العودة لأحلام نجيب محفوظ آخر أشكال السرد في الأدب ([1])

د.خالد عبدالغني

“كيف جمع بين العجائبي والذاتي والمجتمعي”

مقدمة:

في عام 2008 نشرت دراستي أحلام فترة النقاهة آخر  أشكال السرد في الأدب الذي ابتكره نجيب محفوظ بمجلة عمان بالأردن ثم توالى نشرها في مجلة ضاد مرتين ومجلة الرواية وغيرها من الدوريات وجاء فيها  إن مفهوم الحكمة عند الأديب الكبير نجيب محفوظ يعيد تكوين التوجهات الفلسفية الإنسانية بشكل يلتبس فيه المدلول الثقافي الكامن بالظواهر الافتراضية الفريدة والشخصيات كعلامات غير قابلة للاختزال، ولذا فهناك ثراء في النص المحفوظي لدرجة قابليته للكثير من التأويلات الممكنة.

        ولذلك فحين تحاول الوقوف في رحاب نجيب محفوظ، وأمام إبداع ” أحلام فترة النقاهة” كونه شكلاً جديداً من أشكال السرد الأدبي، وإعجازاً آخراً يضاف لنجيب محفوظ فلابد أن تقلق، وهذا ما عشته منذ أن بدأت أفكر في هذا الوقوف في تلك الرحاب وبخاصة إن هذا الشكل التجريبي العجائبي للكتابة السردية الذي يبدو وكأنه عفوي ينطق على عمل مركب يقوم على النظام والأمانة المطلقة ويحرر الموضوع والشخصية الحدث / الفعل الإبداعي من آنية اللحظة وصدورها إلى أفاق المطلق ومداه اللانهائي واللاشخصي، والسرد هنا لا يسير في خط مستقيم بل هو أشبه بارتماء الأمواج على الشاطئ وانسحابها عنه، ويثمر هذا التكنيك نصاً متوهجاً محموماً ولكنه مكتوب بدقة ورهافة وهو في النهاية استكشاف وتأويل للمسكوت عنه والمضمر لأسرار الوجود والزمن والموت والعدم وفهم البحث عن تراجيديا الإنسان من المهد إلى اللحد. 

        عشت في رحاب إبداع نجيب محفوظ سنوات عديدة وقدمت خلالها مقالات ودراسات كثيرة ضمنتها كتابين سابقن عنه ، وكان فيما تناولت ” أحلام فترة النقاهة” ورأينا كيف استطاع نجيب محفوظ بقدرته الإبداعية الخارقة أن يقدم لوناً جديداً من أنواع السرد في اللغة العربية بعد (الرواية والقصة القصيرة والمقامة)، يقوم على الإيجاز، ويتفق مع آليات إخراج الحلم كما جاءت في نظرية التحليل النفسي على مؤسسها سيجموند فرويد ، يحق لنا أن نطلق عليه “الأحلام” ، ولعلنا نستحث نقاد الأدب بهذه النظرة أن يقدموا رؤيتهم وتنظيرهم لتصحيح ما نذهب إليه إن كان خاطئاً، أو أن يبنوا عليه إن كانت الأخرى. وكانت “أحلام فترة النقاهة ” بحاجة لسلسلة من البحوث للكشف عن السيرة الذاتية والقدرة التنبؤية بالمستقبل كما تجلت في الأحلام وغيرها من الموضوعات الواجب دراستها ، بالإضافة إلى الجوانب الجمالية والرمزية والفنية والصوفية ولغة الشعر ” نقصد هنا أن هناك أحلاماً كثيرة غلب عليها شكل قصيدة النثر الحديثة”. واعتبرت الأحلام  آخر أشكال السرد بعد المقامة والمسرحية والرواية والقصة والشعر.

