أوهام السارد.. وعي المتلقي بقلم: عادل العدوي

تقديم لا بد منه..

آفاق جديدة للقصة العربية، هو الكتاب الأول الذي أعدته الكاتبة/ مرفت يس، لموقع القصة العربية. وهو جمع لمنشورات قصصية، متنوعة في موضوعاتها وطرائق سردها. فضلا عن تنوع كتابه بين الأقطار العربية المختلفة، لتمكننا من الاطلاع على المشهد القصصي العربي، والوقوف على الملامح المميزة لكل منها.

وقد تفضل الكاتب والناقد الأستاذ / عادل العدوي. بتقديم رؤية نقدية للكتاب. توقفت برهافة عند كل نص من النصوص، وأكدت ملامح التمايز بين كل منها.

صدر الكتاب عن دار ميتا بوك للنشر والتوزيع. بدعم من صاحبها الأستاذ / أيمن عيد.

الشكر لكل من أسهم في خروج هذا الكتاب إلى النور، ونكتفي هنا بنشر الدراسة التي أعدها الأستاذ عادل العدوي. لتكون مؤشرا ومحفزا على قراءة النصوص القصصية، سواء عبر الكتاب المطبوع، أم عبر موقع صدى ( ذاكرة القصة العربية ) الذي على الرغم من اعتزازه بمصريته كما يشير اسمه، إلا أنه لا يتردد في الاحتفاء والتقدير لكل كتاب القصة الناطقين باللغة العربية. لا نفعل هذا لمجرد نزعة عروبية، بل لأننا ندرك جيدا، اننا في عصر تتجاوز فيه التكنولوجيا حدود الأمكنة والأزمنة، فأصبح لازما على المبدع، أن يكون متجاوزا لحدود بيئته الثقافية، والتفاعل مع بيئات اخرى، تأكيدا لمقولة الجشطالت: الكل أكبر من مجموع أجزائه.

( سيد الوكيل، روائي وناقد، مؤسس موقع صدي عام 2018 )

أوهام السارد.. وعي المتلقي

( بقلم: عادل العدوي )

لدينا هنا مجموعة متنوعة من القصص، تختلف في بنائها اختلافًا كبيرًا، وكل واحدة منها تُنسبلكاتب واحد. وليست وظيفتنا هنا هي الخروج بعدد من الخصائص تقرب النصوص بعضها من بعض، فهذا شأن آخر. وليست وظيفتنا أيضًا سبر غور النصوص لنعبِّر عن رؤيتنا من منظور ثابتوعن فهم مسبق. أو بمعنى آخر، ليست الوظيفة هنا القيام بعملية مقاربة للنصوص تقدم وجبة طازجة للمتلقي. بل الهدف التدرب على القراءة، ومحاولة إيجاد طريقة بسيطة “تُمَكِّن” القارئ من التعبير عن النص كما يراه ويفهمه، بهدف التخلص من أي وساطة تحول بين المتلقي والنص، حتى لو كانت هذه الوساطة تهدف –في الأساس- مساعدة المتلقي في تقديم رؤية واضحة للنص. إنما الهدف المرجو من هذه المقالة هو كيفية الخروج بمهارة عامة تساعد المتلقي في إيجاد طريقة بسيطة لقراءة تعتمد على وعيه بالنص، ومن ثم التمرس على تناول النص دون أي وساطة، يستطيع المتلقي من خلالها تكوين رؤية واضحة نابعة من وعيه. فكلما زادت درجة الوعي تلك تمكَّن من كشف أوهام السارد/ السرد. فالهدف هنا –إذن- هو التزود بمجموعة من الآليات تمكن المتلقي من الاعتماد على نفسه في قراءة منصفة تحقق النص.

أشرت توًّا لأوهام السارد، وهو ما ينجو منها–في الحقيقة- قليل من النصوص، وتلك الأوهام ليست بالضرورة تكون من عوار النص، فقد تكون لها أسباب يجب الكشف عنها، وإلى أي مدى تؤثر على معنى النص، وفي القراءة التالية سوف نحاول الكشف عنها فيما لدينا من نصوص، بغرض لفت نظر القارئ إليها أثناء شروعه في القراءة.

***

عندما نسمع لفظ “حكاية” لا بدّ أن نتخيل عملية تقوم على حدَّين؛ هما مَنْ يحكي ومَنْ يُحكى له، ومن ثم ينتج عن ذلك “حكاية”، بهذا التصور تستقيم الحكاية في الذهن، وتتشكل كيانًا قائمًا بذاته لأن اللُحمة بين حدَّيها لا يمكن انفصالها بأية حال، إنما هذا الفصل المتخيل هو من أعمال الذهن الذي لا يتوقف عن “مَنْطَقة” الأشياء في التصور ليمنحها صورة ثابتة يستطيع فهمها واستدعاءها ببساطة..

في القصة، كنوع سردي، لا بدّ أن تتوافر عدة عناصر لا يمكن الاستغناء عنها حتى نستطيع أن نطلق على القصة مسمى “قصة”، وسوف نحاول التجرد هنا –ما استطعنا- لنصل إلى صورة أولية تمكننا من الانطلاق في سبيل فهم القصة، فالمتبادر إلى الذهن أولًا هو “شخص يحكي لشخص”، وهذه المقولة على بساطتها تحمل حدودًا تتعدد صورها في التخيل لتعطينا في نهاية الأمر شكلًا ما للقصة، أن هناك شخصًا ما يحكي حكاية على شخص آخر، الحد الأول/السارد في تلك المعادلة يتسلح بعدة أدوات من شأنها التَّمَكُن من الحكاية أولًا، ثم التَّمَكُن من الحد الثاني بمحاولة الاستحواذ على مراكز التلقي لديه إلى درجة السيطرة عليه كليًّا. والحد الثاني/المتلقي لديه أيضًا أدوات يتسلح بها في عملية التلقي، فهو على الرغم من أنه يترك نفسه طيعًا مخلصًا للحد الأول الذي يحاول السيطرة عليه، فإنه يظل لديه نقطة حصينة محافظًا عليها وهي الوعي، وهذا الوعي هو ما يمنح الحد الثاني/المتلقي كينونته ووجوده فاعلًا في العملية برمتها، ومن ثَمَّ تتم عملية القراءة، ومن ثَمَّ تتحصل المتعة. هذه العملية تحدث بشكل منتظم ودقيق وشديد السلاسة.

الآن، وقد رسمنا صورة بسيطة لـ”الحكاية” كإطار شامل، لا يجب أن تغيب عن ذهننا طوال الوقت أثناء عملية القراءة، وأن كل ما يمكن محاولته يدور في إطار تلك الصورة، فهي الحدود المُسَيِّجَة لكل ما سوف يرد من تفاصيل وشرح للعناصر المتداخلة المتشابكة في الحكاية/القصة.

***

لدينا عدة ركائز يمكن الاعتماد عليها في طريقنا لفهم النص وقراءته، أولى هذه الركائز هي ركيزة “الصوت السردي”، واخترت هذه التسمية لأن السارد قد لا يكون وحيدًا في تلك الوظيفة، فربما تتعدد صوره، وربما يكون له “نوَّاب” عنه (بمفهوم الباحث أحمد عادل القُضَّابي في دراسته الأكاديمية-غير المنشورة- عن “الإنابة السردية”)، فالمتتبع لتاريخ السرد قد يلحظ الأدوار المختلفة التي يقوم بها السارد، وعليه أن يتأمل صوره المختلفة التي قد يبدو فيها، فهو أشبه بالساحر الذي قد يختفي ويظهر في أشكال متعددة لا نهائية، ودائمًا يلعب ولا يتوقف عن اللعب، وهو في لعبه هذا يبدو كالأطفال وهم يلعبون لعبة “الغُمَّيضَة”، وربما خرج في لعبته هذه عن المألوف ليتقمص شجرة أو قطعة أساس أو تحل روحه في الزمن، فيصبح كل هؤلاء ساردين بذواتهم، وربما قام أشخاص آخرون بوظيفته فيصبحون نوَّابًا عنه. 

ومن الركائز المهمة أيضا التي يجب أن يعتني بها المتلقي ركيزة اللغة، فاللغة هي ذلك الوسيط بين الكاتب والمتلقي، ودرجة وعي المتلقي باللغة تساهم بحد كبير في عملية فهم النص وتحقيق معناه، فلينظر المتلقي كيف وضع الكاتب لغته لتكوين النص، وعلى أي وجه استقامت له اللغة لتحقيق هدفه، ولماذا اختار تلك المفردات عن غيرها للتعبير عن أفكاره، وكيف أدار الحوار على ألسنة الشخصيات، وهل عبّر عن حقيقة الشخصيات أم لا. وغير ذلك من الأسئلة التي يمكن أن تثار في أذهاننا أثناء القراءة.

