هبة فاروق

عن (لمح البصر،وشارع بسادة)، بقلم: هبة فاروق.

قراءة في (لمح البصر وشارع بسادة) لسيد الوكيل. بقلم: هبة فاروق

أولا: لمح البصر

هذا العمل هو مشروع أدبي مكتمل تظهر فيه خبرة الكاتب الكبير، وسيطرته على المادة المقدمة بما يتناسب مع الأفكار التي أراد عرضها، نبدأ بالغلاف حيث جاء معبرا عن تلك الحالة الغائمة التي يصنعها الخيال، فلا أنت هنا كلك ولا أنت هناك كلك في هذا الخيال.

وسأعترف أني ظللت أقاوم حقيقة أن الكتاب كله ما هو إلا مجموعة من أحلام النوم؛ حتى وصلت للحلم 13 وعدد حكايات الأحلام في الكتاب 39 حكاية، فجو الحلم يفرض نفسه على الكتاب؛ مثلا في تغير الأماكن بسرعة وكذلك الشخوص واختلاف الزمن أيضا في الحكاية الواحدة، وللحق لقد صدمت من جرأة الفكرة والتجربة في أن يضع الكاتب بكل بساطة مكنون نفسه على الورق، ومن ثم أعدت القراءة من الأول مرة أخرى لأكون وجها لوجه مع دخيلة نفس الكاتب، ولأجد أن الصفحات تحمل مقومات البيئة من أماكن مألوفة للكاتب مثل شوارع القاهرة وميادينها والمساجد والأضرحة، وشاطئ الإسكندرية، وشخوص من العائلة والأصدقاء، ووسائل تنقل من الحنطور والترام والقطار، كل ذلك يظهر في الأحلام وسط غرائبية الأحداث، فيخصنا الكاتب بمشاركة الحلم الذي حمل عنوان الكتاب، ليأتي مقطع منه في مفتتح الكتاب؛ لنتساءل أي أحلام يسردها نجيب محفوظ، وكأن الكاتب يعبر عن سبب كتابته لهذا الكتاب، فما الكتابة إلا حالة من حالات الحلم التي يعيشها كل كاتب…

ثم نرى إجابة سؤالنا في الصفحة التالية في شكل تعريفات مقتضبة وموجزة عن ماهية الحلم، فما الحلم إلا أن تنظر بداخلك، فهو مكنونك الداخلي، ثم تأتي كلمة (الرؤية) لأقف عندها وأتساءل هل جاءت بالتاء المربوطة وليس الألف، فقصد الكاتب بها معنى: رأى أي أبصر، وليس الرؤيا بالألف وهي ما يُرى في النوم.

ونحن هنا أمام كلمتين تدور عليهما فحوى الكتاب، وهما:

الحلم: الذي يأتي النائم في لمح البصر، كما الخيال الذي هو الكثير من الصور الذي يمر على عين المتخيل في الزمن القليل.

 والكلمة الثانية هي الرؤية: وهي ما يدور عليها الكتاب، منذ الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة، فليست الأحلام التي يحتويها الكتاب تهاويل خيالية، ولكنها صادرة من رؤية الكاتب وبصيرته المتقدة.

جاءت كلمت رؤية بحالاتها المختلفة فعلا واسما في الكتاب 92 مرة، ومرة جاءت كلمة أبصرت، ومرة جاءت كلمة أرنو.

فحكايات الأحلام تأتي مفعمة برؤية القلب الصادقة، التي ترى ما وراء الصورة، وتمزج الخيال بالواقع لتصل لغير المشاهد بالعين المجردة.

والتزم الكاتب براوي الأنا في حكايات أحلامه لاكتمال حالة التوحد مع شخصية الحكاية، وظهورها الطاغي مع تهميش كل الشخصيات الأخرى؛ وذلك يدل على مدى تمكن الكاتب من كلماته، كما يتناسب مع سرد حكايات الأحلام.

وأسلوب الكتابة لا يخلو من الكثير من الصور الخيالية لتكمل فعل الرؤية، وكأن الخيال هو الجانب الآخر من الحقيقة التي لا يراه إلا من يملك البصيرة.

فهذا الخيال يخرج عن صمته ويتكلم معك، وكأنه الصانع للحكاية، وأنت فقط تراه، مثل: الأم التي خرجت من اللوحة في حكاية (حبر على ورق)، فالأديب يرى ما لا يراه الآخرون، وجاء ذاك الإقرار محددا في حكاية (ساعة العمر) حيث قالت الحكاية: “عرفت أنه لم ير شيئا مما رأيت، إذ ظل يسألني عن المستقبل، وأعمالي الأدبية التي سأكتبها”.