         وفي الدراسة الحالية كان الهدف هو الكشف  عن بعد آخر من أبعاد إبداع نجيب محفوظ الخارق  وتحليل  أبعاد الاستبصار بالمستقبل وبخاصة بعض المشكلات المجتمعية التي تنبأ بها نجيب محفوظ من خلال أحد أحلامه الحقيقية كون ذلك التنبوء هو أية المبدع الحق إذ الإبداع في أعمق جوانبه هو قوة إلهامية بقدر ما هو قدرة على التنظيم والدقة ومواصلة الاتجاه وتوجيه الأداء ..الخ ولا أدل على ذلك من قوة استخدامه للعجائبي – ولا عجائبي أكثر من أحلام نجيب   محفوظ –  وربطه بالمشكلات الواقعية”، والمشكلات الذاتية.

ومعروف أن العجائبي لم يرد في الدرس الأدبي العربي بل ورد العجيب والغريب وكلها تصب في فحوى مفهوم الإدهاش والحيرة والتردد أما ظواهر خارقة ومفارقة للمألوف ,فبدءاً من الظواهر الطبيعة غير المتكررة وصولا للماورائيات كالجان والغيلان وما إلى ذلك ,كذلك لم يعرفه الأدب اليوناني وإن عدّ أرسطو الغرائب التي يتضمنها النص مفيدة فهي تجعل النص مفرحاً ولذيذاً ورفض المحاكاة المستحيلة أما لجهة تأسس المصطلح من مشتقات لغوية تعود للعجب والفانتازيا ,فهي مقطوعة الدلالة عنها, فهي كلمات ذات دلالة لاحقة تعبر عن الدهشة والغرابة والخيال في حين العجائبي أو الفانتازيا, مفهوم مؤسس لنص له خصائصه وشروطه التي نظر لها النقد الغربي.‏

الحلم : إني حلمت بأنني كنت سائراً في أحد الشوارع وكان ينتابني خوف بسبب وجود بعض قطاع الطرق الذين يهاجمون المارة ويسرقونهم وقد يصيبونهم بأذى أيضاً بالمطاوي والسكاكين التي يحملونها. ووسط خوفي هذا قابلت بالمصادفة صديقي المرحوم الدكتور حسين فوزي الذي أصبح يظهر الآن بشكل متكرر في أحلامي، وما إن رأيته حتى قصصت عليه قصة هؤلاء المجرمين الخارجين على القانون والذين يتربصون بالناس في الطريق العام. فقال لي حسين فوزي على الفور: ده أنا أمنيتي أن أقابلهم.. إلحقني بهم فدهشت لذلك لكني أخذته إلى حيث يوجدون وتركته ومضيت إلى حالي. وبعد فترة جاءني الدكتور حسين فوزي يقول: تعالى بقى شوف الحرامية بتوعك! فذهبت معه وأنا ما بين الخوف وحب الاستطلاع، فوجدت المجرمين الذين كنت أخافهم وقد ارتدوا البدل السموكنج السوداء مثل عازفي الاوركسترا السيمفوني وكل منهم أمامه النوتة وفي يده آلته وهنا قال لي الدكتور حسين فوزي حاسمعك دلوقت سيمفونية بيتهوفن الخامسة ! وبالفعل عزفت لي أوركسترا قطاع الطرق السيمفونية الخامسة لبيتهوفن. وما إن انتهى الأستاذ من الحلم حتى قلت له إنه حلم جميل ومعناه أجمل فهو يروي كيف يمكن للفن أن يحول المجرم إلى عازف مرهف الحس ، قال : لكني ما زلت أقلبه لا أعرف ماذا سأصنع به. وإلى أن رحل محفوظ بعد ذلك بخمس سنوات لم يكن قد نشر هذا الحلم”.

   هذه هي المرة الأولى التي يتاح فيها نشر حلم حقيقي رآه نجيب محفوظ ومن ثم سنحاول الإجابة على السؤال التالي:

     ما دلالة الحلم وهل يكشف عن إصابة نجيب محفوظ باضطراب الضغوط التالية للصدمة؟.

    هذا الحلم الذي بين أيدينا يستمد قيمته من أنه حلم حقيقي – نقي- رآه نجيب محفوظ أثناء النوم ولم يتدخل فيه نجيب محفوظ بالإبداع، ومن ثم فهو يعد وثيقة مهمة جداً تكشف في واحد من أهميتها عن الحالة النفسية التي عاشها نجيب محفوظ في عام 2001 كما يقرر بذلك محمد سلماوي بقوله : “وإلى أن رحل محفوظ بعد ذلك بخمس سنوات لم يكن قد نشر هذا الحلم” ورحيله كان في عام 2006. وإذا استحضرنا عناصر الحلم ودلالاتها لكي نقوم بتحليله فإننا سنكون أمام عنصر بيتهوفن والسيمفونية الخامسة، واللصوص والسكاكين والمطاوي، والدكتور حسين فوزي.