والوصف أيضا من الركائز التي يجب الالتفات إليها، وهل جاء في خدمة السرد وساهم في بنائه أم قطع السرد وابتعد عن مساره. وغير ذلك مما يمكن أن يضيفه المتلقي في تفسيره لمعنى النص.

***

إن الفكرة الجيدة قد تخلق قصة جيدة، لكن لا يحدث ذلك إلا بالطريقة الأصيلة في استخدام الوسيط –الأصالة هنا تعني الإبداع والوسيط هو اللغة- فلينظر أحدنا كيف يوظف لغته عندما يتسيد سدرة الحكي، وليعلم أنه لا يكفي للأفكار أن تصنع فنا. الكاتب صاحب الفكرة، وهو في ذلك يتساوى والباحث والسياسي.. إلخ، إنما المعول هنا في الطريقة التي يستخدمها كل منهم في توظيف لغته، ولا أعني في هذا المقام المستوى البلاغي أو الإعجازي للغة، إنما القدرة على تحويل الطاقة الكامنة في اللغة إلى قوى الخيال، وصرفها على وجه غير المتوقع، ومن هنا يحدث الإدهاش، وإلا كيف لنا أن نثير المتلقي ونوقظ ذهنه، وكيف لنا أن نصنع فنا من دون هذا.

قلت إن الكاتب صاحب الفكرة لكن عمل السارد يختلف اختلافا بينا حينما يؤول إليه الأمر، فهو “المدير التنفيذي” لتحقيق الفكرة على أكمل وجه، وتلك منطقة تميزه وسر اختلافه، فكيف يصل لتلك النتيجة إن لم يكن خارجا على السيطرة. القاعدة الأولى في عمل السارد هي التمرد على الكاتب، صحيح أن الأخير هو من وضع خطاطة الملعب الذي يلعب عليه الأول، لكنه لا يخبر الأول أبدا بالطريقة التي يبلغ من خلالها الهدف. إن عمل السارد والكاتب أشبه بلعبة كرة القدم، الكاتب فيها هو صاحب الخطة (الفكرة) لكن السارد هو من يؤدي الوظيفة الجمالية في تنفيذ الخطة، فانظر إلى أي مدى يجتهد السارد في إدهاشنا.

النصوص المطروحة في هذا الكتاب تنتمي لعدد من الكُتاب ينتمون لعدد من الأقطار العربية المختلفة مثل: سوريا، العراق، السعودية، فلسطين، الكويت، اليمن، ليبيا، الجزائر، المغرب…، وتختلف من حيث الحجم بين الطول والقصر، ومن حيث البناء إلى تيارات مختلفة، لكنها جميعًا تنتمي لنوع واحد هو القصة القصيرة.

سوف نحاول –هنا- تقديم نموذج –كعينة- بحيث نلقي الضوء على بعض السمات التي قد يتحلى بها القارئ أثناء عملية القراءة، ربما نخلص إلى بعض المحددات التي يجب الانتباه إليها، والتي –ربما- تساعد المتلقي في اكتشاف مهاراته في الاستقبال، والقدرة على التحليل والاستنباط، ومحاولة الوصول إلى الغاية المرتجاة من القراءة، ومن ثمة الوصول إلى المتعة.

سأحاول هنا التجرد من بعض صفات الناقد، تقربًّا للقارئ، أو هي محاولة لتقمص دور المتلقي دون أية وساطة تُذكر مستخدمًا كل آلية يمكن للمتلقي استخدامها في التعرف إلى النص. الأمر الذي قد يُسفر عن بعض الإمكانات الذاتية التي يمكن الاعتماد عليها كركائز أساسية في وعي المتلقي، والتي تعمل بصورة آلية أثناء عملية القراءة ليتم الفهم. 

***

روعة سنبل

في قصة “ترحلين عنك” لروعة سنبل (سوريا)، نجد أن السمة الغالبة على السرد هي استخدام ضمير المخاطب، والتركيز على صوت داخلي نابع –ربما- من الضمير الإنساني/العقل موجهًا للقشرة الخارجية المتمثلة في الجسد، حيث المرأة هنا تنشطر إلى جزأين: جسد فانٍ، وروح خالدة. والجسد هنا يفنى متساقطًا عضوًا وراء الآخر لتبقى الذات الحقيقية مكشوفة من دون أقنعة تستتر خلفها، كأنما هي شجرة تتساقط أوراقها في الخريف لتبدو عارية وحيدة في فراغ الكون.. بطلة القصة امرأة وحيدة في خريف العمر تعالج الزمن الذي انفرط من بين يديها آخذًا معه فاكهتها واحدة بعد واحدة، وهي تبدو منزعجة من فقدها ثمار أنوثتها يومًا بعد يوم.. لكن الصوت المسموع بوضوح يؤكد لها دومًا أن ما يتلاشى عنها ليس مهمًا بالقياس للجمال الخالد في الروح التي لا تفنى.

لدينا هنا مجموعة دوال من الوحدات السردية المهمة التي تقودنا إلى “التمكن” من فهم مقارب لمجموع الحكي: صوت من الأعماق يوهمنا بالانفصال عن الذات ليرصد الحالة الكائنة، وهو الصوت السردي الوحيد الذي يتولى سرد القصة. وذات مخاطَبة قلقة هي المرأة التي تجاوزت الخامسة والأربعين وتصارع الزمن. وأسلوب رمزي يتمثل في تساقط أعضاء الجسد واحدًا وراء الآخر.

يمكننا التركيز هنا على صوت السارد، والكشف عنه بسهولة، فهو من الوضوح بحيث لا يمكن إخفاء شخصيته. وقد نتعدى –هنا- على خصائص النص، في مخالفة لغايته، لنرى وجه السارد ومحاولة سيطرته وإدارته لعملية السرد. هي محاولة تشريحية الغرض منها الكشف عما يشبه “أوهام السارد” التي تحاول –دونما قصد- تعطيل المتلقي في استخدام أدواته/آلياته لاستقبال النص، ثم نعود للنظر في النص ذاته –الذي هو السلطة الأعلى- لاستنطاقه والكشف عن وجهه الحقيقي.

من الأمور التي تكشف عن عمل السارد، قراءة جُمَلِه على مهل وتحليلها بدقة، فهي السبيل الوحيد لمعرفة كيانه وتحديد عمله وموقعه من النص:

 كانت الأمورتجري بسلاسة شديدة، كأنّكِ في موسم مثاليّ للتّساقط: أجزاؤك تغادرك تلقائيًّا، تسقط كما تسقط ثمرة ناضجة حين يأتي أوانها، دون أدنى ألم، ودون أن تخلّف جرحًا أو ندبة“.

هذا صوت السارد يوجه كلامه للشخصية المعنية بالحكي، في وضوح سافر، ومتعمد، بل يعمد إلى افتعال الحوار معلنًا عن وجوده، هو الذي يقرر، وينصح، ويحذر، ويلوم.. هو كائن مستقل الوجود في التصور، بل يقدم الأسباب والنتائج، فحين تكون تلك الأعضاء –المشار إليها في الاقتباس السابق- معطلة عن وظيفتها الطبيعية، فمن الطبيعي أن تتلاشى، أو على الأقل هذا يخفف من وطأة فقدها:

“لم يكن، ولو لمرّة واحدة، جزءاً من طقس لقضاء شهوة، أو ممارسةٍ لأمومة”.

لكن الصوت السردي يؤكد دائما أن هذا التساقط يجب الالتفات إليه، وهنا يكشف عن حالة من حالات الوعي، التي قد تُضعف النص إن لم تُستخدم بحرفية دقيقة وتتخذ وظيفتها الدلالية بقوة:

“أن يتساقط المرء ليس أمرًا اعتياديًّا بالتّأكيد.

