الحلم في النص السردي بين التخييل والتفنين:

د. منير فوزي

قراءة في نص (أحلام سرية) للروائي مصطفى بيومي

مصطفى بيومي

     في نص (أحلام سرية)([1]) للروائي والناقد (مصطفى بيومي) محاولة للإفادة من تشكيل جمالي جديد من أشكال التوظيف في إطار النص الروائي، وهو: التشكيل بالأحلام.

      الأحلام جزء من نشاط اللاوعي لدى الإنسان، وهو جزء مهم انتبه إلى أهميته علماء النفس، وانتبه له أيضًا الفن، خصوصًا الفن التشكيلي.

      وقد استطاعت بعض الروايات العربية القيام بتوظيف الأحلام في إطار التشكيل الفني للرواية، نذكر منها رواية (غرفة المصادفة الأرضية) للأديب المنياوي (مجيد طوبيا) والتي وظف فيها بعض أحلام بطلة الرواية (مهجة) والتي دونتها في كراس خاص بها، كما نذكر أيضًا أنه في رواية (زينب والعرش) وظف مؤلفها الكاتب (فتحي غانم) أكثر من عشرين حلمًا متتابعًا لشخصية (زينب الأيوبي) وهو أعلى معدل أحلام في نص روائي([2]).

      أما رواية (مصطفى بيومي) فتقوم كلها على فكرة توظيف الأحلام من أول سطر فيها إلى آخر سطر، وبالتالي فإن رواية (أحلام سرية) تعدّ الأولى من نوعها، وتعدّ شكلاً تجريبيًا، يخوض فيه المؤلف هذه التجربة الجديدة، محاولاً الاعتماد – كل الاعتماد- على هذا النسق الإبداعي وحده، من أجل تقديم رؤية فنية متكاملة.

أحلام سرية مصطفى بيومي

      السؤال الأول الذي يواجهنا ونحن نتلقى هذا العمل: ماذا نصنفه؟ هل هو رواية فعلاً كما يقول عنه مؤلفه؟ أم هو مجموعة مذكرات شخصية لإنسان رحل عن عالمنا؟

      وإزاء هذا التساؤل يطل سؤال مواجه: ما الرواية؟ هل هي شكل واضح الملامح أم هي قالب متغير يتجدد بتطور الفكر والإبداع؟

      إن عناصر البناء الروائي متوفرة في هذا العمل، فهناك الشخصيات وهناك الأحداث وأيضًا الأزمنة والأمكنة واللغة والسرد، وهناك حبكة من نوعٍ ما. ولأن هذا العمل – عند قراءته الأولى- ربما لا يصل إلينا مباشرة، فهو يحدث نوعًا من الارتباك الذهنيّ، الذي يتطلب إعادة القراءة للنص أكثر من مرة حتى نتمكن من تبين رؤية العالم من خلال سرديات بطل الأحلام، وكيف أن هذه الرؤية متناسقة ومتجانسة مع بعضها البعض.

      الرواية هي مجموعة أحلام (وعددها تسعة وتسعون حلمًا أو منامًا) يرويها لنا صحبها (محسن بكر)، ويقدمها لنا صديقه المؤلف مع إضافة بعض الحواشي من أجل التوضيح. بعض هذه الهوامش بالغ الأهمية والآخر ليس كذلك. وهذه الحيلة الفنية في بناء الرواية ليست جديدة؛ بل هي قديمة متعارف عليها.

      البطولة لـ (محسن بكر)، وهو صاحب الأحلام المنتحر في ظروف غامضة؛ نتيجة لعددٍ من الضغوط النفسية والاجتماعية، منها اختلافه مع صديقته (سامية حسين) التي قامت بينها وبينه علاقة حب، امتدّت إلى علاقات جسدية، كما هو واضح من الأحلام، وبسبب هذه العلاقة نشأ خلاف بين (محسن بكر) ووالده.  

      والرواية بأحلامها تجسيد للصراع النفسي الذي عانى منه (محسن بكر)، والذي أدى به – في النهاية- إلى الانتحار. نستطيع أن نرصد فيها كيف أن عالم (محسن بكر) عالم كابوسي فهو محاصر بالموت، يشعر دومًا بالمطاردة، وهناك رموز الكلاب والعساكر والحذاء الأسود الضخم الثقيل لعسكري أسود متجهم يدهسه، وهو ظامئ للخلاص بالجسد، غير أنه ” ليس بالجنس وحده يتحقق الخلاص” كما تقول (سامية). وتلعب المشاهد الجنسية دورًا حيويًا في بناء العمل، وهو جنس يؤدي إلى الانطفاء ويبشر بالموت.

      أصدقاء (محسن)، الشخصيات الأخرى عدا (الأب) و(سامية) مثل الدكتور (بليغ) و(مرعي محروس) و(أشرف حمزة) و(رأفت بطرس) و(فوتينيه جورجي)، كلهم يؤدي دوره في خدمة شخصية (محسن) ويؤكد ضرورة رحيله عن هذا العالم المليء بالأحزان وبالشذوذ وبالتطرف.

      ولأنه ليس للرواية مساق أحادي، بل مساقات متعددة، فإن القارئ يعاني من إرهاق بالغ من أجل الوصول إلى رؤية مكتملة، فبعض الأحلام يتكامل في البعض الآخر، غير أن المسافة بينها متباعدة، والحلم الأخير تجربة ما بعد الموت، يؤكد وصول (محسن) إلى قراره حتى قبل الانتحار.