    فأما الدكتور حسين فوزي فيطلق عليه السندباد المصري، وهو عالم قدير ، تولى رئاسة البرنامج الموسيقي بالإذاعة، وكان صديقاً لنجيب محفوظ وكثيراً ما تناقشوا في كل شيء تقريباً وكانا- حسين فوزي ونجيب محفوظ – من المداومين على حضور ندوة توفيق الحكيم بجريدة الأهرام .

    واللصوص والمطاوي والسكاكين يرمزون إلى المجموعة الإرهابية التي حاولت قتله في حادث مؤلم ومروع وقاسٍ إذ قام أحد الشباب بطعنة في رقبته وتمت النجاة بمعجزة. وظل من بعدها يعاني من آثار ذلك الحادث حيث أصيب بشلل في يده وقلة الحركة مع ضعف السمع والبصر.

     وكما يلاحظ في الحلم أن نجيب محفوظ صاحب طبيعة مسالمة محبة للحياة والخير والناس ومتعاطف مع الطبقة المتوسطة في المجتمع. وأنه لم يغير عاداته من حيث المشي في الشوارع والجلوس في المقاهي وذلك بالرغم مما حققه من شهرة واسعة وسمعة عالمية وعمره المتقدم فهو أثناء الحادث كان قد تجاوز الثمانين عاماً في ظل وهن الصحة واعتلالها وضعف حواسه، والمفاجأة حيث سرعة تنفيذ العملية – محاولة الاغتيال- حتى أنه ظن أن الشاب قادم ليحييه فهمَّ نجيب محفوظ برد تحيته ولكن الشاب فاجأه وطعنه بالسكين.

      أما لودفيج فان بيتهوفن (1770-1827م) فهو مؤلف موسيقي ألماني ولد عام 1770 م في مدينة بون يعتبر من أبرز عباقرة الموسيقى وبدأ بيتهوفن يفقد سمعه في الثلاثينيات من عمره إلا أن ذلك لم يؤثر على نتاجه الذي ازداد في تلك الفترة وتميز بالإبداع، ومن أجمل أعماله السيمفونية الخامسة، وبدأت إصابة بيتهوفن بصمم بسيط سنة 1802، فأخذ في الانسحاب من الأوساط الفنية تدريجياً. إلا أنه لم يتوقف عن الإنتاج الفني، ولكن أعماله أخذت اتجاهاً جديداً. ومع ازدياد حالة الصمم التي أصابته امتنع عن العزف في الحفلات العامة، وابتعد عن الحياة الاجتماعية واتجه للوحدة، وقلت مؤلفاته، وأصبحت أكثر تعقيداً. حتى أنه رد على انتقادات نقاده بأنه يعزف للأجيال القادمة.  وفي مرحلة من حياته كان بيتهوفن يعاني من ضائقة مالية شديدة، وكان يسكن في الطابق السفلي وفي هذه الأثناء تأخر بيتهوفن عن دفع الإيجار عدة شهور، وبعد عدة مرات طالبه فيها صاحب المنزل بالإيجار، بدأ بيتهوفن يتهرب من هذا الرجل، فينتظر خروجه إلى عمله في الصباح حتى يخرج بيتهوفن.