فهذه جملة مرتبطة بوعي السارد الذي لم يستطع الوقوف بحياد طوال عملية الحكي، واحتاج في أكثر من موقع للتوضيح والإشارة، وتلك لعبة خطيرة للغاية وقد تبعد بالنص عن جمالياته. لكن، في كل الأحوال، هو تعدٍ على حق المتلقي في حرية استقبال النص، في عملية التحليل والتعمق في التفاصيل، ودائما يجهض أفكار المتلقي وطموحاته، لأن السارد لا يريده أن يخرج عن دائرة تصوراته التي يفرضها على النص. ثمة حالة رفض واضحة لعمل آلة المتلقي، ليجد في النهاية وجبة جاهزة عليه أن يستمتع بها دون المشاركة في إنتاجها:

تلوتُ هذا على رأسك طوال اليوم، لكنّكِ لم تكوني مهتمّة كثيرًا بتحليله، وقبلتِه بتسليم غريب، دون أن تأبهي للأسئلة الكثيرة التي لم أتوقف عن طرحها عليكِ: ”أتكونين حالة فريدة، أم حدث وتساقط آخرون من قبل؟  ألهذا علاقة ببلوغك الخامسة والأربعين؟ أيكونُ ثمرةً لوحدتك المدلّلة التي ربّيتِها بشغف، حريصة على ألّا يخدشها أحد؟ أم هو نتيجة لحالة مرضية، قد تكون نادرة؟ هل له ارتباط بجنسكِ، أم يمكن أيضًا أن يتساقط رجل ما؟“.  كنتِ تلجمين أسئلتي، فأصمت“.

وهو -وإن حاول التخلص من سلطته- من دون وعي يقع أسير تلك السلطة:

“أنتِ تعرفين طريقك جيّدًا، يبدو كلّ شيء الآن وكأنّه مخطّط له من قبل“.

هذه الجملة وشبيهاتها من شأنها تقويض خيال القارئ، ومحاولة -غالبًا- لفرض رؤية أيديولوجية على القراءة، وهي قد تبدو واضحة معوِّقة إذا ما ارتبكت مقومات النص، وقد تتوارى في حال تماسك تلك المقومات، وفي حال اشتغال وعي القارئ بالتمويه وصرف نظره إلى مفردات جمالية تجعله لا ينتبه إلى  قدراته في التلقي.

حسب افتراضنا، فإن وعي السارد يعد أخطر سلاح يمكن أن يودي بعمله كله، لكن –هنا- في موقعه من القص –في قصة “ترحلين عنك”- نكتشف أن له وظيفة أخرى في السرد، وهي ليست مجرد القائم بالسرد، فالسارد هنا هو العقل/عقل الشخصية الذي لا ينفصل عن الشخصية إلا لأداء دور أساسي في السرد، ولا يمكن فصله هنا عن المروي عنه؛ بل هو المعادل الموضوعي له، ويتجلى من خلال حواراته ونصائحه، بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يصمت تمامًا مع موت الشخصية وحلولها في كائن آخر (شجرة). هذا الاختيار لموقع السارد منحه مبرره الجمالي كعنصر مهم من الحكاية؛ إذ ترصد القصة تاريخ عقل الشخصية وآلامها ومحاولاتها الدائمة في تقويم الشخصية التي لا يمكن أن تنفصل عنه إلا بالموت، الأمر الذي ينعكس على مأساة الشخصية المعنية بالحكي.

“طرششششط”.. صوت يعبِّر عن السقوط والانهيار، هكذا تبدأ القصة لتخبرنا أن لحظة الحكي تبدأ مع لحظة السقوط، لحظة نهاية الحكاية، لذا فإننا نسمع الصوت مرة أخرى في نهاية القصة. فالصوت يتخذ معنى فلسفيًّا أعمق من كونه مجرد بداية للحدث.وقد ارتكز السارد –ضمن عناصره- على استخدام الصوت بصورة موسعة في اختياره حروفًا بعينها تعبِّر عن الحدثليعطي دلالات مختلفة لها تأثير قوي ومتعمد على المتلقي، مثل صوت السيارات “شششش” وصوت سقوط القدم “تك”..الخ. مما يقوم بديلا عن الوصف واختصار الحدث في أصغر صورة ممكنة.

ويمكننا أن نعتمد الصيغة الرمزية في سقوط أجزاء الجسد بالتوالي، للتعبير عن مأزق الشخصية، وهو الحدث الرئيسي في الحكاية، كما يمكننا أن نتلقى هذا بالمعنى المباشر متجاهلين استراتيجية الرمز، بل متجاوزين تمامًا رمزية الحدث، للذهاب إلى مجموعة علاماتية دالة على المأساة التي بلغت بالشخصية منتهاها إلى أن انتهت بالموت، فسواءٌ هو الموت بوجود الأعضاء كاملة سليمة، أو بخسارتها واحدًا تلو الآخر، فالموت واحد على كل حال، لكن الفارق هنا تجسيد المعاناة التي جاءت نتيجة للإهمال واللامبالاة والصمت إزاء الأمور التي لا يجب السكوت عنها، تلك هي مأساة الشخصية التي لم تتجاوزها طوال حياتها حتى أضعفتها وحولتها إلى كائن هشٍّ يتلاشى شيئًا فشيئًا إلى أن تموت ويموت بموتها العقل في لحظة واحدة من دون ترتيب أو نتيجة، فموت العقل هو موت الشخصية نفسها وليس موتين؛ لذا فإن لحظة خروج الروح تمثلت في نصف الكلمة الأخيرة التي لم تكتمل لسكوت صوت السارد للأبد مع سقوط رأس الشخصية في النهاية. ثم يأأاأيأتي الصوت “طرشششط” ليعبِّر عن السقوط، وهو في هذه المرة لم يكن سماع صوت السادر؛ بل هو سماعنا نحن/المتلقي له، وكأننا شاهد عيان على ما حدث.

***

وإذا كان السارد عند روعة سنبل يمثل العقل شقيق الجسد الذي يروي عنه ولم يستطع الوقوف على الحياد من الحدث لطبيعته المجبول عليها، فإنه عند بديعة بنمراح (المغرب) في قصتها “جلادون وضحايا”،كان محايدا تماما ولا يتورط في سير أحداث القصة، لكنه على الرغم من ذلك لا ينفك يعبّر عن أفكاره ورؤيته الخاصة في طرح الحدث، حيث إنه لا يترك الأشخاص تعبّر عن نفسها بحريتها، إنما جرت أفكاره على ألسنتهم صارخة بوجهات نظر أخلاقية ودعوية واضحة.

الكاتبة المغربية بديعة بنمراح

استفادت الكاتبة في بناء قصتها على الحوار كعنصر أساسي ليعكس أفكار الشخصيات التي جاءت في نمطية كاشفة عن ثنائية الخير والشر، ولم تتغلغل في نفوس شخوصها ولم تتركها تعبر عن نفسها لتنمو وتكتمل ككائنات حية تجمع الخير والشر معا في نفسها كطبيعة البشر، لم تترك لهذا الصراع أن يشب ويشتعل ليمنحنا شخصية قصصية سوية، بل جعلتها إما أنها تشير إلى الخير أو إلى الشر، وتلك “السقطة” جاءت من تأثير الفكرة في رأس الكاتب وسيطرتها عليه، فهو أسير فكرته التي تدور حولها القصة؛ لذا فإن ساردها استحوذ على مجمل السرد على الرغم من وجود الحوار بقوة واعتماده ركيزة أساسية في بنية النص.

تحكي القصة عن حالة اغتصاب فتاة في سن العاشرة كجريمة بشعة قام بها “علوان” بطل القصة والمعني بالحكي، ولأن القصة تسير في اتجاه واحد وهو فعلة “علوان” والحكم عليه، فإن السارد اضطر اضطرارا إلى أن يجعل لـ”علوان” تاريخا مظلما، فهو الابن الذي ترك والده الأسرة وهو صغير وسارت أمه في طريق الدعارة لتعول أسرتها، فكانت النتيجة أن يشب “علوان” فتى مشوها نفسيا فترك زوجته وأبناءه لنفس المصير، واختار حياة العربدة والتشرد اختيارا اضراريا أيضا، فقام ضمن ما قام من أفعال سيئة باغتصاب “لبيبة” ذات العشر سنوات، ويترك السارد الحكم في النهاية للمجتمع.

وبغض النظر عن استهلاكية الفكرة المطروحة، فما يعنينا هنا هو كيف تمت معالجة القصة، وما هو الحكم المنتظر من المجتمع على “علوان”، الذي يشبه حاله حال الكثير من شريحة ليست بالقليلة في المجتمع نفسه المُطالَب بإصدار الحكم.. هل “علوان” ذئب بشري؟ أم ضحية من ضحايا المجتمع؟ وربما هو الاثنان معا! وأيا كانت الإجابة فإنها نتيجة لما هدف إليه السارد منذ البداية؛ وهو تحقيق فكرة الكاتب. وربما السؤال الأهم الذي يجب أن يطرحه المتلقي: أين هو الجمالي في محاكمة “علوان”؟!

