صافرة النهاية، قصة: محمد القصبي

……….

صديقي فجأة اختفى.. كان ذلك منذ سبع سنوات.. رغم حساسية عمله لم يدفعني فضولي الصحفي أن أسأل عن مهام منصبه طيلة علاقتنا التي امتدت أكثر من عشر سنوات.. كلما التقينا أو تهاتفنا.. نخوض أكثر في أموري الأدبية والصحفية والأسرية.. وأيضا عن بعض أموره الإنسانية ..ولاشيء عن عمله.. آخر مرة التقينا.. فاجأني :

-عارف أنا جاى منين ؟

ألمح في لكنته التي اعتاد أن تكون خالية من دسم الانفعالات .. بعضا من الاضطراب.. سألته بقلق:

– منين؟

– من الاستاد!

– استاد أيه.. النهاردة مفيش ماتشات !

– اشتريت ربع كيلو لب.. ورحت هناك.. وقعدت في المدرجات أتسلي!

وكأنها لحظة تمرد متوقعة على نظام وظيفي وحياتي أمضى ربع قرن أسير جبروت طغيانه.

-فيه أيه..؟ شكلك مش عاجبني!

– شعور غريب يلازمني من فترة.. وأنا ماشى في الشارع.. بحس إن مش ده الشارع بتاعي.. وأنا في البيت مع أولادي بحس إن أنا فى وادي وهم في وادي.. لما بسمع أغنية بحس إن الأغاني دى مش لي.. لما بقعد اتفرج على المسلسلات بحس إنها معمولة لناس تانيين.. والإعلانات إما عن موبايلات ودقايق هتكسبها أو أكل.. برضه مش لي.. حتى الطعام.. في البيت والعزومات والمطاعم والفنادق.. ما بلاقيش الأكل البسيط اللى كنت عايش عليه..

ويسألني صديقي:

– مش هو دا الموت.. إنك تحس إن الدنيا دى مش بتاعتك !

ولماذا أتذكر صديقي الآن؟

لم يفارقني طيفه لحظة واحدة منذ أن اختفى.. لكنها كلماته الأخيرة.. أنسحق بين حروفها.. وحتى سؤاله الأخير هو أيضا سؤالي: مش هو دا الموت.. إنك تحس إن الدنيا دى.. مش بتاعتك !ّ!

أين أنت يا صديقي؟ لو ظهرت.. لو قدر لنا أن نلتقي مجددا ..لاصطحبتك إلى ستاد القاهرة، وصعدنا إلى أعلى المدرجات.. نتجاور.. نتطلع إلى فضاءات الملعب الخاوية.. صامتين إلا من قزقزة اللب ..في انتظار.. صافرة النهاية !

قراءة نقدية في مجموعة ” مثل واحد آخر” للمبدع. أ. سيد الوكيل.بقلم: كرم الصباغ

منذ اللحظة الأولى التي انتهيت فيها من قراءة المجموعة القصصية المعنونة بمثل واحد آخر للقاص و الروائي و الناقد المصري أ.  سيد الوكيل أدركت أنه من الغبن أن يتم تناول تلك المجموعة بشكل مجمل ليس لعدم ترابط قصصها و إنما لثراء كل قصة على حدة حتى تلك القصص القصيرة جدا التي جاءت في الجزء الأخير من المجموعة فكل قصة منها تحتاج  بلا شك إلى وقفة تأمل طويلة، هذا إن  أراد الناقد أن يقدم نقدا انطباعيا كان أو أكاديميا.  و لما كنت من أنصار الدعوة التي طالما دعا  إليها الكاتب ذاته أقصد أ.  سيد الوكيل،تلك الدعوة التي تحث الناقد على التحرر من أسر أغلال النقد الموروثة التي تسهم في صنع فجوة بين الناقد و المتلقي كيما ينجح الناقد في الغوص بين طيات النص المكتوب لينتج بدوره  نصا موازيا يصطبغ  بروح الناقد؛  إذ تمثل الحركة النقدية برمتها عملية إبداعية كاشفة في جوهرها، تزيح الستار عن المخبوء بين السطور،  و تضئ المناطق الظليلة في النص،  بل تنطلق من النص ذاته إلى فضاءات أكثر رحابة،  من خلال توليد دلالات ربما لم ينتبه إليها المبدع كاتب النص،  هذا إذاسلمنا بأن الإبداع ما هو إلا نتاج لاوعي الكاتب مما يتيح للناقد و القارئ أن يشاركا الكاتب في إنتاج النص من خلال عملية تفاعلية تتسم بالحيوية،  و تنحية القوالب الجاهزة جانبا، و إفساح الطريق لذائقة،  و بصيرة،  و خيال الناقد،  و القارئ للمشاركة في إنتاج نصوص موازية للنص المقروء. 

  و من هذا المنطلق أجد داخلي الرغبة في تقديم تلك القراءة الانطباعية لمجموعة “مثل واحد آخر”، مستخدما المنهج المشار إليه.و سوف أتوقف في البداية  أمام الإهداء، الذي جاء على هذا النحو:  إلي الصبي الذي قرأ الوجوه و الشوارع. يبدو الإهداء بسيطا لكننا إذا تأملناه قليلا سنكتشف أنناأمام أول مفتاح من مفاتيح فك شفرات نصوص المجموعة بأسرها،  و لا يخفى علي أحد أن الصبي ما هو إلا السارد ذاته، فلماذااختار الكاتب مرحلة الصبا بالذات، بينما هو الآن في أوج نضجه على مستوى العمر و الفكر، والإبداع؟! أهي حالة من حالات النوستولجياو الحنين المفرط إلى تلك الأيام البعيدة التي تركت ظلالها على روح المبدع سيد الوكيل، و أسهمت بشكل ملحوظ في تشكيل وعيه و شخصيته،  و تسربت إلى اللاوعيلديه؟! أليس   استدعاء  ذلك الصبي دليلا على حنين مفرط إلى دهشة و لذة اكتشاف الكنز المخبوء في روح الكاتب من خلال رحلة طويلة لاستكشاف العالم، و تحليل الإنسان ذلك الكائن الغريب الحري بالتأمل؟! تلك الرحلة، التي بدأت بأن يتفحص الصبي  الوجوه،و الشوارع؛لعله ينجح في الإجابة عن تلك  الأسئلة الوجودية الكبيرة، التي أرقته منذ الصغر، أسئلة الميلاد و الموت، و الفقد، و الحب، و القبح، و الجمال، و الخير، و الشر.  نحن أمام كاتب  مولع بالفلسفة،  اتخذ التأمل طريقا و منهجا؛ كي يجيب عن أسئلته الحائرة، تتمحور كتابته حول الإنسان، لا يعبأ بالأيدولوجيا، و الأطر، و القوالب الجاهزة، و لا ينساق وراء الشعارات البراقة، و العبارات المطاطية الجوفاء، كل ما يشغله هو الإنسان، إذ يؤمن بأن ما سبق ما هو إلا  زبد مصيره التحول و  الزوال، و أما الإنسان فهو القيمة الحقيقية التي ستمكث في الأرض، و هو حينما يؤمن بذلك يرى الموت عتبة تؤسس لحياة جديدة، أليس كثير ممن غادروا عالمنا أشد حضورا من كثير ممن يحيون بيننا إلى الآن؟!نحن أمام كاتب دائم التأمل لذاته، و ذوات من حوله، مراقبا تصرفاتهم بدقة، و متأملا في الوقت ذاته الأماكن  و ما تركته من ظلال على روحه، يعتمد كثيرا   على المشهدية؛ نجد أنفسنا عندما نطالع قصصهنقرأ كأننا نرى، و لكنه   في كثير من الأحيان  يفصل بين  كادراته بسؤال من الأسئلة، التي يثير بها  ذهن القارئ، و يورطه بحرفية  في الحالة التي تنتاب شخصية من شخصياته: رئيسة كانت أو ثانوية. و سرعان ما يعود إلى كادراته، سواء كانت تلك العودة  بشكل دائري، أو عن طريق الفلاش باك،  أو عن طريق التنامي الرأسي، أو التنامي  الأفقي و المضي إلى الأمام مستأنفاأحد المشاهد، كما أننا نجده في بعض الأحيان يبرز أدق تفاصيل الشخصية، من خلال وصف بارع، كأنما هو مصور سينمائي يثبت  عدسة زووم مكبرة على وجه من الوجوه، أو شيء من الأشياء، أو مكان من الأماكن. و أكاد  أجزم أن الكاتب مولع بفن السينما، و  مولع أيضا بالألوان و الظلال، و ما يملكانه من قوى سحرية،   و ربما تزول تلك الدهشة إذا علمنا أن سيد الوكيل قد بدأ حياته ممثلا مسرحيا، و فنانا تشكيليا، و قد أحسن في توظيف هاتين الموهبتين التمثيل و الرسم في إنتاج نصوصه القصصية و الروائية، و أعماله النقدية.

أما إذا انتقلنا إلى العنوان: مثل واحد آخر، فإننا ربما نكتشف بعد تمعن أن هذا العنوان جاء كاشفا لا لمضمون القصة المعنونة بالعنوان ذاته، و إنما للمجموعة ككل. فقد وشى العنوان بفكرة الاغتراب عن الذات. و التي تتماهى مع ما يكابده معظم شخصيات المجموعة، و قد وشى كذلك بفكرة رفض الواقع برمته، و التوق الدائم إلى خلق واقع جديد، أشد رحابة، يمهد لتحقيق الأحلام التي بدت في كثير من الأحيان أحلاما مستحيلة التحقق في ظل واقع كابوسي، يضج بالمرارات و الإحباطات. أدرك أن الكاتب سيد الوكيل بما له من رصيد خبرات معرفية و حياتية أكسبته قدرا كبيرا من الحكمة و التروي و النفس الهادئ، و جعلته كارها للحلول العنترية، و الثورات اللامحسوبة، لكنني أجد بين طيات مجموعته لن أقول ثورة بل سأقول تمردا  من نوع آخر، تمرديبدو صامتامغلفا برصانة الفلسفة و عمقها، لكنهتمرديشبه تماما غضب الحليم، الذي فاض به الكيل، و حلم بتغيير واقعه، لذلك نجده في تلك القصة ” مثل واحد آخر” يتمرد على تقاليد كتابة القصة، و يلهو بمكونات القصة، الزمان و المكان، و الشخصيات، و تكنيك السرد، و يلهو كذلك بالرواي العليم، فيجعله راويا مشاركا، و شخصية من شخصيات القصة، يتحدث عن نفسه بضمير المتكلم، بل إنه يمسك بتلابيب القارئ و يشركه في سرد الأحداث، مخاطبا إياه بضمير المخاطب، كأنما القارئ يقف على بعد خطوة مما يجري، كمتفرجي المسرح الذين يشاركون الأبطال بالتفاعل الحي المباشر. و تأتي ذروة تمرد الكاتب على تقاليد القصة، حينما يلهو بالأحداث. فالحدث الرئيس حدث اعتيادي بسيط بطل يقف عاجزا عن فتح باب شقته، و لما كان الراوي العليم قد أفصح عن النهاية المحتومة للبطل الذي قرر أن يموت في الصباح إثر نوبة قلبية ناتجة عن الإفراط في التدخين، نجد الكاتب يشرك القارئ في إنتاج الأحداث، يفكر معه بصوت عال، و يعلن في أكثر من موضع عن فقده السيطرة على مسرح الأحداث، و يتخلى في مواضع أخرى عن حيادية الراوي العليم، و يعلن عن كرهه كراو مشارك لشخصية الجار السلفي. بل إن الخاتمة جاءت مفتوحة مغايرة فالكاتب يعلن عن عدم رضاه عن المصير الذي اختاره بنفسه للبطل، و يفصح عن أمنية و ندم أمنية أن يظل البطل حيا، و أن يخرج الجار السلفي من الأحداث، و ندم على ذلك المصير المحتوم الذي اختاره لبطل القصة. أليس ما تقدم تمردا حقيقيا على تقاليد القصة، يشي بأن الكاتب سئم القوالب الجاهزة و النمطية، و يسعى إلى تغيير بدأه بالفعل من خلال صياغة نص مغاير للمألوف.

وقفة مع المضمون

  و إذا تأملنا مضمون القصة و المعاني الخبيئة التي ضمنها الكاتب بحرفية عالية بين طيات نصه. فإننا سوف نكتشف أن الكاتب إنما رسم صورة مصغرة للمجتمع المصري، و أن الشقة المغلقة أمام البطل ما هي إلا الوطن ذاته، فالشقة هنا هي مكان المبيت و الملاذ الذي يلوذ به البطل من التشرد، و الذي يقيهمن المبيت على السلم، أو الانتقال إلى شقة صديق، أو قضاء الليل في مقهى من المقاهي. ألا يوطئ ذلك للرمز؟!فالوطن في المقابل هو الحاضنة الكبيرة لجموع الشعب، و البطل/ نموذج للمواطن المصريصاحب الأرض، الذي يحرص على مشاهدة برنامج صباح الخير يا مصر لا لشيء سوى انتقاد  الحكومة، و المذيعات. البطل، الذي أشار الكاتب في إشارة ذكية إلى إنه الوارث الأصلي للشقة، نجده مأزوماعاجزا لا يستطيع الولوج إلى داخل شقته بفعل فاعل، فها هو المفتاح و الكالون يعاندانه، في إشارة إلى المشكلات و الأزمات التي يواجهها المواطن المصري. البطل هنا ينتظره مصيرا معتما ألا و هو الموت، بينما هو يهلك نفسه بالتدخين الشره، الذي يرمز إلى بلوغ البطل/ المواطن ذروة اليأس و الإحباط من واقعه المعيش، و هو أيضا مطارد بذلك الجار السلفي المستغل، الذي يحاول إزاحة البطل عن شقته/ الوطن، بدعوى الشك، و خشية أن تعشقه زوجته في إشارة إلى الأفكار الرجعية، التي لا تستند إلى اليقين، بل يبنى معظمها على الهواجس و الظنون، و سوء الفهم. ذلك السلفي الذي يرمز إلى تيار يسعى إلى احتلال و سرقة الوطن برمته، و هو في إشارة ذكية من الكاتب يملك المال، و الوقت، بينما البطل نجده يتخبط ينتابه التردد و القلق بعد موت أمه، التي تحمل دلالة الأمن و السكينة و الخصب و الدفء. و في نهاية هذا الجزء من القراءة أهنئ الكاتب أ. سيد الوكيل على هذا العمل الرائع، متمنيا له مزيدا من النجاح و التوفيق.

ثلاثة فخاخ لذئب أعور ..قصة : محمد سرور

يدنو فيسمع عواءً ضعيفًا متقطعًا, يتصاعد من خلف أحد الكثبان الرملية, يرفع بندقيته ويصوِّبها وينتظر.

يعدو فيقع, ممسكًا بساق مقضومة, والدم ينفجر ويجري كشلال صغير أحمر فوق الرمال الذهبية, يتألم ويصرخ, وذئب يتقدم ببطء خلفه, يبكي وينتحب, والذئب يصل إليه, يدوخ ويسقط, والذئب يحدِّق فيه بعين واحدة, قبل أن يرفع رأسه عاليًا, ويطلق عواءً طويلًا.

استمر في القراءة ثلاثة فخاخ لذئب أعور ..قصة : محمد سرور

عشر بيضات سمان، قصة: صموئيل كرومر

كانت والدتي تستنكر بشدة تبذير النقود في شراء البيض، كانت تقول: ” ٦ فرخات في السطوح ناكل بيض طازه كل يوم”. وفي أحد الأيام اضطرتها الظروف لشراء بيض. أرسلت مرسال لأم نادر بياعة البيض فحضرت على عجل، وبعد حوار طويل من الفصال والقرع على الصدور والتعجب ويا لهوي وهي الدنيا جرى فيها إيه، تمت عملية الشراء، ولكن أمي لم تنسَ أبدا في الأيام اللاحقة أن تقص على كل من تقابله الفاجعة الكبرى وهي أن البيض الخمسة صاروا بسبع قروش.

تذكرت هذه الواقعة وأنا عند تاجر البيض اشتري عشر بيضات، و لأن البائع ماكر و خبيث شأن كل البائعين فلقد أورانى فى يده أربع بيضات غلاظ، سمان،  يتمتعن بقاعدة عريضةو مقدم دقيق، فحسبت بأن العشرة سيكونن هكذا و منيت نفسى بطعم شهى و إرواء للفؤاد و شبع للجسد.

كل يوم أسلق واحدة فى ماء مغلي – بدون إفراط – فتصبح بضة و طرية، يانعة و شهية، تلين فى الطبق على جانبها غير عصية فأشبع بالهناء و أتجشأ بالرضى .

و حدث في يوم أن بحثت عن السمين فلم أجد إلا الرفيع و الذى لا يظهر منه مقعدة ولا مقدمة، وعادة يطلقون عليه فى بلاد الصعيد الكحروت. لعنت فى سرى البائع و وضعت واحدة فى الطبق حتى أجهز الماء. سمعت صوتا يقول ..” لن تلمسني.. نجوم السماء اقربلك منى”

 إبتلعت ريقي و تلفت أبحث عن الصوت فهالني أن الكحروتة تتدحرج داخل الطبق وهى تنطق بصوت متحدى و متحفز .. ” أنا .. أنا هنا يا أبو عين فارغة ياللى بتحب التخان” .. إبتسمت و قلت لها : ” طيب خليكى مكاني و احكمي أيهما أشهى السمينة المدملجة الطرية المربربة ولا الناشفة المعضمة التى لا يرجى منها شبع؟”

قالت ” ذوقك وحش و عقلك فارغ كلنا فى النهاية بيض .. صفار و بياض وقشرة غيرش بس فى مننا الحشو الفارغ عندهم كتير”

قلت ” طيب و العمل دلوقتى إيه “

قالت ” لازم تعتذر ..”

 قلت ” أبدى الندم و أقدم الأسف على غلطتى فى حق الكحروت ….سورى قصدى البيض”.. ابتسمت أساريرها و رق صوتها و تدحرجت إلى الجانب الأخر و قالت ” خلاص سامحتك يلا مد ايدك واشبع ….يا ابو عين زايغة”.

  • البريد الإلكتروني : SAMUELKROMAR@YAHOO.COM –

باتجاه سيد كريم الأهل. قصة: عبد العزيز دياب

عبد العزيز دياب

تحققت اللحظة المنتظرة فى مشهد مرعب كما وصفه بائع بوظة، انفلتت شجرة تركض بتجاه سيد كريم الأهل وحطت بجواره، هل كان سيد بحاجة إلى ظل لتركض إليه شجرة؟

 الحقيقة أن عشر مظلات ركضت إليه عندما استشعرت أنه بحاجة إلى ظل، كانت منشورة كأنها تقي كائنات وهمية من حرارة الشمس، سردها وتخير منها الرشيقة المتينة ذات اللون الأصولي الرهيف لتكون مظلته.

المشكلة الحقيقية تتمثل فى صاحب المظلة الرشيقة المتينة ذات اللون الأصولي الرهيف، اشتراها حديثا من بائع سَمِجْ بعد أن أجرى عدة عمليات حسابية أيقظت فى مخيلته بناءً شامخاً مكتوب على واجهته بالخط العريض عبارة “أنت مُفلس”، لكنه فى خطوة جريئة اشتراها، وبدل أن ينشر كيانها المحترم فوق رأسه من حر الشمس احتضنها بمشاعر أبوة خالصة.

رجل من دون كل البشر احتضن مظلة فى مشهد عبثي مستفز، كان يشبه عرب “الحطاطبة”، أولئك الذين يبنون بيوتاً شاهقة وينامون فى الطَلْ، يبدو أنه أحسن صنعاً، فقد تململت المظلة وهي محشورة بين صدره وذراعيه، صدره الذى صار ضيقاً حرجاً من كثرة الديون، ومتطلبات العصر الحديث، مسايرة دفقات الهواء المحملة بالشتائم من بشر وقحين لا يعرفون إلا اللغة المبتذلة.

تململت المظلة، فى حركة حثيثة حاولت الإفلات، أحكم حصاره عليها، تَذَكَّرَ عملياته الحسابية المرهقة، وباتت معركة شرسة حامية بينه وبين مظلته. تكونت حولهما حلقة من بشر، وباعة جائلين، أفندية يهتفون ويطلقون الصافرات لتتأجج روح المعركة، تزاحم حول المكان قطط وكلاب،حمير وبغال، سيارات وتكاتك كانت موصومة بمشاعر الدونية.

ما كان الرجل يتصور أن مظلة، مجرد مظلة سيكون لها النصر والغلبة فى حادثة غير مسبوقة فى تاريخ البشرية، وتاريخ المظلات كذلك، ربما انضمت قوة خفية مارقة إلى معسكرها. انفلتت المظلة فى شراسة وجرحت يده، أخذت معها قطعة من قميصه، وخصلة من شعر فتاة فى طريقها، انطلقت باجاه سيد كريم الأهل.

ولما كان لسيد كريم الأهل ما يشبه كرامة أولياء الله الصاحين، تَحَتَّمَ على رئاسة الحي أن تبني له مقاماً يحج إليه الدهماء والبسطاء والباحثين عن ظل، مقاماً يذكرنا برجل كان الشجر يسعي إليه سعياً، والكراسي، والطاولات، والمظلات.

أي قطعة من أرض الحكومةتصلح، سواء كانت مقلب قمامة، أو ملتقي عفاريت يمارسون لعبة الغميضة، أو ساحة لممارسة التوحد والرزيلة، مع تمام البناءيقام له مولد بكل مفرداته الثرية: زفة، بيارق، طبول، خيام، رقص بالسوف، حواة، أكل ولعة: مدد.. مدد، فقد انفلتت باتجاهه عربة كبدة اسكندراني، وجميلة تمنح المراهقين والشباب فرصة حقيقية للغزل، وسيارة جيب شروكي خرجت من الأجانص بكل رونقها، وبلياتشو استعرض أمامه فقراته المبتذلة الضاحكة، ورئيس الحي، وثري عربي بحقيبة متخمة بالدولارات.

كل هؤلاء انفلتوا إليه، ولم يكن أمامي إلا أن أخوض رحلة قاسية أتعلم خلالها كيف أكون سيد كريم الأهل.

دليل الخيانة، قصة قصيرة جدا، بقلم: سمير عبد العزيز

منذ ساورته الشكوك بأن زوجته تخونه عرف الليالي القاسية الطويلة التي لا يغمض له فيها جفن وهجر النوم مضجعه وداهمه الأرق وتملكه القلق وبدا عصبيا عالى الصوت ،ضيق الصدر متجهم الوجه وكأنه على وشك قتل أحدهم  وتبدل حاله فلم يعد يهتم بمظهره وهندامه حتى اللحظات التي يغفو فيها يضطهده نومه فينهض مفزوعا .

لم يتوقف عقله عن التفكير لحظة واحدة حتى كاد أن يجن ولم يكف عن تصفح ملامح أبنائه وتضاريس وجوههم ويطابقها بملامحه وتضاريس وجهه ويرصد طريقة كلامهم وإيماءاتهم لعلها تميط اللثام عن الشيء الذي يبحث عنه وهو أنهم أبنائه من صلبه .

مضت الشكوك تقضمه قضما فبدا مهموما شاحبا وأضحت عيناه محتقنتين تحوطهم هالات داكنة وأصبح يقضي جل وقته في البحث عن أدلة خيانتها فأضحى يراقبها وهي تأكل وهى تتحرك وهى تضحك وهى تختار ملابسها واكسسواراتها ويفتش فى هاتفها وحقيبة يدها وخزانة ملابسها ومقتنياتها الشخصية.

لاحظت الزوجة ما طرأ عليه من تغير فى نمط سلوكه وما بدا عليه من شرود وهزال زفرت بغضب قائلة له : هل أقلعت عن تناول دواء الإكتئاب ؟

مختار القرية، قصة: أسماء محمد

قصة قصيرة

في إحدى القرى النَّائية، أصبح السَّواد زِيًّا رسميًّا لنسائها، يعوي نحيبهنَّ بعد كلّ حادثة معلنًا
تجديد حزن لا ينقطع، يجتمع الرِّجال في دار عمدتهم على أمل إيجاد طوق نجاة يخلّصهم ممَّا
حلَّ بقريتهم، يستمرُّ جدالهم ساعات من دون فائدة. منذ شهرين، يستيقظ أصحاب القرية كلَّ
صباح على جرم جديد؛ سرقة، قتل، حرق، اختفاء شابٍّ من زينة شبابهم، والفاعل دائمًا
مجهولٌ، هكذا يسجَّل في دفاتر النّيابة. في آخر اللَّيل تنطلق أصوات مرعبة مجهولة المصدر،
تستمرُّ حتَّى مطلع الفجر، يعبث الرُّعب بأرواح الجميع، أمسى النَّاس يهابون الخروج من بعد
صلاة العشاء.
وفي صباح يوم ماطر بدأَ الاجتماع في دار العمدة بمواساة سويلم الَّذي استيقظ ليجد مواشيه
نافقة في (الزَّريبة)، ولمَّا آل الحديث إلى الشَّيخ إبراهيم إمام المسجد، قال بعد تقديم المواساة:

  • عودوا إلى الله عباد الله، لعلَّه ابتلاء جراء ما نقترف من ظلم نفس أو قطيعة رحم.
    امتعض الأستاذ بكر معلم الصِّبية؛ فتساءل مستنكرًا:
  • هل نترك البحث عن الجاني ونعتكف في المساجد يا شيخ إبراهيم؟!
    ارتفعت الأَصوات بين مؤَيِّد للشَّيخ ومُسْتَنكر عليه، حتَّى قطع الجدال عمران شيخ البلد، الَّذي
    لفت الانتباه بغلظة صوته وضخامة جسده، وهو يقتحم النَّاس قائلًا:
  • واحد فقط يعرف السر وراء الجرائم كلها، معه الحلُّ حتمًا ولا بُدَّ.
    تعالت الهُتافات مُستحِثَّةً شيخ البلد على الإفصاح عن قصده؛ ما جعله يصمت هنيهة قبل أن
    يقول بصوته الأجشّ:
  • مختار المندوه.
  • المجذوب؟ الَّذي يبول على ملابسه؟ هه! أَتَهْزَأُ بنا يا شيخ البلد؟!
    قالها الأستاذ بكر ساخرًا.

2
ضجَّ الحاضرون، ترك الشَّيخ إبراهيم الاجتماع ساخطًا بعد أن اتّهم عمران باختلال قواه العقليَّة
والدِّينيَّة.
فابتدرهم عمران مدافعًا عن فكرته:

  • منذ شهرين نعيش في عذاب؛ يد خفِيَّة تقتل وتسرق وتُخفِي!
    يسكت قليلًا مفسحًا لهم المجال لتدبُّر كلامه، ثمَّ يستأنف وقد توجَّه بنظره نحو العمدة:
  • لم تصل الشُّرطة إلى شيء حتَّى الآن. أَنسِيتُم مختار وكراماته؟
    ثمَّ يُعاوِد إجالةَ نظره في الحضور وهو يتنقل بينهم بخِفَّة طائر يحلِّق بمهارة.
  • نسيتم العام الماضي يوم أخبركم بمن أحرق القصب؟
    ولم تلبث أن انطلقت ضحكة ساخرة من فم بكر قبل أن يقول:
  • لا تبالغ، هل خَفَّ عقلنا يا شيخ البلد؟!
    همَّ عمران بالردّ عليه، فقاطعه أحد الحاضرين قائلًا:
  • يوم اختفاء حفيدك يا حضرة العمدة، من دلنا على مكانه؟ لولا مختار ما كنا عرفنا أنَّه
    عالق في التّرعة عند الجسر الغربيّ!
    نظر العمدة بتعجب وحيرة دون أن ينطق بحرف، وكأنَّ الرَّجل قال شيئًا لم يعرفه العمدة إلَّا
    الآن!
    أضاف آخر مدللًا على كرامات المختار:
  • ولماذا غضب الشيخ إبراهيم؟ نسي يوم دلَّه مختار على من سرق حذاءه من قدام
    المسجد يوم الجمعة؟
    حاول شيخ البلد أن يُخفِي ابتسامة نبتت على شفتيه الغليظتين، احمرت عينا بكر غضبًا، فقال
    وهو يغادر المجلس:
  • يبدو أن عقل الجميع قد خفَّ؛ ذهبت الجرائم بعقولكم! لله الأمر!
    زاد الصَّخب، وانقسم النَّاس بين مؤيد ومعارض، ومندهش يترنَّح بين التَّصديق وعدمه.