وحين يضعف فعل الرؤية، يستبدل الكاتب الحواس المختلفة بالعين المفقودة، كاللمس أو الشم.

وتختلط الحواس أحيانا، فمثلا: الدفقات المكتومة التي يسمعها، يراها كتلة كبيرة من الضباب في حكاية (شجرة الألعاب)؛ ففعل الرؤية هو الأقوى والأبرز حتى تتحول كل الأشياء إليه، فبالخيال يقال إني أرى ما أسمع، وبالفطنة والبصيرة يقال: إني أسمع ما أرى.

وروح الموت ظاهرة في الحكايات من أول موت الأم وذكر المقابر والرؤوس المحطمة، والنزول إلى القبر حيا، واستحضار الحكمة الدارجة في قول: “والحياة قصيرة على كل حال” والتي مفادها العفو لأن كل الأشياء إلى ذهاب، وكذلك اختيار عناوين الأحلام مثل:

  • مكان ضيق، برزخ، غرفة العناية الإلهية، حافة الموت، ساعة العمر، خالص العزاء، خازن النار، ليلة الملائكة، ممر الجنازات، مراسم الحداد، موت أخير للكتابة، وطبعا: لمح البصر، وهي القصة التي حملت عنوان الكتاب.

كما تظهر مشاعر الخوف –الذي هو المسيطر الأول على كل المشاعر –وكذلك العجز والقلق في أماكن كثيرة من الكتاب؛فالمخاوف تتمثل أحيانا في شكل الهدد والطرد وضياع ملامح حياتك فيما تملك، “فلا أثر لحياتي هنا بالمرة” كما جاء في حكاية (أمر هدد) ، أو ضياع ما يملك مثل الحقيبة في حكاية (حقيبة المعرفة)،وفي شكل المطاردة والضياعوالتيه وعدم القدرة على الوصول والبحث عن الأصل المتمثل في الانتماء للمدينة القديمة كما في حكاية (الكهف)، أو الشعور بالبعد والوحدة وسيطرة الأنا الحائرة بين الجميع كما في حكاية (شاشة العرض)، والفقد مثل حكاية (الدليل) وفقد الأب تحديدا بالموت، والوجع من ذلك تكرر أيضا في حكاية (تيتانك)، والخوف من فوات الفرصة، أو الهم الدائم من نظرة الآخر، والخوف من الفضيحة وكسر حجاب الستر في مثل حكاية (الناشر) أو الخوف من المواجهة مثل أن تأتي دورية الشرطة ولا رخصة قيادة موجودة في حكاية (مراسم الحداد) وذلك يذكرني بالحلم المتكرر عند كثيرين بأنهم في لجنة الامتحان مثلا؛ فالعقل الباطن يُخرج المخاوف المدفونة في النفس البشرية في صور مختلفة حين النوم، والحلم يضخم الموجودات في الحقيقة تضخيما على قدر الخوف في نفس صاحبه.

وهناك أحداث بعينها لعلي كنت أبحث عنها؛ فوجدتها في بعض الحكي، فكنت أتشمم رائحة الثورة مثلا كحدث بارز، وخاصة أن الكتاب في طبعته الأولى كان في سنة 2014، فعدوى البحث عن الثورة تنتابني في الكتب ما بعد 2011؛ وهنا جاءت بكلمات بسيطة في حكاية (شغف الطريق)؛ فهناك حشود، وأصوات تهدر، وودراويش ومشاعر خوف ورهبة، وعصي، وصلاة الجمعة، وكذلك في حكاية (خازن النار) فالثوار الشباب يأخذون كبار السن في أرجلهم، والنهاية أن القطار الذي يقلهم جميعا يسير عن طريق الجثث الكثيرة التي تُشعل بها النار ليسير القطار ولتستمر الحياة.