***

وفي مشهد قصير يجسد لنا محمد الكريم (العراق) في قصته “الكف” صورة من صور القتل والدمار التي تنتشر في شوراع العراق، من خلال مشاعر طفل بريء خرج صباحا يقصد مدرسته، بينما الحرب الطاحنة تسيطر على المشهد، وإثر انفجار في طريقة يلتقط الكف المتبقية من الجثة ويدسها في حقيبته وهو يرتعب من أن تكشفه العيون المتلصصة.. حالة من الرعب تتلبس الطفل طوال يومه وتربك حياته، لنكتشف في النهاية أن الكف لوالده.

الكاتب محمد الكريم

لقطة صورها الكاتب في حرفية لا تخلو من تكثيف يوحي ولا يصرح، مركزا على الشعور بالفزع الذي انتاب الطفل، دون أن يشغلنا بتفاصيل كثيرة.. لكن تلك المقدمة التي تصدرت القصة كشفت الحالة منذ البداية، كأنما كل ما جاء بعد ذلك هو تفسير لها:

نواجذ الموت تتمدد فتسحب الأرواح المتشبثة بالأجساد بلا تردد ودون مقاومة من الأجساد التي تبقى جثثا مبعثرة، حتى تحملها العربات إلى ثلاجات الموتى“.

هذا الحديث عن الموت هو الفكرة التي تدور في رأس الكاتب، لنعود إلى “السقطة” نفسها في القصة السابقة؛ أن وعي السارد وانشغاله بما يدور في رأس الكاتب أثر على عمله، وهذا الوعي يعمل ضد فنية النص وجمالياته، ويؤثر بالسلب على السرد، وعلى عمل السارد الذي يجب أن يولي اهتمامه الأجلّ لحرية السرد وانطلاقه، ولا يجهض دلالات النص وتشظيه.. وإذا ما تغاضينا عن هذه الفقرة فإننا سوف نحصلها في حركة السرد بتعاطفنا مع الطفل ومشاركته مأساته، لكن وعي السارد الممتثل لأوامر الكاتب أحال بيننا وبين هذا التحصيل، ومن ثم أثر على علاقة المتلقي بالنص.

***

وسارد حسين السنونة (السعودية) في “أسئلة بيضاء مجنونة” ينفي عن نفسه صفة التشاؤم، لكنه لا يتقبل فكرة الموت، ويطرح أسئلته الوجودية حول حقيقة الموت وكيف أنه شيء قاسٍ على الإنسان خاصة عندما يكون لديه أحلام يريد أن يحققها. ولأن السارد مستغرق في انشغاله بتلك الفكرة فإنه يترك نفسه نهبا لذكرياته في مواقف متعددة لا رابط بينها، حتى إنه نسي أن يخبرنا لماذا هو مشغول كثيرا بتلك الفكرة، ولم يذكر حتى موقفا واحدا مرّ به مع الموت حتى يترك في نفسه ذلك الأثر العظيم، إنما هي مجرد فكرة أراد أن يسجل آراءه حولها.

وموقف السارد به بعض التناقض حيث يرفض فكرة الموت لأنه يريد الحياة “لماذا أموت؟ أريد أن أعيش وأسافر وأزوج أبنائي واحتضن أحفادي. أريد أن تستمر الحياة مع زوجتي. أحب تقبيل يدي أمي والحديث مع عماتي الجميلات“، هو إذن يحب الحياة ويتمسك بها، لكنه في موضع آخر ينقم عليها “تمنيت أن تلك النطفة لم تقذف، ولم أوجد في كون ليس فيه ما يفرح“،”إنني لم أكن سعيدا في حياتي قبل أن ألبس الكفن الأبيض“. فإذا كان يحيا حياة غير سعيدة ويعاني كل هذا الشقاء فلماذا لا يتقبل فكرة الموت؟! إن السارد مأزوم بتلك الأسئلة حول الموت ولا يستطيع أن يفهم الفلسفة من ورائه ولكنه –مع كل الذكريات التي استطرد في ذكرها- لم يذكر لنا ما الدافع وراء أزمته، إنه ينساق كالأعمى أسير فكرة الكاتب، فالكاتب تؤرقه فكرة الموت وهو منزعج منها أيما انزعاج، لكن عمل السارد عليه أن يجد المبرر لذلك ليعطي الفكرة بكارتها وخصوصيتها.

***

وفي قصة فدوى العبود (سوريا) “آكي دُنيا” نجد السارد يصول ويجول كيفما شاء، وهو يؤدي أدواره بامتياز على كافة المستويات، يصف الأشياء كما لو أنها تنبض بالحياة، ويحكي عن الشخصيات كما يحسها وحسب معرفته بها، ولكن يفسح لها المجال لتعبّر عن ذاتها وتحقق وجودها.. يومئ ولا يصرح، يشي بما تضمره نفسه دونما صراخ، وحين يفعل ذلك يفعله وهو يرمي بأفكار الكاتب إلى أبعد مدى حتى تصيب هدفها لتحقق أكثر مما طمح إليه الكاتب نفسه.

فدوى العبود

في “آكي دنيا” تشتم رائحة ثمار تلك الشجرة العتيقة، تسند الجدة التي تكاد قدماها تحملاها وأنت تكن لها الإحساس بالحنان، تشعر وهي تتوكأ على ساعدك بثقل الزمن وسطوته، وتجسد أمام عينيك التاريخ الضارب بجذوره في شجرة آكي دُنيا، كل هذا ينقله إليك السارد المتحدث بضمير المتكلم من خلال تجربته الشخصية، ينقل لك واقعا عاشه ويريدك أن تعيشه معه.

والحدث الذي دفع بالسارد ليحكي القصة بداية من تاريخ يمتد بجذوره في الماضي، هو لحظة الظلم التي أحس بها في توزيع الجدة ثمار الشجرة، التي اعتادت –وفقا للتقاليد والعادات- أن تكون القسمة هكذا للكبار من الأبناء النصيب الأجود ثم الأحفاد، الذكور أولا ثم الإناث، وموقع السارد في هذه القسمة يتضاءل فهو لسان حال إحدى الفتيات الصغار في العائلة، التي تتمرد على نظام التوزيع هذا بأن تلقي بنصيبها على طول ذراعها، فهي الثمار “العجر” التي لم تنضج وطعمها مرّ كالخلّ –حسب وصف الجدة- والتي لم ترضَ بها الفتاة أبدا، وكانت النتيجة أن تنبذ من العائلة ويحرم عليها دخول البيت والاقتراب من الشجرة “آكي دنيا” التي ترمز لتاريخ الأسرة وما يحمله من عادات وتقاليد وقوانين صارمة. التمرد على التاريخ –إذن- هو ذروة الحدث في القصة، عبر عنه السارد أفضل تعبير دون التورط في شعارات ومقولات من شأنها توجيه النص في مسارات مؤدلجة، بل ابتعدت القصة بذكاء عن فجاجة التعبير في تنفيذ فكرة الكاتبفتركت أثرا واضحا في نفس المتلقي.

***

وفي قصة أمل الفاران (السعودية) “الجريمة الكاملة”يتحدث السارد بضمير المتكلم، ليحكي تجربة شخصية، يتجلى فيها وجود الآخر الذي يحمل ثقافة مختلفة، وعلى الرغم من عدم التركيز علىوجود صدام ثقافي بينهما، فإننا نشعر بالاختلاف الواضح بين أفكار وثقافة كلتا الشخصيتين.. لكن السارد هنا يمسك بزمام السرد ولا يمنح الشخصيات حق الوجود والتعبير عن الذات، فهو يسرد أفكاره ورؤاه حولها، ولا يتركها تعلن عن نفسها، لذا فإن الشخصيات هنا أشبهبدُمَى تتحرك حسب رغبة السارد، وكأنها ليست من لحم ودم.

تحكي القصة أن البطلة سافرت إلى إحدى مدن الغرب الأوسط الأمريكي، واختارت إقامتها في أحد البيوت كمستضافة لمدة شهرين لأنها تفضل البيوت عن الفنادق، وكان الغرض من السفر لسببين:بحثًا عن مكان هادئ للقراءة والكتابة، ولأن لها ذكريات هناك تريد أن تمسحها بما هو أجمل. لكنها طوال الوقت تتأمل الشخصيات وحياتها، منبهرة بإيقاعها وطريقة عيشها، فـ”ديبرا” (الشخصية الموازية للبطلة) شخصية عملية تمارس حياتها بكل حيوية لا توقفها ذكريات مؤلمة ولا يعطلها شيء من تفاصيل الحياة.