3
عند السَّاقية القديمة الرَّابضة شرق الجسر يجلس مفترشًا الأرض بجوار عُشَّته، مسندًا ظهره
المقوَّس إلى جذع شجرة الكافور العتيقة، يأخذ شعره الأكرت فوق رأسه هيئة كومة التُّراب
مُشكِّلًا عِمامةً سوداء، وتبتلع وجهه لحيةٌ كثيفةٌ لم ترَ الماء منذ أمد، تتناثر بضع ثآليل على
وجهه ورقبته، يستقرُّ أكبرها فوق أنفه حتَّى لتخال أنَّها ذبابة تقف عليه، يرتدي جلبابًا رقيقًا
رغم برودة الجوّ، يتمتم بأناشيد يحفظها عن ظهر قلب، وفي يده قطعة خبز يقضمها تارة وينظر
إليها تارة أخرى، ويحدّثها كجليس يأنس بصحبته.
قطع على المختار حديثه مع قطعة الخبز، الخفير يقف محافظًا على مسافة تفصل بينهما؛ هربًا
من روائحه المنتشرة في المكان، ينظر إليه متمتمًا بحذر: «كانت جدَّتي تقول دائمًا: (يوضع
سرَّه في أضعف خلقه) لكن هل يضعه في أقذرهم؟!». طلب الخفير من مختار السَّير معه، فنهره
ملوحًا في وجهه غير آبِهٍ بما يقول، فكَّر الخفير في استخدام القوَّة، ولكنَّ المجذوب أمسك
(عِرقًا) كان بجانبه، وانطلق نحوه كنَسرٍ يعلم وجهته، فرَّ الخفير ليعود وبصحبته ثلاثة آخرون،
ربطوا المجذوب كفعلهم بدابَّة يخشون فرارها، وانطلقوا صوب دار العمدة.
دخل الخفر، يدفع كبيرهم مختارًا بعد أنّ فكَّ أغلاله، تتعلَّق العيون به وقد انكمش جلده وخمدت
ثورته.

  • صحيح أنت تعرف الجاني ابن الحرام يا مختار؟
    قالها العمدة ساخرًا.
    تمتم مختار بكلماتٍ غير مفهومة، طلب منه عمران أن يستريح، لكنَّه لم يُحرِّك ساكنًا، فقال
    الأخير:
  • قل يا مختار! من حوَّل قريتنا إلى جحيم؟!
    طال صمته، وآذان الحضور معلَّقةٌ بشفتيه المرتجفتين، ثمَّ انطلقت الهتافات:
  • إن كنت تعرف حاجة قُلها يا مختار.
  • ما تخاف يا مختار، تكلَّم.
    يتفرَّس في وجوه الجالسين كمن يقرأ دواخلهم، ثمَّ يعود لتمتمته غير المفهومة دون أن ينطق
    بذات شفه.

4
اقترب شيخ البلد من العمدة، همس في أُذنه، ثم انسحب بصحبة مختار الذي سار معه دون
اعتراض أو ضيق، عاد بعد ساعة ليعلن للجميع نتيجةَ حديثه مع المندوه، يمطر الحاضرون
عمران بتساؤلاتهم، يتردَّد الأخير قليلًا قبل أن يقول:

  • الأستاذ بكر هو سبب الخراب.
    هاج النَّاس وارتفع ضجيجهم، صاح أحدهم مستنكرًا:
  • بكر معلم فاضل، منّا وعلينا، نأمنه على أولادنا!
  • الأُستاذ بكر طيّب وأمينٌ، كيف يتآمر علينا؟!
    تشابكت الأصوات، فلا يكاد أحد يتبين حرفًا، هتف عمران:
  • صدمت مثلكم، لكنَّه وجه مزيَّف يداري به ألاعيبه.
    صاح سويلم كأنَّهُ أتى بالدَّليل:
  • دائما أراه يقرأ في كتاب على القهوة، ولمّا سألت ابني، قال لي.. ماذا كان اسم الكتاب يا
    سويلم؟ آه (كيف تصبح ملهمًا)، يعني إيه “ملهمًا” يا حضرة العمدة؟
    امتعض العمدة، أشاح بِيده ساخطًا، سحب نفسًا من شيشته، نفثه متأفّفًا، وقد اربدَّ وجهه:
  • من غير سؤال يا سويلم، واضحة!
    بدأَ عمران يسوق أدلَّة على اتِّهام الأستاذ تؤكد عمله في الخفاء مع (هجامة) الجبل مستغلًّا
    مكانته، فانطلق النَّاس غاضبين نحو بيته، حاول الشَّيخ إبراهيم احتواءهم، لكنَّ غضبهم كان
    أكبر من أيِّ محاولة للتهدئة، أصرُّوا على طرده، خرج بكر بأهله ليلًا تاركًا القرية، شيَّعه
    صغارها رميًا بالحجارة!
    بعد رحيله ساد الهدوء، وترسَّخ اقتناع أصحاب القرية بكرامات المجذوب الَّذي أصبح مختار
    القرية وقوتها الخفية، وأمست عشَّتُه مزارًا يقصده كلُّ حائر، أمَّا عمران فغدا الوسيط الوحيد
    بينه وبين الجماهيرِ.
    في الجمعة الأُولى من رمضان، ازدحم المسجد لأوَّل مرَّةٍ منذ أمد، فاستغلَّ الشيخُ إبراهيمُ
    اجتماع النَّاس، وحدَّثهم عن الشَّعوذة والمشعوذين، أصغى المصلُّون لكلام الشيخ، فيما توجَّهت
    أعين بعضهم نحو عمران الَّذي يجلس في زاوية المسجد ينظر إلى الشَّيخ محدِّثًا نفسه:

5
«تظلُّ مهمَّتي ناقصة إن لم أتخلَّص منك..!»

عبير سليمان، تحدق في ما وراء القص

                                  

منذ حوالي اثنا عشر عاماً ، كنت أبحث في مكتبة أخي عن كتاب شيق يزيح عني الملل ، وجدت أمامي على الكومود مجموعة صدى النسيان لنجيب محفوظ ، لم أكن قرأت له إلا بين القصرين ، وعند دخولي لعالم قصصه القصيرة سخرت من نفسي :” أمن سذاجتك تريدين البدء من قصص جملها ملغمة بالرمزية ، لدى وصولي لقصة معركة في الحصن القديم لم أكمل وأغلقت الكتاب ، لكن بقي بداخلي فضول لعين يلح علي أن أعرف مصير العسكري ” أبو بيادة” الذي أخذ على عاتقه مصارعة العفاريت المختبئة في الحصن القديم والتي تنشر الذعر في نفوس أهل قريته !

ثم بعد سنوات علمت أنها من المجموعات التي كتبها في عقده الإبداعي الأخير ، واندهشت أكثر بأنه اختتم مسيرته بنصوص أشد غموضاً ” أحلام فترة النقاهة “، وأكثر إرباكا للقارئ إن لم يكن سبق له الإطلاع على أعمال محفوظ السابقة ، في هذه المجموعات وصل أديبنا لأعلى مستويات الرمزية ، كأنه أراد أن يثبت لنا أن الأديب يظل في حالة صراع مع حالة شغفه بالكتابة ، ولن تفارقه أبداً مادامت به أنفاس تحييه ، يظل حتى الرمق الأخير عاجزاً عن مقاومة رغبته العارمة بتطوير أدواته وترك إرث يخلد سيرته من بعده ، رغم كهولته والطعنة الغادرة التي تلقاها وأصابت ذراعه ويده إلا أن محفوظ تخطى كل المعوقات ، وترك لنا نصوصاً كلما قرأنها نشعر أنها تتجدد ولا تبلى أبداً فهي في كل قراءة تضيء ذاتياً وتمنحنا معنى جديداً يبرق في أذهاننا ، وعندما تقرأ بعض القصص القصيرة جدا في صدى النسيان مثل “ليلة الزفاف ” ستجد أنه وضعك شريكاً له في القصة ، كأنك عدت بالزمن للخلف طفلاً صغيراً وأمامك لوحة “بازل” ينقصها قطعة أو اثنتان ، وعليك أنت أن تضيف من خيالك لتكمل اللوحة ، ويمكنك أن تلونها على هواك ، فالنص مفتوح على مصراعيه للتأويلات.

لا أبالغ إن قلت كأني كنت أسمعه يقول أثناء روايته للحكايات الأشبه بلوحات فنية سريالية ، مادمت تسعى للمعرفة فلابد أن تتعب وتبذل قصارى جهدك ، ألا تعلم أنك كلما شقيت من أجلها كلما اتخذت مكاناً ثابتاً في عقلك ووجدانك ، بعكس القصص السهلة المباشرة؟ وماذا يكون تعبك يا بني مقارنة بما واجهته من حروب وما نزفته من دماء ، وهل تريد من رجل كهل أنهكته الحياة أن يمنحك في أيامه الأخيرة خلاصة تجربته على طبق من ذهب ؟”

إن القصص القصيرة جدا من أصعب أنواع الكتابة على الكاتب والقارئ معاً ، فالكاتب يصيغ من كلمات قليلة وجمل قصيرة حكاية كاملة ، محتفظاً لنفسه ببعض الاسرار وجزء كبير من المضمون ، ليضع القارئ في حيرة وحالة من الارتباك ، وحتماً سيعيد قراءتها عدة مرات ليتأكد هل أدرك المعنى وراء النص الأقرب للغز أم لا ، وهل أستطاع فك شفرة الرموز أم لا .

ربما هذا ما يجذب قطاع كبير من القراء لهذا النوع من الأدب ، والقارئ الذي يحب لعبة التحدي وفهم الألغاز هو الذي يحقق النجاح لهذه القصص ، حيث يشعر أنه في تجربة أقرب للمغامرة الأدبية الشيقة ، هو يلعب مع النص وكاتبه كأنه أمام رقعة شطرنج .

ومع ظهور جيل جديد من الكتاب ، استمر هذا النوع وتطور ، وانتشر بين عدة أدباء من جميع أنحاء الوطن العربي ، لذا فإن الكتابة عن هذه الظاهرة يحتاج إلى صفحات وصفحات .

إذا انتقلنا من صدى النسيان لنجيب محفوظ إلى أحلام فترة النقاهة ، نجد من ضمن النصوص نصاً يخايل قارئه وهو “الحلم 11″ الذي رأى فيه امرأة مستلقية على ظهرها تحت نخلة على شاطئ النيل ، عند جملة ” أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم أدركت فوراً أن المرأة رمز لمصر التي تناوب عليها عدة حكام وحاشيتهم ، جيل وراء جيل كل منهم ينهب ما ينهبه ويتركها ضعيفة ، وأهلها يصف حالهم هنا بأنهم في غفلة ، نائمون نومة أهل الكهف ، وهنا هو يرى نفسه يحاول الصراخ طلباً للاستغاثة لكن صوته لم يخرج من فمه ، هو هنا يشعر بالمسئولية عما يراه لكنه يشعر بالعجز فهو رهين شيخوخته ومرضه والعصابات تتصارع ، ما بين عصابة محيطة بالحاكم وعصابات أخرى ترتدي الجلابيب القصيرة تحمل سيوفاً وبنادق تشهره في وجه من يختلف معهم ، تكفره وتقتله دون رحمة ، وطبعا هناك عصابات تعمل تحت رعاية هؤلاء وهؤلاء ، وهم عصابة الفاسدين واللصوص والنشالين والهجامين ، يستغلون حالة الفوضى لصالحهم ، والكل يتصارع وبعد الضرب وسيلان الدماء يطلبون منه عمل المستحيل ، وهنا يظل مصير المرأة مجهولاً ، ونجدها تختفي من المشهد لتخيم حالة رعب شامل !

وإذا انتقلنا من عصر محفوظ لأدباء معاصرين ، مؤخراً قرأت نصا بديعا لأستاذي سيد الوكيل “موعد غرامي ” عن رجل ينتظر حبيبته ، لنفاجأ بأنه يعيش تجربة الانتظار والشوق في خياله ، المدهش أنه يرى من حوله فتياناً ينتظرون فتياتهم وهو واحد منهم ، وعندما يصف لنا مشهد حببته وهي تهبط درجات السلم ، نراها فتاة فاتنة ، تتعثر وتوشك على السقوط لكنها تتمالك نفسها وتبتسم ، إلى هنا نحن أمام لوحة تنبض بالحيوية والحركة والإغواء والدلال ، لكن عند وصول القصة إلى الجريدة التي أمام البطل مفتوحة على صفحة الوفيات نتفاجأ بأن من ينتظر ويحكي لنا ما يراه هو رجل كهل ، إنما تداعبه خيالات عاشق ، ذاق الحب وهي شاب ومازال خيال محبوبته يخايله ويهون عليه آلام وحدته .

لأكمل مطالعتي لنماذج مختلفة من هذا النوع من القصص ، انتقلت إلى الكتاب الشباب ، فوجدت نماذج بديعة للقصص القصيرة جدا ، مثل تجربة طارق إمام ” أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها ” ، التي تتنوع ما بين متلازمة الحياة والموت ، العلاقة بالزمن ، كيف يتعامل معه كل من الأب والابن مثل أقصوصة “موت الأب” ، ونرى كيف يتمنى الابن لكي يفهم أبيه وكيف يفكر يتمنى لو عاش في زمنه ليحصل على نفس خبرته ،  وهناك أيضاً علاقة الحيوانات وكيف تتفاعل مع المدن التي تحيى فيها ، ففي “كيف تربي المدينة كلابها ” نرى بأسلوب ساخر وصفا مدهشا للفارق بين الكلاب في المدن الكبيرة ومثيلتها في المدن الصغيرة ، في جملة واحدة نرى إسقاط أو تلميح أن كلاب المدن الصغيرة تشبه الأهالي الذين يقيمون فيها فيقول ” في المدن الصغيرة لا تفوت الكلاب فرصة للانتقام “، لكنها أيضا تكون لتلتهمها القطط ، أي أنها جبانة وعاجزة عن حماية نفسها ، بينما في المدن الكبيرة ” الكلاب تعرف ماذا عليها أن تفعل لتعيش طويلاً.

كما وجدت بعض النصوص المميزة والغارقة في الرمزية في مجموعة فانتازيا الحب والحرب لمحمد حسني عليوة ، وبمطالعتي لهذه التجارب وغيرها رأيت أن القصص القصيرة جدا تلقى قبول قطاعٍ ليس كبيراً من القراء ، لكنها تستهوي من يرغبون في الدخول إلى اللوحة كشريك فاعل ، له دور في إكمال المعنى الذي احتفظ به الأديب لنفسه .

قصة: تأوهات إمرأة. بقلم: محمد زين صبري



……………………………………………………………………………
زريبة شملول..
انطلقت كالسيل تركض خلفه…أشاحت بذراعيها لتضيق عليه عبوره من الحارة الضيقة… مددت ذراعيها في الهواء وانحنت تقتنصه مرق من بين فخذيها بسبب ساقيها المنفرجين لكنه تعثر في ثوبه وتكوم خلفها فتكومت فوقه، أطبقت بأسنانها على كتفه، أخذ يصرخ وهو يشيح بذراعه محاولا الخلاص منها، هوت بيديها على صدغه ثم كدمته بين ضلوعه ورفسته بعرقوبها بين فخذيه، أخذ يسعل ويبصق دما من حلقه…عانقها متوسلا.. أمسكت بياقته وجرجرته خلفها..جاءت بأخته الصغيرة ووضعتها في حجرة واختلسته بنظر محذرة أن يتركها ويذهب ليلعب….
أشعلت الوابور ووضعت فوقه الإبريق، تركته ودخلت خصها وحجرها مملوء بحبوب الذرة تملأ فمها بالحب ثم تفتح بأناملها منقار البط وتنفث في فمه بالحب حتى تنتفخ صدوره ثم تكرر ذلك بالماء… تتحثث صدر البط وتلقيه داخل الخص.. دفس ذكر البط منقاره بين نهديها كان منقاره باردا أحست بقشعريرة تسري في جسدها تمنت لو بقي بمنقاره مدة أطول لكنه انتزع منقاره ودفسه في حجرها المملوء بالحب، مرق ذكر البط من حجرها خلف بطة كان يطاردها أخذ يعدو خلفها وهو يبح…. كانت الأخرى تبح وكأنها تستغيث من فحولته توارت منه أسفل (العشه) أخذ يمط عنقه يمينا ويسارا باحثا عنها ، سرعان ما أدركها فهرول خلفها وتسلقها وهي مسترخية تحته، أخذ بمنقاره يضغط على رأسها فأرخت وإستسلمت لهياجه , أرقدت خدها على راحة يدها تتأمل المنظر….،وضعت يدها بين شق نهديها وأخرجت زجاجة حقن (بنسلين) مملوءة بالكحل ومررت المرواد بين جفنيها أرجعت الزجاجة الي مرقدها، وأخرجت قطعة مرآة صغيرة ونظرت إلى عينيها المكحلتين وإلى شفتيها الغليظتين فأطبقت عليهما وأسبلت عينيها على رغبة توحشت من الحرمان ، تسلل الصغيرخارج البيت مغافلا وجودها في الخص… أسلم ساقه للريح حتى وصل إلى الترعة رأه الصغار خلعوا ملابسهم وتراشقت أجسادهم في الماء تجرد هو الآخر من ملابسه وهو ببدنه في الماء غاص طويلا ثم خرج ووجهه مغمور بالطين لاصطدامه بقاع الترعة رج وجهه بالماء تحثث بدن صاحبه الطري المبلل ثم حواه بين ذراعيه ألصق البطن بالظهر وأخذ يتراقص تجلجل ضحكاتهم الماء انفلت ثانية ثم غاص في الماء و غاصوا خلفه……. أخذ البخار يتصاعد من الإبريق وسرعان مايتلاشى أثر امتزاجه بهواء السقيفة الطري وصفير يخرج من أجناب غطاء الإبريق المتراقص يحيى الصمت المطبق على المكان …
أخذت تحبو تحاملت الصغيرة بذراعيها على ركبتيها محاولة الوقوف تطاولت يدها على الإبريق فانسكب انكفأ الوابور على أجنابه وأخذ يقطر الجاز من محبسه تحول إلى كتلة نار ملتهبة…صرخت الصغيرة… هرولت من خصها على دوى الصراخ تطاير الحب من حجرها، كما تطاير البط من الخص، سكبت الماء على الوابور بصعوبة أطفأت النار…. عادت تبحث عن صغيرها ظنت أنه يختبئ في ذريبة شملول قذفت الباب بقدمها حتى وصلت إلى (الشونه) المملوءة بالتبن…. وجدت شملول يقبض بأسنانه على طرف الجوال وبيده يمسك الطرف الآخر وباليد الأخرى يزيح التبن في حلق الجوال المظلم، رمق الكحل في عينيها.. تذكرت الكحل والمرآة الصغيرة بين نهديها.. تذكرت ذكر البط سقط الجوال من يديه قذف باب الشونة بمؤخرة قدمه..عتمة حلت بالمكان لا تكاد تبصر لكنها تحس بهدير أنفاسه اللاهثة.. ركض أشياء تتكسر..
عنف.. بعد لحظات خرج يلهث وخرجت تتصبب من العرق….عادت الى البيت تترنح ككيذان الذرة تراقصها الرياح تحاملت بثقلها على الطبلية…. شبت فوقها ومدت يديها في جوف (الجرة) المعلقة في منتصف السقيفة وأخرجت السكين وهرولت إلى الخص.. نظرت الى ذكر البط . ذبحته. دماء كلون الشمس المريضة عند الغروب.. . أخذ يتقافز رغم انفصال رأسه عن جسده… غرست السكين في الدم المتراشق على الأرض فانطرح ساكنا، ثم انحدرت إلى البطة أخذت تركض بقدميها ضغطت بفخذيها على صدر البطة وأمسكت رقبتها ومررت السكين، ودت لو تذبح كل كائنات الدار قذفت السكين فوق الخص كما قذفتها في (الطشت) وأخذت تنتف ريشها.. أخرجت المرآة من صدرها ونظرت إلى وجهها آثار أنياب في رقبتها وتلطخ وجهها بالكحل الممزوج بالدموع ودت لو تنفجر بالبكاء…دخل يتسلل بثوبه المبلل رآها تحوي (الطشت) بين فخذيها التصق بالحائط ونظر إليها بعينين نادمتين، ابتسمت بمرارة أسرع وارتمى بين ضلوعها انفجرت بالبكاء وهي تدفن وجهها في رأس ابنها المبللة بالماء الممزوج برائحة السمك والطحالب

حراج البشر. قصة: فكرية شحرة

(عشرات العيون الشاخصة تحدق في سيارة النقل الصغيرة وهي تقترب بسرعة من التجمع البشري المشعث المغبر, قد
تكومت الأجساد تسند بعضها كقطيع بشري يخشى نهش البرد القارس في الصباح الباكر, قبل أن تحاول شمس الشتاء إزاحة
الصقيع.
يحاول بعضهم تبديد شحنات الترقب المشحون بالقلق ببعض العبارات الطريفة التي تنتهي بحشرجات ضاحكة.
رغم المعاناة مازال هناك رغبة في الضحك المكتوم يتكسر من أفواههم قلقاً وبرداً, يتبادلون أخبارهم غير السارة كأنها تخص
سواهم, ويسخرون من قسوة العيش بالنكات البذيئة في إخلاص الزاهدين.
لم تكن في نظرهم سيارة نقل كادحة، ستأخذهم إلى مزيد من الشقاء والكدح والمعاناة تحت الشمس اللاهبة في حر الظهيرة
بعد صقيع الفجر، بل كانت كف ممدودة بالأرزاق ظلوا يحلمون بها طوال الليل ويسألون الله أن يكون لهم فيها نصيب.. كانت
في عيونهم طوق النجاة لمقارعة الجوع والبرد.
وصلت السيارة، أو كادت تصل، وقبل أن تتوقف عجلاتها المهترئة, هب طوفان البشر المتلهف متقافزاً في هجوم جماعي
يشبه التعلق بقشة في عرض بحر هائج حتى غرقت القشة تماماً تحت الأجساد المتراكمة عليها في أمل، وتوقفت العجلات
مكرهة من ثقل الحمولة البشرية المتزاحمة والمتدافعة فيما بينها..
كانت التهاني بين أكوام البشر بمناسبة قدوم العربة شتائم لا حصر لها وسباب بالألفاظ النابية مع إلحاقها بالقاب ساخرة
وهازئة, وضحكات قلقة غير مطمئنة تترقب من سيبقى على ظهر المركب ومن سيلحق بصاحب الحوت في عرض البحر..
صوت باب السيارة وهو يصفق بقوة ألزم الجميع بالصمت المتوجس..!!
وقف الرجل الذي خرج من السيارة بلا مبالاة كمن تعود موقفا مماثلا ولم يعد يهزه كثيراً التصرف حياله.
وبنظرة فاحصة وشاملة ينتقي الرجل صاحب العمل من جموع العمال مجموعة معينة, كان ينتقي الأقوى بنية والاًكثر شباباً
ومرونة، ثم يصرخ بالباقين أن ينزلوا من السيارة..
لقد اكتفى بعدد قليل من الأشخاص هذا اليوم.
بعد محاججات واهنة يترجل أغلب الكومة البشرية وترحل سيارة النقل بالمحظوظين الذاهبين إلى العمل، ليعود البقية كي
يفترشوا الأرصفة في ذبول وخيبة أمل.. وعلى مدار ساعات طويلة تظل أعينهم تحدق في الطريق بانتظار سيارة نقل أخرى
قد لا تأتي لهذا اليوم ولأيام عديدة.
كانوا هناك متسلحين بمعدات العمل الخشبية والحديدية كأنهم حراساً لبوابات مدن الشقاء؛ ترقب أعينهم الحزينة الطريق القادم
بالأمل وعربات نقل العمال.

**من مجموعتي القصصية (هكذا يموتون)

تحولات الخطاب الروائي العربي.. تبدل الجماليات وأفق التلقيد.

د. صبري حـافظ

سعى هذا البحث لتقديم قراءة نظرية معرفية لمتغيرات الخطاب الروائي العربي على مد مسيرته التي قاربت القرن من الزمان. وقد كان هذا القرن قرنا عاصفا في واقعنا العربي، مترعا بالتغيرات الكبيرة بل المزلزلة على أكثر من صعيد. ولايمكن أن نتصور أن الكاتب العربي أو النص العربي كان في معزل عن هذه التغيرات، لأن الكاتب الحقيقي هو ترموتر قياسها، وأول من يستشعر أجنتها ويتعرف على ملامحها وتأثيراتها. ولأن أي نص أدبي جيد ينطوي على كثير من ملامحها وبعض خطاباتها التي تنحدر إليه من الواقع وقد اشتغل عليها هذا الواقع وترك ترسباته فيها. فكثير من خطابات أي نص ورؤاه ومنظومة قيمه ترد إليه من الواقع الذي صدر عنه، وتحمل في تضاعيف ذاكرتها الداخلية عبقه وتواريخه المضمرة. لذلك كان طبيعيا أن ترافق هذه المتغيرات السياسية والحضارية المزلزلة التي عاشها عالمنا العربي في القرن الذي انصرم منذ بدايات الرواية الحقيقية في أوائل القرن العشرين وحتى الآن متغيرات نصية لاتقل عنها درامية وحدة. ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال أنني أتبنى نظريات المحاكاة، ولا أن النص مجرد انعكاس لواقع متغير، فتلك كلها نظريات تجاوزتها الدراسات النقدية الحديثة منذ زمن غير قصير. ولكنه يعني أن كلا من النص والكاتب معا يعيشان في العالم ويتفاعلان معه ويمارسان دورهما فيه، فهما معا من مكونات الواقع في صورته الأوسع. وأن هناك علاقات جدلية مستمرة بين النص والعالم تتطلب من أي دارس أن يأخذهما معا بعين الاعتبار في أي تناول نقدي كما يقول لنا إدوار سعيد في كتابة الشهير (العالم / النص / الناقد) .

1. أطروحة التكوين ومصادرات البداية المغايرة:
والواقع أنني وطوال عملي المستمر على النصوص السردية ـ سواء في القصة القصيرة أو الرواية ـ حرصت على الكشف عن الجدل المستمر بين النص والعالم من جهة، وعلى تجنب تبني أي تنظيرات جاهزة صدرت عن عوالم ونصوص مختلفة في تعاملي مع النص السردي العربي، في محاولة للتنظير له من داخله. فطرحت جانبا الفكرتين الشائعتين عن ميلاد النصوص السردية العربية: سواء منهما تلك التي تقول باستيراد النصوص السردية من الغرب، أو محاكاة العرب للنصوص الغربية، أو التي تسعى للبرهنة على أنها كانت تطويرا طبيعيا للنصوص السردية العربية القديمة مثل المقامة أو ألف ليلة وليلة . ونقضتهما معا بشكل تفصيلي في كتاب كامل كتبته باللغة الانجليزية في أواخر السبعينات هو (تكوين الخطاب السردي العربي) . وقد طرحت في هذا المجال نظرية مغايرة هي سوسيولوجيا تكوين الخطاب بالمعنى الثقافي والأركيولوجي الذي يستمد كثيرا من مضمراته الفلسفية من ميخائيل باختين وميشيل فوكو في هذا المجال. وهي نظرية ذات أبعاد ثقافية ومعرفية متشابكة تختلف كثيرا عن النظريات القديمة في الأصول والأنساب والمحاكاة. وتموضع عملية ميلاد الأشكال السردية العربية الجديدة من قصة ورواية وتمثيلية في مفترق طرق تغير رؤية الإنسان للعالم، وبالتالي علاقته بالزمان والمكان، وحركية تكون الخطابات في حقول علاقات القوى الاجتماعية منها والرمزية على السواء، وطبيعة الحقل المعرفي أو مجال الخطاب وتخلق قواعد الإحالة المعقدة في ساحته.
كما تضع هذا كله في سياق التحول الثقافي الشامل الذي عاشه عالمنا العربي منذ بدايات القرن الثامن عشر وليس بدايات القرن التاسع عشر ـ كما هو مألوف ـ وحتى بدايات القرن العشرين. وهو التحول الذي تخلقت عبره البنية الثقافية التحتية من تعليم حديث بما في ذلك تعليم البنات، وعمران حديث وسع القاعدة الحضرية للمدينة، إلى ظهور للصحافة والوعي بالوجود في عالم متغير له إيقاع يومي، إلى دور الترجمة وظهور نصوص جديدة ومغايرة في سوق التداول الثقافي، إلى تكوين جمهور جديد من القراء له رؤيته المغايرة للعالم، وتصوراته المغايرة للزمان والمكان، ومطامحه وحاجاته القرائية المختلفة، إلى تكوين مثقف جديد هو مثقف القرن التاسع عشر العقلاني بصحفه ودورياته وبجمعياته الثقافية المختلفة. وأهم هذا كله بقضاياه التي ولدت في بوتقة التفاعل بين يقظة الوعي القومي في بلاد عانت وقتها من وطأة الاستعمار القديم. وكيف أدى هذا كله إلى تخليق حساسية جديدة، ذات قواعد إحالة جديدة وأفاق مغايرة كلية لتلك التي صاغت أفق الخطاب والتلقي السابقين على تبلورها، وبالتالي ظهور أجناس سردية جديدة باعتبارها أحد تجليات تلك الصيرورة المعقدة التي تغيرت معها البنية التحتية بتحولاتها الثقافية، وكان من الضروري أن تتبلور إذن تلك الأجناس السردية الجديدة ضمن تلك الصيرورة.
هذا التصور المختلف لتكوين الخطاب السردي كان الأساس الضروري لتنظير مغاير لتطور الأشكال السردية العربية. لأن تبني أحد التصورين القديمين، مثل اعتبار أن تلك الأشكال وافدة من الغرب أو مستوردة منه يترتب عليه ـ وهذا هو ما جرى في ساحة الدراسات الأدبية العربية لأمد غير قصير ـ استيراد التنظيرات الغربية السائدة عنه وتطبيقها على السرد العربي. فأصبحنا نقرأ في دراساتنا العربية عن الرواية التاريخية، والرواية الرومانسية، والرواية الواقعية، ثم الرواية الحداثية، ورواية مابعد الحداثة. وهي كلها تصنيفات قادمة إلينا من الرواية الأوروبية، وتعاني عند تطبيقها على الأدب العربي من كثير من السلبيات. فهذه التصنيفات في الغرب صادرة عن عملية تحقيب تاريخية واضحة، وعن مسار طويل نسبيا استغرق أكثر من قرنين من الزمان. لكننا وجدنا من يطبقها على القصة أو الرواية العربية التي لايتجاوز عمرها عند الدراسة نصف القرن. ووجدنا أن تلك الحقب التاريخية المنفصلة عن بعضها من حيث الحساسية والمرحلة الزمنية في الغرب تتزامن في التصنيفات العربية. لذلك فإن رفض فكرة وفود الأجناس الأدبية أو استيرادها يترتب عليه رفض مثل تلك التنظيرات المخلة في الحالة العربية، والبحث عن تنظيرات أخرى نابعة من مسيرة النصوص العربية وخصوصيتها.
وقد طرحت في هذا المجال، وفيما يتعلق بالرواية تصورين في دراستين مختلفتين كانت أولاهما بعنوان (الرواية والواقع: متغيرات الواقع العربي واستجابات الرواية الجمالية) عام 1990، والثانية بعنوان (جماليات الرواية الجديدة: القطيعة المعرفية والنزعة المضادة للغنائية) عام 2001. ولأن الدراستين منشورتين وتقع أحدهما في أكثر من ستين صفحة فلن أستطيع أن ألخص استقصاءاتهما هنا، ولكني سأحاول أن أقوم هنا بعملية تركيب جديدة تحقق نوعا من التكامل بينهما، وتطرح تصورا لتحولات الخطاب الروائي العربي يتفق من حيث البنية وإن اختلف كثيرا في المنطلق والمنهج مع تصور مهم في هذا المجال طرحه الصديق فيصل دراج في مقاله (من رواية الهزيمة إلى هزيمة الرواية) الذي قسم فيها تطور الرواية العربية إلى ثلاث مراحل: رواية الصبي الواعد، ورواية الإنسان المعوق، ورواية نقض الهزيمة بالشكل الروائي. فالتصور الذي أطرحه هنا له هو الآخر أقسامه الثلاثة التي يوشك أولها أن يتطابق مع القسم الأول عند دراج ورواية الصبي الواعد. ولكن أقسامه تختلف بعد ذلك عن القسمين التاليين عنده، حيث يقعان كلاهما ضمن القسم الثاني في أطروحتي. لكن الأطروحة النظرية التي أقدمها في هذا المجال تسعى إلى إقامة تناظر واضح بين مجموعة من المتغيرات تموضع التغيرات النصية والمنطلقية للرواية فيها. ولأبدأ بالقسمين الأولين من هذه الأطروحة والذين يشملان مسيرة الرواية العربية حتى تسعينات القرن العشرين.

