أرشيف الأوسمة: مختار أمين

مختار أمين.. (أحلام مستغانمي والرواية العربية النسائية.. النسائية جدًا)

  تكشف أحلام مستغانمي عن طريق واعرة تسير فيه الرواية العربية، وهي مازالت تتخبط في نتواءات العربي القديم بفكره وبداوته، والحكي القديم مهما جرت العصور بين الرجل والمرأة، ولم تبرحه في ثوبها الحديث، إذ مازالت تتعثر وتتخبط في لغة الحكي، وتعيد نفس النغمة العازفة على وتر سيمفونية الكلمة.. من ناحية الشكل والبناء، والمظهر الموسيقي، وكأنها تغار من الشعر.
 
  إذ تتعثر الرواية العربية عن مثيلتها الغربية في المفهوم العربي المحصور في جغرافية مكانها، ومايستسيغه الفكر العربي من مفاهيم ورؤية على العالم المحاط به، ومازالت تؤثره الطبيعة بشكلها الحسي ورؤيتها من خلال أحاسيسه الخاصة، كما المرأة في فكره.. جسدها اللين الطري وانحداراته ومرتفعاته، وصوتها الناعس الرخيم الموسيقي، حيث تجري أحداث الرواية العربية الحديثة في هذا المارثون الذي لا ينتهي من مخيلة مبدعيها، والفارق الذي أحدثته الرواية الغربية وإن كانت الرواية العربية صاحبة السبق في المذاق الأدبي.
 
  أما عن أحلام وروايتها الأسود يليق بك فهي فصل من فصول رواية أحلام الأدبية الكبرى، وإن تعددت فصول روايتها الواحدة: النسيان ـ عابر سرير ـ ذاكرة الجسد ـ على مرفأ الأيام ـ كتابة في لحظة عري ـ قلوبهم معنا قنابلهم علينا ـ فوضى الحواس ـ أكاذيب سمكة ـ خاطرات تن، ولم تنته بعد أحلام من هذا المنهل لهذا الصوت وهذه المعزوفة التي تؤثرها وتؤثر قرّائها، وكأنها تعيد أصوات الماضي لفصول روايتها السابقة، وإن كان آتي بعد مرض عضال أصابها كاد أن يخرسها عن الكتابة، ومرحلة من التفكير في مشوارها الأدبي والجديد فيه، ثم عادت بنفس الصوت المبحوح الذي فقد رخامته قليلا، وكأنها تعيد إلينا أصوات أبطالها بعد شيخ، وعباراتهم.. عباراتها المتكررة، والجملة ذات الوقع الموسيقي والمؤثرات الأدبية.
 
  ما بال الأدب يأخذ شكلا من الاختصار، وقف على العبارات والجمل الإيقاعية السريعة، وكأنه يعكس حال الإنسان الحديث بإيقاعه السريع المتعجل غير المتريّس؟ فظهر الشعر الحديث بعباراته الرنانة، ومقاطعه الآخذة، وألفاظه الجديدة وإن كانت متقنة موحية متعددة التأويل، كما اختصرت القصة القصيرة بشكلها الكلاسيكي، واختفى منها فن الحكي والسرد، وأصبحت طلقة سريعة كالومضة، مجحفة في اختصارها وتكثيفها .
 
  هل التكثيف بهذا الشكل المغرق فيه يعيدنا لزمن جماليات القصة القصيرة؟
 
  وتقليد القصة القصيرة للشعر الحديث بحيث يكوّنان لونان شديدا التشابه من حيث الشكل يغنينا عن القصة القصيرة التقليدية بفن الحكاية وسردها الثري؟
 
  وهل ما نحن نراه من كتّاب جدد لم يعد لهم الخبرة الأدبية في الكتابة، والموروث الثقافي، والتاريخ الأدبي، ولهثهم وجريهم وراء مايسمونه ومضة سريعة.. يعد تاريخا أدبيا لهم؟
 
  لأشدّ ما أدهشني فتاة صغيرة لم تبلغ سن الرشد بعد أرسلت لي انتاجها الأدبي المؤلف من مئة ومضة، وتريد أن تحويهم في كتابين للحصول على عضوية اتحاد الكتاب، فرأيتني أعيد لها نصوصها، وإن كانت نصوص جيدة فيها الإتقان، ولكن لا لسبب في فن الكتابة، ولكن لعجزي أن أقنعها بما يجب أن يأخذ مسارها الأدبي شكله الطبيعي، والميراث التجريبي في كتابة القصة القصيرة التقليدية، وهي الحاصلة على الجائزة الأولى في فن كتابة الومضة من جروب على الفيس بوك معني بفن الومضة.
 
  كل هذا مما لا شك فيه يعكس عجز الكاتب العربي الحديث على التطوير من أدواته وينزوي في السهل الذي هو في كنه الأصعب في أدواته.. السهل الممتنع، وكلمة الممتنع هنا عَلَما لا يملك الخبرة، ولا التاريخ والبصمة الأدبية.
 