الجميع يأتي إلى بيت “ديبرا” لهدف ما، وكلٌّ حسب رغبته، حتى السارد (صاحب ضمير المتكلم) أتى لسبب ما، أعلن عنه بوضوح، وحدد ذلك مع كل شخصية مرَّ عليها، حتى القطط موجودة في البيت بهدف المعيشة، وهي تنظر إلى ذلك الغريب النظرة نفسها التي يتلقاها من النزلاء.

لدينا هنا تجربة شخصية لا بدّ من الاستفادة منها بشكل أو آخر –مادامت طُرحت علينا- وربما محاولة المشاركة والتعايش معها، كما يحاول السارد فرض ذلك على المتلقي، كما سنرى بعد قليل.

القصة لا تعتمد حدثًا محددًا، وربما خالية تمامًا من الحدث –الذي قد يكون محور الحكي- إلا لو اعتبرنا التجربة ذاتها هي الحدث بعينه، الرحلة غلى الغرب الأمريكي، التي لا تحمل أية ملامح محددة لهذا المكان دون غيره، وربما سلوك الشخصيات لا يخبرنا –أيضًا- تميزًا واختلافًا، فـ”الجارة، والقطط، ومارجي، وليلى” لا تمنحنا تفاصيل المكان وتاريخه وثقافته، وربما الشيء الوحيد الذي يمكن أن يجتمعن عليه جميعًا هو الشعور تجاه ذلك الغريب الوافد (السارد صاحب ضمير المتكلم)، فلماذا إذن بيت ديبرا الفيكتوري؟!

يخبرنا السارد عن لقائه بالشخصيات الواحد تلو الآخر، في رسالة قصيرة تحتوي على سبب مجيئه للبيت ومحاولة السارد التقرب إلى الشخصيات، لكنه لا يفلح في إقامة علاقة حقيقية معها، حتى ديبرا صاحبة البيت -وهي الشخصية الأكثر حضورًا والمعنية بالسرد- لم ينجح السارد في إقامة علاقة ما معها، وتتعدد الدلالات حول أسباب عدم وجود هذه العلاقة، الأمر الذي أدى بالسارد في النهاية إلى طرح السؤال: والآن كيف ننهي هذه القصة؟

أما الأمر الأكثر غرابة هو قرار القتل الذي اتخذه السارد، ويريد اشتراك المتلقي معه في تلك الجريمة.. والآن، لماذا نقتل ديبرا؟! ألا يجدر بنا أن نسمي القصة “بيت ديبرا” بدلاً من “الجريمة الكاملة”.

لم يدع لنا السارد فرصة لتأمل الشخصيات، حتى ديبرا كانت شخصية من صنع السارد، من وجهة نظره فقط، أو بالأحرى من وجهة نظر فكرته التي تحكمت في عملية السرد برمتها، هو يحاصرنا بإحساس محدد لأنها تجربته الشخصية التي تشبه كثيرًا “السيرة الذاتية”، فحصر الشخصيات في صورة محددة لتعبر عن فكرته، كأنها ليست موجودة، وحتى يتخلص من تلك الأزمة حاول إقحام المتلقي كمشارك له ليتحمل معه عناء فكرته.

ومهما حاول السارد السيطرة على شخوصه، فإن ديبرا كانت شخصية عصية على السيطرة، مثيرة، قوية، جذابة…، لماذا إذن نقتل ديبرا؟! ألأنها تفلتت من أسر السارد، ألأنها قوية بالقدر الذي أعجز السارد في السيطرة عليها فقرر قتلها؟!

تلك النهاية هي ما أعطى للقصة بعدها الجمالي على الإطلاق.

***

وفي قصة علي بنساعود (المغرب) “ثلاثة افتراضات” مثال جيد للنظر إلى الفكرة من زاوية مدهشة، حيث يعرض لأزمة الإنسان الموظف الذي يعاني من عدم قدرته على التعايش مع الواقع، وفشله في تسيير الأمور بصورة تتوافق مع ظروفه الاجتماعية والاقتصادية، للدرجة التي يتوهم فيها أنه يحيا حياة طبيعية كأي فرد يُفترض أن يعيش في أمان واستقرار.

يفتتح القصة بتشخيص الطبيب لحالة السارد المعني بالحكي، وأنه لا يعاني مرضا حقيقيا إنما عليه أن يتعايش مع واقعه، ليبدأ السارد في طرح الأسباب التي أدت به إلى الذهاب للطبيب؛ حيث إنه بدأ في نسيان أمور أساسية اعتاد أن يفعلها يوميا، وشيئا فشيئا يتنامى إحساسه بأن هناك مشكلة، الأمر الذي جعله يقوم بزيارة الطبيب، وعلى الرغم من نصيحة الطبيب له فإنه يفاجئنا في النهاية بصدمة فشله في تقبل الواقع، وحسب افتراضاته الثلاثة في نهاية القصة نجده يظل أسير وطأة ذلك الواقع.

ورغم ضخامة الفكرة وعمق الأزمة النفسية التي يعيشها السارد، فإن مجمل الحكي جاء شديد الإيجاز، لكنه الإيجاز الذي لم يخل بتوصيل رسالته، وربما بريق الفكرة يغرينا باحتمال تفاصيل أكثر، بل ربما تماهي المتلقي مع أزمة السارد يعلي من الإحساس بأن تلك الشخصية هي شخصية روائية بامتياز.

***

وفي قصة استبرق أحمد (الكويت) “السلالة” يطالعنا النص بسؤال: هل يمكن التعرف على DNA النص؟ تلك هي الفكرة الرئيسية التي تتكئ عليها القصة، وجاء صوت السارد مستخدما ضمير المخاطب

ليكون السارد وسيطا بين الكاتب مصدر الفكرة والمخاطب المعني بالحكي، وتلك الوساطة لا تخلو من وصاية على سير الأحداث والوصف، وكأن المخاطب هنا مسلوب الإرادة يفعل ما يُملى عليه، لأنه حائر بين تحقيق فكرة الكاتب وبين موقعه من الحدث “”أن يقع عليك الاختيار هو اصطفاءٌ عالٍ. لا مجال للرفض“، فتلك الجملة تعبّر عن حال المخاطب في النص، وإن كانت صيغت على غير ذلك الوجه.

استبرق أحمد

يدور النص حول فكرة نقاء السلالة، والتخلص من العناصر غير الأصيلة المتمثلة في المنطقة “Z” –حسب تعبير النص- لتحافظ البلاد الأصيلة المشار إليها بـ”A” على نقائها “أغلبية صادحة رشحت المنطقة (Z) للإمحاء، إذ لا ترضى البلاد (A) بتشويشٍ لسلالتها. نتيجة للتصويت الذي أقر ذلك وشعار “احمونا.. لا سبيل لسلالات مجهولة“. ويبدو أن المخاطب في النص مضطر إلى كتابة تقرير عن الحالة، وقد توقف عند لفظة “تورط” حيث أصابت تلك اللفظة في نفسه موطن الإرباك الواقع فيه.

استخدم السارد جملا قصيرة حادة، توحي ولا تصرح، لكنها في بعض الأحيان كانت كالسهام الطائشة تضعفها البلاغة والتوشية والتراكيب المزجية مثل “أراضي عقلك”، “أتون كلمة” وغير ذلك من الألفاظ المزخرفة. وربما كان ذلك بسبب الإصرار على تشفير النص وإلغازه، وما أرد أن يطرحه من أسئلة غير مباشرة. لقد قصد السارد إلى حالة الإرباك التي تسيطر على المخاطب في النص وربما ذلك القصد أربك النص ذاته.

