قراءة مقامات في حضرة المحترم لسيد الوكيل

بقلم: السيد نجم

تحيرت فور الاطلاع على هذا الجهد المعرفي النقدي لسيد الوكيل، حيث تناول (نجيب محفوظ) الذي قد يظن البعض أن ما كتب عنه يكفي، والحقيقة من يقرأ “مقامات في حضرة المحترم” يدرك أن الباب لم يغلق، باب مغارة كنوز نجيب محفوظ، وﺇلا ما كانت تلك القراءة فى مخطوطة طويلة، أضافت معها أسلة جديدة وأن مغارة محفوظ ما زالت مفتوحة. فقدناقش الوكيل أعماله بنرة بانورامية للسمات العامة فى سرديات محفوظ، وذلك بمنهجية متعمدة فاحصة للتناول، تعتمد على ما تضمنته مقدمة الكاتب نفسه، حيث اقترب كثيرا من دلالات “اﻹبداع” الذي هو البحث عن الذات، حيث يتوالد التوتر من خلال رحلة عرفها بالرحلة الوجودية.. كم شغف الوكيل بملاحقة تلك الرحلة مع نجيب محفوظ حتى كانت الرؤيا في المنام، وكأننا مع تهويمات سردية من سرديات محفوظ!  

تعمدت أن أخط مصطلح سردية عوضا عن الرواية أو القصة القصيرة، وهو ما توقف أمامه “الوكيل” وبحث في مقولة شاعت في الحياة الأدبية؛ من يحب قراءة القصة القصيرة يقرأ يوسف ادريس، بينما من يحب قراءة الرواية يقرأ نجيب محفوظ، وسطر حول تلك المقولة صفحات عديدة.

لعلها كانت أولى القضايا التي تناولها، حيث كانت مع أول المقامات الثلاثة التي شكلت قوام الدراسة/ الكتاب (مقام الأسرار- مقام الكمال – مقام الوصل). لا تدهش كثيرا من توظيف تلك المصطلحات الصوفية، فقد مهد لها د.مصطفى الضبع في مقدمته المحكمة الكاشفة؛ حيث مقام “الأسرار هو مكان الوصول للأسرار أو هو المكاشفة.. ومقام الكمال هو بحث الشخصيات عن الكمال.. ومقام الوصل هو السيال الخفي الظاهر بين القطب نجيب محفوظ والمريد سيد الوكيل.. ما يعني ما قال به الكاتب من ﺇن الذهاب ﺇلى البحر له ثلاث درجات: بداية من الرؤية عن القرب من مباه البحر.. ﺇلى مرحلة السباحة فيها.. ثم الغوص داخلها.. كلك فعل الكاتب في قرأته لبعض سرديات محفوظ.

طوال القرن العشرين بدت القصة القصيرة وكأنها في مأزق، وحتى الرواية تم ﺇطلاقها بعفوية غير محكمة حتى اطلقوها على المسرحية.. ما ﺇن كانت مقولة زمن الرواية حتى انتبه الجميع، وهنا يعيد الوكيل تعريف القصة القصيرة بالنظر  ﺇلى قصص محفوظ القصيرة التي بدأت طويلة واجتماعية وانتهت بالأحلام القصيرة وبالشاعرية أحيانا.. كما في أصداء السيرة الذاتية.

يجزم ويناقش الوكيل مقولته: القصة القصيرة عند نجيب محفوظ ليست نوعا أدبيا مستقلا ولا شكلا متميزا ، بل طريقة لرؤية موضوع ما.. (فلا هي ملتزمة بزمن محدد، ولا بشخصية واحدة فقط، ولا بحدث وحيد تدور حوله المواقف والاراء) هي عنده الوعي بطبيعة التجربة ، وهو ما ينمي دوما روح التجريب والتجديد.

ربما انتهي الوكيل ﺇلى ﺇن الفارق بين الرواية والقصة القصيرة عند محفوظ لم يكن معيارا شكليا خارجيا، بل ﺇرتبط بجوهر الرؤية أو زاوية رؤية التجربة .. أشار ﺇلى نموج شخصية “داود يزيد المصري” وهو شخصية احتلت يعض السطور لصفحات قليلة في مجموع قصص “حديث الصباح والمساء”.. ونظرا لما تحمله الشخصية من ثراء تحول النص الصغير المكتنز ﺇلى حجم رواية في معطياته، والدليل أن التقط السينارست النابه “محسن زايد” القصة وكتب المسلسل الدرامي الناجح الشهير (حديث الصباح والمساء).

خلص سيد الوكيل ﺇلى ﺇن نجيب محفوظ غالبا ما كان يكتب على سردياته “رواية” أو “مجموعة قصص قصيرة”.. ولا ينظر ﺇلى تعمد بناء معين أو تقنية معينة ولا موضوعا معينا.. كان النص السردي طريقة رؤية وزاوية للنظر.

يمكن اعتبار حكاية الفتوة “بيومى الفوال” البذرة الأولى لرواج فكرة الفتوات وشيوع عالم الفنوات في أعماله،  حتى كانت رواية الحرافيش.. مع الفتوة كانت غلبة فكرة الانسانية أو بمعنى أوضح غلبة الحضور الانساني هو همه الأكبر وليس الهم السياسي أو الاجتماعي. وقد بدت الشخصيات أحيانا رمزية ﺇلا أنها لم تصل ﺇلى درجة التجريد، وتظل محتفظة بطابعها الانساني.. ففي مجموعة “بيت سىء السمعة”” وضحت العديد من صور السلطة على الشخصيات (سلطة القوة- سلطة الجمال- سلطة الشباب – سلطة القانون..) وتبقى السلطة هي التي تبرز قانون التدافع في الوجود.                                       في “حارة الفرعانة” حيث الخلاء يجمع بين المتصارعيين.. لينتصر أحدهم، ومن ثم يجىء مصارع جديد من المقيمين في الخلاء لينتصر على المنتصر.. وهكذا ، وهي بداية حكايات “الحرافيش”.