  على الكاتب العربي الحديث أن يعود بالتوازي للقراءة في تاريخ أدبائه القدامى، ويتعلم منهم ويضيف عليهم، كما يقرأ لأدباء العالم القدامى منهم والمحدثين، حتى يطوّر من المضمون، ولم يغلب عليه الشكل في التطوير لألا يحذف ألوانا أدبية معروفة تحاكي الحياة والإنسان من تاريخ الأدب.

استمر في القراءة مختار أمين.. (أحلام مستغانمي والرواية العربية النسائية.. النسائية جدًا)

رؤية في القصة القصيرة جدًا (أنت الرجل الأوحد) للأديب مختار أمين بقلم: سهيلة بن حسين حرم حماد/ تونس

(النصّ)
  أنت الرجل الأوحد: مختار2
 صرخ بأعلى صوته متحديا الصوت المارق في أذن الموتى..
في هذه الساعة كانت آخر العجلات قد توقفت عن التفتيت، ورصفت الشوارع كلها بالأجساد، لكن الحقيقة لم يصرّح بها حتى قائد الحملة ومن فوقه المسؤول الكبير..
هذا العضو ظل باسقا.. منتصبا كوتد من حديد في تحدّ لم يعلن عن نفسه من قبل، كل العجلات التي مارست الدك، والعجن، والتفتيت لن تفلح في ثنيه أو ليّه..
عندما شاهد من علّ الرؤوس الحمراء الباسقة تشعّ وتستطيل؛ أصابه الخرس.
 
(الرؤيــة)
 نص متشظ، يضمر أكثر مما يظهر، اعتمد الإيحاء واللعب على المفردات، والرموز، مما جعله قابل للتأويل. اتكأ على جمل فعلية مما ساعد على سرعة الإيقاع أما عن المشهدية فكانت بانورامية الأبعاد، تقنياتها عالية، حداثية. الزمن لديه تجاوز الاسترداد والاسترجاع إلى الإيقاع…
 
العنوان: أنت الرجل الأوحد/ جملة إسمية في شكل خطاب تقريري موجّه إلى ضمير المخاطب أنت في المطلق…
 
السرد جاء بضمير الغائب… أي هناك حياد…
ولكن يقف وراءه الأنا المتمثل في القاص…
 
إذا اكتملت الصورة صاروا ثلاثا (( أنا قاص)* أتستر وراء ضمير مستتر(هو)*، يتفاوض مع مخاطب، ب(أنت)* …وهذا غريب )….
 
الأزمة تسبب فيها مجتمع.. أي” الأخلاق ” الأنا الأعلى الضمير هذا الضمير أنا أنت هو هي نحن أنتم أنتن…
 
من أنتم؟
هكذا قالها قبل أن يخرس إلى الأبد…
 
ق.ق.ج اعتنى بالوتد، تأرجح بين صرخة وخرس.. تخللها دعسٌ صوِّر بعدسة.. سينمائية حديثة.. بكل أبعاد الصورة الحديثة…
 
ق ق ج: توغلت في اللاوعي، إلى أن بان المستور المقنّع الحاضر باستمرار، بمبرر أو بدون مبرر…
 
هي كتابة واقعة في مواجهة بين ألهو (الأنا)* والآخر، والزائف المزيف، الأنا الأعلى، ذك الذي يحرصون على أن يكون معهم، وبينهم، وفي الحقيقة، هو أكثر ضيف غير مرغوب فيه…
 
” “.كتابة صدامية “تحدث عنها (أقصد الكتابة الصدامية)* محمد رمصيص لأنها تتوغل في منطقة اللاوعي وتكشف المخفي من ثم تسقط القناع على المكبوت، لأنها تجعل الإنسان في مواجهة مباشرة مع عقده النفسية، والاجتماعية، وهذا ما يعني فضح الانسجام الزائف الوهمي، تجاه الأنا، والأنا الأعلى ، وتجعلنا نواجه القيم الاجتماعية المهترئة ….”
حسب فاطمة بن محمود في مقال عن القصة القصيرة جدا المغربية بين الكونية والخصوصية .
 
هنا أريد أن أفتح قوسا، للتذكير بتاريخ الققج، هذا القادم إلينا من وراء البحار تحديدا، من أمريكا اللاتينية، جنس تحدث عنه أرنست همنغواي، منذ سنة ١٩٢٥ تقريبا. جنس، ما انفك يفرض نفسه بين الأجناس الأدبية المتعارفة لدينا في المشرق والمغرب….
 
ولئن استسهله البعض، ولم ينجح فيه، إلا أن عددا من الكتاب أمثال الدكتور مختار أمين من مصر( الروائي والقاص المتخصص في السرد والنقد وله دراسات في هذا المجال صاحب هذه الق .ق .ج)* ، والدكتور حمد الحاجي من تونس، (الذي تخصص بامتياز في الثلاثيات)*، وكذلك رجاء البقالي من المغرب (في مجموعتها البعد الرابع)* ، وغيرهم كثيرون …. فقد استطاع هذا الجنس أن يُطبع بالخصوصية الذاتية، لكل هاته المجتمعات، العربية (الواقعة تحت مجهر الظلم والتظلّم)*، بعد تشرب المتخصّصين في هذا الجنس لواقعهم ولسعة معرفتهم….
 