2. علاقات التناظر الثلاثية بين المتغيرات:
وتسعى محاولة التنظير لمسيرة الرواية العربية حتى تسعينات القرن الماضي إلى خلق علاقات تناظر وتواز بين ثلاث مجموعات من المتغيرات، تنقسم كل مجموعة منها إلى قسمين أو بالأحرى مرحلتين مختلفتين وإن كان بينهما شيء من مجموعات من المتغيرات، تنقسم كل مجموعة منها إلى قسمين أو بالأحرى مرحلتين مختلفتين وإن كان بينهما شيء من التداخل. وتعي أن بالإمكان تقسيم كل مرحلة من هاتين المرحلتين إلى مراحل جزئية، كما فعل فيصل دراج في دراسته المشار إليها مثلا، ولكنها تسعى إلى تلمس الفروق الرئيسية ورصد مسار التحولات العامة، وإلى تغليب بعض الخصائص العامة التي تبرز عملية التحول بشكل واضح. وإولى هذه المجموعات الثلاث هي مجموعة التغيرات الحضارية بما في ذلك التغيرات التاريخية والاجتماعية والنفسية والقومية. وثانيها هي مجموعة التغيرات المتعلقة بموقف الكاتب من تراثة النصي، ووعيه بهويته وهوية النص الذي يبدعه، وبنوعية الحوار الذي يجريه النص الروائي مع هذا التراث: سواء أكان هذا الحوار بالقطيعة معه أو بالاندماج الكامل فيه. وثالثها مجموعة المتغيرات الفنية المتعلقة بطبيعة الاستراتيجيات النصية ودلالات الشكل، والوظائف الفنية المختلفة التي يستخدمها الكاتب في نصه الروائي. ومن خلال هذه المجموعات الثلاث المتداخلة والمتفاعلة تكشف الدراسة عن طبيعة التغير الذي انتاب قواعد الإحالة: أي أجرومية إحالة النص الروائي إلى الأطر المرجعية التي ينبثق عنها، ونوعية الحوار الذي يقيمه معها، والذي يشارك في بلورة وعيه بذاته وبطبيعة الدور الذي يؤديه في الواقع الاجتماعي الذي صدر عنه.
ولنبدأ بالتعرف على التغيرات التي انتابت هذا الواقع العربي على الصعيد المعرفي الذي ينطوي على البعدين التاريخي والأيديولوجي على السواء، ورصد ملامح الواقع العربي الذي أنجب ما أود دعوته بقواعد الإحالة التقليديه للواقع. ونلاحظ في هذا المجال أن الواقع الذي ساد تاريخيا منذ بدايات عصر النهضة وحركة الإحياء وحتى نكبة ضياع فلسطين التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية اتسم بما يمكن دعوته بالرؤية التقليدية للعالم، أو الرؤية الريفية له في بعض الأدبيات السوسيولوجية. وهي الرؤية المنبثقة عن درجة عالية من التجانس الثقافي الذي يمكن القول معه بنوع من المجتمع المستقر والمتكامل من حيث الوظيفة السيوسيولوجية: مجتمع يحكمه نسق اجتماعي واحد، وينهض على آليات الاعتماد الفردي المتبادل بين أفراده وجماعاته وشرائحه الاجتماعية المختلفة. وهو اعتماد لايخلو من توتر، ولكن توتراته لاتبلغ درجة الصراع، وغالبا ما تنفثئ لصالح استمرارية الرؤية التقليدية ذات الطبيعة الريفية والسلطة الأبوية، بالمعنى الرمزي والحرفي معا. فقد كانت قوى الوحدة في هذا المجتمع أفعل من عوامل الفرقة والتفتيت، وكان الفضاء الاجتماعي فيه قادرا على أن يكون فضاءا شاملا شبه موحَّد وموحِّد يسع مختلف الأفراد والقوى الاجتماعية، ويحقق علمية التفاعل الخلاق بينها. ولهذا كان ثمة إحساس قوي في مثل هذا المجتمع ذي الطبيعة الأبوية بالانتماء إلى هذا الواقع بين أفراده. إذ يعرف كل منهم بالضبط مكانه في هذا الفضاء الاجتماعي الأليف الذي تسوده روح التعاون وقيم الإخاء التي تتكشف بعد عن خوائها، أو عن إخفائها لآليات الاستغلال البشعة وحركية تكريس الفروق الطبقية وراء مقولاتها البراقة عن الأنا الوطنية الواحدة. فقد كان التناقض الأساسي في تلك المرحلة بين الأنا الوطنية والآخر الأجنبي المحتل عادة للواقع، والذي يتفق الجميع على ضرورة الوحدة للتخلص منه.
وقد رافق هذا على الصعيد الجغرافي ما يمكن دعوته بالفضاء المفتوح الذي تتيحه الطبيعة الريفية أو الرعوية الصحراوية الممتدة إلى مالانهاية. صحيح أن المدينة العربية لعبت دورا هاما في تغيير هذا الفضاء المفتوح، لكنها كانت حتى ذلك الوقت إما مدينة تقليدية ذات علاقات تقليدية راسخة، أو مدينة حديثة تنهض على التخطيط المنطقي وتصورات الأنا المنشغلة بعملية التحديث، وإن لم تغير جذريا علاقة الإنسان بالمكان بعد. ويتسق هذا الامتداد السرمدي مع استاتيكية النظام الاجتماعي أي جموده وثباته والذي تصعب فيه فرص الحراك الاجتماعي التي تتيح للأفراد الانتقال بين الطبقات، أو الشرائح الاجتماعية المختلفة. فكل فرد فيه يولد وهو يتوقع ـ ويتوقع منه الواقع المحيط به ـ أن يحتل مكانة اجتماعية مماثلة لتلك التي تمتع بها أبواه. وقد أدت هذه المعرفة اليقينية إلى درجة عالية من الاستقرار والتماسك الاجتماعي، وإلى سيطرة ما يمكن تسميته بالوعي الجمعي على الوعي الفردي. ولأننا نتناول صيرورة لها طبيعتها الحركية والجدلية معا، فلابد أن ندرك أن بذور المرحلة التالية قد ولدت في قلب هذه المرحلة من خلال عملية التحديث، والتعليم الحديث باعتباره آلة الحراك الاجتماعي الأساسية، ونمو المدينة بعلاقاتها الحضرية المغايرة،كما تخلقت فيها أجنة منطقها المغاير.
لذلك فإن المرحلة الثانية، والتي تمتد من الحرب العالمية الثانية ونكبة فلسطين حتى تسعينات القرن الماضي، تتسم بما يمكن دعوته بالرؤية الحضرية أو الحديثة للعالم. وهي نابعة من تعدد المناخات الثقافية والغياب النسبي للتجانس الثقافي الناجم عن تفتت الواقع الاجتماعي وتجزئته، وتعددية أنساقه التي غاب عنها تكامل المجتمع التقليدي النسبي. وبلورت كل شريحة منها استقلاليتها الخاصة، وانتهت من ساحته إلى غير رجعة آليات الاعتماد الفردي المتبادل، لتحل مكانه آليات الاعتماد المؤسسي أو الاجتماعي المتبادل. فلم يعد ممكنا الحديث عن نسق اجتماعي واحد ولا عن سلم جمعي للقيم والمكانات الاجتماعية كما كان الحال في المجتمع التقليدي القديم. بل أصبح الأمر متعلقا بمجموعة معزولة من المجتمعات الصغيرة المتجانسة نسبيا فيما بينها، ولكن الواعية في الوقت نفسه بحدة الخلافات بينها وبين غيرها من المجتمعات الصغيرة التي تشترك معها في تكوين المجتمع الأكبر: المجتمع الأم. وصورة المجتمع الأم ليست صورة بلاغية، ولكنها ذات صلة ما بظهور هذا المجتمع الجديد الذي غابت عنه قبضة الأب وسلطته الموحِّدة، بل أخذ يعبر بوضوح عن الضيق بها كلما أطلت برأسها من جديد. واستبدل بها تلك الأم الحضرية الجديدة: المدينة التي تعي اختلاف أبنائها وتسعى إلى إرضائهم جميعا، ولا تنجح في الوقت نفسه إلا في إثارة غضبهم معا. وفي غياب الأب كلي السلطة كلي القدرة القديم، يحاول الأبناء تأسيس استقلالهم الخاص في صدام مستمر مع بعضهم البعض. فالأم الخارجة من رحم المجتمع الأبوي لا توفر مجتمعا أموميا بديلا، وإنما مجتمعا بنويا عامرا بالفوضى.
ومن هنا نجد أن التوتر في هذا المجتمع قد بلغ درجة الصراع، وأصبح محكوما بآلياته المحركة، حتى أصبحت قوى الوحدة الاجتماعية ذات فاعلية محدودة أو ضئيلة، وسادت قوى الصراع والتمزق، واكتسبت العلاقات الاجتماعية طابعا تقنينيا بدلا من طابعها العرفي التقدليدي القديم. فلم يعد الفضاء الاجتماعي الشامل والموحِّد موجودا. ليس فقط لأن المدينة قد أجهزت بتركيبتها الجديدة على الفضاء الجغرافي المفتوح الذي عرفته الطبيعة الريفية أو الصحراوية، أو أزاحتهما بعيدا عن متناول الحياة اليومية، ولكن أيضا لأنها بطبيعتها الاجتزائية، وتحديداتها البيئية والطبقية، سلبت من الفضاء الاجتماعي القديم خاصيته الموحِّدة. لأن أحياءها لا تسع جميع الأفراد والقوى الاجتماعية فحسب، بل تقيم حواجزها الفعلية والرمزية بين تلك القوى والطبقات، وتحاول الحيلولة بينهم عن طريق فرض الحدود وعرقلة فرص التفاعل. وتجعل كل منهم غير قادر على معرفة مكانه ومكانته إلا داخل نطاق الجماعة التي يتحرك فيها، أو التي يتوق إلى الانضمام إليها. ومن هنا يصبح الفضاء الاجتماعي مجزءا ومكونا من مجموعة من الفضاءات المتعددة المتجاورة بل والمتلاصقة أحيانا، ولكن المعزولة نسبيا واجتماعيا وترميزيا عن بعضها في كل الأحيان. وتصبح تلك الفضاءات مكانا للغربة بدلا من الألفة والوئام. وهو ما يرهف آليات التنافس بدلا من روح التعاون، ويزكي سعار شهوة الترقي إلى الشرائح الاجتماعية الأعلى، ويوهن من الاستقرار ويضعضع فرص التماسك الاجتماعي. وفي هذا المناخ يسيطر الوعي الفردي، لا على حساب الوعي الجمعي فحسب، وإنما في حال من الصدام المستمر معه.
وإذا ما تعرفنا على التبديات القومية أو السياسية لهذه المتغيرات الاجتماعية سنجد أن الاختلاف الحضاري بين تلك الحالتين يناظره اختلاف آخر على المستوى العربي وإن تأخر عنه من الناحية التاريخية قليلا. وهو الاختلاف بين الواقع العربي الواقع تحس السيطرة المباشرة للقوى الاستعمارية والأجنبية، وبين ماقع مابعد الاستقلال بتناقضاته الاجتماعية والسياسية المختلفة، والتي بلغت مداها بعد هزيمة يونيو بتخثر الأحلام القومية العريضة، وتأكل المشروع القومي. فقد عرف الواقع الأول ما يمكن تسميته بوضوح الرؤية وتوجه الذات التي تعرف أن عدوها موجود خارجها إلى الخارج. ولذا اتسمت تلك الذات القومية بقدر كبير من الوحدة والتماسك في مواجهة عدو خارجي وأجنبي معا. بينما خبر الواقع الثاني مجموعة جديدة من التناقضات الاجتماعية والسياسية ـ سبقت قليلا مرحلة الاستقلال وأسفرت عن نفسها بوضوح جلي بعده ـ التي أدت إلى انقسام الذات على نفسها. فإذا كان ثمة اتحاد في الهدف في معركة التحرر من الاستعمار، فقد تباينت الرؤى وتعددت الحلول المطروحة لمواجهة قضايا مرحلة ما بعد الاستقلال، بل واحتدم الصراع بين تلك الحلول بشكل خطير. وفي ظل هذا الصراع تبلورت مجموعة أخرى من الخصائص المتصلة بطبيعة العلاقة بين المركز والهوامش على الصعيد القومي العام، وعلى صعيد كل بلد عربي على حدة. فلم تعد مركزية المركز أمرا مسلما به ومقبولا دون توجيه أسئلة التشكيك المدمرة لأسسه وجدواه. وتبدو هذه المسألة على الصعيد القومي من خلال دور مصر الثقافي في الساحة العربية في المرحلة الأولى، وكيف رافق هذا الدور وتحت تأثيره دورها السياسي في بدايات المرحلة الثانية وحتى هزيمة 1967، ثم كيف تراجع هذا الدور بعدها، وما أعقب ذلك من تدمير منظم للمراكز الثقافية العربية الأساسية في بيروت مصر، وكأن التدمير ينتاب فكرة المركزية ذاتها، ويفرض بقوته العاتية حضور الهامشية والتهميش. وظهور منابر جديدة في الأطراف والهوامش، وسيادة المناخ الطارد للمثقفين وتشتيتهم في المنافي، بل وظهور منابر المنافي والمهاجر العربية في أوروبا، وبزوغ مراكز النفط الثقافية وغير ذلك من الظواهر المغيرة لخريطة الثقافة العربية برمتها.
وإذا ما انتقلنا المجموعة الثانية من المتغيرات المتصلة بعلاقة الكاتب والنصوص الروائية العربية المكتوبة في المرحلتين بتراثها النصي من ناحية، وبواقعها الحضاري من ناحية أخرى سنجد أن المرحلة الأولى اتسمت في هذا المجال بتبني مشروع التحديث الأوروبي، وبالنزوع إلى تأسيس مجتمع على أساس النمط الغربي الذي كان مزدهرا وقتها إلى حد كبير. أو على الأقل كانت هذه هي صورته التي تنعكس على مرايا الذات العربية المتطلعة إلى النهوض ببرنامجها التحديثة الطموح. وأدى هذا على صعيد البنية الأدبية إلى تأسيس النماذج الأولى للقص العربي عموما، قصة ورواية ـ باستثناء (حديث عيسى بن هشام) للمويلحي، وهو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها ـ على غرار نماذج غربية معروفة في بعض الأحيان للقارئ العربي من خلال الترجمة. فلم تسع النماذج الأولى من الرواية أو الأقصوصة إلى إقامة حوار مع النصوص العربية القديمة، إذ كان الفكر السلفي عند ذاك في حالة من التعضع فأمكن استبعاده، أو بالأحرى القفز عليه. وكان رأس المال الثقافي الرمزي قد انتقل من ساحة المثقف التقليدي إلى قبضة المثقف العصري الجديد. وشعر النص الأدبي في هذه المرحلة باستقلاله عن التراث وبتأسيسه لبدايات جديدة. ودفعه هذا الاستقلال إلى تكريس حواره مع الأشكال الأدبية الغربية وحدها. وكان أحد أسباب هذا التكريس هو هذا الانفصام الذي عرفته الثقافة العربية في المرحلة التي شهدت بدايات نصوصها السردية الحديثة بين المثقف «العصري» الذي تعلم على النسق الغربي، والمثقف «القديم» أو «التقليدي» الذي تلقى تعليمه في مؤسسات التعليم التقليدية ذات الطابع السلفي. فقد كان عدد كبير من رواد الرواية العربية الحديثة من الذين تنقصهم المعرفة الواسعة بتراثهم الأدبي. أو من الذين وضعوا المعرفة الحديثة المستقاة من المصادر المعرفية الغربية في مركز اهتمامهم، بينما دفعوا المعرفة بتراثهم، وهي معرفة ذات طابع تقليدي، إلى هوامش الاهتمام مهما كانت درجة تعمقهم فيها. فليس المهم هنا المعرفة الكمية في حد ذاتها، لأن آخر ما أرمي إليه هو اتهام رواد الثقافة العربية الحديثة بإهمال التراث أو الجهل به، فلعدد كبير منهم دور مرموق في إرهاف وعينا بأفضل ما فيه. ولكن المهم هو مكانة هذه المعرفة على سلم تراتب القيم المعرفية، ومنزلتها من أولويات الاهتمام. كما أن موقع أغلب كتاب الأجناس الأدبية الحديثة في المعارك المتعددة التي دارت على محور الاستقطاب الحاد بين القديم والجديد تشهد باستدراج المثقف «العصري» إلى فخاخ تهميش معرفته بتراثه.
أما في المرحلة الثانية فقد أصبح الحوار الخلاق مع النص التراثي ضرورة ملحة بعد تبدي بعض ملامح إفلاس المشروع الحديث أو التحديثي. وأخذت مسألة تأسيس المجتمع العصري تنحو صوب الاهتمام بالخصوصية، وإبراز أوجه الاختلاف في المشروع الحضاري كله. وقد رافق ذلك اكتساب الفكر السلفي قوة إضافية نابعة من الحنكة التي كسبها في معاركه مع الجديد من ناحية، ومن أزمة المشروع الغربي في المنطقة من ناحية أخرى، وتردد الحديث في الغرب نفسه عن انهيار الغرب وإفلاسه لدى شبنجلر وأمثاله. وهو حديث مهما تكن هامشيته في الغرب فقد وجد آذانا صاغية لدي المتشككين في جدوى النسخ الحرفي للمشروع الغربي. لكن مرارة المفارقة هنا أن كثيرا من المتشككين هؤلاء كانوا يدعون إلى نسخ حرفي آخر للقديم الذي جعلته نوستالجيا الإخفاقات يبدوا باهرا ومضيئا، وهذا عكس حقيقته. وبالإضافة إلى هذا كله، فقد أصبح تعميق الوعي بالتراث الشفهي منه والمكتوب ضرورة أساسية لأن أشكال الكتابة الحديثة وصلت إلى قلب المؤسسة التقليدية، فأصبح لدينا قصاصون وروائيون ممن تلقوا تعليمهم في الأزهر مثلا بدءا من محمد عبدالحليم عبدالله وسليمان فياض وأبو المعاطي أبو النجا، وحتى عبدالله خيرت وعبده جبير في مصر، وغائب طعمة فرمان في العراق، والطاهر وطار وعبد الحميد هدوقة في الجزائر ممن تلقوا تعليمهم في مؤسسات مشابهة للأزهر في تلك البلاد.
كما أن التركيبة الاجتماعية للكتاب اتجهت نحو الشرائح الاجتماعية الأدنى. فبعد أن كان معظم كتاب المرحلة الأولى من أبناء الطبقات العليا من الأرستوقراطية حتى الشرائح العليا للطبقة المتوسطة، أخذت الرواية العربية في المرحلة الثانية تعرف كتابا انحدروا إليها من الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وحتى حضيض القاع الاجتماعي مرورا بأبناء العمال والفلاحين. وبالإضافة إلى هذا الاتساع الطبقي في رقعة الكتاب هناك أيضا في تلك المرحلة الثانية ظاهرة ما يمكن تسميته كتابة المسكوت عنه، أو أصوات من لم يكن لهم صوت خاص من قبل، مثل كتابة المرأة التي نمت بشكل ملحوظ في الفترة الثانية، أو كتابة عالم الأقليات العربية المختلفة مثل عالم الأقباط في مصر عند إدوار الخراط، أو الأكراد في سوريا عند سليم بركات، أو الطوارق في الصحراء العربية عند إبراهيم الكوني، أو الشيعة في لبنان عند ليلى بعلبكي وحنان الشيخ وعلوية صبح، وهي كتابات جلبت إلى حقل الرواية مجموعة ثرية من الرؤى والخطابات التي لم تعرفها رواية المرحلة الأولى. ولا تنفصل طبيعة الحوار مع النص التراثي عن إشكاليات هوية النص الروائي الجديد، ومدى وعي الكاتب بدوره في واقعه ودور عمله فيه. ومن هنا انطلق النص الروائي الواثق من حدود هذا الدور في رحلة طويلة لتأسيس ما يمكن تسميته بقواعد الإحاله التقليدية، بما يتصل بها من تقاليد ومواضعات أدبية في نصوص المرحلة الأولى، ثم ارتد على عقبيه في المرحلة الثانية وقد أثقلته أسئلة الشك في كل الرواسي والثوابت لينقض ما أسسته قواعد الإحالة التقليدية من مواضعات وليبدد كل ما رسخته من مصادرات.
يناظر هذه التغيرات في منطلق الكتابة وعلاقة الكاتب بتراثه وواقعه، متغيرات أخرى انتابت قواعد الإحالة وعلاقة النص بالواقع الذي يصدر عنه. وقواعد الإحالة مصطلح نعني به مجموعة القواعد الأساسية المضمرة في النصوص الأدبية والتي تقيم وفقا لها علاقتها الحوارية والجدلية مع الواقع الذي تصدر عنه وتسعى للفاعلية فيه. وكما في المجالين السابقين فقد تغيرت قواعد الإحالة هي الأخرى من قواعد الإحالة الكنائية إلى قواعد الإحالة الاستعارية. وهي تغير ينهض على الاختلاف البنيوي بين الكناية والاستعارة والذي بلورة رومان جاكبسون في دراساته اللغوية، ولكنه ينقله من مجال اللغة والصيغ البلاغية إلى مجال التصنيف والتأريخ الأدبي. وحتى نقدم هذا الفرق الأساسي بين البنيتين بشيء من الإيجاز نشير إلى أن الكناية ـ ومنها تستقى الكنية ـ وشتى صور المجاز المرسل في البلاغة تعتمد على وحدة المجال وعضوية العلاقة بين شقي هذه الصياغات البلاغية. فإذا كنينا رجلا بأبي عليّ، كانت هذه إشارة على علاقة عضوية بينه وبين ابنه علي، أو إذا استخدمنا التاج ونحن نعني الحكم الملكي كانت هذه الإشارة تستخدم الجزئي للتعبير عن الكلي. ومن هنا فإن الحديث عن العلاقة الكنائية بين النص والواقع ينطوي على افتراض أن النص جزء من الواقع، أو تصوير لبعض جوانبه على الورق. وكلما اقتربت الصورة من الأصل كلما زادت قيمتها وعظم تأثيرها. بمعنى أن النص ينهض على نفس القوانين التي ينهض عليها الواقع وعلى استمرارية منطقها وعلاقاتها. أما الاستعارة، فإنها على عكس الكناية تعتمد على اختلاف المجال، وعلى تبايناتها. فإذا قلنا رنت إلينا ظبية، ونحن نعني امرأة جميلة، كان الاختلاف في المجال ضروريا لإحداث التأثير. وكلما اتسعت الفجوة وازدادت حدة الجدل بين المجالين، وتعددت أوجه التشابه وأوجه الاختلاف، وأخذت عناصر التغليب تلعب دورها المراوغ، كلما زادت فاعلية الاستعارة وتعددت إيحاءاتها. وحينما نتحدث عن علاقة استعارية بين النص والواقع فإننا نشير في هذا المجال إلى علاقة بين مجالين نوعيين مختلفين، يدرك كل منهما أهمية الاختلاف، ويتعمد إبراز استقلاليته عن المجال الآخر.
ويفترض مشروع التصنيف الأدبي القائم على هذه التفرقة مجموعة من الأفكار الأساسية:
1. أن الحساسية الأدبية تغيرت مرتين على مد تاريخ الأدب العربي الحديث.
2. أن هذا التغيير انتاب كل أشكال الكتابة لأنه تغيير في جوهر الرؤية، ومن هنا فإنه عابر للأجناس والأشكال الأدبية.
3. أن جوهر التغير كامن أساسا في علاقة النص بالواقع، وقواعد إحالته له.
4. أن الحساسية الأولى أو التقليدية تنهض على أساس علاقة النص الكنائية بالواقع حيث يصور النص نفسه كجزء من هذا الواقع أو امتداد لفظي له واستمرار موقفي لصورته وتصوراته، يخضع لمنطقة الزماني والمكاني، ويحاكي الكثير من ملامحه فنجد مثلا أن هناك علاقة عضوية بين (زقاق المدق) الحارة والرواية، أو بين قرية (أرض) الشرقاوي والقرية المصرية في الثلاثينات.
5. أن الحساسية الجديدة أو الحديثة ـ وهي من الحداثة بمفهومها المعروف ـ تنهض على أساس العلاقة الاستعارية بالواقع، حيث هناك درجة عالية من الانفصال والاستقلال النسبي بين طرفي الاستعارة: النص والواقع. حيث لا يلتزم النص كثيرا بقواعد الزمن الواقعي أو حتى بمنطق المكان فيه. وكلما ازدادت درجة التباين بينهما كلما برزت عملية الجدل المستمر بين العالمين وتبلورت فاعلية الاستعارة النصية.