هنا خلص الوكيل ﺇلى أن القصة القصيرة التي تحمل المعاني الجزئية من تجربة الحياة، وكأنها صورة أولية من التعبير السردي، أو كان سردي وحيد الخلية يقف بالقاريء  عند  حدود الأحداث.. بينما التاريخ الأدبي يشير ﺇلى (محمود تيمور مثلا) تبني الوقائع الاجتماعية وهموم البسطاء مع النزوع السياسي وغلبة شعار الأدب في خدمة المجتمع.

لكن واقعنا الخارجي لا ينفصل عن واقعنا الداخلي، والنفس ليس واقع جمعي أو هو لجميع الأفراد، الواقع النفسي مرآة الجينات البشرية بكل تناقضتها، وهي بالضبط مفهوم الواقعية عند نجيب محفوظ، حيث التحرر من سلطة النوع.

وفي اجتهاد فكري يواصل الوكيل البحث في أغوار الأعمال السردية ويلتقط سمة من هنا وأخرى من  سردية أخرى، وبدأ مع فصله الجديد (مقام الكمال) رحلة جديدة للبحث في أغوار الشخصيات والحقيقة هو بحث في أغوار دهاليز أفكار محفوظ.

يرى أن هناك اتفاق على معان جوهرية  في الوجودية التى تتشكل في عناصرها؛ الذات.. حيث يقصد بها الذات الفاعلة لا الذات المفكرة، ثم الواقع ويثصد به التجربة اﻹنسانية ومتحصلات الخبرة من الواقع المعيش.. ويأتي القلق الوجودي حيث الشعور باليأس والعدمية وفقدان المعنى، وهو بالتالي الدافع ﺇلى رحلة البحث، مصدقية مقولة سقراط (الفيلسوف الاغريقي): ﺇعرف نفسك بنفسك. بذلك تبدو الوجودية موقف طليعي يستشرف آفاق جديدة ﻹنسان ما بعد الحداثة، من حيث ﺇدراكه لذاته وماهيته، ومع ذلك تتنوع الرؤى الوجودية.

يتوقف الكاتب مع عملين يبرهن بهما مقولاته في مقام الكمال؛ قراءة في سردية “قلب الليل”، وآخرى قراءة في سردية “الشحاذ”.. ففي الأولى تبدأ من نقطة محددة حيث الراوي يقف أمام موظف الأوقاف يطالب بميراث جده، وتنهي السردية بوجوده أما م الموظف نفسه ، ولا جديد بعد كل الأحداث ﺇلى سردها محفوظ، حيث انتهت رحلة “جعفر” ﺇلى ما بدأت منه بلا يقين وبلا خلاص.. والمعنى أن تدرك بذاتك المفردة كنة ذاتك.

 أما الوقفة التحليلية مع سردية “الشحاذ” تشي يتراجيدية الوجود والعدم، حيث البطل مريضا بالاكتئاب، قدم محفوظ الشخصية “عمر الحمزاوي” ولم يصنفه بالشخصية الوجودية، مما يشي أن محفوظ يختار ويرصد شحصياته بعناية. عاش “الحمزاوي” بعد الثورة بعكس ما كان يطالب به ويكتب ويشارك في المظاهرات من أجله قبل الثورة!..  لما راجع نفسه بعد  الثورة  لم يجد ﺇلا “الهناء” على حد تعبيره.. بينما بعد الثورة ﺇنغمس في الملذات وكف كتابة الشعر مبررا ذلك بقوله: الشعر جميل لكن أجمل منه أن تعيشه.. وهناك شخصيات شارحة لسلوك وأقكار الحمزاوي. السؤال بعد قراءة السردية الطويلة تلك: هل رحلة الحمزاوي وجودية حقا؟ فقد أدرك في النهاية في لحظة كشف ؛ ﺇنه كسب كل شىء وخسر نفسه!

ربما يمكن أن نوجز من الكثير الذي يتناوله هذا الكتاب باﻹشارة ﺇلى المقام الثالث “مقام الوصل”” حيث المستقر في أغوار بحر نجيب محفوظ والتقاط الدرر باطمنان.. أورد الكاتب بتنبيه القاريء العودة لقراءة كلمة “شاكر النابلسى ” عن نجيب محفوظ المسجلة في الصفحات الأولى من الكتاب، وفيها منهج ما توصل ﺇليه الكاتب نفسه؛ ﺇن من يقرأ عملا لنجيب محفوظ لا يجب أن يقرأه بعيدا عن مجمل أعمال محفوظ.. كلها تبحث عن ﺇنسان جديد في بحر غميق يكشف أغواره محفوظ بسلاسة ومحبة وفهم واقتدار.

.. الكتاب رحلة شيقة وشاقة وجدير بالقراءة على الرغم من الكثير الذي كتب عن أعمال نجيب محفوظ، رائد الرواية العربية بحق.

***********

أضف تعليق