    وفي أحد الأيام بينما كان بيتهوفن عائداً من الخارج .. وعندما وجد فناء المنزل خالياً، تقدم ليصعد إلى السلم. وعند منتصف السلالم خرج صاحب البيت وشاهد بيتهوفن… فأخذ ينادي عليه، فما كان من بيتهوفن إلى أن قفز على السلالم حتى باب غرفته ودخل وأغلقها خلفه وهو يشعر بخوف شديد، وصعد صاحب المنزل وهو متأكد أن بيتهوفن في الداخل،وأخذ يطرق الباب بعنف منادياً على بيتهوفن ومهدداً إياه !!…..وكان الرجل يطرق الباب على بيتهوفن أربع طرقات ولكن بمنتهى العنف والقوة !!! هنا … وفجأة وبيتهوفن يستمع إلى كل هذه الطرقات.. قفز إلى البيانو الموجود في وسط الغرفة … وأخذ يعزف مع الطرقات..كلما سمع دفعة من الطرقات (أربع طرقات) أتبعها بأربع نغمات على البيانو وتوقف…ثم أربعة أخرى… ثم توقف وهكذا لو سمعتم الحركة الأولى لوجدتموها عبارة عن أربع دقات متتالية …ثم أربع أخرى ، ثم أربع أخرى تتابع بشكل أسرع وألف بيتهوفن الحركة الأولى كلها منذ بدايتها إلى نهايتها معتمداً على أربع دقات تتابع وتتنوع بين آلات الأوركسترا .

      أما عن تحليل الحركة الأولى المميزة لهذه السيمفونية، أن بيتهوفن تخيل أنالقدر- ممثل هنا في صاحب المنزل – قد هجم عليه بمنتهى القوة وتوالت ضرباته على بيتهوفن لتجعل كل أوقاته تعيسة، وهى ضربات تتراوح ما بين القوة والضيف. وهكذا الضربات تتوالى حتى نهاية الحركة الأولى من هذه السيمفونية الرائعة التي سُميت “ضربات القدر”.

     وأبرز ما في هذا الحلم أنه عبر عن أعراض اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة post- traumatic stress  disorder  وهي مجموعة من الاضطرابات النفسية تصيب من تعرضوا لأحداث أو ظروف مفاجئة صاحبها ضغط نفسي شديد كان فوق احتمالهم مثل ظروف وأحداث الكوارث والحروب والزلازل والاختطاف والاغتصاب والاعتقال والاغتيال وحوادث السيارات، ولهذه الاضطرابات مجموعة من الأعراض منها تذكر الحدث الضاغط باستمرار والعيش مع الانفعالات العنيفة التي صاحبته، وظهوره بشكل متكرر في أحلام الفرد أو على هيئة كابوس، وفقدان الثقة في النفس وفي الآخرين والإحساس بتفاهة الحياة والرغبة في التخلص منها، والتشاؤم من المستقبل، وما يخبئه القدر، والخوف الزائد والقلق العام والعصبية وعدم انتظام النوم واضطراب الشهية للطعام.

      وبعض هذه الأعراض قد تجاوزها نجيب محفوظ ولكن بعضها الآخر ظل موجوداً في اللاشعور يؤرقه ، ونعود الآن للحلم الحقيقي الذي بين أيدينا فكما هو واضح في الحلم أن نجيب محفوظ لا يتمنى العقاب للمجرمين ولكن يتمنى هدايتهم وإصلاحهم وهذا يتفق مع رؤيته التي ذكرها في كتابه “وطني مصر” وهو يضم عدداً من الحوارات أجراها معه محمد سلماوي فيها انتقاد للإرهاب والقمع ورغبته في توجيه الشباب للعمل والمعرفة والثقافة الجادة. كما أنه من الثابت أن نجيب محفوظ طلب العفو عن المتهمين في قضية محاولة الاغتيال عام 1994، ومن ثم فالحلم قد عبر عن تأثير اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة عليه حيث يستحضر جانب كبير من الأزمة بحيث يتذكر الخوف المصاحب لها وفزعه من اللصوص وقطاع الطرق ونجاته منها وعفوه عنهم. نكتشف أيضا أن نجيب محفوظ توحد بـ (بيتهوفن) الذي كان مصاباً بالصمم. واعتزل الناس، وكذلك نجيب محفوظ ضعف سمعه حتى اقترب من الصمم في سنواته الأخيرة وضعف بصره لدرجة العمى ولذلك اعتزل الناس إلا من بعض الزيارات القليلة، وبرغم ذلك أبدع “أصداء السيرة الذاتية” و”أحلام فترة النقاهة” – آخر ما كتب – وكذلك بيتهوفن أبدع أعظم أعماله في ظل فقدان السمع، وعندما نعرف أن السيمفونية الخامسة تحمل عنوان “ضربات القدر” يبدو أن الحلم من التجلي والوضوح بحيث يكون هو الآخر ضربات للقدر، فضربات السكين في رقبة نجيب محفوظ في محاولة الإغتيال تشبه ضربات القدر في السيمفونية الخامسة.