عادل كامل

3. تغير الحساسية الأدبية وتبدل الاستراتيجيات النصية:
أما المجموعة الثالثة من المتغيرات التي ناظرت المجموعتين السابقتين فهي المتغيرات الفنية التي تتعلق بطبيعة الاستراتيجيات النصية، أو ما أدعوه بالمحتوى الدلالي للشكل، ودوافع الأدوات الفنية التي يستخدمها الكاتب في نصه الروائي. ونميز في هذا المجال تصنيفيا وليس تقييميا، بين ما أسميه بكتابة الحساسية التقليدية الروائية وقواعد إحالتها الكنائية، وكتابة الحساسية الجديدة الروائية الحديثة وقواعد إحالتها الاستعارية. بمعنى أن التغير الحاسم في هذا المجال ليس زمنيا وإنما بنيوي ونصي. بمعنى أننا قد نجد رواية كتبت في الأربعينات مثل رواية عادل كامل (مليم الأكبر) أو رواية لويس عوض (العنقاء)، ولكنها تنتمي إلى الحساسية الحديثة. كما يمكننا أن نجد كثيرا من الروايات التي كتبت في السبعينات والثمانينات بل حتى التسعينات وبداية القرن الحادي والعشرين، ولكنها تنتمي إلى رواية قواعد الإحالة الكنائية. ويمكن لنا أن نختار مجموعة من الروايات التي تجسدت فيها قواعد الإحالة الكنائية والحساسية التقليدية وهي في واقع الأمر أكثر الروايات التي كتبت قبل ستينات القرن الماضي مثل روايات: (إبراهيم الكاتب) 1931 لإبراهيم المازني و(عودة الروح) 1932 لتوفيق الحكيم، و(الأطلال) 1934 و(نداء المجهول) 1939 لمحمود تيمور، و(دعاء الكروان) 1942 و(شجرة البؤس) 1944 لطه حسين، وجل روايات نجيب محفوظ من (زقاق المدق) 1947 حتى (ميرامار) 1966 وروايات كثيرة أخرى في الخمسينات لفتحي غانم وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس في مصر، ومطاع صفدي (جيل القدر) 1958 وهاني الراهب (المهزومون) 1961 و(شرخ في تاريخ طويل)1969، وحنا مينه (الصراع والعاصفة) 1966 في سوريا، وغسان كنفاني (رجال في الشمس) 1962 في فلسطين، وغائب طعمة فرمان (النخلة والجيران) 1966 و(خمسة أصوات) 1968 في العراق، وعبد الكريم غلاب (سبعة أبواب) 1965 و(دفنا الماضي) 1966 و(المعلم علي) 1971 في المغرب. أما روايات الحساسية الجديدة بقواعد إحالتها الاستعارية فيمكن أيضا أن نضع فيها عددا كبيرا من نصوص نجيب محفوظ الروائية في الثمانينات والتسعينات، وكتابات أغلب كتاب جيل الستينات في مصر من صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وعلاء الديب وعبدالحكيم قاسم ومحمد البساطي وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبدالله وغيرهم فضلا عن كثير من روايات إدوار الخراط وبدر الديب وغيرهم في مصر، والطيب صالح في السودان، وغالب هلسا ومؤنس الرزاز في الأردن، وإلياس خوري ورشيد الضعيف في لبنان، وحيدر حيدر ونبيل سليمان وخيري الذهبي في سوريا ومحمد برادة ومحمد شكري ومحمد زفزاف في المغرب، وكتاب أخرين في بقية البلدان العربية على سبيل المثال لا الحصر. فهذه فقط نماذج لكي لايكون التوصيف النصي تجريديا. وسوف نبين بسرعة طبيعة تجليات هذه المتغيرات النصية:
1. من حيث المنطلق: كانت هناك درجة من الوثوقية النابعة من تبني إنجازات العلوم العقلية في التعامل مع الظواهر الإنسانية، وكانت هناك أرضية مشتركة أو درجة من التماثل بين الكاتب والقارئ تساعد على التنبوء وتخلق التوقعات. فأصبح استشراف أبعاد العملية الإدراكية والسلوك القصدي يحتلان مكانه رئيسية في تناول الظاهرة الإنسانية، ولم يعد ممكنا الفصل بين الذات والموضوع، وأختفى أي تصور لوجود حقائق مشتركة، وأصبح كل من الكاتب والقارئ أفراد مختلفين لكل منهم منطلقه الخاص في الرؤية والتأويل.
كان القص التقليدي يعتبر نفسه معادلا للحياة وكانت المباراة الروائية مباراة في دقة المحاكاة واقتناص التفاصيل، فأصبح مجموعة من المواضعات الأدبية، تبددت معها خرافة مضاهاة الواقع، مع تزايد الوعي بنصية النصي ووقائعية الواقعي. وانفتح المجال أمام احتمالات تأويلية واستعارية لانهاية لها، وانتهى الكاتب الواثق العليم بكل شيء من داخل النص وحل مكانه مؤلف غائب أو ذات تثقلها الشكوك.
2. من حيث البنية الروائية: كانت البنية تعتمد على واحدية المنظور وواحدية الصوت، وواحدية المنطلق، وكانت هذه الواحدية تضفي على البنية تماسكها الداخلي، وتساهم في بلورة حبكة روائية تتسم بالإحكام والبساطة والتسلسل الخطي معا، فأصبحت تلك البنية تعتمد على تعددية المنظور وتباين الأصوات بل وتنافرها، وأخذت بعض أجزاء الحبكة تريق الشك على أجزائها الأخرى، وأدى هذا إلى خلخلة مفهوم الحبكة كلية، وحلت مكانها علاقات التجاور والتنافر كوسيلة لخلق تماسك مغاير في النص.
وكانت الروابط التي تخلق المنطق الداخلي للنص تعتمد على التتابع السببي والتسلسل المنطقي للأحداث، فلم تعد الأحداث مترابطة بالشكل التقليدي، وإنما استنت لها منطقا مغايرا يعتمد على الجدل والحوار بين الخصائص الكيفية المتضادة وترجيع الأصداء.
وكان الموضوع الروائي يحتل مكان الصدارة، وكانت استراتيجيات القص تستخدم وكأنها أدوات تقتنص القارئ في شبكة الحبكة، فتراجع الموضوع من الواجهة، وحلت مكانه استراتيجيات القص في محاولة لإبراز وعي النص بنصيته قبل وعيه بمرجعيته.
وكان الشكل الفني يتسم بقدر كبير من الثبات حيث وجدنا نجيب محفوظ يكتب عدة روايات في شكل واحد قبل أن ينتقل لآخر فيكتب فيه عدة روايات أخرى وهكذا. فاتسم الشكل بقدر كبير من الحركية، وأخذ يتغير من رواية إلى أخرى، بل ويتغير أحيانا داخل الرواية الواحدة. واتسمت الرواية بالثراء التجريبي وتعدد المنظورات وسيولة الرؤية. وازداد انشغال النص بروائيته بعدما كان مشغولا بالمواضعات الفنية المتعارف عليها، وعزت ساحته مجموعة من الخطابات الأخرى المستقاة من تقاليد نصية مغايرة مثل الخطاب التاريخي أو الوثائقي أو السياسي أو الصوفي والإحصائي، وحتى الخطاب النقدي والتفكيكي.
3. من حيث الفضاء الروائي: كان الفضاء الروائي قادرا على احتواء العناصر المختلفة دون الوعي بتناقضاتها الداخلية، بل كان مشغولا ببلورة عوامل التناغم والتضافر، فأصبح ساحة للصراع الدائم بين الرؤى والأصوات المتصارعة، وفضاءا مشحونا بالتوتر. ودخلت العلاقة بين الإنسان والمكان مرحلة جديدة أصبح فيها المكان شرط الوجود ذاته.
وكان هناك نوع من الوحدة المكانية ومن سيطرة الإنسان على الجغرافيا، أي كان الإنسان سيد المكان لأنه يشعر بأنه سيد مصيره، ويثق في سيطرته العقلية إن لم تكن المادية أيضا عليه. فأصبح هناك نوع من التشتت المكاني، وفقدان السيطرة والاتجاه. ومن هنا كان ثمة ولع واضح بالمتاهة وبسيطرة المكان على الإنسان، وبفقدان القدرة على الفهم مما يزيد الإنسان غربة عن الفضاء الذي يعيش فيه ويعانيه. ومن هنا كان من الطبيعي أن يتسم تناول المكان بقدر من الحيادية، في عالم لايعبأ بالإنسان، ولايستجيب لسيطرته عليه. وأن يتسم المكان بسمات أسطورية أو خيالية تجعل له وجودا مستقلا يحاور وجود الشخصيات.
4. من حيث الشخصية الروائية: كانت حرية الشخصية في التعبير عن نفسها محدودة، وكان اعتمادها على صوت المؤلف العالم بكل شيء المسيطر بقبضته الأبوية الصارمة على كل شيء شبه كلي. فأصبح صوت الشخصية أبرز من صوت المؤلف الذي أخذ في التواري، وفقد الكثير من وثوقيته وسيطرته الصارمة على العالم، بل تسربت نغمة الاحتمالية إلى تناوله للموقف الروائي فجعله مفتوحا للشك وهو يصف الشخصيات، أو يتناول خصائصها وسلوكها ودوافع تصرفاتها.
وكانت الفجوة بين المعلومات المتاحة للقارئ عن الوقائع القصصية ومكونات العالم الروائي وبين ما هو متاح للشخصية عن نفس هذين الموضوعين هي التي تعطي القارئ نشوة الاستمتاع بالتفوق المعرفي المؤقت في الرواية التقليدية. فسعت استراتيجيات القص الحديثة إلى الإجهاز على هذا التفوق المعرفي الساذج، بل أدخلت القارئ في متاهة المعضلات الإنسانية التي تعاني منها الشخصيات. لا من منطلق التعاطف أو التماثل معها، وإنما من منطلق الاكتشاف الذي يتطلب درجة واضحة من درجات الانفصال عن الموقف الروائي.
كانت الشخصية تتسم بالاتساق، وفي كثير من الأحيان بالنمطية، لأن الشخصية كالرواية نفسها كانت تطمح إلى محاكاة الواقع الخارجي، وكانت الأدوار التي تجسدها تلك الشخصيات تطمح إلى أن تكون التجسيد الأمثل لها، كما هو الحال في السيد أحمد عبدالجواد الذي أصبح نمطا على شخصية الأب التقليدي وعلى مرحلة كاملة من الوجود الاجتماعي. ففقدت الشخصية هذا الثبات وتلك النمطية، في عالم لم يعد الإنسان فيه قادرا على السيطرة على الواقع الخارجي، وعاجزا عن فهم إشكالياته المعقدة. وأصبحت الشخصية الروائية ممعنة في التفرد بعد أن طرحت من أفقها أية مزاعم في تمثيل أي شيء عداها.
كانت الشخصية جزءا من البنية المركزية للحبكة، ومن هنا كان مفهوم البطولة في مستوياته المختلفة من مستوى البنية الروائية التي تتطلب أن يكون للنص أبطاله وشخصياته الثانوية، وحتى المستوى القيمي الذي يجعل البطولة مصدرا للإلهام الروائي من الأبطال التاريخيين وحتى أبطال الأساطير، فأصبحت الشخصيات الرئيسية في النص الروائي من أكثر شرائح المجتمع هامشية على مستوى الواقع وعلى مستوى الرؤية على السواء، ولم يعد للنص بطلا بأي مفهوم من المفاهيم، وإنما أصحبت به شبكة من العلاقات المعقدة التي تجعل كل الشخصيات على نفس القدر من الأهمية.
5. من حيث اللغة الروائية: كانت الجملة الروائية نثريةبالمعنى الشامل في هذا المجال، والذي قد يتطلب تمهلا أمام مكونات اللغة النثرية وخصائصها. وكانت النثرية جزءا من الرؤية اللغوية ذاتها بمعنى أن اللغة الروائية لا تتجاوز إطال المتداول والمسموح به. فجنحت اللغة إلى الاقتراب من آفاق الشعر بالمعنى العميق لا الإيقاعي للشعر. وسعت إلى تفجير البنية اللغوية من الناحيتين السياقية والدلالية معا. ولم تتردد في اجتراح المحرمات او انتهاك المقدسات أو التعبير عن كل ما كان مسكوتا عنه من قبل.
كانت لغة القص أقرب إلى السرد التقريري المرتبط بسيطرة الكاتب المركزية على النص. وكان الإيقاع اللغوي سلسا وتقليديا مهما كان احتدام المشاعر، وكان الخلاف حول المستويات اللغوية ـ إذا ما طرح ـ يأخذ شكل المناظرة بين استخدام الفصحى أو اللجوء إلى العامية. فتخلت اللغة عن تقريريتها، واختفى السرد ليحل محله القص بكل استراتيجياته الشكية الحديثة. واستعار هذا القص الحديث مفردات الخطابات الأخرى ولغاتها من الخطاب التاريخي التراثي حتى الخطاب الصوفي أو الوثائقي. وتعددت اللغات والإيقاعات مع تعدد الرؤى وتنوع الأصوات. ولم يعد الخلاف بين العامية والفصحى مطروحا، لأنها وجدا أكثر من صيغة للتعايش والتفاعل داخل النص الروائي. بالصورة التي تغيرت معها كلية جماليات الأسلوب وأصبح من الممكن الحديث عن جماليات القبح.

4. القطيعة المعرفية وجماليات الأفق المسدود:
إذا كنا قد تحدثنا حتى الآن عن ثلاث مجموعات من المتغيرات الحضارية والموقفية والنصية التي صاغت تحول الخطاب الروائي من قواعد الإحالة الكنائية إلى قواعد الإحالة الاستعارية فلابد هنا وقبل الحديث عن التغير الثالث الذي انتاب الخطاب الروائي مع وفود جيل التسعينات الجديد إلى ساحة الكتابة الروائية، وقطيعته المعرفية مع كثير من منطلقات المرحلتين السابقتين، لابد لنا أولا من تأكيد صدور المرحلتين اللتين تحدثنا عنهما حتى الآن عن يقين كامل لدى الكتاب جميعا، منذ محمد حسين هيكل وحتى الجيل الذى تلا جيل الستينات في مصر من أمثال يوسف أبورية وسلوى بكر ومحمود الورداني ومحمد ناجي وغيرهم، بأهمية النزعة الإنسانية والمعرفة العقلية، وبالقدرة لا على فهم العالم فحسب، وإنما على تغييره إلى الأفضل. وكان انتقال رأس المال الرمزي إلى المثقف «العصري» من عوامل تعزيز ثقته بقدرته على أن يحقق ما يريد لنفسه ولشعبه على السواء. فكل فكر الاستنارة الغربي الذي تتلمذ عليه الرواد ينهض على النزعة الإنسانية الغربية والمعرفة العقلية وضرورة أن يكون باستطاعة الإنسان «أن يكون ما يريد». لذلك كان مشروع الثورة الفرنسية الفكري ينهض على فصل الكنيسة عن الدولة، أي فصل المؤسسة التي تسعى لإخضاع البشر لإرادتها باعتبارها إرادة سماوية، أي مؤسسة الكنيسة، عن تلك التي تسعى للتعبير عن الإرادة البشرية، أي مؤسسة الدولة الحديثة. وإذا ما تأملنا طبيعة هذه النزعة الإنسانية في تاريخنا العربي الحديث سنجد أنها هي التي رادت مشروع التحديث المصري منذ محمد علي وحتى جمال عبدالناصر، بالرغم من الطبيعة الاستبدادية لنظم الحكم التي تبنته، أو شرعت في القيام به. وبالرغم من اقتصار الإرادة على حفنة صغيرة من البشر تحقق كينونتها على حساب الآخرين، وتتعلل كثيرا بأنها تحققها باسم الآخرين ومن أجلهم. فقد كان لكل من أصحاب هذا المشروع التحديثي ما أراد، حتى ولو لم يشرك معه أبناء وطنه في صياغة هذه الإرادة، وإن قسر الكثيرين منهم على تحقيقها. وكانت هذه النزعة الإنسانية وأسسها الفلسفية العميقة هي التي دعت رفاعة رافع الطهطاوي إلى استقطاب فكر النهضة الغربي داخل إطار من التأويل العقلي للإسلام، ورؤية تعاليمه باعتبارها تعاليم إنسانية ما أن يتبناها غير المسلم حتى يحقق عبرها تقدمه. وهي أيضا التي دعت الشيخ محمد عبده إلى قول مقولته المأثورة لقد رأيت في أوروبا الإسلام ولكني لم أجد المسلمين، وعندما عدت إلى مصر وجدت مسلمين ولكني لم أجد إسلاما.
وإذا ما انتقلنا الآن إلى الأدب فإننا سنجد أن هذه النزعة الإنسانية كانت منطلق الرواية العربية منذ بداياتها الباكرة. فسر تعاطفنا مع (زينب) محمد حسين هيكل هو عجزها عن «تحقيق ما أرادته لنفسها»، وهذا نفسه هو سر تعاطفنا مع «حميدة» بطلة (زقاق المدق) لنجيب محفوظ التي لم يكن لها هم إلا أن تكون ماتريد، والتي تآمرت الظروف من حولها للحيلولة دون أن تمنحها الحرية والإمكانات كي تحقق هذه الكينونة، وانتهت بها إلى هذه النهاية المأساوية. بل إن معظم روايات جيل نجيب محفوظ والجيل التالي له ليست إلا محاولات متعددة لترسيخ هذا الأساس الفكري بين القراء. وقد بلغ هذا التأسيس ذروته في «ثلاثية» نجيب محفوظ العظيمة لأن سر اهتمامنا ببطلها كمال عبدالجواد، وتوحدنا معه هو قدرته على أن يعمل العقل ليكون «ما أراده لنفسه» بالرغم من تسلط النزعة الأبوية ورفضها لإرادته. بل إن أخذ هذه المصادرات الإنسانية بعين الاعتبار هي التي تمكننا من تأويل الثلاثية تأويلا صحيحا باعتبارها رواية انهيار التسلط الأبوي، وميلاد الإبن المستقل، والأحفاد ذوي النزعات الحرة والاجتهادات الإنسانية المتضاربة والمتفردة في آن. وظلت هذه الافتراضات ثاوية في أحدث روايات محمد البساطي مثلا مثل (جوع) أو (دق الطبول) وبهاء طاهر مثل (نقطة النور) أو (واحة الغروب) وصنع الله إبراهيم مثل (التلصص) وفؤاد التكرلي مثل (اللاسؤال واللاجواب) وغيرها كثير.
ومن هنا فإن افتراضات هذه النزعة الإنسانية هي التي رادت الرواية العربية منذ بداياتها مع هيكل وتوفيق الحكيم وحتى مرحلة الثمانينات، وهي التي انطلقت منها الأجيال المتعاقبة من الروائيين منذ جيل الرواد وحتى جيل الستينات. فقد تكون جيل الستينات هذا في إطار هذه النزعة الإنسانية العقلية، وتفتح وعيه على المشروع الناصري الذي يستهدف تحقيق إرادة قطاعات واسعة من الشعب المصري والعربي في التحرر والاستقلال السياسي والاقتصادي. صحيح أن وعيه بتناقضات هذا المشروع الناصري هو الذي أدخله في صراع معلن ومضمر معا معه، وهو الذي استلزم البحث عن أدوات تعبيرية جديدة لبلورة هذا الصراع وتجسيد تناقضاته، لكن هذا الصراع نفسه أرهف وعيه بإمكانية تحقيق إرادته ولم يوهنها. وكرس انطلاقه من رواسي هذه النزعة الإنسانية التي تعتقد بمركزية الإنسان، وبقدرته لا على فهم واقعه فحسب، وإنما على تغييره كذلك. فجل أعمال كتاب جيل الستينات الروائية تكتسب حدتها النقدية من هذه الرغبة الحارقة في تغيير العالم والتي تتخلل كل تفاصيل هذه الروايات، ولا يمكن فهمها بحق دونها. وكل برنامج للتغيير لا ينطوي على فهم للواقع الذي صدر عنه فحسب، وإنما على نقد له، وتصور مضمر للتغلب على كل مسالبه كذلك، فضلا عن يقين عميق بأن هم كلا النقد والتغيير هو الإنسان الذي لايزال في مركز الاهتمام، بل مركز الكون الإبداعي ذاته.
لكن الأمر اختلف عن ذلك اختلافا جذريا مع ظهور جيل التسعينات في الرواية المصرية. فإذا كانت النزعة الإنسانية تنهض على مركزية الإنسان، وخاصة الإرادة الإنسانية، فكيف لمثل هذه النزعة أن تجد لنفسها صدى لدى شباب التسعينات في مصر الذي يجد نفسه مهمشا وليس مركزيا، وتعصف كل الظروف المحيطة بإرادته، بل تزري بها كل تناقضات الحياة اليومية في مصر. حيث يتعرض الشباب خاصة لشتى صنوف الهوان والعنف الرمزي والفعلي على السواء. فكلما ازداد وعي هذا الشاب التسعيني بما يدور في الواقع المحلي، والعالم من ورائه، حوله كلما ازداد إحساسه باستحكام الأزمة القومية والشخصية على السواء، وتعمق وعيه بتناقضات الواقع الاجتماعي والاقتصادي من حوله، وتفاقم شعوره بالإحباط والعجز واليأس والمهانة. في هذا المناخ يشعر الشباب ـ وعن حق ـ بانسداد الأفق أمامهم كلية. فكل كل شيئ حوله يهمشه ولا يعبأ به. ويجعله يحس بانعدام إمكانيات تحقيق إرادته إلى أقصى حد، إلا في حدود تدمير الذات، أي في حدود السيطرة على جسده فحسب. وهذا هو السر في تنامي كتابة الجسد بين هؤلاء الشبان لأنها المنطقة الوحيدة التي يستطيع هذا الجيل تحقيق إرادته فيها.
ومع إنسداد الأفق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على السواء، بدأت القطيعة مع كل مصادرات النزعة الإنسانية التي يعي هذا الجيل، أكثر من غيره من أجيال الرواية العربية منذ محمد حسين هيكل وحتى جيل الستينات، عيوب النزعة الإنسانية وجنوحها إلى إضفاء طابع مثالي وكلي على التجربة الإنسانية، وتغليب الأمل عى اليأس فيها. فأي نزعة إنسانية يمكن تبنيها في عالم تسوده قوانين الغابة وحدها، وتتفشى فيه كل صنوف البلطجة والبذاءات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على السواء. فثمة ـ لدى هذا الجيل ـ إحساس طاغ بأن التجربة الموحدة التي كانت تؤمن بها الجموع قد تناءت إلى منطقة بعيدة عن إدراك الذات الحديثة، وأن ثمة نوع من المرض أو قل الفساد قد تسرب إلى بنية الثقافة ذاتها، وأدى إلى تفشي نوع من الإحساس المؤلم بالذنب دونما جريرة. ولذلك فهو ذنب عبثي إلى حد ما، لأنه لا جريرة للذات فيه ولا مسئولية لها عنه. ويتخلل هذا الإحساس المر بالذنب كل كتابات هذا الجيل الشعرية منها والنثرية، ولكنه أوضح ما يكون في الرواية المصرية الجديدة. حيث الإنسان فيها مجرد (الصفر الحادي والعشرون) يأكل الخوف روحه، وتدفعه مواضعات الواقع خارج الزمن ولا يكاد يعثر لنفسه إن كان محظوظا على (دكة حشبية تسع اثنين بالكاد)، أو يتخبط في (هراء متاهة قوطية) أملا في الارتفاع (فوق الحياة قليلا) ويتحرك (داخل نقطة هوائية) في (مدينة اللذة) الكابوسية الخاوية. والمرأة في هذا العالم الغريب ليست إلا (قميص وردي فارغ) في عالم لايعد بأي امتلاء، يريد أن يدفعها من جديد إلى (الخباء) الذي توهمت المرأة قبلها أنها قد تحررت منه.
في هذا العالم التسعيني الجديد لم يعد ممكنا اللجوء إلى بنية نسقية ذات تطور منطقي كما كان الحال في روايات نجيب محفوظ الواقعية بمصادراتها الإنسانية الراسخة، لأن هذه المصادرات قد تعرضت للتزعزع ـ كما ذكرت ـ ولأن الواقع نفسه وقد غاب عنه المنطق ذاته لم يعد يتسم بالنسقية والتطور والنظام. ولم يعد الخاص انعكاسا للعام، بل أصبح نوعا من الصدام المستمر معه بعدما استحال التوفيق بينهما. وأصبحت ثمة حاجة إلى نزعة جديدة هي نزعة الرفض التمردية التي يؤكد عبرها الخاص رفضه للعام، أو يعلن عبرها على الأقل عدم إذعانه له، ورفضه للوقوع تحت سلطانه. فبدلا من البنية القديمة «بداية ـ وسط ـ نهاية» استبعدت البنية الجديدة الوسط من حسابها، مما يؤدي إلى الإخلال بتوازن العالم المقدم وطرح إشكالياته الكيانية في المقدمة. لكن الانشغال بالهاجس الكياني في هذه الأعمال ليس توجها محسوبا، ولكنه أقرب إلى الارتجال العفوي أو الهم الحدسي، منه إلى الشاغل العقلي المبرمج.
فمع فقدان الهاجس المعرفي لمركزيته، والمتون الفكرية الكبرى grand narratives لمصداقيتها ومشروعيتها، لم يعد بمقدور الذات الكاتبة الجوء إلي منطق التراتب القيمي والمعنوي والذي تعتمد عليه بنية التسلسل المنطقي السببية «بداية ـ وسط ـ نهاية» لأن الأساس المعرفي الذي ترتكن إليه هذ البنية ذاتها فقد هو الأخر مصداقيته، وما عاد باستطاعة الذات الكاتبة الاستكانة إلى صلابته. ومن هنا أصبح علي الكاتب التعامل مع سرود عديدة متصارعة تستهدف تقديم الواقع أو احتيازه أو تمثيله، فيما يعرف في السرد الحديث بمصطلح competing representations of reality التي لايمكن الاعتماد فيها على علاقات التراتب القديمة، وإنما على علاقات التجاور الذي لا يعرف الكاتب قبل راويه منطق وجودها ولا سلطان له عليها، أو لاقدرة له على التحكم فيها. فالذات الكاتبة لم تعد صاحبة الوعي المركزي المضمر المسيطر على النص، كما كان الحال مع المنطلق المعرفي للرواية. وحتى نتعرف على طبيعة هذا التجاور لابد أولا من معرفة المنطلق الفكري له، ونوعية القطيعة المعرفية وما ترتب عليها من نقلة فكرية مهمة في هذا المجال.
إذا ما أردنا البحث عن الجوهر الفلسفي للقطيعة المعرفية مع النزعة الإنسانية الحداثية القديمة، أو القاسم المشترك الذي يميز مجموعة التغيرات التي تدعونا إلى البحث في جماليات الرواية الجديدة في مصر، سنجد أن فقدان الثقة في النزعة الإنسانية قد عبر عن نفسه فكريا في جل هذه النصوص من خلال الانتقال على الصعيد الفلسفي أو على صعيد المصادرات المنطلقية من الانشغال بالهاجس المعرفي epistemological إلى التعامل مع الهاجس الكياني ontological ـ أو الوجودي بالمعنى الفلسفي المطلق الذي يتعلق بوجود الشيئ وكينونته. بمعنى «تأييس الأيس من ليس» كما يقول الكندي، وليس بالمعني السارتري الشهير للكينونه. وقد تجسد هذا الأمر في التغير الذي انتاب الأسئلة التي يطرحها إنسان النص علي نفسه من: «كيف يمكنني تفسير هذا العالم وأنا جزء منه؟ ما هو موقعي فيه وموقفي منه؟» إلى: «أي عالم هذا؟ ماذا يمكنني أن أعمل فيه؟ وأي جزء من نفسي المنقسمة على نفسها تنهض بهذا الممكن؟» فبدلا من الأسئلة المعرفية التي كان يضج بها النص الحداثي: ماذا يمكن معرفته؟ ومن الذي يعرف؟ وكيف تأتى له الوصول إلى هذه المعرفة؟ وما هو مدى يقينية هذه المعرفة؟ وكيف نثق فيما يرويه لنا الراوي؟، وما هي الحدود بين الذاتي والموضوعي؟ وهل يمكن حقا أن يكون ثمة قص موضوعي؟ وكيف تنتقل المعرفة من عارف إلى آخر؟ وكيف يتغرير موضوع المعرفة بمجرد انتقاله من عارف إلى آخر؟ وإلى أي حد نعوّل على هذه المعرفة؟ وما هي حدود المعرفة؟
بدلا من كل هذه الأسئلة المعرفية أصبح النص التسعيني الجديد مشغولا بنوع آخر من الأسئلة الأنطولوجية أو الكيانية المتعلقة بكينونة العالم والإنسان معا: ما هو العالم؟ أي عالم هذا؟ وكيف يتكون هذا العالم؟ ولماذا يتكون بهذا الشكل؟ وكيف يختلف عالمنا هذا عن غيره من العوالم؟ وماذا يحدث حينما تتواجه العوالم المختلفة؟ ومذا يجري عندما تنتهك الحدود بين العوالم؟ هل يمكن حقا القول بوجود نص روائي؟ وما هي صيغة وجود النص؟ وكيف تتحقق كينونته ذاتها؟ أو كيف تتخلق حركيته؟ وما هي صيغ وجود العوالم التي يجسدها النص؟ وكيف تنبني هذه العوالم النصية؟ وغير ذلك من الأسئلة الكيانية. وليست هذه أسئلة بدئية، بمعنى أن الكاتب يطرحها على نفسه ويخرج منها بموقف يبني عليه عالمه، ولكنها أسئلة يطرحها النص في ساحته وينشغل بها على الدوام بطريقة حدسية في المحل الأول. إنها الأسئلة التي تحرك بنيته وتتشكل عبرها غائيته، وتصاغ من خلال معاظلتها علاقات مفرداته الداخلية.
فالنص الروائي الجديد يضع كل شيئ تحت الممحاة Sous Rature بالمعنى الذي بلوره المفكر الفرنسي الشهير جاك ديريدا من جري مستمر وراء الكلمات التي محتها الكلمة المستخدمة، وحورتها، واستبعدت بعض دلالاتها، وأضفت عليها ظلالا وإيحاءات جديدة. وبالمعنى المباشر أيضا الذي يختلف عن معنى ديريدا معنى الإزالة والتقويض، معنى محو كل ما هو رازح وثابت، معنى البدء من جديد دون الاعتراف بأي مواضعات قديمة أو قواعد مكرسة. لأنه وهو يجد أن كل شيئ يمكن محوه، ويمكن تحديه، يكتسب من هذه الإمكانية نوعا من الأمل الخاص. فالمحو في نصوص هذه الكتابة الجديدة ليس تحديا لواقع من أجل فرض بديل له، ولكنه مجرد نزع لمصداقية هذا الواقع عنه، دون التفكير في طرح أي بديل. فقد فقد الكاتب الرغبة في التحدي، وفقد معها كل أمل زائف في البطولة مع نزعه قناع اليقين الأيديولوجي عن مفردات الواقع والكشف عما فيهما معا من خواء. لأن هذا الكشف في نظره هو البداية الضرورية لتأسيس أي شيئ مغاير، وهو المنطلق الأساسي للكتابة التي تعمل الممحاة في كل ما هو مدون، قبل أن تشرع في تدوينها الخاص على أنقاض هذا الممحي، بل تكون عالمها ذاته من هذه الأنقاض المهشمة ذاتها. ومن هنا نجد أن البتر والتهشيم من سمات هذه الكتابة اللغوية والدلالية كذلك. هو بتر للغة لم تترسخ بعد، لذلك يبدو في كثير من الأحيان وكأنه عجز لغوي لا بتر للمفردات، لأن المفردات عندها هي العالم، ولا عالم لديها خارجها. وأن جمالياتها ليست جماليات الصقل والكليات، وإنما هي جماليات التجاور والتجميع والجزئيات، أو ما أود دعوته بجماليات الفسيفساء.