نلاحظ في هذا الجنس الأدبي طغيان الأنا وهيمنته… كعملية هروب من واقع مزر مرير.
 
فرار من أجل حلم، تقمص دور البطولة في عالمهم التخييلي (أي عالم القصّ)*… حيث تضيق العبارة لفائدة الرؤيا، وعلى حسابها، تاركة المجال للقارئ أن يحلق بهم وبحلمهم على صهوة براق مع قارئ يقد معهم حكاية لا تعترف بالمكان والزمان من أجل حلم وواقع أفضل قد يتحقق يوما ما….
 
لنحلم معا…
 
ولكن رجاءً من دون أن نخدش الحياء…
حتى يكون الأدب أدبا…. وتأدّبا…
لا نستحي أن نقرأه لأبنائنا ولأحفادنا لنستمتع بينهم ومعهم…
بعيدا عن منطق الحلال…. والحرام…. والدين…
بل لكي نترك للقارئ مجالا للخيال.ز.
 
ذلك أن صدمة مواجهة العُري المبتذل… إضافة إلى أنها تقتحم الفضاء الخاص للقارئ. فهي تسدل الستار على خياله.. واحد منه .. قد تربك البعض …
 
هذه وجهة نظري… واحترم وجهات النظر التي تخالفني وفي الاختلاف رحمة.. وفي الاختلاف تكامل…
تحيتي وتقديري للجميع ….موصولا بصاحب النص الدكتور مختار أمين
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سهيلة بن حسين حرم حماد
 
الزهراء/ تونس 23/03/2019

كيف تحلل نصّا أدبيًا ؟.. القصة القصيرة (النظر المفقوء) نموذجا تطبيقيا. بقلم: ‏مختار أمين‏

 النص:

النظر المفقوء

لم يكن بمقدوري أن أذهب إلى هناك، فقط تحسستُ الأخبار.

ماذا ألمَّ بعائشة؟

هي تعرف أن الكفيف يسمع الذي يعجز عن سماعه المبصرون، كانت تضحك معي:

ـ انت يا عم غزال بدأت تقلقني.. انت عليك ودن بتسمع دبة النملة.. آااه منك.

تلعب على جهاز الكمبيوتر ليلا وتضحك ملء قلبها، عندما أمر في الصالة أقطعها قبيل الفجر ذهابا وإيابا منتظرا الموعد، كنت أحمحم أو أسعل، أو أصرخ فيها:

ـ كفاك يا عائشة.. نامي يا عائشة.

أنا مجرّد ساكن في منزلهم، والدها عاشور يعمل نجارا، شبه أمي، يكتب اسمه وبعض الكلمات البسيطة، عندما دخلت المرحلة الثانوية كافأها بجهاز الكمبيوتر كما طلبت. أمها عنايات لا تكتب ولا تقرأ، فقط تحب أن تقضي طول النهار عند الجيران، وفي الليل تبقى ساهرة منتظرة عاشور بكيس الفاكهة والشوكولاتة، واحدة لها وواحدة لعائشة، ويقضيان ليلتهما في غرفة نومهما بين ضحك وهزار، وهما على قناعة أن عائشة ساهرة على جهاز الكمبيوتر غير مبالية..

استمر في القراءة كيف تحلل نصّا أدبيًا ؟.. القصة القصيرة (النظر المفقوء) نموذجا تطبيقيا. بقلم: ‏مختار أمين‏

قصة قصيرة / رقعة مهملة بقلم مختار أمين

رقعة مهملة

 

رأيتهم مثلي؛ فقلَّ حزني..

أنا وفصيلتي نحيا في الشوارع، ونتجول في الحواري، ونتسكع بين الأزقة.

نحن الضالون..

في زمن بعيد أستعيد ذكرياته من أسلافي . كنا فقط الفئة الضالة في شوارع الناس، وفصيلة أخرى، ولكن أحيانا هذه الفصيلة تحظى برعايتهم وعطائهم ودلالهم، ومنها فئة مدللة تحيا في منازلهم منعّمة مكرّمة، دائما نغار منها، ونحمل لها في صدورنا العداء، حتى الضالين منهم المتسكعين مثلنا المقيمين معنا حيث نقيم، عندما نرزق من خيرات الله من البشر المحسنين الهبات والعطايا والخير الوفير، ينزل من كل بيت مباحا لنا جميعا في الشوارع، كنا نحرمهم من أن ينالوا أي حق منه، عند هذه اللحظة يظهر عداؤنا واضحا جليا، وندخل مع بعضهم معارك شرسة للاستحواذ على التركة بأكملها، ونفوز عليهم دوما، ويلوذ الفرسان الأشاوس منهم بالهرب والتخفي، ونتناول الغنيمة بأكملها وسط نباح من بعضنا للضـرورة وإرساء الرعب لكل من يفكر بمشاركتنا، وأنا منهمك في التهام الطعام بلذة ونشوة، أرقبهم بعيون منتشية منتصـرة، ملؤها الفخر والعزة للمكلومين المتحسرين، وهم ينظرون ألينا من بعيد بنظرات انكسار تتحلى بهدوء ووداعة، مادين أيديهم أمامهم متكئين بأجسامهم على الأرض، يكتمون غيظهم، يبثون في كذب ترفعا وسموا، شعور يمر في خلاياي كالأثير، وعندما يتخلل جسدي امتلئ بغيظهم المكتوم، أفقد لذتي ونشوتي . أرتعش . أهزّ جسدي وأنفضه في حركة معتادة، أترك بقايا الطعام، أعدو دون هدى لأتخلص من سمّ غيظهم، ولكني سرعان ما أستكين عندما أتوغل بداخلهم بنظرات خاطفة أتشمم رعبهم وخوفهم مني ومن فصيلتي.

