك الرؤية، أحاول كسارد أن أكتب رؤيتي لما أري وأسمع، لا ما أري وأسمع، وأري أن تكون قدما السارد علي الأرض (الأرض – الواقع) ورأسه في السماء (السماء – الخيال) لي بيئة يعيش عليها وفيها ناسي الذين أنتمي إليهم ولا أستطيع خيانتهم – لا دهشة من قولي – فإن الكتابة لدي السارد التزام ليس بالمعني السياسي، بل بالمعني الكامل المحتوي ابتعادا منه عن الدعائية المشمولة بالتسطيح، وضيق الأفق وقصر النظر ، فالسارد ليس ابن بيئته فقط، بل هو ربيبها داخل مسرح مؤثراتها، الشاهد عليها في تحولاتها، شهيدها كذلك، للسارد بيئة أي أن له رمزه الذي يتميز به ثقافيا، البيئة هي التي تستنطق السارد وتخرجه من معطفها المادي الرحب والغني، السارد نشأ في بيئة صيادين وتجار أسماك وفلاحين، عائلات تنتظم في منظومة عقائدية وموصولة بتراث موغل في القدم تحيط هذه البيئة بحيرة هي البداية وهي كل ما في غيب مستقبلها، وكل الكامن في حاضرها .. كل الحكايات والقصص والمسكوت عنه فيها وعنها .. هل للسارد أن يخون رمزه ؟! هل لي أن أخون رمزي ؟! بالطبع لا .. السارد هنا يقترب من توضيح مفهومه للواقعية مع إعلاء ما كتبه جارودي من أن الواقعية بلا ضفاف .. رمزي يمتلك خيالي، وخيالي يمتلك سمائي، واقعي يمتلك خيالي، خيالي يمتلك واقعي .. منظومتي إذن هي غرائبية هذا الرمز وقدرة هذه الغرائبية علي استنطاق رمز قارئي المستخفي داخل ذاته فيري ما لا يري ويسمع ما لا يسمع في واقعه..هنا آراء في الكتابة المصرية الجديدة علي لسان ساردين جدد:صفاء النجارالإنتاج الأدبي في مصر الآن هو إما طريقة للتنفيس عن الحال الشعورية لمن يكتب أو نوع من الرفاهية الفكرية التي لا تتماس مع الواقع بل تتعالي عليه. لذا هو أدب «غيتو» غير فاعل أو مؤثر في الحراك الاجتماعي أو السياسي.هناك كتابة جديدة علي مستوي الشكل والمضمون لكنها تحبو داخل «غيتو» المثقفين فقط، ولا تهتم بنشرها سوي دور نشر خاصة صغيرة ولا يطبع منها سوي عدد محدود (ألف نسخة علي أقصي تقدير) في حين تدعم المؤسسة الرسمية نشر الكتابات التقليدية التي تحافظ علي ثوابتها.مصطفي ذكريودّعت الكتابة الروائية الحديثة في مصر القضايا الكبري التي كانت محط نظر الجيل القديم.لا وطن، لا انكسارات وهزائم جليلة، فقط كتابة بكل ألعابها الشكلية. وإن كان لا بد من أوطان وانكسارات وهزائم، فهي أوطان الجسد وانكسارات الروح وهزائم الرغبة. إنها كتابة نستطيع أن ندعوها بالوجودية العائدة العارية من زهو ألبير كامو القديم. كتابة تنتمي إلي الفرد، وتنفر من الجماعة، وتعتبر السياسة والتاريخ والاجتماع من الموضوعات المشبوهة.