والواقع أن الحيرة أو المتاهة المعرفية التي ينطوي عليها النص الحداثي هي بلاشك المقدمة الضرورية للمتاهة الأنطولوجية/ الكيانية التي ينهض عليها النص التسعيني الجديد. فما أن تصل الحيرة المعرفية إلى أفق مسدود، يتحطم فيه منطق التوقعات، وتسود العبثية بأسواء معانيها، حتى تبدأ أسئلة الحيرة الكيانية في التخلق: أي عالم هذا؟ لكن هذه الأسئلة إذا ما تنامت وتضاعفت وتعقدت ما تلتبث أن تقود من جديد إلى متاهة معرفية من نوع آخر. وهذا ما يؤكد جدلية العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة بالمعنيين الزمني والمفهومي معا. فالعلاقة بينهما ليست خطية، ولكنها جدلية ودائرية. فإذا كان ميشيل فوكو من الذين غيروا مفهومنا للبنية باعتبارها غير مستقلة عن أنساق المعرفة والسلطة/القوة، بل تتخللهما بنفس القدر الذي يتخللانها، وأخرجها بذلك من دائرة التبسيط، إلى الاشتباك بحركية هذه المتاهة المعرفية/ الكيانية/ المعرفية مرة أخرى. فإن بنية الخطاب السردي نفسه سرعان ما فقدت وضوحها وشفافيتها، ولم تعد منفصلة عن هذه الجدلية المعقدة بين المعرفة والسلطة/القوة. فقد أكد فوكو أنها ليست البنية وحدها هي التي تساهم في فهمنا لذواتنا وللواقع من حولنا، ولكنها الطريقة التي تتفاعل بها السلطة/القوة مع المعرفة، و تتخللها بها وتتقاطع معها، هي التي تكشف لنا عمليات القطع والقفزات وعدم الاستمرارية في التاريخ البشري. وأن كشف هذه الآلية هو الذي يفتح الطريق أمام الفهم. فالقوة عند فوكو ليست شيئا موجودا بصورة مستقلة خارجنا وإنما هي تتخللنا وتمارس فعاليتها بنا وتغيرنا وتؤثر فينا في وقت واحد، وهذه ليست عمليات متعاقبة ولكنها متراكبة ومتداخلة ومتزامنة معا، مما يجعل من الصعب علينا الفصل بينها أو عزل أي بعد منها عن أبعادها الأخرى.
وهذا ما يتحقق بشكل له خصوصيته وفرادته بالطبع في النص الروائي التسعيني الجديد. فالمنطلق الذي تنطلق منه هذه الحساسية الأدبية الجديدة منطلق شكي واحتراسي في المحل الأول. يطرح كل المقولات اليقينية والافتراضات المسلم بها عن الأعراف والمواضعات الاجتماعية منها والأدبية وراء ظهره. ويعي مدى ما في الأشياء والمواقف والشخصيات من التباس وازدواجية وتداخل وتعقيد. فهي حساسية تعتمد على التجاور بين الذاتي التأملي والواقعي التاريخي. والتجاور هنا هو التجاور المحايد الذي لايؤكد أحدهما على حساب الآخر، كما فعلت الواقعية في تأكيدها للواقعي والموضوعي على حساب الذاتي، أو كما فعلت الحداثة في إعلائها لشأن الذاتي والفردي علي حساب الموضوعي والجمعي. وفي برهنتها على أن المسافة بين الذاتي والموضوعي توشك ألا يكون لها أي وجود محسوس أو مستقل. إنه تجاور محايد يبلغ فيه الحياد درجة اللامبالاة المطلقة بكليهما. تجاور يبدو فيه بوضوح عدم الاكتراث بأي منهما، وكأنما التقط تفاصيلهما عابر سبيل وضعها بمحض الصدفة بجوار بعضها البعض بالصورة الاعتباطية التي تبدو عليها كثيرا في النص. فالحياد البادي الذي يتجلى في كل النصوص التسعينية الجديدة ليس خاليا من الموقف، ولكنه ينطوي على رفض قطعي لكل المواقف الأحادية واليقينية المسبقة، ويطرح بدلا منها الشك والتعددية. كما أنه حياد يلغي تراتبات الواقع الجائرة التي ينهض عليها المجتمع الجديد من ساحته، بل يسخر منها. فهي عنده تراتبات فاقدة لكل مصداقية ولا مشروعية لها. لذلك يستبدل بها التجاور الذي يبدو محايدا، ولكنه يتعمد في حياده ذاك إلغاء كل تراتب.
فوعي السرد التسعيني الجديد بسرديته ونصيته، وإعلانه لهذا الوعي في ساحة النص نفسه، وما يبدو وكأنه نوع من الغرام بتفكيك العملية الإبداعية أثناء صيرورتها الكتابية، ليس نوعا من الترف أو اللعب الإسلوبي، وإنما هو التجلي الواضح لفقدان الذات الكاتبة ليقينها القديم من ناحية، وعجزها عن أن تكون الوعي المركزي المسيطر على النص من ناحية أخرى. إنها شكل علاقة القوى الجديدة بعد أن استنزفت التغييرات الجديدة قواها. وهي بنت الوعي بوجود الإنسان وسط غابة من السرود المتضاربة والمتنازعة contestational narratives والتي تتطلب منه باستمرار الشك في مصداقيتها والسخرية من مشروعيتها المدّعاة. وهو وعي يدرك أن وجود هذه السرود المتضاربة خارج النص ليس وجودا مستقلا عن النص، وإنما يوجد النص بها وفيها، وتتشكل ماهيته عبر اشتباكاته المستمرة بغابتها الكثيفة. ومن المثير للدهشة أن هذا الوعي المضمر والحدسي في النصوص التسعينية الجديدة بالوجود في غابة السرود المتضاربة والمتنازعة وبها، هو المسؤول في تصوري عن تلك النقلة التي حققها من السرد المتعدي إلى السرد اللازم ـ وهو مصطلح مستعار من كتب النحو، حيث تنقسم الأفعال نحويا إلى أفعال متعدية وأفعال لازمة لا يمتد تأثير فاعلها إلى مفعول إلا من خلال وسيط ـ . فقد كان السرد القديم سردا متعديا كالفعل المتعدي الذي يمتد تأثيره إلى أكثر من مفعول به أو فيه أو معه، أما السرد التسعيني الجديد، وبرغم وعيه بسرديته، فإنه كالفعل اللازم الذي لا يمتد تأثيره خارج جدود فاعله إلى أي مفعول به. أي أن السرد العفوي أو الجزافي لا يطمح ـ ظاهريا على الأقل ـ إلى تغيير العالم كما كان الحال في السرد القديم، ولا حتى إلى التأثير في القارئ. إنه سرد مكتف بذاته، كالأفعال اللازمة التي ينتهي دورها بمجرد القيام بها، ولا يمتد تأثيرها إلى خارج نطاق فاعلها. ولذلك فإن فك شفرات هذا السرد أصعب من فك شفرات سابقه الذي يمكن الاستفاده في عملية فكه من كل العناصر الخارجية عنه، ومن المفاعيل التي يمتد تأثيره إليها.
ويتطلب هذا اللزوم السردي من القارئ منزعين متضاربين: أولهما الانفصال عن النص والتعامل معه بشكية، وثانيهما الانخراط فيه دون التماهي معه، وسبر أعماقه الدلالية، واستشفاف المضمر فيه. وتضارب المنزعين هو ما يجهز على نزعة التماهي مع المسرود من ناحية، ويتطلب البحث في آليات التلقي الجديد من ناحية أخرى. إذ ينطلق هذا السرد من الوعي بأن ثمة عالما جديدا ينبغي تقديمه في السرد، وأن تقديم هذا العالم الجديد يختلف ثقافيا وإيقاعيا وموقفيا عن العالم القديم، ويستدعي بالضرورة القطيعة مع أدوات العالم القديم ومنطقه وجمالياته. والتعددية هي إحدى الأجوبة التي تطرحها الكتابة الجديدة على الوضع المتأزم الذي وجدت فيه الكتابة السردية نفسها إزاء متغيرات الواقع الصادمة. خاصة وأن هذه التعددية تتيح للمهمشين الذين عانوا من قبل من الإهمال وضعا مساويا، لذلك الوضع الذي يستأثر به من هم في الصدارة ومركز الاهتمام. صحيح أن ثمة تعددية في المنطلق الحداثي، ولكن الفرق بين التعدديتين أن الأولى تتبنى مصادرات النزعة الإنسانية دون تعريضها للشك أو التساؤل، بينما تنطلق الثانية من شك جذري فيها، ومحو لكل رواسيها، وتتطلب مراجعة شاملة للكثير من منطلقاتها. فبدون هذه المراجعة لا أمل لديها في الخروج من الأزمة التي تعاني منها الثقافة العربية التنويرية التي قامت على هذه النزعة الإنسانية طوال القرنين الماضيين. فالفرق الأساسي بين المنطلق الحداثي والمنطلق التسعيني الجديد هو أن الأخير يرى أن الداء قد استشرى في هذا الثقافة ولم يعد ثمة أمل في الشفاء. وأنه لابد من تجاوز المنطلقات الحداثية ذاتها، بل وتجاوز الكثير من محددات النزعة الإنسانية إذا كان ثمة أمل في التغلب على أزمة الثقافة المعاصرة. لكن الرواية الجديدة لا تطرح هذا كله على صعيد الرؤية بقدر ما تطرحه على صعيد البنية والأسلوب لأن للشكل عندها محتواه الذي لاينفصل بأي حال عن رؤى هذه الرواية وعوالمها. لذلك كان لابد من التريث عند هذه التجليات، والتعرف على خصائصها وسماتها.
وأول هذه السمات هي التناقض حيث يبدو النص متناقضا مع نفسه كنص لايريد الالتزام بداءة بالمقاييس الجمالية أو المعايير التجنيسية، ولكنه ينضوي في الوقت نفسه تحتها ويقدم نفسه ضمن محدداتها. وهذ التناقض الجوهري هو الذي يسم السرد الجديد بالتوتر المستمر بين الالتزام الظاهري بقواعد السرد ومصادراته، وبين قلب هذه القواعد والمصادرات رأسا على عقب. ومن هنا فإن وعي هذا النص بالخط الرفيع والحرج بين الرغبة في تأكيد استقلالية الأدب كمنتج لغوي له شفراته وبنياته النصية المتفردة؛ والنزعة المناقضة ـ والتي لا تقل عن تلك الرغبة أهمية ـ لتأكيد فاعلية الأدب في سياقه الحضاري الأوسع، هو أحد مصادر هذا التوتر الدائم في الكتابة فيه. فتناقض النص نفسه ينطوي على وعي ضمني بتناقضات الوضع الراهن والتي تمتد إلى بنية النص نفسه، ولا يضاهي هذا الوعي إلا الرفض الواعي لأي محاولة للإجهاز علي هذه التناقضات أو حتى إهدار الطاقة لحلها. فقد أدى طرح النزعة الإنسانية كمنطلق إلى نوع من العدمية التي تترفع عن إهدار الطاقة في حل مثل هذه التناقضات. وهذا هو مصدر حس الأزمة الفاجع والساخر معا في النص التسعيني الجديد، لأنه يبرز مشكلة المعنى بالمفهوم الفلسفي من خلال رفضه تحويل الجزئيات والوقائع والأحداث إلى «حقائق» أو «مفاهيم» والإبقاء عليها في منطقة الأعراف التي تساؤلها باستمرار حول دلالاتها ومعناها، وبالتالي تفتح الباب للتكشيك في ماهيتها ذاتها.
فالنص الجديد لا يطرح التناقض كموضوع للتناول، وإنما كحالة كيانية تتغلغل في بنيته ذاتها. ومن هنا فإن بنيته ذاتها هي المعادل للبنية المتناقضة للواقع الجديد الذي يصدر عنه. حيث تبدو السلطة فيه لا كسلطة حقيقية كما كان الحال في الماضي، لها إرادتها الحرة ومشروعها المستقل، تقبل الآخر أو تتحداه وفق منطق وطني متسق مع مصلحته، وإنما كخيال مآتة، أو وهم للسلطة، يشعر هو نفسه بفقدانه للمصداقية والمشروعية معا، فيبالغ ـ والمبالغة من سمات هذا النص الجديد كما سنبين بعد قليل ـ في إبراز سلطته. لأن هذه السلطة العربية التي تمارس قمعها الوحشي على أبناء شعبها تتحول إلى كلب مطيع يبصبص بذنبه دائما كلما دعاه دعاة البيت الأبيض، لا سلطة له ولا إرادة، وإنما يعاني من التهميش وفقدان الذات. حيث لا يعبأ به سادته كثيرا إلا في حدود التزامه بالدور المخصص له، والتفنن داخل حدود هذا الالتزام. إذن فالتناقض هو جزء أساسي من بنية الواقع كما هو السمة الأساسية لبنية النص. وإذا كانت السلطات العربية تعوض هامشيتها إزاء سادتها في البيت الأبيض بالاستئساد على شعوبها، فإن هذه السمة هي الأخرى سمة نصية. لأن الأنا التي لم يعد لها دور مهم في واقعها بعدما أنسد في وجهها الأفق فيه كلية، سرعان ما تعوض ذلك بتحقيق مركزيتها في النص. واستراتيجيات التعويض والتعبير بالتضاد أو الصياغات المقلوبة من سمات هذا النص الجديد.
فالنص الجديد يؤسس عالمه السردي كله على هذا الخيط الفاصل بين العالم السردي/ المكتوب/ المتخيل/ الذي يمكن قراءته على الورق، ولا يمكن إعادة إنشاؤه في الواقع وبين العالم الواقعي خارجه باعتبارهما أنطولوجيا متماثلان ومختلفان معا في آن. فالنص الجديد يحرص على هذا التمايز الكياني أكثر من حرصه على أي مشابهة بينه وبين الواقع الخارجي. صحيح أنه يعي أن هذه المشابهات هي دائما من المفاتيح الفاعلة في عملية التلقي، إلا أنه يهتم أكثر بعمليات التعويض والتعبير بالتضاد، وقلب البنى والمعايير رأسا على عقب. وتتصل بعمليات التعويض والقلب تلك سمة سردية أخرى هي التقطع أو عدم الاستمرارية. وهي من أكثر سمات هذا النص إشكالية، لأن قطيعتها ليست قطيعة معرفية، فالقطيعة المعرفية تنطوي على موقف يقيني يعرف ما يريد، ويسيطر على أولوياته وبدائله. ولكن التقطع هنا هو أقرب ما يكون لفقدان الاستمرارية والإجهاز على كل أشكال التماهي مع كل ما هو خارج النص أو الاعتماد على منطقه. فالنص الجديد لايريد أن تنهض افتراضاته على ما نعرفه بالفعل، بالرغم من مواجتها الإدراكية الواعية لكل ما نعرفه. ولكنه يحرص على بناء استقصاءاته على قطيعة واضحة مع منطق الحياة كما نعرفها خارجه. ولكنها ليست من نوع القطيعة المعرفية كما ذكرت، ومن هنا كان هذا التقطع وعدم الاستمرارية من سماته الجمالية ذاتها. حيث يتحول التقطع فيه إلى نوع من خلق الفجوات المستمرة في السرد. وترك هذه الفجوات للقارئ لملئها بنفسه واجتهاداته من ناحية، أو لاستخلاص المضمر فيها من ناحية أخرى. وتبلغ بعد النصوص بهذه السمة حدا يجعل تلقيها عملية تحتاج إلى جهد ملحوظ من القارئ كما هو الحال مع نصوص عادل عصمت وحسني حسن، وعاطف سليمان، وأحمد غريب .
وينقلنا هذا إلى سمة أخرى من سمات هذا النص الجديد وهي جزافيته البادية وعفويته randomness حيث يبدو أنه لايتعمد أي شيئ. فإذا كانت أبرز خصائص الحداثة العامة والتي تمتد من الفن التجريدي عند بيكاسو وبراك إلى الكتابة الحداثية عند إليوت أو جيمس جويس هي الاهتمام الواعي بجماليات العمل الفني ومكوناته الشكلية، ووعي العمل الفني الواضح ببنيته ومكوناته الداخلية وانشغاله بهما، وبما ينطويان عليه من إمكانيات تأويلية. فإن أبرز خصائص السرد التسعيني الجديد هي إضمار هذا كله والتظاهر بأن النص لايعبأ بأي شيئ، بما في ذلك بنيته الجمالية ذاتها. وأن كل ما يورده النص هو مجرد استرسالات عفوية أو جزئيات تتجاور بشكل جزافي أو اعتباطي. وتوشك رواية عبداحلكيم حيدر (ورد الأحلام) أن تكون نموذجا جيدا لهذه السمة حيث تبدأ الرواية مع قارئها لعبة الاحتمالات الجزافية المتعددة منذ دخوله عتبات النص. وتبدو الرواية نفسها بسردها المليء بالشكوم والمشاريع المحبطة وكأنها نص بديل لنصوص عديدة لم تكتب، أو تجل آخر من تجليات هذه الكتابة الممحوة. وترتبط بهذه السمة سمة أخرى يمكن دعوتها بالتخلي العفوي عن عالم التفاعل الاجتماعي، عن نبرة المواجهة والصراع معا، وفعل كل شيء دونما ادّعاء بالفعل، ناهيك عن ادّعاء البطولة. وهو تخل عفوي لا عن عالم هذا التفاعل فحسب، وإنما عن كل ما يرتبط به من مواريث وتقاليد ومواضعات. بصورة تبدو معها أن هذه الكتابة ترتد بالإنسان إلى بكارته الأولى. بل إن ثمة ولع بهذا الارتداد، وخاصة في النصوص التي تعاملت مع القرية المصرية وهي قليلة نسبيا، ولكنها تتسم بالتميز الشديد. ففي رواية (الصنم) لأشرف الخمايسي نجد البطل نمطا بدئيا للبكارة، وهذا هو الحال نفسه مع رواية (نجع السلعوّة) لأحمد أبوخنيجر، و(موسم الرياح) لسمير المنزلاوي.
ومن السمات المتعلقة بهاتين السمتين ما يمكن دعوته بالحد الزجاجي بين الوعي واللاوعي. فالفاصل بينهما في هذه النصوص السردية أقرب ما يكون إلى الحد الزجاجي. بمعنى أنه حد شفيف لايميز بين الأثنين، ولا يسعى لتأكيد الانتقالات بينهما، ولكنه كالزجاج السميك الذي لا يمكن لنا التمييز بين سطح منه والسطح الآخر. لكن القدرة على رؤية ما يقع في أي جانب من جانبيه من الجانب الآخر، لا تقلل من قدرة الزجاج على الفصل بينهما، ولا تعني في الوقت نفسه قدرة ما في جانب ما على لمس ما في الجانب الآخر، ناهيك عن الاندماج فيه. وهذا الفاصل بين الجانبين هو إحد تبديات تغير جماليات الحبكة السردية ذاتها. لأن أهم ما انتبابها في هذه الكتابة الجديدة هو أنه لم تعد للقصة حبكة بالمعنى التقليدي. بحيث يكون لها بداية ووسط ونهاية، بل تم الإجهاز كلية على الوسط ـ وهو عادة مركز الدراما في الحبكة ومحركها. وقد أثر استبعاد الوسط بالتالي على بنية الحبكة الكلية بأن جعلها بنية الحد الأدنى. التي تعتمد على التناقض وطلسمة الخيط السردي التعاقبي. وقد ارتبطت هذه الطلسمة بسمة أخرى وهي المبالغة. فمن منا لم يشتك من مبالغة النصوص السردية الجديدة في الإغراق في الغموض، أو العصف بالروادع الأخلاقية، أو مجافاة الذوق السائد، أو المبالغة في الشبقية وصدم الواقع.
أما خاصيتها الثانية المهمة، والتي ترتبط بتلك الخاصية الأولى وتتفاعل معها فهي الوعي الدائم بالأزمة الناجمة عن تأزم بنية النزعة الإنسانية ذاتها، وبأن ثمة انهيار محيق لا سبيل إلى درء عواديه، وهو أمر يتصل كذلك بحالة من التفتت والتشظي لا فكاك منها. إن التمثيل الواقعي الهادئ الذي ينطوي عليه سرد وائل رجب مثلا في روايته (داخل نقطة هوائية) لا ينتمي بأي حال من الأحوال إلى سرد المحاكاة الواقعية القديم، وإن تظاهر بذلك، بقدر ما يطرح المحاكاة باعتبارها أداة لاحتياز الواقع، إو ترويضه وليس لعرضه representation as reclamation أو بالأحرى وسيلة لاستنقاذ ما يمكن انقاذه من هذا الركام من المادة المتاحة في الواقع، وفي الذاكرة على السواء. فهذا التمثيل الذي يتظاهر بالحياد البادي أو يتذرع به ليس إلا شكلا من أشكال السخرية من هذا الركام، والاحتجاج عليه وإعادة النظر الضمنية أو التشكيك الجذري في موضوعية مثل هذا التمثيل أوالمحاكاة. إنه يلجأ إلى هذه المحاكاة الساخرة من أجل تعرية الواقع والفن على السواء، لأن المحاكاة الساخرة Parody هي واحدة من استيراتيجيات هذه الكتابة الجديدة. إذ يلجأ النص عند وائل رجب، وعند عبدالحكيم حيدر، وأحمد غريب، ومصطفى ذكرى ومنتصر القفاش كذلك إلى طرح ما يمكن دعوته بالعوالم المتوازية، والتي لاتتقابل أبدا بحكم منطق التوازي ذاته. فما يطمح النص الجديد إلى تقديمه أقرب ما يكون إلى الـ antiterra وليس الكابوس كما كان الحال في نصوص الحداثة السابقة عليه. فوائل رجب مثلا يمزج ثلاث مراحل في حاضر واحد. سنوات طفولة الأب وسنوات شباب الأبناء في من واحد قادر على استيعاب الزمنين معا دون إحساس بالتناقض بينهما.. بل إن الجغرافيا الريفية والجغرافيا الحضرية تتندغمان معا في نصه بصورة تنمحي معها الحدود الفاصلة بينهما عادة.
والنص التسعيني الجديد مشغول علاوة على هذا كله بعملية إعادة تثقيف القارئ، وخاصة فيما يتعلق بمواضعات تلقيه. فإحد خصائص الكتابة الجديدة هي الاهتمام بالقارئ داخل النص، وبعملية تلقيه له. لآن الكاتب يعي أن عملية الكتابة ذاتها تجرد الكاتب من سلطته على النص بدلا من تأكيدها ـ كما كان الحال في الماضي ـ لأنها تخلق نصا لا يعتمد كلية عليه بقدر ما يعتمد على القارئ الذي يمنحه وجودا مشروطا بنوعية تلقيه له. وهو لذلك مشغول بآليات هذا التلقي وبكيفية تجريدها الكاتب من كل سلطة له على النص. وقد شكل هذا نقلة جوهرية انتابت منطلق العملية الإبداعية ذاتها وموقع الذات الكاتبة فيها باعتبارها الوعي المركزي المسيطر على النص، والمضمر في كل تفاصيله وجزئياته. فلم تعد تزعم لنفسها القدرة على الوقوف خارج موضوعها، ناهيك عن السيطرة الكاملة على كل تفاصيله. فقد عانت من الاغتراب والتشظي والتشوش، ولم يعد لديها ترف الاختيار. ومن هنا فقد تم التخلي عن هذا الوضع المتميز للذات الكاتبة التي لم تعد تتصور نفسها منفصلة عن موضوعها بأي حال من الأحوال بعدما توحدت الذات بالموضوع. ومنحت عملية إزاحة المسئولية من الكاتب إلى القارئ استجابة القارئ قدرا أكبر من الحرية حينما أخذت تكشف عن حيرتها إزاءهما: الذات والموضوع معا، وتعري هذه الحيرة وهي هنا ـ أي التعرية والحيرة معا ـ صنو عملية الكتابة ذاتها. وفقدت بذلك الذات الكاتبة سلطتها على النص وسيطرتها عليه.
وقد رافق ذلك تقويض الأساس المعرفي لشهادة الذات الراوية في النص والتشكيك المستمر في مصداقيتها. وكيف يمكن ألا تتزعزع مصداقية الراوي وقد يصدر عن واقع فقد فيه الجميع مصداقيتهم، واختلطت فيه الحقائق بالأغاليط والأغاريض، وفقدت فيه حتى أعتى المؤسسات السياسية مصداقيتها؟! فلم يعد الراوي ذاتا تابعة للمؤلف subaltern-self وإنما أصبحت هي والمؤلف معا تابعين للنص. وقد نجم هذا عن طلسمة الهوية وتمييعها blurring. فلم تعد الذات قادرة على التماهي مع نفسها ناهيك عن التماهي مع آخر، أو مع قضية. وهذه الطلسمة تعرض العالم المتخيل في السرد إلى الزعزعة، وتستأصل منه الرواسي التي كانت تساعد القارئ في عملية التلقي عادة، مبرزة بذلك إشكاليات هذا العالم الكيانية. وقد سبق أن تعرضت مصداقية الراوي للتزعزع بشكل كبير في سرد الحداثة الستيني، حيث بدا الأمر، في كثير من الأحيان، مجرد بوح ذاتي يقدم رؤية فردية صرفة لاتعبأ بأي من معايير الموضوعية التقليدية. وقد دفعت رواية التسعينات الجديدة هذه الخاصية إلى حدودها القصوى. فبعدما كان باستطاعتنا في قص الحداثة الستيني معرفة سر عدم مصداقية الراوي والدوافع الذاتية التي تدعوه لتحريف الواقع أن تعميه عن رؤية بعض جوانبه. أصبحنا مع هذا السرد الجديد غير قادرين على معرفة ذلك، لأن الرواية بسبب خاصية التقطع والسرد المتوازي تتذبذب باستمرار بين الحياد الموضوع الصارم مرة، والإسراف والإغراق في المغالاة الذاتية أخرى. كما أن هوية الرواي ذاتها وحقيقته هي من أكثر أبعاد العمل افتقارا للوصوح والاستقرار. فالمتاهة المعرفية قد تحولت فيها إلى متاهة وجودية أو كيانية، وإن تأرجح السرد في كثير من الحالات بين المتاهيتين، حيث أن المتاهة الوجودية أو الكيانية تنطوي على المتاهة المعرفية وليس العكس، كما في روايتي سمير غريب علي (الصقار) و(فرعون) أو في رواية ياسر شعبان (أبناء الخطأ الرومانسي) أو في روايتي حسني حسن، أو حتى في رواية هدى حسين (درس الأميبا).
وثمة رافدان مهمان من روافد هذه الرواية الجديدة يرهفان إحساسنا باستمرار بتزعزع مصداقية الراوي: أولهما هو اعتماد هذا الرواي باستمرار على الذاكرة وطرحها في مواجهة الواقع من ناحية، وفي مواجهة السرد الحيادي والموضوعي من ناحية أخرى. فالتذكر هو وسيلة الراوي الوحيدة والمشروعة لاستعادة زمن يتشظى، ومكان يتقوض باستمرار والإمساك بهما، ولكنها في الوقت نفسه خؤون ولا يمكن الاعتداد بها. وهي فضلا عن ذلك تستعيد هذا كله باللغة وهي الأخرى مراوغة تنطوي على عملية الإرجاء المستمرة التي بلورها دريدا وجلب بهذه البلورة إلى ساحة السرد الكثير من الإشكاليات. وقد تجسد الوعي بعمل الذاكرة والإرجاء معا بشكل كبير في رواية مي التلمساني الجميلة (دنيازاد) وفي رواية عاطف سليمان البديعة (استعراض البابلية) وفي روايات ميرال الطحاوي (الخباء)، ونجوى شعبان (الغر) ، وسحر الموجي (دارية). أما الرافد الثاني فهو الاجهاز على تسلسل الأحداث المنطقي، والولع بالفجوات السردية الناجمة بدورها عن خاصية التقطع التي ذكرتها. فقد تغير الموقف من التقاليد والمواضعات الأدبية كلية. ولم تعد التقاليد شيئا يحتذى، ولا المواضعات الأدبية معايير تتبع. بل أصبح التغاضي عنها جميعها، وليس التمرد ضدها أو رد الفعل عليها، هو النغمة السائدة في النص التسعيني. والدافع الأساسي الذي يحرك الكاتب إزاءها جميعا هو الرغبة في أن يكون صادما ومختلفا، بل وبذيئا. فلم يعد الواقع منطويا على شيء يحترم، أو يمكن احترامه ناهيك عن التعويل عليه. فقد كانت هذه المواضعات والتقاليد جميعا تصدر عن تصور منطقي عقلاني للعالم، يؤمن بالترابط أو التقدم المضطرد، وبنسقية المعرفة والإنتاج وإمكانية السيطرة عليهما، وبوجود حقيقة مطلقة ـ أحال إيمان الإسلاميين بامتلاكها مجرد التفكير في وجودها إلى شيء بغيض ـ والإيمان بالتخطيط وبوجود نظام اجتماعي مثالي يمكن الاعتداد به والاعتماد عليه، أو حتى التطلع إلى تحقيقه. وقد تقوض هذا كله مع تقوض المتون الفكرية الكبرى grand narratives فتقوضت بالتالي البنية الروائية التي كانت تنهض على هذا كله، بعدما انهار أساسها المعرفي من تحتها.
وإذا كانت أستاذتنا الراحلة العزيزة الدكتورة لطيفة الزيات كانت تؤكد ـ في دروسها لنا في النقد التطبيقي أيام الطلب ـ على أن التغير الجذري بين عالم كتاب الأربعينات أو الخمسينات الواقعي، وعالم كتاب الستينات الحداثي، يتجلى أبرز ما يتجلى في أن بطل العالم الأول كان مقتحما، ومستعدا لمواجهة العالم وساعيا لتغييره. كان بطلا وطنيا يطمح إلى تحقيق استقلال بلاده واستئصال ما بها من فساد واستعمار. بينما كان بطل جيل الستينات يعاني من الاغتراب، ويشعر أن مجرد عبور الشارع ينطوي على مجازفة خطرة، ولذلك فقد تقوقع على نفسه، ووقع أسيرا لاستراباته الغامضة، وحبيسا للقضبان المرئية وغير المرئية. كان بطلا قد وقع في أنشوطة وعيه بتناقضات الواقع الجديد، وخوفه من مجرد إعلان هذا الوعي ناهيك عن التصرف وفقا لما يمليه عليه من أفعال. إذا كان هذا هو الفرق بين المرحلتين، فإن النص التسعيني الجديد يقدم حالة مغايرة. نجد فيها أن هذا الشعور الطاغي بالاغتراب سرعان ما ترك مكانة لحالة من التفتت والتشظي التي تعيشها الذات التي فقدت مركزيتها كما يقول فيليب هاربر في دراسته الشيقة عن المنطق الاجتماعي لمابعد الحداثة. وهذه الذات التي فقدت مركزيتها decentered self هي الذات التي تستطيع استكناه الواقع من الداخل وكأنها جزء أساسي منه، ولكنها تشعر في الوقت نفسه بأنها ليست منه، وهو شعور يترك ميسمه على عملية الاستكناه ذاتها فيجعلها أكثر إرهافا وأشد مضاءا. لأنها ترى الواقع من داخله باعتبارها افرزا له، ولكن هامشيتها أو عزلتها عنه تمكنها من رؤيته من خارجه في آن واحد، فتتسم رؤيتها لذلك بقدر من العمق والبصيرة لا يتوفران في رؤية الواقع من داخله فقط، أو من خارجه فحسب.
هذا فضلا عن أن ما يسري في طوايا أغلب النصوص الروائية التسعينية ليس رفض الواقع الشائه في هذا الزمن الردئ، فقد تملصت هذه النصوص من الأساس الأيديولوجي الذي ينبني عليه أي رفض. وإنما عدم القدرة على تقبل حدود الوضع الذي يجد إنسان النص نفسه فيه. بصورة يبدو معها العجز عن تقبله وكأنه معضلة هذه النصوص المؤرقة، والتي تدفع الإنسان إلى الرثاء لعجزه عن الاكتفاء بذاته والاكتمال بها. فبطل النص التسعيني هو الإبن الطبيعي لمنطق تسييد الحل الفردي منذ اندلاع سياسة الانفتاح التي دمرت سلم القيم الاخلاقية والاجتماعية القديمة. وهو لذلك بطل حريص علي فرديته وفرادته، ولكنه لمرارة المفارقة محروم من ممارسة هذه الفردية بطريقة مترعة بالمعنى، فيمارسها بطريقة أقرب إلى التسكع الذي يفضى إلي العدم. وكأنه محكوم عليه بهذه الفردية الجوفاء. فالعالم المستعصي على الفهم يدور دونه، ويتعامل معه ليس فقط على أنه شخص هامشي أو غير مهم، ولكن أيضا وكأنه غير موجود أساسا. ولذلك نجد أن بطل هذا النص الأثير هو الإنسان الذي يشعر ـ وإن رفض الاعتراف لنفسه بهذا الشعور في أغلب الأحيان ـ بنوع من الوحشة واليتم في مواجهة هذا العالم المستعصي على الفهم. فثمة نوع من النبذ غير المقصود، وغير المتعمد، يمارس ضده دون مبرر، ويثير فيه قدرا من السخط على كل ما حوله دون فهم لدوافع سخطه، أو حتى تعاطف مع المنبوذين مثله. وكأن المطلوب منه أن يختفي أو يشعر بأنه زائد عن الحاجة.