***

وفي قصة سهير السمان (اليمن) “بلا أرض”، نجد صورة أخرى تتكون على أثر دمار الحرب، حيث يتداخل الحلم بالحقيقة، والعالم الافتراضي بالواقعي، وهو حال بطل القصة الذي يجلس في أحد المطارات بين المسافرين وحيدا، ينتظر حبيبته الافتراضية التي تعرف عليها طوال سنتين واتفقا على اللقاء أخيرا، وبينما ينتظر يتعرف على امرأة أخرى ذاهبة إلى مصر البلد التي ينتظر أن تأتي حبيبته منها، تسافر المرأة ولا تجيء حبيبته، وتنتهي القصة حيث يقف وحيدا في أرض ربما تلفظه يوما ما. هذا مضمون النص باختصار، لكنه يحيل إلى حالة من الضياع والفقد حيث المرأة فقدت خطيبها في حادث تفجير مسجد العاصمة، وأيضا البطل كان من الممكن أن يرحل هو أيضا في التفجير الذي حدث أمام كلية الشرطة وراح ضحيته طابور من الشباب لكن القدر أبى أن يكون بينهم، ليمنحه فرصة أخرى ليستمر الوهم الذي يحيط بأحلامه ويظل عائشا في عالمه الافتراضي: فمن أجل لقاء حب افتراضي، اخترت تحقيقه ابتعد عني الموت قليلا، في تلك اللحظة يقابله الواقع بالمرأة المواطنة التي ترحل عن أرض الوطن فاقدة أحلامها وحبها، لتكون تلك الصورة الموازية لعالمه الافتراضي/الوهم. فهو عاجز عن تحقيق حلمه على المستويين الواقعي والافتراضي، ليظل بلا أرض يقف عليها، فاقدا الوطن الذي هو ببساطة عبارة عن أحلامنا وطموحاتنا.

في لغة بسيطة وإشارات موحية يتكون النص ويصور زاوية من حياتنا وما آلات إليه من آثار الحرب وما خلفته من دمار، دون الاستعانة بجمل صارخة مباشرة، تاركا كل الآثار الدموية ليركز على الإنسان الذي ضاع حلمه من جراء ذلك. وهنا يبرز دور السارد المخلص لنصه، المدرك للوجهة التي يبحر إليها، لذلك جاء النص هادئا سلسا دونما ارتباك ودون الانشغال بما يدور في رأس الكاتب فعبر عن أفكاره برشاقة محققا ذاته بتشكيل جمالي وتعبير صادق.

***

وفي “برج الحمار” لعبدالقهار الحجاري (المغرب) يجري الحديث بداية على لسان حمار وهو السارد الوحيد في القصة، لنكتشف فيما بعد أنه ما هو إلا إنسان مأزوم بالكد والشقاء في الحياة، وأنه يعاني ممن حوله من بشر لا يكفون عن استغلاله ولا يعيرون لمشاعره أي انتباه، فهو أشبه بحمار لا يرون منه غير وسيلة تلبي لهم أغراضهم في مقابل الشيء الزهيد؛ وهو حال الفئة الأكثر عددا من الناس الذين يتم استغلالهم لحساب الفئة الأقل عددا في المجتمع.

عبدالقهار الحجاري

قدم النص نموذجا جيدا في استخدام الرمز، وكان السارد شديد الحرص في تمثل الحالة النفسية ونقلها إلى المتلقي دون الوقوع في فخ الجمل الذهنية التي يمكن أن تقطع استرسال السرد. وذلك النوع من القص ليس من السهل تحقيقه بهذه الجودة فهو يتطلب كثيرا من الوعي في الصياغة؛ إذ عليه أن يكون على قدر كبير من التمكن من إشاراته في الوقت الذي يكون فيه حريصا على الاحتفاظ بالتواصل مع المتلقي وهو ما لا يتحقق إلا بامتلاك قدر كبير من الإبداعية.

***

وفي قصة “ماجستير” لحنان الحلبوني (سوريا) نجد عوني طالب الماجستير الذي استنفد أربع سنوات في البحث، يبحث عن الصفات الأخلاقية وجذورها في الأدب العربي، وبعد أن نال منه الجهد وأرهقه السهر غفا وهو جالس على كرسيه وسقط رأسه فوق المكتب، وفي المنام يأتيه عنترة والمتنبي وأبو العلاء، ليدور الحوار بينهم حول كيف وصل العرب إلى هذا المستوى من التدني والتدهور في حين تقدم البشر من حولهم.

القصة تنتمي لنمط تقليدي؛ بداية ووسط ونهاية، وهي لا تحتمل كثيرا من التأويل إذ كانت أقرب إلى المباشرة. وفي الحقيقة، ليس هذا عيبا يؤخذ عليها إنما المأخذ هو عدم الاستفادة من استدعاء تلك الشخصيات التاريخية وتحويلها إلى طاقة مدهشة تتفجر من حولها الدلالات.. لقد اكتفى السارد بظهور الشعراء الثلاثة لعوني أثناء نومه ليقوموا بوظيفة محددة وواضحة، كان من الممكن استثمار هذه الآلية في اتجاهات أكثر تشظيا من ذلك لكن السارد غفل عنها.

***

وفي “رانيا” لهبة شريقي (سوريا) نصادف المباشرة نفسها في القصة السابقة، حيث تلك الفتاة الصغيرة التي تتعلم الأحلام من ابنة خالها الجميلة “رانيا” التي كانت تمثل المستقبل بالنسبة لها في كل مراحل حياتها، ولأن الأحلام لا تتحقق في الواقع كان عليها أن تفعل ذلك في كتابة القصص، فكلما فشلت في تحقيق حلم كتبت عنه في قصة، لتظل الأحلام مرهونة بالخيال ولا تتحقق إلا على الورق.

هبة شريقي

والسارد هنا لا يحاول البحث عن الأسباب الكامنة وراء عدم تحقيق الأحلام، ويكتفي بتسجيلها في القصص، وكأنه يخشى أن تسقط في بئر النسيان لذلك فإنه حريص على كتابتها بعد الفشل في تحقيقها، فكم من الأحلام التي طوتها عجلة النسيان في حياتنا ولم نعد حتى نتذكرها، مما يعكس حالة العجز التي يعانيها إنسان هذا العصر غير القادر على مواجهة صعوبات الحياة، وبالتالي هو يفتقد القدرة على اكتشاف أسباب فشله.

***

وفي “هبوط اضطراري” لنبأ حسن مسلم (العراق) مثال جيد على تقنية الحلم، حيث هاجس الحرب يسيطر على مشاعر السارد ويدفعه إلى الدخول في أجواء الحرب دفعا، فيختلط الواقع بالحلم ولا يستطيع التفريق بين ما هو حقيقي وما هو خيال. وفي الحلم لا يشغلنا كثيرا ما إذا كان الشيء حقيقة أم خيالا، لكن المهم هو الحال التي يتركنا عليها ذلك الحلم.

وقد اتخذ السارد هنا عدة خطوات لكي يهيئنا للدخول في حلمه، فبداية يضعنا في حالة الشعور الملازمة له “لا أعرف ما هي مشكلتي مع المروحيات, فمؤخرًا لا يكاد يمر يوم دون أن أرى إحداها أو أن أسمع صوتها على الأقل!!”، ثم يصف لنا المكان والأجواء التي تحيط به، لكن التفكير في الحرب يخيم على ذهنه مما يعكس الشعور بالخوف إزاء المستقبل “ماذا لو حـصلت مجاعة فجائية؟؟ أليس من الأجدر بي الاحتفاظ بهذا الطعام وادخاره وتحديدا في هذه اللحظة يدخلنا بنا مباشرة في الحلم دون أن نشعر بذلك، كأنما اختلط الواقعي بالخيالي وصارا شيئا واحدا. وفي النهاية ندرك ذلك، ونعود إلى الواقع مرة أخرى، لكننا لا نعود بأنفسنا إنما السارد حين قرر ذلك، حيث انتهى الحلم وقتما ذكره هاتفه ذو الطراز القديم الذي يشبه الحذاء العسكري بأن الحلم انتهى وعليه أن يبدأ يوما جديدا. ندرك أن الحلم انتهى لكن الأثر الذي تركه فينا قد بدأ توًّا.

هناك عدة محطات قصد السارد أن يتوقف فيها عن مواصلة السرد، من مثل: “في الواقع هذا ليس الشيء الوحيد الذي شعرت به, بل إن هناك عدة أشياء لن أخبركم بها!!”.لا يهم.. فأنا الآن وجهًا لوجه مع ما بقي صامدًا من الهيكل المعدني المحترق!!”، “أجل يا جماعة“… تلك الجمل من شأنها أن تقطع سيرورة السرد وتعيد المتلقي إلى حالة الوعي، وكأنه أراد أن يذكرنا بأنه يحكي حكاية، ولا أدري ما الغرض من ذلك غير أنه يجبرنا على التوقف عن متابعة السرد.  