إبراهيم فرغلينجح الأدب المصري الجديد في السنوات الخمس الأخيرة أن يقتحم آفاقاً أرحب، وبدأ كل كاتب من كتّاب جيل التسعينات بالبحث عن مشروعه الخاص. الآن هناك كتابة تبحث عن أسئلة جمالية خاصة كما في كتابة مصطفي ذكري، وبعضها يرصد حياة المهمشين في محاولة لكسر صورة البطل التقليدي لمصلحة العادي والهامشي كما في كتابة حمدي أبو جليل وياسر عبدالحافظ، أو محاولة كسر صيغ السرد التقليدية إلي لغة متشظية تعبر عن تشتت الفرد في الواقع المعاصر كما في كتابة أحمد العايدي، أو احتفاء بالحسي في شكله المعاصر بحثاً عن صوت إنساني يمقت النبرة الذكورية الشائعة كما حاولتُ شخصياً في «أشباح الحواس». وهناك تجارب جديدة تتخلق بأفكار وصيغ سردية غير تقليدية كما في أعمال منصورة عز الدين وصفاء النجار وحمدي الجزار. وهو ما يبشر بعوالم روائية غير تقليدية ستظهر مستقبلاً.منصورة عز الدينأهم ما يسم الكتابة الجديدة في مصر – إن جاز لنا استخدام هذا التعبير – هو التوق الشديد لتجاوز الواقع، إما عبر مزجه بالغرائبي أو عبر السخرية الشديدة منه وتحويله مسخرة، أو التعامل معه بحياد مطلق.تتسم الكتابة الجديدة أيضاً في معظمها بالتجرؤ علي الكثير من المسلمات القديمة، وإعادة النظر فيها، سواء أكانت مسلمات سياسية أو دينية أو اجتماعية. ولكن من ناحية أخري ثمة غزارة شديدة في الإنتاج الروائي، هذه الغزارة مع عدم وجود فرز نقدي حقيقي ربما تدفع الرواية الجديدة في مصر إلي مأزق كبير، خصوصاً أن سهولة النشر ادت إلي تجرؤ بعضهم علي فن الرواية من دون توافر الموهبة أو الدراية الكافية بتقنياته وأساليبه.لكل سارد أن يؤمن بقضيته التي يري أن يعلنها علي الناس، ولكن الملاحظ أن تكريس القطيعة بين عوالم السرد، وتلك المحاولة المستميتة والشيطانية في تقسيم السرد والساردين في عقود زمنية، مدة كل عقد كما هو معروف عشر سنوات، تتجاور هذه المحاولة مع محاولة أخري أشد منها شيطانية، وهي تقسيم البلاد إلي قاهرة وأقاليم، إلي أي شيء تكرس هذه المحاولة أيضا ؟ يقول المنظمون لهذا المؤتمر بالعودة إلي الأدب، البحر ملآن وليس بفارغ علي امتداد الخريطة، والسرد خاضع لمعطيات واقعية وتاريخية، يكون السارد داخلها يعاركها وتعاركه، لا يقفز قفزة في الظلام، ولكن يبقي اجتهاده أصيلا، وليس عليه في هذه الحالة أن يفرض طريقته الخاصة في السرد منحيا اجتهادات الآخرين تحت أي ادعاء، فالقراء المتابعون والمحبون لقراءة السرد يبدون في هذا الادعاء غائبين، وهم الذين ينبغي علي السارد أن يكونوا محل اعتباره، بعيدا عن دعاوي التطور أو التنظير البعيد عنهم، فأنا لم أر دراسة تهتم بالقراء ومدي ارتباطهم بشكل سردي معين، أو دراسة في تلقي عمل سردي وكيف ولماذا حاز القبول، كما أنني هنا أريد لمؤتمر يشارك فيه جمهرة من الكتاب أن يكون مؤتمرا نوعيا، بمعني أن المؤتمرين الذين يمتهنون مهنة الإبداع عليهم أن يناقشوا مشاكل الإبداع ذاته، وكيف يوسعون رقعــة القراء، إلي جانب مشاكل النشر والتوزيع بجدية واهتمام أكبر.هذه شهادتي التي لا ألزم أحدا باعتناقها، ولكنها قابلة للحوار المثمر في مواجهة هذا التشرذم والتباعد بين الكتاب، وكل منهم يركب جزيرة في بحر واسع ..هذا وعلي الله قصد السبيل ..