     وخلاصة التحليل النفسي لهذا الحلم النقي الحقيقي لنجيب محفوظ أنه دلالة على مرور نجيب محفوظ بأعراض اضطراب الضغوط التالية للصدمة وإحساسه العميق بالإيمان بالقدر ، وكأن اختياره لرموز الحلم – اللصوص والسيمفونية الخامسة لبيتهوفن وحسين فوزي – لهو تعبير صادق جداً عن بنائه النفسي المتسامح مع المخطئين والمؤمن بدور الفن في علاج المجرمين ، كما كشف الحلم عن امتزاج بين العجائبي من حيث صياغة الحلم ومفداته ورموزه  ، والذاتي وهو معانة نجب محفوظ من آثار محاولة الإغتيال، والموضوعي المجتمعي وهو حوادث القتل والارهاب الت تعاني منها مصر منذ سنوات طويلة وبخاصة بعد يناير 2011 وهو ما يمكن تسميته الهجمة الإرهابية الشرسة.

أحلام إبداع وليست أحلام نوم:

    لم يكن نجيب محفوظ بالقادر عن الكف عن الإبداع بأي شكل من أشكاله وعندما أصابه الوهن والضعف البدني استمرت  رغبة الإبداع لديه فكان ابتكاره للاحلام التي تعتبر الشكل الإبداعي الأخير لنجيب محفوظ ولكي ندلل على ذلك سوف نعرض لخمسة أحلام هم الحلم 202 والحلم 180 والأحلام الأخيرة التي كتبها قبل رحيله ونشرت بمجلة ضاد الصادرة عن اتحاد الكتاب المصريين في عددها التذكاري عن نجيب محفوظ نوفمبر 2006 ، وكان عددهم ثلاثة كما أُعِيدَ نشر تلك الأحلام في الطبعة الحالية التي نعتمد عليها.

الحلم رقم (180):

“رأيت أستاذي الشيخ مصطفى عبد الرازق – وهو شيخ الأزهر – وهو يهم بدخول الإدارة ، فسارعت إليه ومددت له يدي بالسلام، فصحبني معه ورأيت في الداخل حديقة كبيرة جميلة، فقال : إنه هو الذي أمر بغرسها ، نصفها ورد بلدي والنصف الآخر ورد إفرنجي، وهو يرجو أن يولد من الأثنين وردة جديدة كاملة في شكلها، طيبة في شذاها” ([2].(

    ولكي نذهب إلى أن هذا الحلم إبداع في ذاته ولا علاقة له بحقيقة أحلام النوم كان علينا أن نحدد عناصر الحلم والعلاقة الداخلية بينها، فأولاً الشيخ مصطفى عبد الرازق ([3]). أحد الدعاة إلى الدمج بين الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية وذلك بهدف خلق نهضة في المجتمع العربي والإسلامي، ويتبدى لنا أن نجيب محفوظ يحاول إحياء هذه الدعوة التي تعلمها على يد أستاذه وقد رمز لذلك بالورد البلدي والأفرنجي وما قد ينتج عن امتزاجهما، وبعد ذلك هل نشك في أن هذا الحلم من عمل العقل الواعي المبدع والفكر المستنير الذي استوعب الفكر الإسلامي والليبرالي في قراءة دائمة ومستبصرة لهما، ولسوف نجد ظلاً لذلك الفكر الإسلامي في روايته ” رحلة ابن فطومة ” التي تبرز رؤيته للإسلام ودياره وإن كنا نرى أنه حاول معارضة سيد قطب وبخاصة في كتابه “معالم في الطريق”.

الحلم رقم (1):

   “رأيتني في مستشفى لإجراء بعض التحاليل ، وهناك علمت أن مصطفى النحاس يرقد في العنبر المجاور فذهبت إليه وتأثرت لمنظره  وقلت له : سلامتك رفعة الباشا.