وهكذا تتأكد على الصعيدين الموقفي والنصي معا مع هذه النقلة الثالثة في تحولات الخطاب الروائي وتبدل آفاق تأويله وتلقيه، تلك القطيعة الكاملة مع مصادرات النزعة الإنسانية، وذلك الغني النصي الذي تواصل فيه الرواية التسعينية فتح أفاق جديدة لرواية قواعد الإحالة الاستعارية.






هوامش
راجع إدوار سعيد: Edard Said, The World, The Text and the Critic (Cambridge, Massachusetts, Harvard University Press, 1983.
. راجع على سبيل المثال محمد رشدي حسن (أثر المقامة في نشأة القصة المصرية الحديثة) القاهرة 1956.
. راجع كتابنا The Genesis of Arabic Narrative Discourse: A Study in the Sociology of Modern Arabic Literature والذي صدرت ترجمته العربية بعنوان (تكوين الخطاب السردي العربي: دراسة في سوسيولوجيا الأدب العربي الحديث) من ترجمة الدكتور أحمد بوحسن (الدار البيضاء، مطبعة القرويين، 2002)، ص 392.
. راجع في هذا المجال دراسات مثل عبدالمحسن طه بدر (تطور

#2 [تحولات الخطاب الروائي العربي: تبدل الجماليات وأفق التلقيرابط المشاركة #2] ماجد رشيد العويد و محمد محمد حسين (الاتجهات الوطنية في الأدب المعاصر) القاهرة 1956 أو عبدالإلاه أحمد (نشأة القصة وتطورها في العراق) بغداد 1969 أو محمد يوسف نجم (القصة في الأدب العربي الحديث) بيروت 1958، أو إبراهيم السعافين (تطور الرواية في بلاد الشام).
. راجع مجلة (الناقد) لندن، عدد 26 في شهر أغسطس / آب 1990 ص 34 – 39.
. راجع مجلة (ألف: مجلة البلاغة المقارنة) القاهرة عدد 21 عام 2001 ص 184-246.
. فيصل دراج (من رواية الهزيمة إلى هزيمة الرواية) في العدد الخاص من (أخبار الأدب) الخاص بمرور أربعين عاما على هزيمة حزيرانن وأعيد نشره في العدد السابع من مجلة (الكلمة) الشهرية الألكترونية يوليو 2007.
. كان هذا الانفصام ابن الانفصال التعليمي الأساسي الذي نجم عن تأسيس المؤسسة التعليمية الحديثة خارج نطاق نظام التعليم التقليدي وفي صراع ثقافي وسياسي وطبقي معه، بدلا من انبثاقها من داخل المؤسسة التقليدية القديمة كما حدث في أوروبا.
. مثل لطيفة الزيات وصوفي عبدالله، ونوال السعداوي ورضوى عاشور وسلوى بكر في مصر، ليلى بعلبكي وإميلي نصرالله وحنان الشيخ وهدى بركات في لبنان، عالية ممدوح في العراق وعروسية النالوتي وعلياء التابعي في تونس، وأحلام مستغانمي في الجزائر.
. راجع في هذا المجال دراسة ياكوبسون الأساسية: Two Aspects if Language and Two Types of Aphasic Disturbances والتي نشرت في أكثر من مكان، ولكنها ظهرت في كتابه Roman Jakobson, Language in Literature, eds: Krystyna Pomorska and Stephen Rudy (Cambridge, Massachusetts, Harvard University Press, 1987), pp 95-121.
لم أستطع وضع الهوامش كاملة في البحث نفسه، ربما لطول البحث. فمن يملك من الزملاء إفادتي في هذا المجال فليفعل مشكوراً
. والواقع أن فهم مناداة الثورة الفرنسية بفصل الكنيسة عن الدولة، أي فصل مؤسسة الإرادة الكهنوتية عن مؤسسة الإرادة البشرية، في إطار هذه النزعة الإنسانية هو الذي ينقذ هذا المفهوم المهم من الخلط القاتل الذي تعرض له عندما ترجم في ثقافتنا العربية خطأ على أنه فصل الدين عن الدولة. فلايزال الدين ـ حتى في أعتى المؤسسات الغربية علمانية، من مؤسسة الدولة إلى المؤسسة العسكرية وحتى مؤسسة الجامعة ـ عنصرا فاعلا في حركيتها وتصوراتها. فالفكر الغربي حينما أسس استنارته ونزعته الإنسانية لم يؤسسها على الإلحاد، وإنما على العقلانية.
. هذا هو عنوان رواية محمود حامد محمود حامد الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة 1997
. هذا هو عنوان رواية شحاته العريان الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة 1998.
. هذا هو عنوان رواية سيد الوكيل الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة 1996.
. هذا هو عنوان رواية وائل رجب الأولى، صدرت عن دار شرقيات، في القاهرة 1996.
. هذا هو عنوان رواية عزت القمحاوي الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة 1997.
. هذا هو عنوان رواية نورا أمين الأولى، صدرت عن دار شرقيات، في القاهرة 1996.
. هذا هو عنوان رواية ميرال الطحاوي الأولى، صدرت عن دار شرقيات، في القاهرة 1997.
. للمزيد من التفاصيل راجع Michel Foucault, The Order of Things: An Archaeology of the Human Sciences (New York, Vintage Books, 1970),pp. 217-243
. في (هاجس موت) و(الرجل العاري) التي صدرت عن دار شرقيات، بالقاهرة عام 1998.
. راجع روايتيه (اسم آخر للظل) و(المسرنمون) وقد صدرتا عن دار شرقيات عام 1995، و1998.
. راجع مجموعته القصصية (صحراء على حدة) صدرت عن سلسلة الكتاب الأول، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، عام 1995، وروايته البديعة (استعراض البابلية)، القاهرة، دار النهر، 1998.
. أحمد غريب (صدمة الضوء عند الخروج من النفق)، القاهرة، نوارة للترجمة والنشر، 1996.
. راجع Phillip Brian Harper, Framing the Margin: The Social Logic of Postmodern Culture

الحضور والتماهي في الكتابة الروائية الجديدة في مصر( السارد والمؤلف)

د. أحمد عبد المقصود

إحدى جلسات مؤتمر أدباء مصر، 2008م، مرسى مطروح

أحمد أحمد عبد المقصود

تقديم

تقوم هذه الورقة البحثية بدراسة مركزية السارد وحضوره، والفضاء النصي الذي يحتله من خلال الآلياتِ السردية التي يستخدمها، وتجعل صوته مسيطرًا علي السرد، وُتمَحوره حول ذاته واهتماماته، وترصد العلاقة بين حضور هذا الصوت وبين المؤلف الحقيقي، وذلك في ثلاثة نماذج تنتمي إلي الكتابة الروائية للروائيين الجدد الذين أخذت أعمالهم تنتشر في مصر منذ حقبة التسعينيات من القرن الماضي .

وتدرس هذه العلاقة  من منطلق فرض يري أنه ثمة علاقة تماه ٍ بين السارد والمؤلف في الكتابة الروائية الجديدة، وأن هذا التماهي بوصفه علاقة بين طرفين: مجازي ( السارد ) وحقيقي ( المؤلف )، يدفع إلي رؤية السارد بوصفه صوتـًا فنيـًّا للمؤلف. وهذه العلاقة مشروطة بتصور أن النص الروائي الجديد ( الذي يصلنا من خلال صوت السارد، وهو ذات مجازية متخيلة ) لا يمثل المؤلف ـ وكذلك ما يتصل به من خبرات حياتية، و وقائع حقيقية، وأشياء موجودة في عالمه الحقيقي الخارجي ـ إلا بشروط خطابه الأدبي. و أول هذه الشروط إعادة بناء ما هو واقعي أو حقيقي، ليصبح علامة نصية مجازية لها قوة الحقيقي أو الواقعي. ومن ثم يصبح النص الروائي الجديد بخطابه الأدبي هو مصدر التعرف علي السارد/ المؤلف الذي صار علامة أو عنصرًا نصيـًّا، ومع هذه الصيرورة تنتفي الإحالة إلي السيرة الذاتية للمؤلف أو العالم الخارجي.

لنر ذلك من خلال النصوص.

التجريب واللعب ومحاكاة الذات في “الخوف يأكل الروح”

“الخوف يأكل الروح” رواية قصيرة، واضحة القصر، مقسمة إلي ثلاثة أقسام، في كل قسم يروي السارد حكاية عن شخصية أو شخصياتٍ، لا تحضر في القسمين الآخرين. الحاضر في كل أقسام الرواية، والقابض علي عملية السرد، هو مصطفي ذكري الذي يهيمن صوته، فيحكي، وينقل كلام الآخرين، ويشرح، ويعلق، ويعقب. مصطفي ذكري هو السارد وليس المؤلف الحقيقي كما سيتبادر إلي الذهن، فهذا اسم السارد الذي ورد في مفتتح الرواية علي لسان جورج المزيف ـ الزوجة التي كانت تقلد صوته ـ وهو يدعو صديقه للحضور:

“مصطفي .. مصطفي .. هكذا جاء صوته لجوجًا علي الهاتف». (ص12)

و ُذكر كاملا ً ـ في القسم الثاني ـ علي لسان السارد نفسه في سياق كلامه عن “الرسائل” التي كتبها لصديقة التليفون:

” تعليق علي الخطاب الثاني عشر المفقود، ويضاف في هذا الخطاب لسان آخر إلي ألسنة الباب الخارجي لبيت مصطفي ذكري». (ص42)

السارد مصطفي يضعنا أمام ظاهرتين متداخلتين: وجود سارد مسيطر علي عملية السرد، وتماهيه مع المؤلف الحقيقي. سيطرة السارد تحقق من خلال بعض الأساليب السردية والمهارات الكتابية التي تجعله مسيطرًا علي عملية السرد وحسب، وُتمَحورها حول ذاته واهتماماته. وهناك أسلوب بعينه يعتمد عليه سارد “الخوف يأكل الروح”، هو التوليد الذي ينتج تكرارًا، ويمكن القول إننا أمام سارد مولع بتوليد حكايات وأفكار، تتحول بفعل التوليد المستمر إلي مجموعة من التفاصيل، هذه التفاصيل تمثل الواقع وما هو موجود بالنسبة للسارد.

في الاستهلال أو مفتتح القسم الأول يقدم السارد أصدقاءه جورج وزوجته نانا، فيبدأ بتقديم  ما تتميز به نانا من “سمات خفية فوق طبيعية». (ص7)، ثم جورج الفنان التشكيلي الكلاسيكي الذي يشبه زوجته، ويمتلك كلبًا يجمع بينه وبين صاحبه عرج خفيف في الساق اليمني لكليهما. هنا يشرع السارد في سرد أفكاره حول ” تزامن العرج في الكلب وصاحبه». (ص9)، ثم يحكي قصة إصابة الكلب بالعاهة علي يد صاحبه. حيلة استغل فيها جورج طبيبين بيطريين، يكسر جورج ساق كلبه اليمني، ويحضر طبيبًا لوضع جبيرة، وبعد مضي نصف المدة يستدعي طبيبًا آخر لفكها، لتدوم عاهته أبدية “كما دامت عاهة صاحبه». (ص9)، ثم يرفع دعوي ضد الطبيب الثاني بتهمة فك الجبيرة في نصف المدة، فتحكم المحكمة “بسحب رخصة العيادة منه لكونه تسبب في عاهة مستديمة لكلب مرخص». (ص9). تنشر الحادثة تندرًا في صحيفة يسارية، ويقرأها الطبيب الأول وكان علي شيء من الثقافة، فيكتب تعليقا إلي الصحيفة ـ يلخص السارد مضمونه ـ استشهد فيه بمشهد في فيلم قديم بعنوان رجل وامرأة، يظهر فيه الرجل وكلبه وهما يغمزان في مشيتهما الغمزة نفسها، وبعد الاستشهاد يقص قصته مع جورج وكلبه توني، و” يتهم جورج بالوحشية والجنون وعدوي الواقع بالفن، ليبرئ ساحة زميله، لكن مع الأسف أخذ التعليق مأخذ الطرافة، ولم يتحرك أحد». (ص10)

التوليد يبدو واضحًا، فمن تزامن العرج يتولد سؤال السارد، ومن السؤال يتولد تفسير محتمل لإصابة جورج، ومنه تتولد قصة السبب المؤكد لإصابة الكلب، ومنها تتولد قصة القضية، وتحولها إلي خبر صحفي طريف، ومقال الطبيب الأول، ثم التعليق الختامي للسارد. وهناك ظاهرتان مهمتان: الأولي التفاصيل التي تتصل بقصة عرج توني نتيجة التوليد، والثانية وجود طرفين ينهض عليهما ما يقصه السارد : فكرة جادة ومثيرة للانتباه، وفكرة أو شيء هامشي أو تفصيلة صغيرة بعيدة عن الانتباه، يبدأ السارد في التركيز عليها، فيزداد حضورها، وتتصدر المشهد. فقد تحول السارد تدريجيا عن تقديم شخصية جورج وعرجه إلي عرج الكلب، و أزاح الشخصية الإنسانية عن مركزها الذي حظيت به في السرد الكلاسيكي، وجعل هويتها وملامحها مرتبطة بدخولها في علاقة مع العنصر الهامشي الآخر، فعرج الكلب يحدد الطبيعة النفسية المضطربة لشخصية جورج. وبعد أن يقدم لنا السارد جورج ونانا يأتيه صوت جورج لجوجًا عبر الهاتف، يطلب منه الحضور:

” مصطفي .. مصطفي .. هكذا جاء صوته لجوجًا علي الهاتف. أعرف جورج ونانا منذ عشر سنوات، لكنني لا أشاهدهما كثيرًا لكثرة العمل. قال أريـد أن أراك، هناك أشياء حـدثت يجب أن تعرفها، ثم قال بصوت مشروخ، توني مات، يجب أن تحضر.طلبت منه أن يهدأ حتي أعرف لماذا يريد مني الحضور بهذه الطريقة المفاجئة لاسيما والليل يتقدم ويوغل في شتاء بارد،لكنه لم يقل غـير نبـأ موت كلبه توني .. وضعت سماعة الهـاتف، وشرعت فـي ارتداء ملابسي، وانطلقـت مسرعًا إلي حي جاردن سيتي،كان البيت من طابقين علي الطراز القديم.. البيت في شارع هـادئ جدًا.تذكرت توني، لطالما قام جورج   مع كلبه العزيز بتمشية الصباح في هذا الشارع الهادئ …. هل كان انزعاج جورج لموت كلبه يصل إلي هذا الحد؟ ثم ماذا عن زوجته؟هل أصابها سوء لموت توني؟.

علي الدرجات القـليلة التي تؤدي إلي الباب الخارجي الكبير المصنوع مـن  حديد أسود مشغول، وخلفه زجاج إنجليزي سميك مضلع ـ وجدت فأرًا سمينًا بليدًا منتخفا بصورة مرعبة،يحاول هبوط الدرجات من منتصفها.كان حريا به أن يهبط الدرجات عند أقصي جوانبها لأنه يعترض طريقي.نعم كان كبير الحجم لكن هـذا ليس سلوك فأر. كان لونه يضرب إلي الرمادي القاتم المشوب بلون ترابي أغـبر وكالح. وكانت حركته بطيئة جدًا، بل كانت حركة بائسة كريهة. كانت درجات السلم عالية علي وزنه الثقيل، لذا كان عند كل درجة يتوقف قليلا، ويحاذر الهبوط الذي يأتي في النهاية ارتطامًا ووقوعًا علي فمه.حركته تفتقر بشكل مريع معني الرشاقة.توقف عند قدمي بغباء عنيد، وأبعد ما يكون عن معني الجرأة وكأنه يريد مني أن أفسح له الطريق هكذا بلا مبالاة وخمول يبعث الرهبة في النفس.

كان فـمه وأنفـه ملطخـين بدم متخـثر جاف من أثر اندلاقه علي بوزه أثناء هبوطه درجات السلم….. وكان الاشمئزاز يرتفع في داخلي كرغبة في القيء.   لكن شروعه في متابعة هبـوط درجات السلم بحركته البطيئة البائسة ـ  فـور زوال العـواقـب والحـواجـز من طريقـه ـ دغدغ شيئـًا ما في أعماقي السحيقة.

شيئًا وجوديا.كأنني أشعر بذنب لا خلاص منه لاحتقار هذا الكائن منذ لحظات.

إنه الآن يتابع طريقه و يستأنف سيره غاسلا شعوري بالاشمئزاز نحوه. إنني الآن و أنا أنظر إلي  مؤخرته و ذيله السميك واندلاقه المأساوي علي درجات السلم و افتـقاده لليسر ودأبه علي العـسر ـ أحترم كـينونة مجهولة ومتباعـدة ومغرقة في بيوريتانيتها، أحترمها و أقدرها و أطمئن إليها. لكن بعـد كل هـذا أليـس هناك انقـباض في صدري مفاده أن أري هذا الفأر السمـين المتـخم بوجوديته الغامضة ـ قبل رؤية الصديقين العزيزين جورج ونانا؟». (ص 12، 13، 14).

مفاجأة المكالمة، ونبرة صوت جورج وإلحاحه، وتوقيت المكالمة، ومنولوج السارد المنفعل تقول إنه لدينا حدث جاد ومثير، لكن السارد يتحول من الحدث الجاد محطمًا توقعنا إلي حدث آخر هامشي ـ يفترض ألا يثير انتباهه وهو في هذه الحال الانفعالية ـ وهو هبوط فأر ضخم للدرج. شيئـًا فشيئـًا يدفع بالفأر إلي الصدارة، فيبدو علي القدر نفسه من أهمية الحدث الجاد. ويأخذ السارد في وصفه بدقة متناهية، ويسرد تفاصيل تحيل هبوط الفأر للدرج إلي حادث مثير، أثار مشاعر و أفكارًا داخل وعي السارد، انتهت بربطه بالحدث المثير الأول الذي جاء من أجله، وهو مقابلة نانا وجورج، ويحدس بأمر غير سار.

هذا الأسلوب السردي يكشف أمرين، الأول انشغال السارد في التفاصيل انشغالا يكشف عن لحظة عبثية نادرة، لحظة لعب. فالشيء الهامشي التافه ( مثل فأر ) يأخذ منه مجهودًا في القول مقارنة بالحدث الجاد(1). لكن السارد الذي يمتلك رؤية جمالية خاصة لا يراها كذلك، يراها ذاتا موجودة، ربما كان وجودها غامضا، لكنه وجود طاغ ٍ، له حضوره الآني في ذاته ( لاحظ قول السارد ضغط السارد علي ذاته والظرف “إنني الآن” في مواجهة هذا الوجود )، وفوق ذلك هو وجود مؤثر، أثر في السارد. والثاني أن الهامشي هذا “الموجود الآن” لم يعد عارضًا، إنه مرتبط بما يبدو أنه جوهري، هذه رؤية السارد التي دفعته إلي ربط رؤية الفأر برؤية الصديقين.

وبالطريقة عينها يقوم بالسرد في القسم الثاني الذي وظفت فيه عناصر من سيرة المؤلف الذاتية، فهو يستهله بالحديث عن باب البيت الخارجي غير المغلق بإحكام دائمًا، والشعور بفقدان الأمان الذي أصابه نتيجة لذلك، ودفعه إلي الجلوس أمام الباب ليؤمن نفسه. ويقع البيت في شارع خسرو باشا، ومن موقعه أمام الباب الخارجي يمكنه أن يري أي شخص “يحاول الدخول إلي حرمة البيت”(ص31). ويولد من ذلك حكاية “سعدية المجنونة” التي كان يراها من موقعه، وحكاية شارع خسرو باشا مع البلدية، ثم حكاية أفراد أسرته، وذكريات طفولته، والخوف المتأصل في نفسه الذي يتولد عنه حكايته مع صديقة التليفون المجهولة التي تتصل به، والمكالمات والرسائل المتبادلة ومضمونها. و دومًا يولد أفكارًا تخصه، فمن مضمون الرسائل تتولد فكرة “القبح”، فيناقشها من خلال علاقته بشعوره بالخوف، وتولد فكرة القبح مسائل تتعلق بالصلة بين الكتابة والقبح، مثل استخدام الأسلوب الساخر والجاد، أو المتفلسف والتقريري المباشر في قول الأشياء. ومع نهاية الفصل ( المضني علي قصره) يصبح السرد مجموعة من التفاصيل الصغيرة لذوات غالباً مهمشة (سعدية المجنونة، وأفراد أسرته العاديين، والسارد نفسه الذي يكتب روايات عاطفية من الدرجة الثانية ).

هذه التفاصيل تدخلنا في دوامة مرهقة ـ أحيانًا ـ من التلقي، وتكشف عن وجود ذات ساردة منغمسة في وجودها الفردي وزمنها الخاص، ذات تهتم بالأشياء الهامشية والصغيرة، لا لشيء إلا لتصور وجودها وطغيان إحساس السارد بهذا الوجود. ومقابل ذلك لم تعد فيه الجماعة ولا قضايا الوطن الكبري السياسية والاجتماعية والتاريخية محط اهتمامها، ومن ثم تصبح طريقة التوليد والحرص علي التفاصيل طريقة كتابة، و تفكير، و رؤية للعالم. نعم، طريقة كتابة تكشف عن قناعات المؤلف الجمالية وكيف يري العالم من خلالها، هذه القناعات تظهر من خلال مصطفي ذكري السارد المتخيل و الصوت الفني لمصطفي ذكري الحقيقي.

وتؤكد أعمال مصطفي ذكري المؤلف أن التوليد والانشغال  بالتفاصيل وبالهامشي إستراتيجية كتابة، فقد أقام نصه “تدريبات علي الجملة الاعتراضية” علي الجملة الاعتراضية، وهي محدودة الاستخدام، وينظر إليها علي أنها جملة فرعية، فقلب مصطفي ذكري التراتب الشائع عنها  في البلاغة والكتابة العربيين، وحولها إلي أصل، إلي جملة أساسية، لكن هذا القلب تحقق بواسطة كتابة تبدو للنظرة الأولي مهارة أو لعبا شكليا . أما دال “المتاهة” الوارد في عنوان نصه “هراء متاهة قوطية”، فيصف طريقة التوليد للأفكار والحكايات التي ترهق القارئ، وتشعره أنه يسير في متاهة تدوخه، وهي طريقة واضحة بقوة في سرد القسم الثاني من “الخوف يأكل الروح”. وفي “مرآة 202” يعتمد سرد البطل عماد علي التوليد والتكرار. ومن ثم فنحن أمام  كتابة روائية مختلفة عن الكتابات التي تسبقها، خاصة كتابات نجيب محفوظ، والكتاب الذين عرفوا بجيل الستينيات، ولا يزالون يكتبون، مثل: محمد جبريل، وجمال الغيطاني، وإبراهيم عبد المجيد.

الصلات بين”الخوف يأكل الروح” ونصوص المؤلف الأخري خاصة “مرآة 202″، تكشف لنا عن تقنية أو مهارة كتابية  أثيرة لدي السارد، تجعله حاضرًا ـ لحظة القراءة ـ في سياقات السرد المختلفة، وهي اختلاف الضمائر الذي يمنح صوت السارد تنوعًا، وتجعلنا نراه بضمائر مختلفة، في المقطع السردي الواحد. ويعتمد السارد في هذه التقنية علي لعبة الغموض والوضوح التي تمنح حضور السارد ثراء أكثر، فهناك مقاطع سردية في القسمين الثاني والثالث تبدو غامضة في سياق ضمير الغائب، تعقبها مقاطع بضمير المُتكلم تزيل غموضها، وتدفعنا إلي العودة لرؤية ما كان غامضًا مرة أخري. وهذه اللعبة أوضح ما تكون في المقاطع التي يتكلم فيها السارد عن الخطابات التي تبادلها مع صديقة التليفون.