فالحلم في بعض حالاته هو انزياح للحقيقة في شكل خيالي، فلا يخلو أبدا من الحقيقة، وكذلك لا يخلو من كسر للتابوهات والمحاذير المفروضة في عالم الحقيقة، فمثلا نجد في نص (غرفة العناية الإلهية) الذي جاء عنوانه مكملا وكاشفا لغموضه، فالإله هنا هو الممثل الكامل لفعل الرؤية؛ فهو من يرى ويسمع أفكارك وهو الموجود في كل مكان، وأنت في الحياة؛ كلما لذت بالفرار من الإله المتمثل في القيود، وجدته في كل مكان؛ فليس في المكان حقيقةً إلا هو،حتى تصل إلى الباب الأخير وهو باب الخروج، ولا تحتاج وقتها إلى نظارة تساعدك على الرؤية؛ فبصرك اليوم حديد، تقول الحكاية: “بينما كنت ألوذ بالفرار بين قطع الأثاث الفاخر، لم يكن في المكان إلا هو، كلما مررت بحجرة وجدته، حتى انتهيت إلى باب أخير، عندئذ سمعت صوت سكرتيره يهتف بي: ها أنت تعرف الطريق بدون نظارة.

وكذلك الإله يظهر متخفيا في شخصيات شتى، فمثلا هو الطبيب النفساني، وراء الباب المغلق في حكاية (كشف الوجود).

وأيضا نجد كسر تابوه السلطة في محاولة للهروب منها سواء سلطة الدين أو سلطة السياسة، ويظهر ذلك في حكاية (حفلة تنكرية).

والأحداث مع غموض الأحلام لا تخلو من رمزية؛ فمثلا في حكاية (قلق الأربعين) نرى ظهور عقدة ألكترا من خلال رموز الحلم ظاهرة في غيرة البنت على أبيها، وكذلك في حكاية (حافة الموت) وثقل الحلم حد أنه يعد كابوسا؛ يعرض بشكل رمزي لما وراء الموت؛ ناقلا المشاعر المبهمة عن الموت والرهبة منه.

وهناك الحنين إلى الطفولة القديمة؛ حيث النجاة داخل المدرسة، أو بين الأب والأم؛ في مثل حكاية (حق العودة).

ولا يفوتني أن أقف على اختيار عناوين النصوص؛ وأخذ مثال عنوان (ممر الجنازات)؛ فلا شيء في الحكاية يحمل ما يدل على العنوان؛ وذلك لأن اختيار العناوين جاء وفقا لرمزية مشاهده، وما جعل صاحبه يفسره وفق مشاعره هو، فجعل الكاتب من العناوين جزء مفسر للحلم نفسه كما يراه هو.

وفي هذه الحكاية التي هي الحكاية رقم 25 جاءت كلمة الرؤية بشكل واضح في مكاشفة مقصودة من الكاتب عن أن النص هو حلم عبر عنه بكلمة الرؤية وليس الحلم.

وأقف قليلا عند حكاية حلم (موت أخير للكتابة) حيث جاء في ختامها: “تبين لي الخطُ الأحمر المرتعش على غلاف الكتاب، كان بعنوان: الحالة دايت” ولما بحثت عن كتاب الحالة دايت وجدت أن الكاتب اختاره عند الحديث عن موت الكتابة؛ لأنه السيرة الذاتية للكاتب نفسه، وكأنها النهاية الحتمية التي هي جزء من مخاوف الكتابة وترقب القادم، كما جاء حلم (زاوية للقتل) ليحمل هم الكتابة، والوسط الأدبي، ومن يكتب ومن يسلط عليه الضوء ممن لا يستحق.

فالكاتب يحمل هم الكتابة بشكل واضح، ويتضح بشكل كبير في القصة الأخيرة التي تحمل عنوان الكتاب (لمح البصر) حيث شيخ الكتاب (نجيب محفوظ) الذي جاء اسمه في المفتتح والختام، وسؤال يطرحه الكاتب في الحكاية الأخيرة بمعنى: هل أنا من هذا الحشد الذي تبع شيخ الكتابة، أم أني لست منهم؟

وهذا أحد هموم الكتابة أن يكتب الكاتب الجيد ويظل يشك ويتساءل هل أنا على الطريق أم لا؟

وأنهي كلمتي عن الكتاب الذي استمتعت بقرائته حقا، كما أثار داخلي أسئلة جديدة كما يفعل الأدب الناجح؛ لأتساءل: هل كانت الأحلام حقا حقيقة رأها الكاتب، أم أنها كتابة رمزية موجهة بتقنية حديثة، فليس العقل الباطن من يعبر، ولكنه القلم الناضج الذي استطاع أن يقدم عملا مميزا؛ واضعا بصمة في صناعة الكتابة السردية بشكل عام.