مؤتمر أدباء مصر، دورة 2008م بمرسى مطروح

رئيس المؤتمر: خيري سلبي

أمين عام المؤتمر: سيد الوكيل

السرد الجديد وتحولات اشتغال المفهوم

من أبحاث مؤتمر أدباء مصر/ مرسى مطروح 2008م

د. زهور كرّام

أولا: السرد والأسئلة النقدية تدخل الرواية العربية زمن التحول البنيوي منذ عقدين أو أكثر من الزمن، بفعل خصوبة حياتها السردية.يشخص ذلك التحول حالات التغير التي تعرفها السياقات الاجتماعية العربية ،والتي أصبحت تغذي الرواية  بإمكانات معرفية وفنية، وتخصب نظامها بأشكال جديدة من الوعي والرؤي. بدأ  الوعي النقدي يشتغل في اتجاه البحث عن مظاهر التبدل في الحالة السردية، منذ تغير أفق انتظار القارئ، الذي تعود إستراتيجية معينة في تلقي النص السردي الروائي العربي. وهي إستراتيجية تولدت عن إيقاع اشتغال السرد في النماذج الروائية العربية التي جعلت الحكاية تتحقق روائيا، وفق نظام يجعل من الحكاية حالة تخييلية قابلة للأخذ بها دفعة واحدة. بناء علي نظام العلاقة بين المؤلف Auteur  باعتباره ذاتا واقعية ملموسة تؤلف الكتاب، ولا تسرده وتبقي خارج مجال النص Texte  وبين الساردNarrateur  باعتباره تقنية سردية ليس إلا، تقوم بوظيفة  حكي الحكاية، وجعلها تتحقق نصيا، ويمكن لشخصية تخييلية أن تقوم بوظيفة السرد،

استمر في القراءة السرد الجديد وتحولات اشتغال المفهوم

علم الوعى كأحد أهم علوم المستقبليات. د. علاء العريان.

                                                                

الوعى هو خاصية للعقل وهو يعرف بإدراك الشخص لذاته ولما يحيط به  فى بيئته أو تركيز أنتباه الشخص لذاته أو لما يحيط به فى الخارج . وهو موضوع لكثير من البحث فى مختلف العلوم والتيارات المعرفية مثل الفلسفة وعلم النفس وعلوم الأعصاب وعلوم المعرفة  ( Cognitive Sciences  ). وفى الآونة الأخيرة تفاقمت التأملات حول طبيعة الوعى بشكل كبير . فلكل فرع من فروع المعرفة منظرواته الخاصة حول ما قد يكونه الوعى . وقد أسهم علماء الأعصاب وعلماء الإدراك وعلماء الكمبيوتر وكذالك البيولوجيون بالعديد من المقالات العلمية فى هذا الموضوع . وفى علم الفيزياء أدى اكتشاف الحقيقة التى لم تكن معروفة من قبل وهى أن عملية الملاحظة البسيطة التى يقوم بها العالم  للأحداث الذرية ودون الذرية فى المعمل تغير (أى عملية الملاحظة ) فى طبيعة النظام الفيزيائى ، أدى ذلك بجميع مؤسسى الفيزياء الحديثة بما فيهم فيرنير هايزنبرج  Werner Hiesenberg و إيروين شرودينجر Erwin Shrodinger وألبرت أينشتين إلى أن يفكروا  بمزيد من الجدية والعمق فى الدور المتميز ، غير المتعارف عليه ، للوعى الإنسانى . وقد واصلت أعداد متزايدة من علماء الفيزياء عملية التأمل فى طبيعة الوعى أو الذهن والمادة نظراً لأن النتائج التى أسفرت عنها الفيزياء الحديثة هى من التعقيد بحيث يعجز الكلام عن وصفها . فهذا عالم الفيزياء بيرنارد دى سباجات يقول فى مقال له فى scientific American  [ إن الاعتقاد بأن العالم مكون من أشياء ذات وجود مستقل عن الوعى الإنسانى قد تبين فى نهاية الأمر أنه يتعارض مع ميكانيكا الكم (الكوانتم ) والحقائق الفيزيائية المثبتة بالتجربة  ] وقد نشرت العديد من المقالات في هذا الموضوع في دوريات علمية  رفيعة الشأن . وبرغم أن الفيزيائيين النظريين قد طرحوا بمنتهى الجد إمكانية تفاعل العقل مع المادة فمايزال هناك بعض الحظر العلمى للدراسة التجريبية لمثل تلك الموضوعات التي أشار إليها آينشتين كتأثيرات شبحية عن بعد ( spooky actions at a distance  ) لأن ذلك سيؤدى إلى زخم من الفرضيات الجوهرية حول طبيعة النهج الذى ينبغى أن تعمل وفقه الأشياء.