من عشرات السنين النعيم يملأ الشوارع والبيوت، نأكل، ونشبع، ونفرط، كل هذا يحفزنا على القيام بواجبنا بكل جسارة وتحدٍّ . جنود لا نغفل ولا نكسل، نحمي البيوت والحواري والأزقة من كل غاصب، وكل غريب.

في الصباح الباكر ونحن مكوّمون في الأركان نستحضر نعاسا هادئا يجلبه أمان النهار، وصخب الناس وزحام الشوارع وأصوات الباعة الجائلين، قد تخطّى جفوننا، وهاجس القلق يطرده عنا في الليل بحرصنا الدائم على نوبة الحراسة، تمر الناس من أمامنا في جد ونشاط ووداعة، الابتسامة تنير وجوههم على الدوام، والأناقة والنظافة باديتان، تشكلان حاجزا بيننا وبينهم، أسرنا ألا نتخطاه في تأدب مصطنع، الحقيقة كنا نخشاهم ونشعر بالفارق في الخلقة والطبيعة.

دونهم كنت أترقب غروب هذا النعيم، وأنا أتسمّع لحكم الأفواه الشَّبِعة من البشر، يتشدقون: “لو كستك الدنيا بنعيم وافر، تذكر أياما فيها ستجوع”.

صغيرا تدبّ فيَّ روح الحياة، وأول مراحل الشباب تخصّبني وتقويني، أنتظر الشمس تملأ الدنيا من حولي ضياءً، أعدو في جد ونشاط ومرح، ألهث دلالا، أتنعّم ببخار أنفاسي من بطن ممتلئة، أنظر للأرض تجري مثلي في عكس اتجاهي من تحت أقدامي، أتفقد حيّنا والأحياء الأخرى المجاورة، أرى بنفسـي فارق جنسنا مطلّا مرفرفا على معالم البيوت المتلاصقة المتجاورة في ذوقها الرفيع وترتيبها وأناقتها . ضحكت علىَّ سعادتي ذات مرة  واقترفت ذنبا لُمت نفسي عليه كثيرا، لو نهرني أحدهم وركلني، أو قذفني من أعلى السور ويهبط جسدي مهشما على الأرض، كنت أستحق جزائي..

من بعيد نظرت لأعلى وأنا أتمطى ترفا، وأليّن فكيّ فمي في تشدق، لمحت على أحد الأسطح العالية حبال الغسيل الأبيض الزاهي، والملابس ترفرف وتتأرجح وتطير في الهواء، فرحت لفرحها -صدقا هذا أول شعور- أخذت القرار وعدوت، كان الوقت يسمح بذلك. مشارف المساء، وقد خفّت الأرجل والنباح من الشوارع، وأهل المنزل المعني يغطّون في نوم القيلولة، بأقصى سرعتي أحاول اقتناص اللحظة دخلت المنزل، وصعدت الدرج حتى السطوح وأنا أكتم لهاثي . في منتهى النشوة أقفز لأكبش كبد البياض الزاهي من على الحبال العالية، أفشل، ثم أعاود، ثم أفشل، والهواء خصمي كلما دنوت لاختطف من يد نسيمه قطعة ملابس ألهو بها ومعها وأمرح، يصعّدها ويطيّرها عاليا، في تحدّ وإصرار أفوز، قفزت، وصعدت، وهبطت، وحظيت، ومنيت به . قميص نوم حريمي وردي اللون أملس ناعم، ما قصدت شيئا غير المداعبة، فقط المداعبة والمرح، أدعو جسده يرتمي بين أحضاني الساخنة الملتهبة بعد عناء، ألتحف بنعومته وبرودة النسيم الذي علق به ونفخ جسده، أتمرّغ به على بلاط السطح، أمسك بفكيّ حمالته الرفيعة، ينزّ لعابي على قماشها، تكمشه ساقيّ في رفق حذر من غلظتي . سكت الهواء، وزاد نهمي، وعاودت القفز، بسهولة أصطاد من على الحبال قطعة بعد أخرى، نثرتهم على البلاط، تمرّغت عليهم جميعا، ثم كوّمتهم في كومة واحدة، غفوت في دفء حضنهم بعد مداعبة شهيّة سرّبت إلى أجسادهم صهد جسدي، ونمت هادئا في برودة تخللتني.