***

وإذا كنا دخلنا الحلم مع نبأ مسلم دون أن نعي ذلك، فإن مهند الخيكاني (العراق) في قصة “أيام الأمس” يعي جيدا كيفية الدخول في الحلم والخروج منه من خلال نظارته الطبية، فهو يحكي لنا كيف حدث معه هذا الأمر العجيب في الآونة الأخيرة، وكيف يدخل الحلم ويخرج منه بل إنه يستطيع أن يفصل الحلم كيفما شاء، فالدخول في الحلم هنا فعل اختياري وهو هروب من واقع مؤلم لا يسير على رغبته، بل إنه يتمادى في ذلك فيمكنه أن يرى الماضي الذي فاته بوضوح “بل يصبح بإمكاني رؤية اليوم السابق الذي لم أره جيدًا في صحوي” وهو يفعل ذلك بقليل من الجهد “يكفي أنني أتماهى مع نظارتي وأغطّ في النوم“، فهو يشرح لنا كيف يمكنه استخدام هذه الآلية للتعامل مع الواقع، فالنظارة هنا مجرد آلة تنقله من واقعه إلى الحلم“أفضّل أن أعيش الحياة من الجهة الخلفية للصور المتوالية للحياة“.

مهند الخيكاني

إنه الوسيلة الناجعة للهروب من ضغوط الواقع القاسي، ولأنه يدخل الحلم باختياره فإنه يستطيع أن يصنعه على إرادته وبالطريقة التي كان يتمناه أن تحدث في واقعه “أسرق بعض الوقت لنفسي، وأغيّر تفاصيل اليوم الذي مضى“.

ثم يقرر الإقلاع عن تلك الفكرة ويستبدل النظارة والأحلام بحالة من التدريب الذهني، ويفاجأ بأن الأمر يحدث بطريقة أشبه بالسحرية، حيث يستطيع أن يحقق كل ما يجول بذهنه في لمح البصر، بل إنه وضع التجربة محل الاختبار وكرر الأمر مرات، لكنه في النهاية لا يستطيع أن يميز بين ما إذا كان هذا واقعا أم خيالا “ضحكتُ بسعادة أولا ثم ضحكت بحزنٍ قاتم يدل على الانهيار فيما بعد، إذ أنني لم أعد أعرف : هل أنا مستيقظ وهذا هو الواقع أم أنني ما زلت نائما ! ثم أين اختفت نظارتي؟”.

***

وفي قصة “جواربي” لأغصان الصالح (العراق)، التي تبدو في ظاهرها نوعا من الفانتازيا، تلتقط حالة إنسانية لزوجة تفتقد وجود الزوج بشكل طبيعي، فهو بحكم عمله يتغيب عن البيت، وهو ما يجعل الزوجة في حالة عدم إشباع لأنها في احتياج لملء الفراغ الكائن حولها.

عبرت الساردة عن ذلك الفقد باستخدام الجوارب الرجالية كآلية لتعويض ما تفتقده أو هو ما يعطيها الإحساس بوجوده، لذلك فإنها اختارت الجوارب فقط لأن ملمسها يشبه ملمس ساق زوجها، وبمجرد ارتداء تلك الجوارب تشعر بالراحة وتذهب حالة الفقد، حتى إنه لم يلحظ أحد في المناسبات غياب زوجها ولا حتى هي.

وتستمر الساردة في هذا حتى يخبرها الزوج أنه سوف ينتقل في عمله إلى مكان بعيد، أخرجت الجوارب وراحت تغسلها وكلما عصرتها كان هو يتألم من مغص في بطنه، وظل واقفا في مكانه ثابتا لا يتحرك بينما الجوارب منشورة على أحبال الغسيل.. لقد استخدمت الجوارب كوسيلة عقاب أيضا تعبر بها عن مشاعرها إلى أن أدرك الزوج ذلك “عند المساء وبينما أنا مستلقية على سريري شعرت بأصابعه وهو ينزع الجوارب من ساقي ويقول. لن تكوني بحاجة هذه الجوارب بعد اليوم“.

***

وإذا كان موضوع الحرب موضوعا ملحا ويشكل ملمحا رئيسيا في معظم النصوص، وتمت معالجته بصور شتى، فإن المعالجة عند شيخة حسين خليوي (فلسطين) في قصتها “للحرب أنف كبير” تتخذ منحى مغايرا لكل المعالجات السابقة، حيث تدور الفكرة حول القاسم المشترك بين الإنسان والحرب، والحرب هنا تمتزج بالحياة، وأن ما دام هناك موت فإن ثمة حياة، لكن السارد مشغول عن الحرب ولا يكترث لها لسبب خلقي هو أكثر انشغالا به.. فالسارد/ البطلة أزمتها أن لها أنفا كبيرا يشوه مظهرها ويباعد بينها وبين أحلام الزواج كأي فتاة طبيعية، وهي تعاني حالة عنوسة تذكرها بها الأم بين الحين والآخر، لأن الفتاة التي تتعدى سن العشرين في ذلك المجتمع تدخل في مرحلة العنوسة وتؤخر فرصها في الحصول على زواج شبابي يحقق حلمها وطموحها؛ لذا فإنها صارت تحصي عدد الموتى من جراء الحرب التي تتركها هي على قيد الحياة هذه الحرب المؤدّبة معي جدّا تتركني أعيش حياتي كما اعتدتها، ضيفة خفيفة هي على نهاري وليلي. بالكاد أشعر بخطواتها في أروقة روحي”، فإذا كان الناس يعانون الحرب أكثر من أي شيء آخر، فإن حربها هي مع أنفها الكبير، وإذا كان الناس يحاولون عبور الحدود إلى حياة أخرى هربا من الحرب، فإنها تتلهف للعبور إلى أنف جديد، لا تخشى الموت أبدا لكنها لا تريد أن تموت بهذا الأنف البشع “ولو كتبَ لي الموت في أحد الشوارع أو في سريري أريد أن أموت بأنفٍ جميل معقول الحجم ولو كانت عيناي ساعتها مغمضتيْن وشفتاي جافتيْن زرقاويْن”.وعلى الرغم من الدمار الذي تخلفه الحرب فإنها تمنحها الحياة التي تحلم بها بشظية تصيب أنفها الكبير لتُجرى لها عملية تجميل، وهكذا تمنحها الحرب أنفا جميلا.

شيخة خليوي

زاوية بعيدة يسجل منها السارد صورة من بشاعة الحرب، زاوية لا يراها غير من ذاق ويلات الحرب، بل من صارت الحرب بالنسبة له طقسا يوميا يعيشه، من تساوى عنده الموت والحياة في قضية وجوده. والتشخيص هنا جاء مجسدا حالة السرد النابضة بالألم“أرى الحرب تمشي في الشّارع المُحاذي لبيتنا، جسدا مترهّلا يحملُ أنفا عملاقا دون وجه، أنفا بمنخارين كهفين معتمين وعظْمة كسطح أعوج خرب. يهربُ الجميع إلى البيوت الآيلة للسقوط، يتوزّعون كأوراق الشجر الهشّة في مهبّ الريح. وأنا أضحكُ من بعيد وأقول للمرآة :للحربِ أنفٌ كبيرأسوأ من أنفي”.

***

في قصة عزة كامل المقهور (ليبيا) “حذاء الماء” تسيطر النوستاليجيا على صوت السارد الذي يخصص الحكاية عن صيد سمك السردين في بحر طرابلس، والعودة إلى الماضي هنا ليست لمجرد الحنين، فالمفارقة هي تبدل حال البشر/ الصيادين، حيث استبدلوا الطرق القديمة للصيد باستخدام الديناميت، وتحولت الغاية من صيد السردين كطعام للفقراء إلى استخدامه طُعما لصيد الأسماك الكبيرة، وما يصاحب ذلك من قتل أعداد غفيرة من السردين، وتحولت رقصة السردين في أسراب جماعية إلى قطع ممزقة بفعل الديناميت “زرع الصيادون أصابع الديناميت في البحر، تفجر أجساد السردين الرطبة وتطفوا كالعوالق على سطح المياه، يجمعونها كيفما اتفق، يختارون منها القلة ممن احتفظت بأجسادها، يبيعونها طعوما للصيد دون الفقراء”.

الكاتبة عزة كامل المقهور

تتذكر الساردة عم عليّ وكيف كان صيادا ماهرا وتستفيض في وصفه والطريقة التي يمارسها في صيد السردين ولا يخفى شغفها أثناء مراقبتها إياه وهو يحضرها لوجبة الغداء “يقبض عمي عليّ على رأسها الصغير ويقتلعه ثم يشق صدرها بأصابعه، يخرج ما في جوفها، ويرميها في كيس بلاستيكي. ما أن تفقد رؤوسها المتصلة بجوفها الأحمر القان حتى تتساوى جميعها، يسيّل عليها الماء وينظف جوفها بمنتهى الرفق، وهو يغمم (السردينة ما تتحملش)”.