“الخطاب الثالث عشر. قالت امرأة قبيحـة بعد ثرثرة مرحة ـ  لرجل قبيـح وبلهجة جادة هل أنا قبيحـة ؟ أجاب الرجل بلهجة لا تقـل في وجومها عـن لهجة المرأة ـ بصيغة سؤال .كان سؤال هو نفس السؤال الذي سألته، هل أنا قبيح؟ أجابت المرأة باستغراب وقالت أنت رجل…  (ص42)

كـثرت نساء الرجل القبيح بعـدد لا نهائي ومع الكثرة أتقـن الرجل تفاصيـل دقيقة عن المرأة القبيحـة التي قطـع علاقته بها إلي الأبد منـذ أن قالت له أنت رجل. تلك الشجاعة التي جعلته مثـل دون جـوان. إنه كلب وفي حمل في عقـله وقلبه فضل المرأة القبيحة التي دفعتـه إلي عالم النساء. قالت إن لك يـدًا غليظة ثقيلة حين مسكتُ يدها، لم أقصد أن أكون ثقيلا غليظا وأنا أمسك  معصمها… (ص43)

فالغموض الذي يلف سياق ضمير الغائب علي امتداده السردي يزول مع التحول إلي ضمير المتكلم الذي يخص السارد وحده في النص. ولكن لماذا الإشارة إلي المقاطع السردية الخاصة بالرسائل تحديدًا ؟. لسببين: الأول أن هذه المقاطع تحولت إلي مجال لمهارات كتابة ذات طابع تقني صرف، واختلاف الضمائر  لعائد واحد هو مهارة تقنية من تلك المهارات. والثاني أنها إحدي الوسائل التي تصنع منطقة يتماهي فيها السارد مع المؤلف، وذلك من خلال المزج بين أحداث القصة كما يحكيها السارد وبين هموم الكتابة المهنية البحتة التي تخص المؤلف الحقيقي، والتي يفترض ألا  ُتعرض داخل الحكاية. المهارات التقنية الصرف بدورها تعبير عن هذه الهموم، عن هوس كتابة تجرب بطريقة مختلفة، ولهذا ترد إشارات ـ في هذا السياق تحديدًا، سياق فكرة القبح التي ولدها السارد من مضمون الرسالة الثالثة عشرة ـ إلي نصوص للمؤلف الحقيقي، يمكن وصفها بأنها نصوص تجريبية تعبر عن هموم الكتابة :

” علي سبيل المثال لا الحصر، فأنا قد تحدثت في وقت مضي عن القبح بشكل  مجرد، وكانت مناسبة الحديث هي إحدي القصص التي تحمل عـنوان”حديث الصورة” و كانت القصة ضمن كتاب صغـير بعـنوان ” تدريبات علي الجملة  الاعتراضية”. كان حـديثي  في ” حديث الصورة ” موجهًا بشكل مباشر إلي القارئ…….. لكن ما إن بدأت الكتابة حتي هاجمتني أسباب فنية بحتة ذات  طابع تقني صرف. (ص44)

“تدريبات علي الجملة الاعتراضية” ـ كما أشرنا سلفا ـ نص لمصطفي ذكري الحقيقي، إذن لدينا اسم المؤلف الحقيقي، ونص من نصوصه، يضاف إلي ذلك عناصر من سيرته الذاتية : الحي السكني، والبيت، وأفراد الأسرة. وهناك تأثير هذا البيت علي التصورات الجمالية التي تشكل كتابة “الخوف يأكل الروح”، وقبلها “تدريبات علي الجملة الاعتراضية” : 

 ” كان قـدري في هذا البيـت أن أري بشكل أبدي كل الأفعال البسيطة وهي  تؤدي بدقة متناهية وكأنها تؤكد روحًا أخري وراء جديتها، روحًا عبثية يقع  تحت تأثيرها كل من يراقبها». (ص30)

السارد يتكلم عن أسرته من موقع المراقب لما يؤدونه ـ خاصة الأب ـ من أعمال بسيطة ( فهم أفراد عاديون تمامًا )، وها هو ذا قد وقع تحت تأثير روحهم ( لنلاحظ إشارة السارد إلي القدر)، فظهر في كتابته. هنا يحدث التباس  بين المصطفيين السارد ( المتخيل) والمؤلف ( الحقيقي )، قد يفضي إلي إقامة علاقة تطابق، والنظر إلي الصوت المتكلم علي أنه صوت المؤلف الحقيقي. لكن يجب ألا تخدعنا عناصر السيرة الذاتية وبعض التجارب الشخصية، خاصة وهي ترد في سياق ضمير المتكلم الذي نبني عليه دائمًا ـ في هذا النوع من الكتابة ـ وهم التطابق.

المسألة كلها تتعلق بـ”هموم الكتابة”، وبأسباب فنية بحتة ذات طابع تقني صرف دفعت إلي توظيف هذه العناصر، وهو ما يجعلنا أمام كتابة أشبه بمحاكاة الذات، يحاكي المؤلف ذاته من خلال السارد. وإضافة بعض عناصر من السيرة الذاتية والتجارب الشخصية ذريعة مصطنعة لكتابة تجرب، وتعتمد علي لعب ومهارات محاكاة الذات مهارة منها. وإذا ما تذكرنا أن السارد كاتب روايات عاطفية من الدرجة الثانية، فسندرك أنه واقع تحت تأثير هوس المهنة، مهنة الكتابة.

تجربة المؤلفــة) وتجربة السارد(ة) في ” دنيازاد

” العلاقة بين المؤلف والسارد في نص مي التلمساني ” دنيازاد ” أكثر تعقيدًا منها في “الخوف يأكل الروح”، وتنشأ عنها مشكلة ترتبط بنوع النص لا نصادفها في نص مصطفي ذكري. فطبقـًا لتصريح المؤلفة الحقيقية، فإن روايتها ” دنيازاد ” تحكي تجربة شخصية، تجربة ولادة طفلتها دنيازاد وموتها. لكن الاكتفاء بهذا الوصف غير دقيق؛ لأن النص يجعل من حدث الولادة نقطة انطلاق لسرد تجارب وخبرات أخري. فالسرد يبدأ بحادثة موت ” دنيازاد” في سياق ضمير المتكلم للساردة:

“جاءت دنيازاد إلي الغرفة 401 للمرة الأولي والأخيرة تودعني في

   أكفانها البيضاء». ( ص7)

لكن سرعان ما يتحول هذا الحدث إلي مثير لأحداث أخري ترويها الساردة، وتؤدي فيها الذاكرة دورًا أساسيا : الزواج، ليلة الزفاف في بيت أسرة الزوج، الحمل، المخاض وآلامه، الجراحة، موت المولود، الدفن، بشائر حمل جديد). وفي سياق القص تستدعي أحداث منتقاة بعناية ذات صلة بأزمة الفقد : جانب من طفولة الساردة وتكوينها الثقافي، وبيع البيت، واستقالة الساردة من عملها. ويمزج السرد هذه الأحداث الخارجية بأفعال الوعي الداخلي ونشاطه: تخيل الساردة لمراحل نمو دنيازاد، والمشاعر ـ خاصة المخاوف والأحزان ـ  والأفكار المقترنة بها، وهناك من جانب الساردة تتبع لحالتها الانفعالية، وتطورها الداخلي بعد موت دنيازاد، وتأثيرها علي علاقاتها، وهو ما يظهر بوضوح في نهاية الرواية بعنوانها الدال ” نقطة تحول”، وهو فصل يلخص ويضيف :

” بعد مضي شهور، كنت قد كتبت كتابًا جـديدًا وقدمت استقالتي و خاصمت عـددًا من صديقاتي و شربت السيجارة السادسة في حياتي و قررت أن أنجـب طفـلا ً ثالثا يتحـرك الآن في جـوفي . كما أنني تشاجرت لأسباب تافهة وكـدت أصدم رجلا بسيارتي…ثم إنني شاركت زوجي بيع بيـت العائلة وشاركـت  شهاب الدين تجربة الحب الأول…لكني أعربت عن سأمي من البواب الجديد الذي لا يغسل السيارة جيدًا ومن الخادمة الجديدة التي تكسر صنبور الماء…ومن أم زوجي التي تكثر السؤال عن تفاصيل كل شيء… أتابع في حرص  سريان الدماء المنتفضة علي جانبي الجبين وأتخيل أني مصابة بلوكيميا (هل  يسري المرض الآن في نطفة هذا الطفل الثالث الذي أنتظره حقا دون حماس  كبير؟ ماذا لو أصبت حقا بلوكيميا؟). صرت الآن أثير غضب زوجي.ترك المنزل ليلتين وعاد.أعطاني خطابا طويلا.  قرأته وبكيت في رقة الهواء.لازلت إذن أشعر بمشاعر طيبة تجاه الأشياء…. أشعر بالخوف…». (ص82،81)

يظهر من سياق السرد، في المقتبس، ولغته حضورًا كثيفـًا للذات الساردة ومعاناتها: ضمير المتكلم والمنولوج، والتصريح بعمليات شعورية متميزة، والحس الرومانسي الذي يطل من الخوف من فقدان المشاعر الطيبة، ومن الحرص علي إظهار أحاسيس معينة بالرغم من الحالة الانفعالية السلبية التي تمر بها الساردة ( الإحساس بـ”رقة الهواء” ). وفي المقتبس تروي الساردة أحداثا تلخصها بلغة موجزة ومكثفة، وهي أحداثا واقعية، يعتمد بعض الباحثين علي واقعيتها، فيصفون النص بأنه “رواية سيرة ذاتية”، وهو مصطلح مركب يدل علي أن النص مركب من شكل الرواية وبعض خصائص السيرة الذاتية، ولهذا علاقة بمسألة حضور السارد وتماهيه مع المؤلف.

من الواضح أننا أمام نموذج روائي يرتبط فيه حضور السارد، وتماهيه مع المؤلف ـ بشكل أساسي ـ بالصيغة الأدبية، الصيغة الأدبية بمعني ضيق يقتصر علي الدلالة علي الموضوع  وليس علي الشكل أو تقنيات السرد(2). فموضوع السرد، تجربة ذات بُعد سير- ذاتي  لمؤلفة لها وجود تاريخي متعين، وهذه التجربة السير- ذاتية ترويها ساردة ـ في المقاطع الخاصة بها ـ بضمير المتكلم. إذن عبر ضمير المتكلم يمثل صوت ساردة متخيلة، وعبر موضوع سردها تمثل مؤلفة حقيقية . وهناك عناصر أخري بجانب الصيغة الأدبية (التجربة الشخصية المروية ) دفعت بعض الباحثين إلي المطابقة بين الساردة والكاتبة، وتبني معادلة ( السارد = المؤلف ): فهما امرأتان شابتان، حرفتهما الكتابة الإبداعية، ولهما التكوين الثقافي نفسه(3). ومثلما  ُيستخدم مصطلح نوعي مركب ( رواية سير ذاتية ) لتحديد الشكل السردي لـ ” دنيازاد “، يستخدم مصطلح مركب (الراوية الكاتبة ) لتحديد نمط الصوت السردي الأنثوي، وهو مصطلح يدل علي تطابق الشخصين المتخيل والحقيقي. ويعزز التطابق علامات أخري، يتم التعامل معها علي أنها علامات تشير إلي مرجع خارج النص، منها الإهداء، والتصريح باسم الزوج ( وليد)، والمكان الحقيقي متمثلا في الحي السكني، والإشارة إلي نصوص للمؤلفة، مثل ” نحت متكرر”.

وبناء علي ذلك يعتمد توصيف الشكل السردي ونمط الساردة في ” دنيازاد “علي وجود مرجع خارجي، ومعرفة بالسيرة الذاتية للمؤلف(ـة)، وهذه المعالجة ربما تكون مقبولة لأغراض الدراسة العلمية، لكنها تنتج مشكلات عند النظر إلي النص من زاوية العلاقة بين المؤلف والسارد، هذه المشكلات تخص تشكيل النص، ونوعه، وتلقي القراء الذين يشكل مصطلح تحديد النوع أفق توقعاتهم. فنوع النص محدد بمصطلح ” رواية”، ويغيب من الغلاف أية علامة تشير إلي ” العقد السير- ذاتي”، علي غرار ما نجد في نص نعمات البحيري “يوميات امرأة مشعة”، فبالرغم من تحديد نوعه بمصطلح “رواية” فإن العنوان يتضمن مصطلح ” يوميات”، ومن ثم يتحدد شكل النص وخصائصه من تفاعل المصطلحين معًا، ونصبح إزاء “رواية سيرية” دون حاجة إلي مرجع خارجي. والقراء الذين لا يعرفون شيئـًا عن سيرة المؤلفـة الحقيقيـة سيتلقـون النص بوصفه رواية، أي نصًّا يقدم حدثا متخيلا  لشخص متخيل، وسوف يتعاملون مع الشخصيات والعلامات الأخري (مثل الأسماء والأماكن والوقائع) علي أنها علامات خيالية، لا مرجع لها في العالم خارج النص.

الصوت السردي وبنية الزمن لهما دور في هدم وهم التطابق، فالساردة لا تروي الأحداث بمفردها، هناك صوت آخر، صوت الزوج الذي يكاد يقتسم وظيفة السارد مع صوت الزوجة الساردة، أقول يكاد لأن حضوره أو المساحة التي يشغلها ـ إذا ما وضعنا في اهتمامنا الشكل الطباعي المختلف للمقاطع التي يرويها الزوج ـ يتضاءل تدريجيا أمام حضور صوت الساردة والمساحة التي يشغلها، كلما تقدمنا نحو نهاية الرواية. وهناك علة واضحة لإدخال صوت الزوج ـ غير التفسير الذي تربطه بتكامل منظوري النوع الإنساني للحياة ـ وهو اكتمال الحدث.

فالزوج يروي بضمير المتكلم الأحداث التي لم تعاينها الساردة بنفسها، وغابت عنها : ما حدث في غرفة العمليات ولحظة الخروج منها، وخبر موت الطفلة وإخفاءه عن الزوجة/الساردة، ونتيجة التقرير الطبي، وطريقة إخبار الزوجة، وإعداد المقبرة، كما يروي ـ بوصفه شريكا للساردة في فاجعة موت دنيازاد ـ مشاعره وأفكاره الباطنية تجاه الحدث، وكأن الكاتبة تريد للساردة أن تكون من ذلك النوع الذي يظهر موضوعيا، فلا يروي إلا ما كان شاهدًا عليه.

    وينظم السرد الأحداث وفقـًا لنظام زمني أدبي معقد نوعًا ما، بالرغم من البساطة التي يبدو عليها النص. فتروي الأحداث بطريقة غير منتظمة يتداخل فيها الماضي والحاضر، وهي سمة لخطاب الساردة بوصفها صاحبة اليد الطولي في السرد، إذ يمكن وصف خطابها السردي بأنه خطاب زمني صريح، بمعني أن الحس بالزمن يطبعه بقوة، ويظهر ذلك من خلال تواتر علامات زمنية تحدد زمنًا معينا، أو تشير إليه إشارة غير متعينة. سنأخذ العنوان الأول ” سلة ورد ” نموذجًا، فهو يبدأ علي لسان الساردة بلحظة ما بعد الولادة (الموت)، ثم تستعاد لحظة الحمل والإعداد لاستقبال المولود، ثم الدفن، ثم الخروج من المشفي والعودة إلي البيت. عند هذه النقطة الزمنية يتحول ما كان حاضرًا إلي ماض، تصبح دنيازاد ماض يستعاد مع لحظة الحاضر التي ترصد فيها المشاعر والوضع الذي آلت إليه الحياة بعدها، ومنذ تلك اللحظة تكثر أفعال الاستعادة والتذكر، وتتداخل الإشارات الزمنية للماضي والحاضر:

“كثيرًا ما كنت أشعر أننا أربعة أفراد في الأسرة فلا أجد غير ثلاثتنا منذ تسعة أشهر، كنت أعـد العدة لاستقبال هذا الكائن الرابع الذي  نما بداخلي، بتفاصيله اليومية.

اليوم أفتقده وأستعيد حياتي بصورتها الأولي.عاد جسدي إلي سيرته  الأولي. وعاد كل شيء إلي نقطة البدء». ( ص24)

   هذا المقتبس مجرد نموذج لخطاب ذي طبيعة زمنية في الرواية، خطاب تشيع فيه الدوال الزمنية المحددة بشكل واضح. وعندما نقول إن تجربة ولادة دنيازاد وموتها نقطة انطلاق لاستعادة شطر من الحياة: ذكريات من الطفولة، والزواج، وبيع البيت، والحمل، والولادة والموت، وأن هذه الأحداث تنسب إلي المؤلفة الموجودة في العالم خارج النص، فإن هذه الأحداث كتبت بشروط أدبية النص الروائي، وأول هذه الشروط  الانحراف الزمني الذي يشتهر به السرد القصصي عمومًا. فالساردة تتعامل مع الزمن بوصفه خبرة فردية تعيش في ذاكرتها ووعيها، بوصفه  وهو ما مكنها من إعادة ترتيبه، واختيار لحظاته وما يرتبط بها من أحداث خارجية وداخلية، متحررة من قيوده التي يرتبط بها وقوع الأحداث في العالم خارج النص الأدبي. باختصار، صنعت الذات الساردة زمنها الخاص الذي يضفر الحاضر مع الماضي، وجاء خطابها  مجسدًا لهذا الزمن، وهذا الخطاب الروائي بأدبيته الزمنية ـ لو جاز هذا الوصف ـ يعلق علاقة التطابق بين المؤلفة والساردة التي باتت تحيا زمنًا مختلفـًا، فالأحداث التي تسردها ( وينظر إليها علي أنها تجربة شخصية أو سيرة ذاتية ) تقع في الزمن، والزمن يعاد تشكيله، ومن ثم يعاد تشكيل ما يقع فيه، فيغدو متخيلا، يجمع بين الأصل والتحول. ويجب أن نضيف أن التحول يحدث بواسطة الكتابة، وأن الكتابة أصبحت أصلا ً، فحدث موت دنيازاد انتهي، لم يعد له وجود إلا في الذاكرة، أو الوعي الذي ربطه بأحداث الحياة الشخصية الأخري، وهنا تطرح الكتابة نفسها علي الساردة ( لأنها من نوع الرواة الذين يكتبون الأدب) بوصفها وسيلة لإبقاء ما يتهدده الزوال والفناء.

   وفي هذا السياق نشير ـ من خلال كلام الساردة ـ إلي نقطتين: الأولي أن إعادة تشكيل الزمن في كتابتها ليست سوي تجسيد لعملية إعادة إنتاج للأحداث داخل الوعي :

 “كان عقلي يعمل بانتظام.تعود الصور الواحدة تلو الأخري، وتحتل مساحات  متباينة من رأسي.أعيد إنتاج الأحداث وأسأله عمن يعرفون». (ص22)

والثانية أن هذه العملية اقترنت برغبة في إعادة تشكيل العالم، واستعادة الذات التي ظهر للساردة من استعادة الأحداث، وإعادة إنتاجها أنها لا تعرفها بعد :

” أستعيد لحظات الألم الأولي، كالمحارات.وأكتشف أني نسيت طعم وشكل  ورائحة الألم. لم تبق لدي سوي تلك الرغبة في إعادة تشكيل العالم، وفقـًا لقانون الغياب.

عدت إلي زوجي وابني الوحيد وبيتي الوحيد وبعض أصدقائي، ولم أجد بعد  نفسي التي تصورت أني أعرفها» . (ص 24،23)

كتابة ” دنيازاد ” استجابة لتلك الرغبة، فقد أعادت الساردة فيها تشكيل العالم وفقـًا لغياب دنيازاد، فتقلب الغياب إلي حضور، والموت إلي حياة، غير أنهما حضور وحياة مجازيان ليسا مثل الحياة الحقيقية التي تروي في السير الذاتية. ويهدي النص المكتوب دون أن تمهره المؤلفة باسمها، ويجمع  بين كونه إهداءً حقيقيا (“إلي شهاب الدين”) ومجازيا ( ” ووجه دنيازاد ” ) في آن واحد.الإهداء المجازي موجه إلي “وجه” دنيازاد، لماذا المجاز المرسل؟ لأن الوجه هو أول وآخر ما طالع الساردة من دنيازاد، ومن ثم مَثـُل في الذاكرة مقترنًا بها وبكل ما ارتبط بها من مشاعر وآلام وتصور للحياة قبل الولادة (كان تصور الساردة للحياة مرتبطا بوجود أربعة أفراد) وبعدها. الرغبة في تصوير الحياة قبل الولادة وبعدها ـ وليس كتابة سيرة ذاتية بأسلوب روائي ـ هو هدف الكتابة، وحدث الولادة والموت محرك لهذه الرغبة، ووقود للكتابة الروائية التي لا تعبأ إلا بنفسها وبما تريد قوله بقطع النظر عن الصيغة الأدبية أو الموضوع الذي ستعيد تشكليه ليقول ما تريده الكتابة، وما نقوله يرتبط بالحمولة التراثية لاسم دنيازاد الُمتخَذ عنوانًا للرواية.

دنيازاد شقيقة شهرزاد صاحبة فكرة قص حكايات للملك شهريار، لإعادة تأهيله نفسيا، وتغيير تصوراته عن الحياة وعن المرأة، وهو ما يحدث عندما تنتهي شهرزاد من قص حكاياتها. والساردة تدرك ـ بحكم أنها في النص كاتبة ـ دور دنيازاد في إنقاذ حيوات من الموت بالحكي، وكتابتها هي الحيلة نفسها، فهي تلعب دور دنيازاد وتنقذ الابنة من الموت من خلال الكتابة السردية. إذن ليست الساردة هي المؤلفة الحقيقية، الساردة شخصية نصية تماثل شخصية دنيازاد في نص ألف ليلة وليلة، ولا تماثل مي التلمساني في العالم خارج النص، ومن هذا المنظور، يعلق التناص علاقة التطابق، ونصبح أمام علاقة تماه أو تماس تؤسسها الصيغة الأدبية في النص.

إذن الطرح السابق لا ينفي وجود علاقة بين الساردة والمؤلفة الحقيقية، ففي الوقت الذي يقوض فيه وهم التطابق الذي نشأ بسبب الربط بين الصيغة الأدبية ووقائع خارجية غير نصية،  يقيم علاقة نصية من نوع آخر. وكان الدافع وراء ذلك معالجة بعض المشكلات التي نشأت عن ذلك، مثل إدراج الرواية ضمن (الرواية -السير ذاتية)، وما ترتب عليه من تحديد نمط السارد بأنه ( الراوي الكاتب)، وتبني معادلة السارد هو المؤلف، وذلك كي نصل إلي المشكلة، بل المعضلة الأساسية التي لم نشر إليها حتي الآن، وهي إساءة القراءة ( الإساءة بمعني الخطأ ) التي تتأسس علي الخلط بين ما هو مجازي وما هو حقيقي، أو بين التجربة الواقعية والتجربة الفنية، وبالتبعية بين المؤلف الحقيقي والسارد، فتتعامل مع النص علي أنه نص حقيقي وليس أدبيا يخضع لشروط الخطاب الأدبي المجازي، وأنه يهدف إلي التعريض بفئةٍ أو كيان ٍ أو مؤسسةٍ ما، وقد تتحول تلك القراءة المسيئة إلي نوع من الإيذاء أو تتسبب فيه، وهو ما يظهر بوضوح في نص “فوق الحياة قليلا ً”.

تماهي الحقيقي والمجازي في خطاب سارد ” فوق الحياة قليلا ً”

” ليس فقط الشعراء والقصاص الذين يضطربون بين المجازي والحقيقي، القراء أيضـًا يؤرقهم هذا الاختراق». (ص109)

 بهذه العبارة التي وردت في الفصل الخامس آخر فصول الرواية المعنون بـ ” موضوع جانبي”، يصف السارد حالته، فسارد ” فوق الحياة قليلا ً” قاص بصفتين: الأولي صفة الراوية، فهو قاص الرواية الذي يقص أحداثها بضمير المتكلم  بوصفه مشاركًا فيها، والثانية صفة الكاتب، فمهنته كاتب قصص. وهو يسرد أحداثـًا ويخبر عن شخصيات بالصفتين معًا مما يضمن له حضورًا وهيمنة علي عملية السرد. لكن سرده يضطرب ـ كما يقول ـ أثناء ذلك بين ما هو مجازي وما هو حقيقي، مجسدًا ما يصفه بـ” العلاقة المربكة بين الحقيقي والمجازي”، وهو يدرك حالة الارتباك التي يعانيها، ويصرح بذلك الارتباك أثناء حديثه عن شخصية أبي الشمقمق قائلا ً:

” لقد تخيلت هذا الشاعر المتسول، بكرشه الضخم، وعباءة مهلهلة،  وشعـر مهـوش يغـطي ملامحـه ،ورأس صلـعاء، وعـينين بيضاوين لا  تخبرانك بشيء، وعصا كبيرة بشـكل مبالغ فيه جعلها لتأديب الأدباء،  و قادني هذا التخيل إلي السخرية منه في صورة مناقضة فجعلته يبكي  كبنت صغيرة محبة، ولست أدري أيهما الحقيقي وأيهما المجازي». (ص109)

بالطبع لم يعد السارد يدري الحقيقي من المجازي؛ لأنه قام بعملية إعادة صياغة لنموذج أبي الشمقمق، لم تستبعد الحقيقي لكنها حولته إلي نموذج أدبي. والسارد واع ٍ بما يفعل، فهو يصف عملية التحويل، ويصف “الصورة المناقضة” التي آل إليها النموذج الحقيقي بعد إعادة صياغته، وهي صورة ساخرة لا يمكن مطابقتها بالنموذج الحقيقي للشاعر الهجّاء، وفي الوقت نفسه لا يمكنها أن تستبعده.

وبتفصيل أكثر يمنحنا سارد ” فوق الحياة قليلا ً” ما نكشف به سرده : مادته وكيفيته، فسرده يعتمد علي الاستعارة من الواقع الخارجي، استعارة شخصيات وأحداث وأشياء توصف بأنها حقيقية أو واقعية، لكنه يقوم بإعادة بنائها أو صياغتها صياغة جديدة تحولها ـ إذا ما استخدمنا تعبير السارد نفسه ـ إلي مجاز بواسطة الكتابة القصصية. وهذا النوع من الكتابة القصصية يضع/ يدع الشخصية في منطقة لا تخلص فيها للمجاز تمامًا، فتبدو شخصية متخيلة، ولا تحتفظ بحقيقتها تمامًا. فالسارد يعيد بناء النموذج بخطاب لا يعتمد علي الإزاحة، لا يزيح الحقيقي لصالح المجازي و لا المجازي لصالح الحقيقي، بل يحتفظ بهما معًا، خطاب لا يمزج بينهما ( والمزج تصور شائع لتلك العلاقة )، بل يخترق الحقيقي بالمجازي. وفعل الاختراق يبقي علي الحقيقي واضعًا المجازي في قلبه، وهو ما يسبب “الاضطراب” أو “الارتباك”، وهما تعبيران يصفان استجابة القراء والقصاص. والاستجابة هنا تعني التردد، التردد بين الحقيقي والمجازي، ففي اللحظة التي يبدو فيها النموذج حقيقيا، ويرشح للإحالة إلي الواقع الخارجي، يظهر المجازي فيخلل الإحالة، ويلغي علاقة التطابق. وفي اللحظة التي  يبدو فيها النموذج مجازيا أو متخيلا ً يظهر الحقيقي عبر علامات مثل الاسم والمهنة والمكان، تحول دون إخلاص النموذج للمجازية تمامًا، ومن هذه العلاقة يبني السارد نماذج الشخصيات في الرواية.

إن سارد ” فوق الحياة قليلا ً” يفكك العلاقة بين الأدبي والواقعي، والحقيقي والمجازي، فيلغي التعارض والتراتب بينهما، ويبني العالم الروائي وشخصياته منهما معًا من منظور يخضع الشخصيات الحقيقية لواقع التجربة الأدبية، ويفسر لنا ذلك لماذا لم يعد السارد قادرًا علي تحديد الفرق بين شخصيتي أبي الشمقمق الحقيقية والروائية، فقد ذابت الحدود الفارقة بين طرفي الثنائية في خطاب السارد. ويزداد الاضطراب ( بالطبع لدي أولئك القراء…، والأدباء!!، الذين يؤمنون بوجود حد فاصل بين الواقعي والخيالي، أو الحقيقي والمجازي إيمانًا يوجه تلقيهم ) عندما يجعل السارد أبا الشمقمق قاصًا شهيرًا يرتاد “مقهي المثقفين”، وشاهدًا علي حادث حقيقي، هو حادث موت القاص إبراهيم فهمي، ويمنحه صفات جسمية ونفسية وسلوكية ( مثل الكرش، والعصا، واللسان الساخر، والشرب) تذكرنا بالكاتب محمد مستجاب، فهل هو أبو الشمقمق الشاعر وقد تحول إلي شخصية روائية، أم أنه محمد مستجاب وقد حوله السارد إلي أبي الشمقمق ليراوغنا نحن القراء!!؟ وسوف يستتبع ذلك التساؤل تساؤل آخر عن السارد نفسه : هل هو شخصية متخيلة أم أنه المؤلف نفسه، سيد الوكيل الذي يرتاد مقهي المثقفين ويعرف مستجاب!!؟ وسوف يمنح السرد بضمير المتكلم تساؤل القارئ مشروعية أكثر، فضمير المتكلم يدعو إلي المطابقة بين السارد والمؤلف الحقيقي، ويصبح الميل إلي نسج هذه العلاقة أكبر عندما يعتمد السارد علي استعارة أشياء من الواقع الخارجي، وإخضاعها للتجربة الأدبية. وهنا نكتشف أن تركيب شخصية السارد نفسه ـ مثلها مثل الشخصيات التي يحكي عنها ـ تخضع لهذه الآلية، آلية استعارة أشياء حقيقية وخرقها بالاستخدام المجازي.

فالسارد بوصفه شخصية من شخصيات الرواية نموذج مصوغ من الحقيقي والمجاز القصصي، ويحضر الحقيقي في قلب المجازي (السارد) ويخترقه بواسطة علامات نصية، تشكل شخصية السارد وعلاقاته. فالسارد قاص، وينسب إلي نفسه المجموعة القصصية  أيام هند” وهي لمؤلف الرواية، وله ابنة ـ كابنة المؤلف الحقيقي ـ اسمها أميرة، وهو يتمتع بثقافة نقدية حديثة. ولا ننسي المكان والعلاقات التي يفرضها، فالسارد ( مثل المؤلف ) يرتاد مقهي المثقفين بحكم مهنته وثقافته، وهو علي صلة بمبدعيه وبما يجري فيه، وقد منحه ذلك فرصة للكتابة عن مبدعين حقيقيين، مثل محمد جبريل ونجيب محفوظ وإبراهيم فهمي، فيروي وقائع حقيقية حدثت لهم، مثل حادثة الاعتداء علي نجيب محفوظ، وموت إبراهيم فهمي في حادث.