مرت السنوات غفلة دون حيطة من البشـر ومنا، وشحّ العطاء، وتقلصت المعالم والوجوه والبطون جوعا، والجدب ملأ الكون من حولي، ورغم أكوام الزبالة الهائلة المفترشة الشوارع والميادين والحواري والأزقة وفي مداخل المنازل، إلا أننا جميعا لم نعثر فيها على لقمة ترطب أمعاءً تفرز عصارتها وهجا وصهدا، تصيب أجسادنا بنار ملتهبة؛ فتتسارع أيدينا وأرجلنا يحركها الغيظ، فنحك أجسادنا في جنون، وتسرّح القطط المرفّهة من المنازل، تبحث معنا ومواء الجوع يصيبها بالجنون فتتحرر من خوفها القديم منا..

أجلس متأملا في هرم وإعياء ومرض، أرصد من حولي الأرصفة المكتظة، فصيلتي تقبلت الغريب، وأمست غير قادرة على القيام بواجبها الفطري . فقط ينبحون نباح الموت.

القطط تتعارك متهالكة دون مواء، الزحام يزداد يوما بعد يوم من أطفال في سحن العفن تتكور بجواري، ورجال ونساء افترسهم الشقاء فأقعدهم مشلولين على أرصفة الانتظار..

ما عاد الصباح المشرق يأتي، والشوارع تضج بأناس لا يروحون ولا يجيئون . في صياح هائج مستمر . ينصبون حروب مفتعلة للخلاص . والسواد غيّم دون ليل .

“نحن الكلاب عندما نكتئب ونحزن نصاب بالجرب والصرع”.

أطروحات ورؤى (2).. بقلم: مختار أمين

  المبدأ التفسيري لتحليل النصوص الأدبية:

  لم يكن المبدأ التفسيري لتحليل أي نص أدبي كما تعارف عليه في المؤسسة النقدية من خلال ما تفرزه غدد النقاد التقليديين؛ هو تفسير موضوع النص، ومحاولة تفكيك فكرته وما ترميه من أهداف للوصول إليها..

استمر في القراءة أطروحات ورؤى (2).. بقلم: مختار أمين

قراءة للناقدة التونسية سهيلة بن حسين حماد لقصة”حذاء صغير لدميّة” لـ د . مختار أمين

قراءة حول قصة “حذاء صغير لدمية” لـ د. مختار أمين بقلم: الناقدة التونسية سهيلة حماد.
(النص)
مختار
 
حذاء صغير لدمية
 
قبل لحظات..
كلُّ شيء تمَّ قبل لحظات، حتى آخر فكرةٍ دارت في رأسها واستقرَّت..
العيد على الأبواب، ووعد أمي غير موثوقٍ به.
العينان ثابتتان في ذهولِ بريقهما المعتاد، الرُّموش الكثيفة لوَّنها الغبار بالرَّماد، ومعالم الوجه لا توحي بابتسامة نقية، طاهرة تقفز عليه كفرحة طفلة كالمعتاد. الفم فاغر، والأسنان بيضاء ناصعة رغم ظلام الجوف، وشعرها كستنائي مذعور، أشعث، يقف مستسلمًا في دائرة حول جمجمتها التي سال دمها حتى الأذن، والذراعان متشبثتان بدميتها.
مازال الغبار تائهًا متكوِّرًا في الأفق بعد الانفجار، ينفخ ضيقه وتذمره، لم يحطّ سوى على بعض الجثث والرُّكام.
قبل دقائق تحدثت مع والدها، شكت له أمها التي تغيب كل النهار بحجة العمل، والأطفال في الحارة يتركون اللعب، ويذهبون إلى أمهاتهم لإطعامهم، وتنظيفهم من تراب الشارع، والليل عنيد.. يتأخر مرَّات.. وهي تمكث على الرَّصيف حتى يغلبها النعاس على درج البيت محتضنة دميتها.
ـ تبًّا للوطن، وتبًّا للعمل . أبي متى تعود؟
عيناها تجوب صور الجدران، تراه يضحك وهي يتملَّكها الضِّيق، والضَّجر، وهو مع رفاقه الجنود في لباسهم العسكري يبتسمون جميعًا في وجهها، أتُراهم يسخرون!
ـ أمي لم تأت بالحذاء التي وعدتني به.. أبي! أمي تكرهني.. وأنت بتَّ لا تسمع.
ينظر إليها بحنينٍ من خلال الإطار، تنظر لأمها بعمقٍ، وتبحر. حانقةً، تطيح بأكوام الأسئلة في كل الأركان، فقط تريد أن تفسر سرَّ الدمعتين الملتصقتين بحدقتيِّ أمِّها وهي تائهة في نظرات الإطار.. لا شيء سوى غمغماتٍ يشكلها، ويقطعها إلى حروف، نحيب الليل، وكلمات تشعل التساؤلات وتوقظها حيّة في الرأس..
قبلة على الجبين قبل الوداع، وقبلة أخرى على جبينها من خلال بطن أمها.
توسَّلت إليه ذات ليل، “إما أن تعود أو تأخذني حيث أنت”.
لم تفصح عن أمنيتها الوحيدة، شراء حذاءٍ لدميتها التي أبت أن تفارقها حتى اللحظة الأخيرة.
غُدر بأبيها؛ فغابت أمها، كانت هي الوحيدة التي تجرَّعت آلام البطش على أيادي الأعداء مرتين، ونالت الشهادة في الثالثة.
 