وأرى ووفقا لطريقة حكي القرآن الكريم لقصة يوسف عليه السلام؛ إذ بدأت الحكاية بقول الله تعالى: “إِذْقَالَيُوسُفُلِأَبِيهِيَٰٓأَبَتِإِنِّىرَأَيْتُأَحَدَعَشَرَكَوْكَبًاوَٱلشَّمْسَوَٱلْقَمَرَرَأَيْتُهُمْلِىسَٰجِدِينَ…” فكما كانت رؤيا يوسف وسردها في الآية المباركة هي المدخل لقصته؛ أرى أن كل حكاية حلم في الكتاب، هو مدخل لقصة ما؛ وذلك مشروع آخر، فتلك الأحلام ثرية بالمشاعر والمشاهد الفنية لبناء أحداث عليها.


ثانيا: شارع بسادة

وسأعرج سريعا على نوفيلا (شارع بسادة)وهي رواية قصيرة مقسمة إلى 16 فصل قصير، وُفِق الكاتب في استخدام أساليب السرد الحديثة بها؛ فمثلا عناوين الفصول عبارة عن جمل من أصل الحكاية.

وتبدأ الحكايةبالحديث عن الغرباء في أول فصل، وهو المدخل للحكاية فكلنا غرباء، وكل من يأتي ذكره هو من الغرباء.

جاءت الحكاية في لغة جميلة، شاعرية، اعتمدت على الصور التعبيرية في شكل روي أشبه ما يكون بالحكي،فهناك اختيار لبعض الألفاظ التي تجعل اللغة لغة حكواتي بين مستمعين مثل:”يبص أو شاف أو شالها”،كما جاءت البداية بأفعال مستقبلية بطريقة مشوقة جدا؛ فمن يستطيع أن يترك الحكاية الآن دون أن يتم قرائتها، ويأتي ختام الفصل الثاني بسؤال كما الحكاء الذي ينسُج قصته ببداية تجذب الأسماع وينهي ساعة حكيه بسؤال يشغل الأذهان حتى تأتي ساعة الحكي التالية، فالتشويق يتخلل فصول الرواية كلها وليس فقط في المدخل.

وهناك تعبيرات يؤكدها الحكاء عن الشخصيات مثلا بالقسم بالله وسط العبارات.

امتازت اللغة بجمال الوصف وعذوبة التعبير وسلاسة الحكي؛ حيث تفوح المشاعر من الجمل القصيرة في لغة شاعرية، وصور حية،فقد نجح الكاتب من خلال الوصف فيرسم لوحات مزينة بالصور الجماليةفجمال اللغة وحيوية التعبير مثلا يظهر في عبارة:”سيكون ثمة أفق صامت وظلمة خفيفة تذوب فيها الملامح”فالرسم هنا يظهر في التفاصيل الصغيرة التي تصنع المشهد بالضوء والظل.

كما أنه في أسلوب الحكي تكثر الحكايات الصغيرة داخل الحكاية الكبيرة؛ فهناك عدة قصص تنسجُ القصة الأم؛ فالرابط بين الحكايات والشخوص هو الجدار الطيني الذي رسمت عليه الشخوص في شكل تداخل الوهم فيه بالحقيقة؛ ليتسأل القارئ:هل هي شخوص حقيقية في الرواية،  أم هي مجرد رسومات على الحائط، أم هم جميعا جيران الولد البدين في شارع بسادة فهو يرسمهم طيبين، وتأتي الحكاية لتتحكم فيهم فتجعل الشيطان هو المتسبب في كل شر يفعلونه.

وأرى أن الرابط الحقيقي بين الشخوص هو المكان؛ الشارع الذي يسكنون فيه، فالحكاية هي الشارع، هي المكان، كما جاء في الرواية:”للشوارع هنا أسماء وحيوات تشبه ساكنها، ذكريات مخزونة في قلوب العاشقين وأخرى متروكة في الطرقات تلهو بها الشياطين والصيع وكلاب السكك”،”للشوارع هنا حكايات وأسرار مدفونة تحت عتبات البيوت، البيوت في شوارعنا لا تصمت أبدا إذ تظل تعيد على أذهاننا حكايات الذين سكنوها يوما، البيوت أيضا لها صفات وأسماء أصحابها”.

وأنهي كلمتي القصيرة بأن الروعة كلها في النوفيلا، ليست في القصة نفسها وأحداثها؛ ولكن الروعة تكمن في طريقة السرد، في حكي الحكاية وغزل أطرافها في قطعة قماش واحدة بأسلوب مبتكر في شكل حكي مشوق وتداخل سحري بين الخيال والحقيقة كما الواقعية السحرية، مع سيطرة للمكان على خلفية الحكي، والمكان هو بيئة الحكاية، والتي لها الأثر الأكبر في تكوينها.

هبة فاروق

03/07/2022

أضف تعليق