فمن أهم الإكتشافات الأكثر إدهاشاً فى الفيزياء الحديثة هى حقيقة أن الأشياء ليست منفصلة عن بعضها كما يبدو لنا, فعندما نستغرق فى أعمق أعماق حتى أكثر المواد صلابة تختفى تلك الإنفصالية وأن ما يتبقى ما هى إلا علاقات تتغلغل  ممتدة عبر الزمان والمكان . وقد تنبئت نظرية الكم بتلك الإتصالية التى عبر  عنها آينشتين كما ذكرنا آنفاً “بالأفعال الشبحية عن بعد” . ووصفها إيروين شرودينجر وهو أحد مؤسسى نظرية الكم ” بالإلتحام ” ” entanglement ” وبأنها السمة المميزة لميكانيكا الكم “الكوانتم” وأن تلك الحقيقة الجوهرية المتمثلة فى ذلك الإلتحام لا تتماشى مع عالم الخبرة اليومية. حتى أن عديداً من علماء الفيزياء صرحوا بأن هذا الكشف لا يعدوا كونه من قبيل التفكير النظرى المجرد. فقد تقبلوا فكرة أن عالم الجسيمات الدقيقة يكون فى حالة من الإلتحام ولكن ليس لذلك مردودات عملية فى عالم الخبرة المعاشة ولكن هذا المنظور سرعان ما تغير الآن فقد برهن العلماء فى الوقت الحاضر على أنه  ليحدث أن التأثيرات الإلتحامية الميكروسكوبية تتراكم لتؤثر فى عالمنا الماكروسكوبى الكبير. وأن تلك الإرتباطات فيما بين الجسيمات الذرية ودون الذرية يمكن أن تتجاوز تأثيراتها حواجز الزمان والمكان . واقترح العلماء بأن الإنتباه الواعى (الوعى) يتسبب عن ، أو له علاقة رئيسية بالإلتحام أو الإرتباط الكمى ( الكوانتى) فيما بين الدقائق الأولية للمخ . وآخرون يفترضون أن الكون بأكمله بكل مكوناته وحدة واحدة يجمعها الإلتحام الكوانتى(الكمى) . فإذا كانت نظرية الإلتحام الكوانتى  صحيحة فماذا سيكون حال الإنسان فى هذا الكون من الإتصالية المتبادلة بين جميع أجزائه ؟ فهل سنكون على اتصال عميق لافيزيقى مع من نحب حتى وإن كانوا على بعد أميال منا ؟ هل ظاهرة “إلتحام العقول ” “entangled mind  ” هى المسئولة عن إحساسنا بهوية من يطلبنا عندما يرن جرس الهاتف ؟ فهل ذلك عن معلومات حقيقة وصلت بطريق ما إلينا متخطية القنوات الحسية المعتادة ، أم أنه ضرب من المصادفة أو من قبيل الهذيان العقلى ؟! . وبرغم أن هناك الآن كم هائل من الدليل التجريبى المعملى على ذلك فقد ظل العلم حتى وقت قريب متجاهلاً تلك التأثيرات لأنه على مدى قرون من الزمان افترض العلماء أن كل شئ يمكن تفسير ه وفقاً لآلية ميكانيكية  تماثل عمل الساعة ( النظرية الميكانيكية ) ولكن اليوم وعلى مدار القرن العشرين تبين بما لا يدعو للشك خطأ تلك الفرضية التى كانت قد أصبحت بدهيه ، فكلما اقتربنا في طريقة فحصنا للأشياء أقرب فأقرب تبين أن لا وجود لشئ كآلية الساعة ولكن وجد أن الحقيقة نسجت من نسيج كلى تمتد خيوطه عبر الزمان والمكان وأنه لو حدث أهتزاز فى طرف من أطراف هذا النسيج لتذبذب النسيج كله عبر الزمان والمكان . ولعل هذا ما عاناه الشاعر الإنجليزى فرانسيس طومسون  فى القرن التاسع عشر وكان صائباً حينما قال :- كل الأشياء فى هذا الكون ، قربت أو بعدت ، تربطها قوة أبدية خافية حتى أنك لا تهز زهرة دون أن تربك نجماً.

استمر في القراءة علم الوعى كأحد أهم علوم المستقبليات. د. علاء العريان.