(القراءة)
 
العنوان: “حذاء صغير لدمية “
 
الاستهلال: كل شيء تم قبل لحظات، حتى آخر فكرة دارت في رأسها واستقرت…
العيد على، الأبواب ووعد أمي غير موثوق به.
 
الخاتمة:
 
* لم تفصح عن أمنيتها الوحيدة، شراء حذاء لدميتها التي أبت أن تفارقها حتى اللحظة الأخيرة.
** غدر بأبيها فغابت أمها كانت هي الوحيدة التي تجرعت آلام البطش على أيادي الأعداء مرتين، ونالت الشهادة في الثالثة.
 
اللغة المتكلمة في النص هما لغتان:
 
– لغة السلاح المدمر الذي لم يتورع عن إبادة عائلة بأسرها بعد أن مات الأب وكان عسكريا تموت الأم على إثر قصف وكذلك الطفلة.
 
وهذه دلالة على أن الذين يديرون الحروب ليسوا بآدميين، ولا يتحلون بأي نوع من الخلق، حيث لا يمتلكون لا شفقة، ولا رحمة ولا يراعون فيها الأعراف الدولية فينتهكون الحرمات ويزهقون الأرواح ويهدرون الدماء ويفقؤون الأعين والجماجم .
 
مجتمع اغتصب فرحة عيد لطفلة واستكثر عليها شراء حذاء لدميتها التي حافظت عليها حتى بعد أن زهقت روحها وآثر دوس دماه بحذاء من صولجان من نار…
 
وهاته مفارقة، فالطفلة طلبها بسيط جدا، فهي لم تطلب شيئا لنفسها، بل لدميتها التي أخلصت في حبها وضلت متشبثة بها حتى بعد موتها وظنت أن أمها لاتحبها، بالشكل الذي يليق بدميتها، ويرضيها ويحقق لها الاشباع عن الفقد لأب غاب، وهي لا زالت تنتظره.ولما طال غيابه:
 
– خاطبته وهو يسكن الصورة المعلقة فوق الجدار بمعية عساكر قبل لحظات تطلب منه أن يأخذها حيث يتواجد..
وها أن طلبها تحقق.
 
أمنيتها كانت “حذاء لدميتها” فداس العدو جماجم” دماه ” بحذائه على إثر انفجار…
وفي هذا أيضا دلالة.
 
المقاربة: صورتين
١) الصورة الأولى: صورة تذكارية لأب عسكري مع زملائه ببدلهم العسكرية …
ينظر إليها بحنين كأنه الموناليزا.
 
٢) الصورة الثانية :جثث وأشلاء مخضبة بدماء وحطام وركام، ودمية حظها أحسن حال..
نص مؤلم وحزين.
 
حيث أن السرد قدم مشهدية الموت عن اللحظات التي سبقت القصف والموت أي قدم النهاية عن الخاتمة، ليزيد في الإثارة والحبكة.
 
*** الحدث والزمن
نلاحظ عدم الالتزام بتسلسل الحدثين (الحوار قبل القصف، والوصف السردي بعد القصف )* حسب تواترهما في الزمن( قبل لحظات )*
 
بالرغم من الألم، والوجع،إلا أن ذلك لم يمنع من أن يكون هذا العمل، عملا أدبيا رائعا، أسلوبا وسردا بتقنيات حدثية عالية وتمكن من اللغة وقد بدت من السهل الممتنع… فشكل بذلك لوحة فنية ابداعية رائعة…
أتمنى أن أكون قد التقطت البعض مما أراد قوله أو الإشارة إليه الدكتور أمين في منجزه.
 
نص مفتوح يحتمل التأويلات يستحق أن يطلع عليه كتاب القصة القصيرة الحديثة، ناشئين وغيرهم، وكذلك النقاد لأنه يعتبر ورشة عمل ومختبر…

استمر في القراءة قراءة للناقدة التونسية سهيلة بن حسين حماد لقصة”حذاء صغير لدميّة” لـ د . مختار أمين

أبدا لن تعود/ قصة قصيرة. بقلم: مختار أمين

أبدا لن تعـود

 أين أنت؟

لِمَ تركتني ورحلت؟

لِمَ لم تنذرني قبل رحيلك؟

بحثت عنك في دروبك القديمة وسط شعوبها، وقفت أمام الجميع في شرود التيه، الحق أنهم صمتوا جميعا عندما رأوني، وعند بروز ابتسامتي الفرحة رموني بنظرة متسائلة عن هويتي.. رأيتني أستدير دون إجابة، ودون السؤال عنك.

في غمرة السمر تيقنت أني سأجدك على ملامحهم.

رغم نفس ضحكاتهم القديمة، ونفس حديثهم ونكاتهم، ونفس هذه الروح بالذات تنكروا لها.

ماذا بعد وأنت تجلس أمام صور أجدادك بالساعات في غرفتك المظلمة المطلة على الضجيج والصخب؟ كل ليلة يسخرون منك ويضحكون..

يا لذاكرتك المؤلمة..

يلتفون كل ليلة على مسطبة الدار القديم.. يلعبون لعبة الحكاوي والتاريخ.. يتبادلونها بينهم كقطع الدومينو، وكل حاكٍ عندما يشرع ينظر إليك في ابتسامة ساخرة، ويولي وجهه عنك حتى لا ترى خبيئته.