فقال : إن المرض الذي أعانيه الثمرة الحتمية لنكران الجميل.

فقلت له : عند الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ([4].(

   وفي هذا الحلم الذي يبدو وكأن نجيب محفوظ يعود مريضاً “مصطفى النحاس ” وهو أحد زعماء مصر ، ويتضح مدى الإجلال والتقدير الذي يحفظه له واضحاً في كلمة رفعة الباشا، ولا ينكر أحد مدى تقدير نجيب محفوظ لمصطفى النحاس، ولكنه في الوقت نفسه يحذر نجيب محفوظ من نكران الجميل وبخاصة لأولائك الذين خدموا مصر وضحوا من أجلها ، ولا يستتر أن نجيب محفوظ يخشى من أن يتنكر له شعبه بعد رحيله – وما يدعم ذلك قول نجيب محفوظ نفسه إن آفة حارتنا النسيان – الذي بدأ يشعر قربه كما رحل من قبل مصطفى النحاس ، وهذا الحلم بهذا الشكل والمضمون ليشير إلى كونه واحد من إبداع وحكمة نجيب محفوظ واستبصاره بقرب رحيله.

الحلم رقم (2):

    “رأيتني في مدينة غريبة جميلة المعمار وكلما دخلت بنسيونا أجده يتكلم لغة غريبة حتى وصلت إلى بنسيون تديره أمرأة زنجية اللون جميلة القسمات والملامح ، فقلت لها : هنا يمكن أن أقول ما أريد وأن أسمع ما يقال . فقالت لي : وأيضاً الحياة هنا لا تقل في رقيها عن أحسن البنسيونات الأخرى!([5].(

  في هذا الحلم يلفتنا نجيب محفوظ إلى ضرورة أن نيمم في واحد من اهتمامنا إلى إفريقيا التي ننتمي إليها جغرافياً حيث تظهر المرأة الزنجية اللون والجميلة القسمات ، خاصة وهو يرى جمهرة من المثقفين المصريين لا يرون الخير إلا في التوجه نحو الثقافة الغربية ، ويأتي ختام الحلم بأن الحياة في أفريقيا لا تقل في رقيها عن الحياة الغربية، كما يتحدث نجيب محفوظ بوعي غريب فهو يرى أن إفريقيا لابد وأن تدخل في موازنات القوى ثقافياً وسياسياً ، وهل نستطيع أن نوؤل النص “الحلم” إلى تحذيره من مغبة ترك الساحة الإفريقية للأيدي الإسرائيلية والأمريكية التي يمكن أن تهدد الأمن القومي لمصر بتأجيج الصراع على مصادر المياه “يقصد النيل وحصة مصر منه” – نلاحظ بعد ذلك الحلم بثلاث سنوات تقريباً تظهر مشكلة تقسيم مياه نهر النيل على أشدها باعتبارها أخطر مشكلة يمكن أن تواجه الوطن في المستقبل ولا يخفى أن هذا الحلم المعجزة والنبؤة قد نبهنا إلى ذلك الخطر – ، أو الفتن التي قد تنشأ في السودان – لا يخفى أن مسالة تقسيم السودان باتت وشيكة الحدوث وما هي إلا شهور قليلة وتكون الدولة الجديدة في الجنوب أمراً واقعاً-  أو إثيوبيا – التي تتزعم ضرورة خفض حصة مصر من مياه النيل ولا غرابة في موقفها حين نعلم أن لها علاقات وثيقة بإسرائيل ولا ننسى أنها دعمتها من خلال هجرة اليهود الفلاشا من أثيوبيا إلى إسرئيل خلال السنوات الماضية-  أو غيرهما مما يؤثر على مصر ؟ ، وأحسبنا سنقدر هذا الحلم إذا لم ننتبه لفهمه وإعادة قراءته من جديد.

الحلم رقم (228)

“هذه السيدة هي أستاذة أولادي وإضافة إلى ذلك تحاورهم في شئون الدنيا والدين ، فمالوا جميعاً إلى التدين ، فقلت للسيدة : إني سعيد بتدينهم ولكن أخشى أن ينحرفوا إلى التطرف. فقالت لي : إن التدين الصحيح أقوى سلاح ضد التطرف”([6]).