      وتكشف أبعاد متعددة للأحلام فلسفة الحياة، مثل موقف الإنسان من العلم أو موقفه من الدين أو موقفه من الموت بفراق الأحباب.

      كما أن هناك مثلاً الحلم الثالث والعشرون الذي تكشف قراءته مدى الألم والوجع والقسوة التي يواجهها بطل الأحلام (محسن بكر) يقول:

      (عملاق أسود يسوقني أمامه. تؤلمني قبضته القاسية. يتوقف أمام باب خشبي قديم مغلق. يدير المفتاح ويدفعني. أرى أمي منكبة تقشر البطاطس. بغلق الباب ويسوقني من جديد. يتوقف أمام باب حديدي صدئ يزيحه بقدمه فينفتح. أرى أمي منهمكة في تنقية الأرز.

     يرفعني بين يديه. يسير بي خطوات حتى الغرفة الثالثة. لا باب لها. يلقيني بعنف فأحس بتكسير عظامي على الأرض الصلبة. أستدير متوجعًا فأجد أمي متربعة تتابع المسلسل التليفزيوني.

      أغفو على حجرها وأصابعها تداعب شعري. أصحو فزعًا على ركلة بحذاء العملاق الأسود. أمي جثة هامدة، والتليفزيون يبث إعلانات ملونات عن أجهزة التكييف.

      نائحة تلطم خديها في جنون. شيخ قزم يحمل جثة أمي ولا يلتفت نحوي. يغلق الباب خلفه فأحس بالاختناق. تحاصرني فئران رمادية اللون، وتعضني بلا رحمة). ص 232.

      رموز القهر والقسوة واضحة، عملاق ولونه أسود، وذو قبضة قاسية، يحيلنا إلى عفاريت القماقم، وهو لا يفعل شيئًا سوى إيذاء (محسن بكر) جسديًا وإلقائه بعنف على الأرض الصلبة، وركله بعنف، والبطل ليس سوى أسير منقاد لبطشه وصلفه، لا حماية له إلا على حجر أمه حيث يغفو بعمق، لكن هذا الحنان سرعان ما يتلاشى ويتبدد، إذ يدرك (محسن بكر) تحول أمه – رمز الحماية والحنان- إلى جثة ميتة، يحملها من يشبه الجني إلى عالم آخر، إن الجرذان تستأسد في غيبة الأم فتقوم بالحصار والعضّ بلا أدنى شفقة.

      وهكذا تتعانق الرموز الدلالية في الحلم عاكسة القهر والضعف والاستسلام، الذي حتمًا سيقود للانتحار الذي سيقدم عليه (محسن بكر) باقتناع تام.

      هذه الرواية أو هذا النص يستحق القراءة أكثر من مرة، وهو يمثل تجربة إبداعية جديدة تستحق الاهتمام، وإن شاب هذا النص بعض المآخذ كجفاء اللغة والشعور بغياب وحدة العمل الكلية أو عدم التماسك وتشظي الحبكة، غير أن هذه المآخذ في مجملها لا تعدّ عيبًا جوهريًا فقد فرضتها طبيعة الشكل المستخدم وبكارته.


 (1) مصطفى بيومي: أحلام سرية، دار الأحمدي للنشر، القاهرة 1998م.

([2]) كان الأستاذ مصطفى بيومي هو الأسبق من نجيب محفوظ  في خلق بناء فني متكامل قائم كله على الأحلام، حيث صدرت روايته (أحلام سرية) عام 1998م، وكنت أقررها على طلاب الفرقة الثالثة بكلية دار العلوم بجامعة المنيا في إطار مقرر (نقد الرواية) منذ ذلك العام، بينما نشر نص “نجيب محفوظ”: أحلام فترة النقاهة  على حلقات مسلسلة في مجلة (نصف الدنيا)  القاهرية، وأعيد جمعها بعد ذلك في كتاب مستقل، عام 2019 م في كتاب تضمن حوالي مائة وست وأربعين حلمًا حقيقيًا وأحلام يقظة Day Dream  ، وفي العام نفسه نشرت (دار الشروق) كتاب (أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة) لنجيب محفوظ الذي احتوى على 291 حلمًا لم تنشر من قبل.

رأيان حول “الحلم في النص السردي بين التخييل والتفنين:”

  1. وإزاء هذا التساؤل يطل سؤال مواجه: ما الرواية؟ هل هي شكل واضح الملامح أم هي قالب متغير يتجدد بتطور الفكر والإبداع؟ . د. منير فوزي
    هذا السؤال يتحدى التاريخ النقدي، ونظرياته، وأكاديمياته التي تربت في ثقافة التقاليد، لهذا فمن النادر جدا أن أجد أكاديميا في قامة الدكتور منير فوزي يطرح سؤالا على هذا النحو من الشجاعة والوعي، بعد أن رسخته نظريات شكلانية حداثية على سبيل الافتكاس النظري، فالسرد هو السرد منذ عرفه الإنسان البدائي، وليس هناك أنواع، لكن هناك أشكال، وهي مفتوحه ولا نهايةن، ترتبط بتطوري الوعي الإنساني عبر التاريخ من ناحية، وعمق الوعي الفردي من ناحية أخرى، لهذا لا مشاحة أن يجعل ( مصطفى بيومي ) من الأحلام بناء روائيا، ويجعل ( نجيب محفوظ ) منها بناء قصصيا.. لهذا يمكن أن تكون بناء سيراذاتي، أو حواري، أو وثائقي.. إلى آخره.

    Liked by 2 people

أضف تعليق