ـ أنت يا واد أنت.. ياد يا مصطفى.. على طول سارح

ـ !

ـ اجري أكّل الحمار

تجري على عجل كطائرة توها أقلعت، وسرعان ما تعكرك اللفظة

ـ جاتك لهوه

تتذمر تعود تجلس بجوارهم في كل جبروت دون تلبية الأمر.. تعلو أصواتهم بضجة الضحك، وينقرونك بحصى السخرية.

رغما تحضنك وتبتسم، تربت على ظهرك تمسد شعرك، تنزعك ملابسك كلها في جرأة امرأة مفتخرة برجلها

ـ تعالى احميك

تحكي لك في حضن الفراش عن الشاطر حسن وكيف فاز بالأميرة؟ ومعجزة الولد الأعور الذي حكم المدينة رغم نفور أهلها منه..

من أين أتيتِ بهذه الحكاية “الولد الأعور”؟

أنام ماتعا، وأنا أتسلق حبال أحلامك بقوة واقتدار إلى السماء.. أيتها الساحرة.

يا دواءكِ.. مازال هو عادتي الوحيدة عند كل ضجر وضيق. اليوم سأجتمع بهم، وأنا الذي سيبدأ الحديث وسأسخر، وسأضحك بملء فمي عليهم، وتطير ضحكاتي زاعقة صارخة من خارج النافذة، حيث الصخب والضجيج الأهوج، وسأذكرهم بي.

ولكنهم رميم، لقد أخذتهم الصاعقة من سنين لا يشعرون، وأنا مللت البحث عنك، وأنا أتقلب بجوارهم ذات اليمين وذات الشمال.

 

أطروحات ورؤى (1) إحياء المؤلف في السيرة النقدية../ مختار أمين

    لا شك أننا نعيش عهدًا جديدًا على دنيا المعارف الإنسانية والاستقراء بكل ما ينتجه الإنسان العصري من نتاج فكري وإبداعي، لذا الاعتمال الجمعي على المنتج البشري بشكل شبه حصري يبحث عن التداخل والمشابهة والموائمة والمقارنة أحيانا، فنلاحظ هذا التداخل بين العلوم الإنسانية ومحاولة المقاربة بين نظرياتها وتعريفاتها للاستعانة بالمفهوم الاصطلاحي السائد المائز في علم من العلوم قادر على لمّ الشمول الجمعي لمعارف الإنسان العصري ومدى إدراكه للتطبيق، فلابد أن يكون متسع الدلالة ومتعدد الرؤى متغيّر المقاس شكلا، وحامل لفقه المادة للرد عليها أثناء التطبيق، والمثل حاضر في مشتقات العلوم ونظرياته ومصطلحاته لتصبح مادة dena واحدة قابلة لإنجاب مكونات معرفية متعددة وكمورفيمات أُمْ أرنبية عدد الولادة في البطن الواحدة متمحورة السلالة..

  إذا كان العلم يتداخل ويتعارف ويتقارب لسهولة الدلالة على منتج عقلي بشري جديد، فأوْلى أن يكون المنتج الإبداعي في النص الأدبي الدال على النشاط العقلي وترجمة الشعور حامل الشمول في فهمه  وأدوات تحليله، وهذا يعيدنا عند تحليل النصوص الأدبية الحديثة ومحاولة استقرائها الرجوع إلى النص ما قبل الولادة -أثناء الحمل- أي مرحلة التكوين في خيال المؤلف، والمقصود بها مرحلة التأليف قبل الإنجاب والطرح على الورق، وقد طرحت هذا الفكر ونوّهت عنه في كثير من كتاباتي -ضرورة تأليف النص قبل الطرح- لأن من ينادون بالنص يولد على الورق يشوّهون وجه الإبداع للنصوص الأدبية بمطواة الخلق العشوائي ولكمات عفوية القلم، ربما المبدع يكتب ومضة في الحال أو تولد على فمه حكمة أو استقراء أدبي للحظة عابرة في الحياة، ولكن الجنس الأدبي كامل العضوية والاحترافية لن يولد في لحظة على الورق أبدا، هل يكتب أديب رواية تم تأليفها كلها على الورق أثناء الكتابة؟ لابد للعمل الأدبي المحترف أن يدل على سبب إنجابه، أي أنه ناتج عن حمل لجنين يتكون على مراحل حتى يأخذ شكله الطبيعي ويعلن عن وقت خروجه، وإن سلمنا بهذا ضرورة التأليف قبل الطرح، فعلينا أن ننسب الوليد لأب شرعي هو المؤلف بكل جينات تركيباته العضوية، وأم هي الحياة التي يجامعها بشتى خطوبها لتنال منه وينال منها ليغرز بذرة خياله بمفهومه ورؤاه وكل نوازعه وأثرها عليه لينجبا نصا أدبيا، فكيف لنا أن نقوم بتحليل واستقراء نص حداثي حامل لأجنة متعددة الرؤى دون أن ننسبه إلى أبويه -المؤلف والحياة-  وعندما نجد مولودا تائها -نص أدبي- في حيّنا أول سؤال نسأله له: ـ ابن من أنت؟ وإن بدا متلعثما وتأتي كلماته مشفرة، فعلينا الاجتهاد في تدقيق النظر إلى معالمه، وكما يقال بالمصري (نشبّه عليه) لنعرف من أبوه، لأن الجين غالب على السمات والسلوك، ولأن قريحة الذهن البشري فيما بعد الحداثة ستغرّب النصوص الأدبية من أجناسها ومن ألسنتها وبيئتها وأوطانها، كما يتبادر لنا ما يحدث الآن في التغريب والتهجير للإنسان من عائلته وأسرته ووطنه… قريبا ستتلعثم الألسنة…