ونتساءل هل هذا حلم أم إبداع ورسالة محملة بخلاصة للفكر الداعي إلى تعليم الدين الصحيح كحل وحيد لمواجهة التطرف الذي عانى هو شخصياً من آثاره. ثم يقدم انتقاده للأحزاب السياسية في الحلم التالي.

الحلم رقم ( 230 )

” دعيت الأحزاب إلى السباق، فأقام كل حزب سرادقه وركب مكبرات الصوت ، وراحوا يتسابقون في إلقاء الخطب وتحذير الناس من عملاء أمريكا وإسرائيل ، واشتدت حرارة الجدل ثم تبادلت السرادقات إطلاق النار ، ثم لم يعد يسمع إلا صوت الرصاص”([7]).

الحلم رقم (3):

 “رأيتني سائراً في الطريق في الهزيع الأخير من الليل فترامى إلى سمعي صوت جميل وهو يغني:

زوروني كل سنة مرة!

فالتفت فرأيت شخصاً ملتفاً في ملأة تغطيه من الرأس إلى القدمين ، فنظرت إليه باستطلاع شديد ، فرفع الملأة عن نصفه الأعلى فإذا هو هيكل عظمي فتراجعت مذعوراً ورجعت وأنا ألتفت والصوت الجميل يطاردني وهو يغني : زوروني كل سنة مرة!([8].(

  في هذا الحلم المعجزة والنبؤة أيضاً يدرك نجيب محفوظ أنه سائر إلى الرفيق الأعلى وهو يبتهج في هذه الرحلة وهذا السير ، فهو يحب لقاء الله .. ويتمنى بأن نزوره ونذكره ولو مرة واحدة في كل عام ،،،،

ولا أملك إلا أن أقول له :” فليطمئن قلبك فالخالدون لا يموتون أبداً … لأنهم فوق الموت وفوق الحياة.

قصيدة النثر في أحلام فترة النقاهة:

الحلم رقم ( 122 )

” الليل سجى / فاحتوينا غرفة وهبتنا الظلمة راحة عابرة وفرحاً حميماً وترامى إلينا من الطريق ضجة/ فهرعت إلى خصاص النافذة فرأيت قوماً يحدقون بشخص مألوف الهيئة وينهالون عليه باللعنات واللكمات / وهمست لِمَ لمْ يقاوم حتى شعرت باللكمات تخرق جسدي” ([9].(

    ولقد تم من خلال التقصي ما يدعم الرؤية بأن هذه الأحلام فن جديد من فنون السرد العربي ابتدعه نجيب محفوظ    


[1]– نجيب محفوظ . أحلام فترة النقاهة – الأحلام الأخيرة – . دار الشروق . القاهرة . 2007. ونجيب محفوظ . أحلام فترة النقاهة – الأحلام الأخيرة – . دار الشروق . القاهرة . 2016. والحلم المنشور بالعدد رقم 220 من مجلة الثقافة الجديدة الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في يناير 2009 ، وبعض أحلام فترة النقاهة هي ما سنعتمد عليه في الدراسة الحالية.

[2]نجيب محفوظ:مرجع سابق.2007.

[3]أحد الفلاسفة والمفكرين الإصلاحيين والتنويريين في النصف الأول من القرن العشرين في مصر وكان أحد الذين درسوا الفلسفة في فرنسا وتعرفوا على الحضارة الغربية ومن قبل تعرف على الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي . راجع في هذا ، سعيد اللاوندي : عمائم وطرابش. القاهرة.الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2005.

[4]نجيب محفوظ:مرجع سابق.2007.

[5]نجيب محفوظ:مرجع سابق.2007.

[6]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 2007.

[7]– نجيب محفوظ : مرجع سابق . 2007.

[8]نجيب محفوظ:مرجع سابق.2007.

[9]نجيب محفوظ:مرجع سابق.2007.

فكرة واحدة بشأن "العودة لأحلام نجيب محفوظ آخر أشكال السرد في الأدب ([1])"

أضف تعليق