يغلب الوصف على السرد في غياب الحدث، وحضور نستالجيا دفع إليها الواقع بماديته وقبضته المحكمة على حياة الساردة، فالإحساس بثقله وضغطه هو ما دفع نحو الحنين للماضي الجميل ببراءته وميله وانسجامه مع الطبيعة.وهذا هو الدافع الذي يكمن خلف التفاصيل الدقيقة أثناء الوصف، إنه الشغف بالذكريات الحميمة، هو السر في اللغة الفاتنة والمفردات المتعلقة بعالم الصيد الممتزجة بسحر الطبيعة في وصف الليل والماء، اللغة التي تنبعث منها موسيقى تنبض بالحياة فجاءت لوحة فنية خطوطها مرسومة بالكلمات وألوانها تزهو بالمعاني.

***

وفي قصة ليندا كامل (الجزائر) “حكاية الشاطر”، نتساءل: ما سر تعلق السارد بالجدة؟ على الرغم من وجود الجد والأب والأم والعم والعمات، وجميع أهل الدار، لقد كانت الجدة هي مصدر المعرفة بالنسبة للسارد، بل كانت الأكثر فتنة في حياته بما تحكي له من حكايات، وأشهر هذه الحكايات هي “حكاية الشاطر” الذي أثر فيه تأثيرا كبيرا لدرجة الانبهار بشخصيته.. إن الحكي هو مادة السحر التي استأثرت بمجمل السرد والتي فتنت بطل القصة الصغير، وكان هو طريق النجاة من عيون الجنود، والحدث الذي يدور حول النص هو “موت الجدة” ولأن الصغير لا يفهم معنى الموت وما زال يمثل له لغزا رغم محاولات الشرح التي زادته حيرة، فهو لا يفهم غير الإحساس بفقد الجدة التي توقفت عن الحكي وهو ما يجعله حزينا وتائها، لكنه يتذكر ما كانت تحكيه الجدة ونصائحها التي أنقذته من الجنود الذين هاجموا البيت وخربوا كل شيء وراءهم واعتقلوا الأب.

ليندة كامل

نحن لا نسمع غير صوت السارد وصوت الجدة، والعلاقة التي ربطت بين الشخصيتين هي الحكايات، وما دون ذلك فإن كل شيء يتلاشى ولا يترك أثرا، حتى الموت كحدث له جلالته يتخافت أمام تلك العلاقة ولا نشعر به إلا من خلال إحساس السارد بالفقد. لكن الجدة تموت والسارد الصغير يظل معلقا فوق الشجرة يختبئ عن عيون العسكر“عندما ترى الجنود ابقي حيث أنت وارقبهم لا تتنفس حتى يغادروا مهما فعلوا،”وتظل الحكاية حية نابضةباستدعائها من الذاكرة لتبقى سلاحا مقاوما كنت أقتفى أثر جدتي تزورني كل ليلة، وتقص لي حكاية الشاطر كنت أنبهر به، وبشجاعته لو كان مكاني عندما  جاء الجنود ومزقوا عذرية بيتنا لقام بسحقهم جميعا”، هذا هو الأثر الذي تركته حكاية الشاطر في نفس السارد كنت منبهرا به وبقوته وحكمته ورصانته  انبهرت أكثر حين تسلحت بكل تلك الأسلحة ورحت أفجر ذاك المبنى للجنود الذين اقتحموا بيتنا...

ولأنه في الجزء المنسي من العالم، ووحيد في بؤرة التهميش لا يمتلك غير الحكايات سلاحا يواجه به الواقع ويحارب به الظلم لا أحد يسانده وحدها جدتي من كانت معي تساندني مرات أراها تقفز وتفجر ذاك المكان وتلقي سراح السجناء والأسرى وما تزال تحكي لي حكاية الشاطر“.

***

وفي قصة “البيت الرمادي لعبداللطيف النيلة (المغرب)، أكثر من مستوى لصوت السارد؛ حيث بدأ السارد بفقرة من الوصف كمفتتح للدخول في قصته مستخدما ضمير الغائب، يحكي عن الشخصية المعنية بالحكي موجها حديثه إلى المتلقي. ثم ينتقل في السرد بين حين وآخر إلى ضمير المُخاطب موجها الحديث للشخصية نفسها، ولا يخلو السرد من صوت الشخصية في مواضع مختلفة للتعبير عن نفسها. ذلك التنقل بسلاسة بين مستويات السرد جاء منسجما متناغما لأن السارد يحسن اختيار موقعه من السرد ويعي جيدا ما يرمي إليه.

عبداللطيف النيلة

الصوت السردي واحد في النص لم يتعدد، فهناك سارد واحد لكنه لعب بمهارة على التنقل بين مستويات السرد، مما أوحى إلينا بتعدد الصوت السردي، فهو حين يستخدم ضمير الغائب فإنه يوجه حديثه إلى المتلقي، وحين يستخدم ضمير المُخاطب فإنه يحدث الشخصية، وحين يستخدم ضمير المتكلم فإنه يجري الحديث على لسان الشخصية نفسها؛ هذا الانتقال المرن يشبه لاعب خط الوسط الذي يستطيع أن يتنقل بين المواقع بحرية ورشاقة، وهو ما كان له تأثيره الجمالي على النص.

“البيت الرمادي” اختيار مناسب للفكرة المطروحة في النص فهو يعبر عن الغموض في الرؤية، واختلاط الأمور على الشخصية التي بدت حائرة طوال الوقت بين الخيالي والواقعي، بين الفضول الذي يدفعه إلى الاكتشاف والخوف الذي يدفعه إلى التردد، التفكير المنطقي والوسواس القهري الذي كُشف عنه في الجزء الثاني من القصة.

لكن ثمة احتمالات كثيرة يطرحها النص، فهناك احتمال إصابة الشخصية بمرض الوسواس القهري كما أخبرنا الطبيب بذلك، وهناك احتمال أن الطبيب نفسه جزء من المؤامرة حسب اعتقاد الشخصية التي ترفض أن تسلم بالمرض، وتؤمن بحقيقة ما رأته بأن في الأمر جريمة ما يجب الكشف عنها.. إلى آخر ما يمكن أن يستنتجه الخيال في النص.

***

وفي قصة “مختفون” لمحمد إمباركي (المغرب) تمثل “فاطنة” البراءة التي يمكن أن تغتصب في حياتنا اليومية نتيجة حادث عارض يمكن أن يحدث لأي شخص مازال يتحسس خطاه الأولى نحو الحياة، فـ”فاطنة” تلك الطفلة البريئة ابنة البيئة البدوية تتعرض لحادث اغتصاب على يد راعٍ قاس اكتسب قسوته من تلك البيئة نفسها فسيطرت عليه غرائزه الشهوانية للدرجة التي لم يرَ معها تلك البراءة في عيون ضحيته. وكانت النتيجة هروب الطفلة لا تدري إلى أين، كما اختفى الراعي من المشهد.

الكاتب محمد امباركي

والسارد هنا يقف موقفا محايدا تماما عن الأحداث، كل ما يربطه بالقصة أنه يحكي لنا مشهدا متكررا من حياتنا اليومية، على الرغم من أنه يبدو متألما من المصير الذي آلت إليه حياة “فاطنة”، وهو ما قصده في الجزء الثاني من قصته، كما أننا نحس في صوته تعاطفا للمرارة التي يتجرعها العم في البحث عن ابنة أخيه، معلنا عن اسمه واسم أخيه في صراحة واضحة، هذا الإعلان الذي يشير إلى الغفران، وتلك المرارة التي يقاسيها من فراق الهاربة، والشعور بالذنب يسيج تلك المشاعر جميعا من حالة الفقد طوال أربعين سنة.

إن السرعة التي سيطرت على حالة السرد، والميل إلى الاختصار، وعدم التوقف طويلا إزاء التفاصيل، يعكس حرص السارد على بلوغ التأثير الذي قصد إليهوهو العبرة من الحكاية، على الرغم من أن القصة كانت تحتمل كثيرا من التفاصيل، وأهملت وحدات كان من الممكن أن تثري النص بما هو أعمق من العبرة.

أضف تعليق