الناقد أ. أحمد طنطاوي.. كتب عن كتاب: “فن كتابة القصة القصيرة ونصوص تطبيقية” لـ د. ‏مختار أمين.‏

احمد طنطاوي

كتب: الناقد أحمد طنطاوي

القصة القصيرة منجزًا إبداعيًا لازمًا وحتمية أدبية في الساحة القصصية تسد ثغرة زمانية ومكانية موجودة قبل ظهور هذا النوع، حيث تتناول الموقف الواحد في مكان غير متشعب وتتعرض لشخصيات محدودة جدًا أو _غالبًا _ الشخصية الواحدة في الموقف المتأزم المشحون شعريًا أو نفسيًا أو حدثيًا، وهو ما لا تعرفه الرواية أو المسرحية (اتساعًا مكانيًا وزمانيًا وتعدد الشخصيات) _ وإن كانت قد تداركته بعدذلك مسرحية الفصل الواحد المقاربة للقصة القصيرة من زواياها البنائية في صيغة مسرحية قائمة بشكل أساسي على الحوار، ثم سدت القصة القصيرة جدًا بعد ذلك النقص الأخير المتعلق بالمشهد الشعرى الخاطف، وهو ما تناولته كتب ودراسات أخرى.

بعد أن انتشرت القصة القصيرة كفن أدبي شيق ومثير للانتباه في التحقق الأدبي العربي، كثرت الكتابات النقدية المعالجة لها والشارحة لفلسفتها وطريقة كتابتها ونقد القصص التي خرجت في إهابها، ولأن الكثرة بطبيعتها هي مجال مقارن، لذا كان صدور كتاب جديد يتناولها هو نوع من التحدي الجاد والصارم، لأنه سيوضع بجانب نظائره في مجال القياس والمناقش، وكان المنطق ألا يبحر هذا الإبحار إلا ربان ماهر له من الخبرة والمكانة الأكاديمية والأدبية النقدية تاريخ طويل ومؤهلات علمية وقرائية راسخة وهو ما نراه في حالة كتابنا الذي صدر أخيرًا للدكتور الناقد مختار أمين بعنوان:

“فن كتابة القصة القصيرة و نصوص تطبيقية”

وهو عنوان يشي بمحتواه وطبيعته التشريحية الخطيرة الأساسية واللازمة لكل ممارس لهذا النوع من الكتابة القصصية، أو لمن يريد الدخول في المضمار ويشترك مع الأدباء الذين هم على الساحة الآن، وبهذا فهو جدير بأن يتم تدريسه في المراحل التعليمية التي تهتم بهذا المجال، فهو بالفعل كتاب يحمل من الجدية والرصانة ما يؤهله لحمل هذا الدور بكل اقتدار.

ولأن الكاتب قد قضى حياته كلها في هموم هذه المجالات القصصية إبداعًا ونقدًا ودراسة ومارسها عمليًا_ كتابة ونقدًا كما ذكرت، كانت معالجته مختلفة عن المعالجات السابقة لنفس الموضوع في الكتب الأخرى، لأنه بالخبرة أدرك جوانب النقص والثغرات التي تعتري كتابات المبتدىء، وما هي الجوانب الغامضة التي يسأل عنها كل من يريد اقتحام الحقل والكتابة، وتقسيم الكتاب يبين هذا فهو يرسم دقائق النشأة والتعريف والخصائص، ثم يتناول عناصر البناء كالفكرة والحدث والزمان والمكان ثم يناقش اللغة والحوار والشخصيات، وبعد ذلك يتعرض للصعوبات المتمثلة في فنيات القصة كالأسلوب والسرد والتكثيف..
للبيان التطبيقي الذي تنطبع عليه هذه المقولات النقدية، فقد كان ضروريًا استحضار النماذج الفعلية السابقة في كتابة هذا النوع سواء عند كتاب الغرب أم الكتاب العرب ثم أنهى الكتاب بالتعرض لنصوص حداثية اكتمالا للموضوع من كافة جوانبه البحثية.

 هذا الجهد العلمي الكبير والرصين لا يستطيع المرء وأي مهتم منصف إلا أن يقف أمامه بكل الاحترام و التقدير، و يدعو من يحاولون الكتابة في هذه الأفرع أن يقتدون بمنهجه، ويتخذونه علامة تُحتذى عند الكتابة النقدية التوجيهية الإرشادية

……………….

أحمد طنطاوي

القاهرة/ 2019-1-18