وجود هذه العناصر لا يعني بالضرورة تطابق السارد مع المؤلف الحقيقي، ولا يعني أن المتكلم هو المؤلف الحقيقي، فالسارد هو الذي يتكلم، وعبر صوته يخترق خطاب الرواية حياة المؤلف مثلما يخترق حيوات أولئك المبدعين. وبقليل من التأمل يمكن أن نكتشف أن المؤلف الحقيقي يمثل بالنسبة للسارد شخصية مبدع حقيقية ـ مثل محفوظ، وإبراهيم فهمي، ومحمد جبريل ـ ومن ثم فهو معرض ـ بحكم انتمائه إلي عالم الواقع مثلهم ـ لأن يخترقه خطاب السارد بالمجاز القصصي، فتدخل العناصر التي تنتمي إلي الحياة الحقيقية للمؤلف في شخصية السارد، وتصبح جزءًا من تركيبتها بوصفها شخصية أدبية لها تجربة خاصة ترويها لنا، وهو ما يضع حدًّا لحالة الاضطراب والخلط لدينا نحن قراء الأدب ومبدعيه الذين يربكهم هذا النوع من خطاب الرواة، وفي هذا السياق يكون من المفيد لنا أن نستمع إلي السارد وهـو يقول:

 “كثير من الناس يخلطون بين الوقائع المكتوبة والوقائع الحقيقية، فيظنون أن ما يكتبه الأديب قد حدث فعلاً، والمدهش أن هذا الخلط يكون بين الأدباء أيضًا، فصديقي الشاعر ظل ولخمس سنوات يدعوني بأبي هند، خالطـًا بين اسم ابنتي و اسم مجموعتي القصصية ” أيام هند “. ولما نبهه البعـــض إلي أن اسـم ابنتي هو “أميرة” حـرص علي أن يصحح الخـطأ في أول لقاء ودي بـيننا، حـياني بحـرارة، وسألني عن أمـيرة وأحوالها المدرسية ،وقبـل  الوداع قال بلهجة جنتلمان…بلغ تحياتي للمدام هند. مثل هذا الذي يصر علي أن لهـند وجودًا حقيقيا، هم الذين يسألون عادةً… هل هذا قد حدث فعلا ؟ ربما بسبب هؤلاء، صرخ بارت معلنـًا عن موت المؤلف، ويعني هذا أن ما  تقرأه الآن فقط هو الموجود، ولا وجود لشيء خارج النص». (ص83)

يتحدث السارد عن نمطين من الوقائع، ونمطين من الوجود : وقائع مكتوبة وجودها نصي، وهو وجود آني مرتبط بلحظة القراءة.

ووقائع حقيقية وجودها حقيقي في العالم الخارجي، وهي غير حاضرة. النمط الأول أحداث أعيد صياغتها بواسطة الكتابة، وحيثما  تكون الكتابة الأدبية يكون المجاز. والنمط الثاني أحداث واقعية لكنها غفل لم تمسسها الكتابة الأدبية، لم تصبح بعد موضوعًا تواجهه ذات، وتعيد كتابته في نص. والمقتبس السابق مثال ممتاز للوقائع المكتوبة، فأميرة اسم ابنة المؤلف الحقيقي، و”أيام هند” مجموعة قصصية له، لكنها تحولت إلي عناصر وُظـِّفتْ ليحكي السارد من خلالها تجربة تلقي كتاباته القصصية. ويقع الخلط بين النمطين، ومن ثم بين المؤلف الحقيقي والسارد عندما لا ندرك ـ كما لم يدرك الشاعر الحداثي ـ الفارق بين النمطين، ويضاعف خطاب السارد درجة الخلط وهو يحدثنا بضمير المتكلم بوصفه شخصية حقيقية، وهو كذلك بالفعل لكن داخل نصه الذي يحكيه.

لكن كيف يخترَق الحقيقي بالمجازي في خطاب السارد ؟ وبصيغة أخري كيف تعاد صياغة الأشياء والوقائع بالكتابة الأدبية ( = المجازية )؟ يعيد السارد بناء النماذج والوقائع بثلاثة أساليب سردية: الحذف والإضافة، والسخرية، والتحفيز الزمني. وتكشف هذه الأساليب عن التماهي بينه وبين المؤلف الحقيقي بوصفها صورة من صور التماهي بين الحقيقي والمجازي في الرواية، وعن حضوره المهيمن علي عملية السرد. ويمكن أن نتخذ شخصية أبي الشمقمق نموذجًا شارحًا، فهي من أكثر شخصيات الرواية التي وقع الاضطراب بشأنها بين الحقيقي والمجازي، فالأدباء والقراء يتساءلون بدهشة من يكون أبو الشمقمق هذا؟ ولا يكفيهم أن يعرفوا أنه  شاعر الكدية المعروف سليط اللسان الذي يسخر حتي من نفسه،سيعاودون السؤال بصيغة أخري، ما المبرر الذي دعا الكاتب إلي استحضاره من عالمه إلي مقهي المثقفين ليكون شاهدًا علي موت إبراهيم فهمي. (ص109)

 فأبو الشمقمق يبدو في الرواية قاصًا لا شاعرًا، وقد أثار ذلك السؤال حول العلاقة بينه وبين محمد مستجاب، وبالتبعية بين السارد والمؤلف الحقيقي، لكن يبدو أن الذين تساءلوا فاتهم أن السارد جعله ” يبكي كبنت صغيرة محبة “، وأن هذه الإضافة ألغت تطابق شخصيته الروائية مع النموذجين الواقعيين: نموذج الشاعر الهجاء في التراث، ونموذج القاص المعاصر، وأقامت نموذجًا أدبيا أنتجته علاقة متوترة بين النموذج الروائي المتخيل والنموذجين الواقعيين اللذين يحضران من خلال الاسم والصفات التي خلعها السارد علي النموذج المتخيل.

ويصور السارد نماذجه  بأسلوب المحاكاة الساخرة(4)، فالسارد يستخدم السخرية ـ بوصفها أداة بلاغية ـ لإعادة صياغة شخصيات حقيقية فتصير شخصيات مختلفة، وهو يفعل ذلك من خلال  التدخل دائمًا بتعليقات ساخرة ( يضعها أحيانًا بين علامتي تنصيص)،هذه التعليقات تكشف أنه يراوغنا، وأن شخصياته ليست هي الشخصيات الموجودة في العالم الواقعي، بل إنها تستقل عن السارد نفسه، مثل شخصية أبي الشمقمق الذي غير مصير القاص الجنوبي، وجعله يتجه إلي الشمال، إلي أوربا. «علي كل حال، هـو الذي سخـر مني بقسوة، لما عاود الظـهور في الحانة وأحدث انقلابًا هائلا في مصير الفتي الجنوبي . لقد كانت هدي علي حق حـين  قالت … إنكم تقرأون القصص كما تقرأ العرافة الفنجان، ولقد كـنت علي حـق  حــين قلــت إن المعـني ينـتـقل من المؤلـف إلي المتلقي كما لو كان نوعًا  من تراسل الحواس وكنت أحاول التعبيرعن الالتباس القائم بين الكاتب والقارئ إذ أصبحت العلامات خافية». (ص111،110).

 السارد نفسه لا ينجو من تلك السخرية، فالشخصية تسخر، وهو نفسه يعلق علي علاقته بهدي كمال وبزوجته بالطريقة الساخرة التي يصور بها حياة الشاعر الحداثي، ويسرد بها خيبات القاص الجنوبي “الصغيرة” التي بدأت مع قدومه من الجنوب إلي الشمال ( القاهرة ) باحثـًا عن مقهي المثقفين حيث دخل عالمه.”مقهي المثقفين” ـ وهو مكان له وجود حقيقي خارج النص ـ يستقل بفصل كامل يحمل اسمه، لكن علي الرغم من ذلك لا يهتم السارد بوصف مقاييسه الهندسية، إنه يهتم بدور المقهي في حياة الأدباء، و بنماذج المثقفين التي ترتاده، ويحكي عنهم، وحكيه يفيض بحس ساخر. وسخريته تكشف أنه ـ بوصفه الصوت الفني للمؤلف ـ رأي في مقهي المثقفين”حياة”، وأنه كتب هذه الحياة كتابة أدبية، ومن ثم فنحن أمام نموذج فني، هو الموجود داخل النص، أما المقهي الحقيقي فهو محفز لهذه الكتابة. وإشارتنا إلي التحفيز يجب ألا تمر هكذا، إذ يجب أن نقف عند إشارتين للسارد ( ص 58، و 72 )، أشار فيهما إلي  قصيدة نجيب سرور الغاضبة الساخرة ” بروتوكلات حكماء ريش” التي ضمّن منها مقطعًا يتوافق مع الحس الساخر، ومع نوعية النماذج التي يمثلها الشاعر الحداثي الذي يري نفسه ” حكيمًا يتميز عن باقي خلق الله العاديين”. التضمين ينبهنا إلي أن وقائع العالم الخارجي ونماذجه البشرية (غير المكتوبة ) ليست وحدها المحفزة، وليست وحدها التي شكلت منها الكتابة نص” فوق الحياة قليلا ً” بدءًا من عنوانه الساخر، فهناك النصوص الأدبية الشعرية والقصصية، وبعضها للمؤلف الحقيقي. فقد ضمّن السارد إحدي القصص القصيرة للمؤلف الحقيقي بعد أن دخلت إلي النص بوصفها قصة كتبها السارد عن هدي كمال التي تلفظ باسمها أثناء المعاشرة، ودفعها إلي زوجته لتقرأها؛ ليوهمه أن هدي شخصية مجازية لا حقيقية، وأن الأمر لا يعدو معايشة الكاتب لشخصياته.

هدي كمال شخصية حقيقية بالنسبة للسارد داخل الرواية، فقد عرفها، وقامت بينهما علاقة عاطفية قبل سبع سنوات قضتها في الخليج، عادت بعدها والتقيا مرة أخري. ومهما يكن من أمر السارد مع زوجته فقد انتهت الشخصية الحقيقية في حياته إلي أن تكون بطلة لإحدي قصصه، لكن العلاقة بين هدي الحقيقية وهدي المجاز لم تكن واضحة، فالتبس علي الزوجة / القارئة لعدم وضوح ـ وليس غياب ـ الحدود بينهما. ومرة أخري يبين صنيع السارد أنه يراوغنا، وفي الوقت الذي يبدو فيه المتكلم كأنه المؤلف الحقيقي ( صاحب القصة) تبث الذات المتكلمة إشارات هنا وهناك تقودنا إلي السارد، إنه نوع من التماهي أو التجاذب بين الطرفين تصنعه تلك الإشارت، ومنه يكتسب السارد هويته المميزة، وخطابه الساخر واحد من العلامات الكبري في تحديد تلك الهوية، فحياته وعلاقاته وعَوْده بالسخرية عليها ( لنتذكر هنا وصفه لأبي الشمقمق بأنه يسخر من كل شيء حتي من نفسه) يكشف أنه شخص متخيل يتماهي معه المؤلف في جانب من تجربته، لكنه لا يتطابق معه.

ويبدو أن المؤلف الحقيقي ـ مثله مثل السارد الذي فرق بين وقائع مكتوبة وأخري حقيقية ـ كان يخشي من الالتباس لدي القراء والأدباء، فوضع إهداءً في صدارة الرواية، هذا نصه:

إلي أصدقائي الذين مستهم الكتابة بحرها

الذين يعيشون فوق الحياة قليلا ً

أحبكم والله

سيد الوكيل

الإهداء الذي مهره المؤلف الحقيقي باسمه خطاب عاطفي (صداقة وحب)، يعمل علي تعليق الالتباس لدي فئة محددة (الأدباء)، ومن ثم نفي التعريض بهم، ويستخدم ما يستطيع من أساليب لغوية ( القسم ) وطباعية، ليتبلغ بها. ومع الصداقة والحب نعتهم بالكتابة ـ كأنه يذكرهم بها ـ التي تمس فتسلب الإرادة وتسيطر، فالكتابة هي التي تتكلم، وهي التي تسخر، وقد كتبته  كما كتبتهم، فغدا ـ مثلهم ـ مجازًا.

الأسلوب السردي الثالث ،التحفيز الزمني، أداة مهيمنة في تشكيل الشخصيات وبنية الزمن، ومن ثم في تشكيل الرواية، لكن ما يهمنا دورها في سماعنا صوت السارد مادام السرد مستمرًا.  فسارد” فوق الحياة قليلا ً” يعتمد في تقديم الشخصيات والأحداث علي حدث، غالبًا ما يبدو صغيرًا أو عاديا، يكون بمثابة محفز لأحداث أخري وتفاصيل، يختارها بدقة ويحكيها، ويتدخل أثناء الحكي بالشرح وبالتعليق الساخر.

الفصل الأول ـ كنموذج لفصول الرواية ـ يتشكل من سرد أخبار الشاعر الحداثي الذي يعيش فوق الحياة قليلا ً: انعزاله عن زملائه في العمل، اضطرابه بين بشريته وشعوره بالتميز( يشرح السارد هنا معني كلمة التميز بأن يكون فوق الحياة بدرجة )، زواجه، أزمته الأسرية مع زوجته ومع حميه ( الذي تجاهل تميزه بعد خلافه مع زوجته )، تصفية الشركة التي يعمل فيها بالبيع، صدور أول ديوان له ( يعلق السارد هنا بأنه بدلا من أن يرفعه فوق الحياة درجة أخري شدَّه إلي الأرض وأكد بشريته)، صدمته مع فتاة مقهي المثقفين، نتيجة المباراة التي جاءت مخيبة لتوقعه.

هذه الأحداث أطلقها حدث صغير ظل يومض من حين لآخر من خلال تعليقات السارد أثناء انطلاقة الأحداث، وهو تأخر الشاعر الحداثي عن الندوة بسبب مشاهدة مباراة كرة قدم  بعد أن قرر أن يكون اليوم لمعايشة تجربة بشرية أخيرة قبل الدخول علي قصيدته الجديدة. ومن نقطة الانطلاق هذه انطلق السارد حرًّا يسرد أحداثا غير مقيد بتسلسل زمني، هذه الأحداث تمثل في  مجموعها ـ مع تدخلات السارد وتعليقاته ـ “حياة” تتأرجح بين الشعور بالتميز والانغماس في الحياة والبشرية، ومن هذا التأرجح تتفجر السخرية، ففي اللحظة التي يري الشاعر الحداثي فيها نفسه يعيش فوق الحياة قليلا ً، إذا به منغمس فيها، ولا يمكنه كتابة قصيدة دون أن يمر بأزمة من أزمات الحياة .

التحفيز بهذه الطريقة مسئول عن بناء الشخصية وتحديد هويتها، وعن بناء نظام زمني خاص بالسارد، إذ يفتح فضاءه من لحظة صغيرة تمتد ليصنع منها السارد “حياة” كاملة، هذا النظام ينفي ـ حال إدراكه ـ  التطابق بين السارد والمؤلف الحقيقي الذي انتهت إليه بعض الدراسات، مثل دراسة مهدي صلاح للرواية(5)، وأيضًا بين الشخصية  والنموذج الحقيقي الذي يبدو للقراء أنها تمثله. والأكثر أهمية أنه يكشف عن رؤية جمالية للسارد وراء خطابه السردي المربك لزوجته، ولصديقه الشاعر الحداثي، وللأدباء، ولنا، نصوغها كما يبدو لنا علي النحو الآتي : ما يبدو أنه مراوغة تربكنا وتدفعنا إلي الاضطراب هو كتابة جديدة في علاقتها بالحياة، كتابة تضع كل شيء داخل التجربة الأدبية، وتري الحياة ذاتها خبرة جمالية، ومن المستحيل أن يحيا الأدب فوقها قليلا ً. وإذا سألت السارد عن الحقيقة والمجاز، أو الأدب والحياة، أو الواقع والخيال ـ فسوف يجيبك علي الفور(متقمصًا شخصية الشاعر الحداثي): لا فرق..لا فرق.

الخاتمة

  ” الخوف يأكل الروح”، و” دنيازاد “، و” فوق الحياة قليلا ً” ثلاثة نصوص أثبت تحليلها  وجود سارد مشارك يسيطر صوته علي السرد، ويعد مصدر المعلومات الرئيس، وقد منحه ذلك الوضع حضورًا طاغيا داخل النص، وأنشأ علاقة مباشرة بينه وبين القارئ. لذلك يعد الخطاب المباشر من السارد إلي القراء ـ وكذلك كلام السارد عن القراء ومواقفهم ـ من سمات خطابه السردي باستثناء  «دنيازاد ” التي يشارك فيها صوت آخر صوت الساردة في السرد، وليس هناك قارئ حاضر حضورًا صريحًا يتوجهان بخطابهما إليه.

وهذا الحضور الطاغي للسارد نتاج لخطابه السردي بأدواته وموضوعه، وفي الوقت نفسه ممسوس بحضور للمؤلف. فموضوع السرد في تلك النصوص يتصل بالتجارب الشخصية للسارد، ويلاحظ علي هذه التجارب أنها تتصل بتجارب المؤلف الحقيقي وسيرته الشخصية، وهو ما أنشأ  نوعًا من التماهي بين السارد والمؤلف الحقيقي، أدخل بعض ملامح شخصية المؤلف تدخل في تركيبة السارد، وحوَّله إلي صوت فني للمؤلف، لكن مدي العلاقة يختلف من نص إلي آخر نتيجة اختلاف درجة توظيف تجارب المؤلف. فالسرد في” الخوف يأكل الروح” يتشكل ـ في جانب منه ـ من بعض تفاصيل الحياة الشخصية للمؤلف ( مثل: الاسم والعنوان وبعض تفاصيل الحياة العائلية والخبرات العملية)، لكن السارد يعتمد في سرده علي مزج الواقعي ( والتفاصيل الشخصية لحياة المؤلف جزء من هذا الواقعي ) بالعجائبي، هذا المزج وقف حائلا دون اعتبار السارد هو المؤلف، و دون اعتبار النص نصًا سيريا.

 أما في ” دنيازاد ” فجاءت علاقة التماهي نتاجًا للصيغة الأدبية التي تأثرت بالتناص مع الموروث السردي، فقد اعتمد السرد علي السيرة الشخصية للمؤلفة ( إذا ما وضعنا في اهتمامنا الأحداث المستدعاة ومداها الزمني )، واستخدم الأسلوب الواقعي في تشكيلها، وهو ما أفضي إلي تصور العلاقة بين الساردة والمؤلفة علي أنها علاقة تطابق، وصنف النص علي أنه رواية سيرة ذاتية. لكن بالنظر إلي علاقة السارد بالمؤلف من منظور أدبية النص الروائي (علي أساس أن المصطلح النوعي علي الغلاف ” رواية “)،و التناص مع التراث السردي متمثلا في نص (ألف ليلة وليلة)، ظهر لنا أن الساردة تأخذ موقع دنيازاد في نص ألف ليلة وليلة، ومنه تشكل موضوع السرد، ومن ثم تنتفي علاقة التطابق بينها وبين المؤلفة.

   نص ” فوق الحياة قليلا ً” إشكاله أعقد؛ لأن علاقة السارد بالمؤلف فيه لا تتصل بالتحديد النوعي مثل “دنيازاد “، بل تتصل بمشكلة القراءة المسيئة التي قد ينتج عنها إضرار. فهذا النص ـ علي خلاف النصين السابقين ـ لا ينهض السرد فيه علي السيرة الذاتية، ولكن علي الاستعارة من العالم الخارجي، استعارة شخصيات ذات وجود تاريخي متعين خارج النص، تنتمي إلي فئة محددة، وقص تجاربها، ونشأ عن ذلك التباس بين ما هو حقيقي وما هو مجازي. وبدل أن تلفت خصائص النص الأدبية – وبخاصة السخرية، والنظام الزمني القائم علي التحفيز- النظر إلي تحويل الأصل الواقعي تحويلا ً لم يعد معه ثمة أصل وفرع، أو حقيقي ومجازي، أو واقع وأدب، ولم يعد سوي كتابة لا مرجع لها، بدل ذلك راح بعض المتلقين يطابق بين السارد والمؤلف، وبدل أن يكون الخطاب الساخر خطابًا لسارد متخيل صار خطابًا للمؤلف الحقيقي، وتحولت السخرية من أداة بلاغية تشكل عالمًا وشخصيات أدبية إلي مجرد وسيلة للتعريض. ومن ثم كان لابد من تقويض ما أسميناه ” وهم التطابق” بدرجاته المختلفة ـ وأيضًا مشكلاته المختلفة ـ في النصوص الثلاثة.

وتشترك النصوص الثلاثة في استخدام أساليب محددة لسرد تلك التجارب والخبرات الشخصية : ضمير المتكلم المعروف بأنه ضمير الاعتراف، ويعد ـ مع نمط مادة السرد ـ المسئول عن الالتباس بين السارد والمؤلف. وتوليد حكايات وأفكار من لحظة زمنية أو موقف، سرد التفاصيل الدقيقة. ويتميز نصا” الخوف يأكل الروح” و”فوق الحياة قليلا ً” بتوليد السارد القصص الصغيرة، والأفكار، والتدخل بتعليقات كثيرًا ما تكون ساخرة وتتضمن أحكامًا بالقيمة، وهو ما لا تفعله ساردة ” دنيازاد “، فتجربتها ذات طابع رومانسي حزين.

 سرد التفاصيل إحدي الوسائل التي ضمنت للساردين حضورًا طاغيا، ليس لأننا ننشغل بصوت السارد ومنظوره الذي يسرد من خلاله هذه التفاصيل، وعمليات التشويق التي يقوم بها سارد مثل سارد ” الخوف يأكل الروح”، ولكن لأنها كثيرًا ما تكون تفاصيل شخصية. ويلاحظ أن سرد التفاصيل يختلف في نوعه ووظيفته، فهو يقترن بأشياء صغيرة في ” الخوف يأكل الروح”، و بتصور جمالي للكتابة لدي السارد، يراها في جانب أساسي مهارات وألعاب. في حين أن سارد ” فوق الحياة قليلا ً” يبني كتابته علي مواقف أو لحظات زمنية متعددة أكثر من تفاصيل الأشياء، ويحول كل موقف لحظة إلي نقطة انطلاق لسرد مواقف و لحظات أخري، تظهر مدي ثراء اللحظة الواحدة .ولو ربطنا هذا الأسلوب بمادة السرد التي تقوم علي الاستعارة من العالم الخارجي، فسوف نكتشف تصورًا يري الزمن وسيطا للسرد عن خبرات الحياة، وأن الرواية بما هي فن زمني تبدو مرادفة للحياة. ربما بهذا المعني ـ مرادفة الرواية للحياة ـ استخدمت مي التلمساني تجربتها الشخصية في كتابة ” دنيازاد “، لكنها أقامت تصور الساردة للزمن علي الاستدعاء، و ربطته بتصور مختلف هو إمكانية إعادة تشكيل العالم واستراد المفقود – سواء كان الابنة أو الذات – بواسطة الكتابة. ثمة ملاحظة أساسية، وهي وجود علاقة بين سيطرة السارد وتمركز عملية السرد في يده وبين التهميش، فالسارد الذي يتصدر مشهد السرد بضمير المتكلم، وينشغل بتجاربه الشخصية، وبتفاصيل تخصه أو تخص أشياء ذات صلة مباشرة به، غالبًا ما يكون شخصًا مهمشًا، خاصة إذا نظرنا إليه بوصفه كاتبًا منشغلا ً بهموم المهنة. قد يظهر التهميش في شخصية السارد مباشرة،  فمصطفي ذكري سارد ” الخوف يأكل الروح” كاتب روايات عاطفية من الدرجة الثانية، روايات شعبية لا تصنع منه قاصًا جادًا ومعروفًا. وقد يظهر من خلال شخصيات تشاطره الكتابة وهمومها، وشخصية الشاعر الحداثي الذي يعيش فوق الحياة بدرجة، كما يصورها سارد ” فوق الحياة قليلا ً”، نموذج دال في هذا السياق. وبناء علي ذلك، نحن أمام نوع من السرد الذاتي أنتجه حضور الساردين وتصدرهم وتصديهم ـ منفردين أو شبه منفردين ـ لعملية السرد، سرد منشغل بالذات، وهذا الانشغال هو المنتج أيضًا لعلاقة التماهي بين السارد والمؤلف. هذه النتائج والملاحظات فيما يخص حضور سارد مشارك (أو بطل ) يحمل صوته بعدًا من شخصية المؤلف، والملاحظة الأخيرة تحديدًا، تنطبق علي كتابات روائية أخري، مثلا ً السارد في «لصوص متقاعدون” لحمدي أبو جليل، وشخصية الأستاذ رمضان في الرواية عينها الذي يجمع – مثل السارد ـ بين التهميش الأدبي والطبقي، و” مي ” ساردة وبطلة “الباذنجانة الزرقاء” لميرال الطحاوي التــي تكتب تجاربها، وتجسد التهميش والقهر بسبب النوع الإنساني. عامة، تشير النصوص الثلاثة ( المحددة نوعيا بأنها ” رواية” ) إلي كتابة جديدة تستند إلي تصورات جمالية مختلفة عن تصورات جيل نجيب محفوظ وجيل الستينيات، في طريقة إدارة السارد لعملية السرد، ونمط العلاقة بينه وبين المؤلف الحقيقي، وأن هذه تحديد نمطها وحدودها بات يتعلق بأسئلة تخص نوع النص، وتخص العلاقة بين السارد والقارئ، سواء كان القارئ الضمني في النص أو القارئ الحقيقي، وتخص تصور العلاقة بين الأدب والحياة أو بين الرواية والواقع، وهو التصور الذي تعيد هذه الكتابات الروائية طرحه من منظور جمالي جديد، كما أنها تعيد طرح سؤال ” موت المؤلف ” علي النقاد والباحثين. تذييل (من أقوالهم) “فحينما أكتب أنا بذاتي التي أعرفها أجدني بداخل وعي الشخصية التي أكتبها أو يصبح وعيها بداخلي بحيث يتوجب علي أن أكتب سيرة شخصية روائية بقدر ما أعرف عنها…”. أمينة زيدان ” والرواية الآن في حالة بحث ورصد للتغيرات، وبما أن المبدع إنسان يعيش هذه الحالات فالدهشة من حوله تحيطه بكثير من الإحباطات، لذا ظهر علي السطح السرد الذاتي، بمعني أن المؤلف أو الكاتب أصبح شخصية روائية لها تاريخ، ومن ثم فهي تحاور وترصد هذه التحولات لقراءة الواقع الاجتماعي …”.  صفاء عبد المنعم “أنا مواطن مطحون وغضبان ومحبط، وأظن أن هذا سيظهر بشكل مباشر وغير مباشر فيما أكتبه، لكنني لا أنسي أن الكتابة هي محارتي التي ألجأ إليها مختبئـًا أو متوجًا، أبكي أو أرقص وألعب وأنتقد وأفضفض…”.  ياسر شعبان ” فمثلا في رواية “كلما رأيت بنتـًا حلوة أقول يا سعاد” التي قيل عنها إنها سيرة ذاتية كان لا بد من وجود لغة شاعرية ومجازية في نفس الوقت…”. سعيد نوح ” بعض الأدباء غضبوا من “فوق الحياة قليلا ” واعتبروها تعريضا بهم!!”. سيد الوكيل مصادر الدراسة ـ مصطفي ذكري: الخوف يأكل الروح، ( رواية)، سلسلة كتاب شرقيات للجميع (56)،دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط الأولي،  1998 . ـ مي التلمساني: دنيازاد، (رواية)،دار الآداب بيروت، ط 2002 . – سيد الوكيل : فوق الحياة قليلا ً، ( رواية )، إبداعات معاصرة، مكتبة الأسرة،  2004 . مراجع الدراسة ـ جاكوب كورك: اللغة في الأدب، الحداثة والتجريب، ترجمة، ليون يوسف وعزيز عمانوئيل، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1989 . ـ خيري دومة: تداخل الأنواع في القصة  المصرية القصيرة 1960 ـ 1990، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998 . ـ خيري دومة: رواية السيرة الذاتية الجديدة: قراءة في بعض “روايات البنات” في مصر التسعينيات، مجلة نزوي. ـ مهدي صلاح علي : أنماط البث والتلقي في الخطاب الروائي المعاصر، جائزة الشارقة للإبداع العربي ( 164)، الإصدار الأول، الدورة (9)، 2005 . الهوامش 1- يمكن الرجوع إلي الصفحات من 24 إلي 54 لتري السا رد وهو يناقش فكرة القبح مستشهدا بنص ينسب للمؤلف الحقيقي خارج عالم الرواية وكيف يتحدث عن كشف تلك المناقشة عن لحظةعبثية تتمثل في أن الشيء البسيط مثل تفرق أسنانه وعدم اتساقها وهو عيب من العيوب الخلقية في وجه السارد) يأخذ منه مجهودا كبيرا ليقوله مقارنة بالشيء الجاد العميق الذي يقوله بلهجة تقريرية مباشرة. 2- خيري دومه، تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 0691-0991، الهيئة العامة للكتاب 8991. 3- خيري دومة، رواية السيرة الذاتية الجديدة: قراءة في روايات البنات في مصر السبعينيات مجلة نزوي. 4- راجع جاكوب كورك:اللغة في الأدب، الحداثة والتجريب 742- 942، ترجمة ليون يوسف وعزيز عمانوئيل، دارالمأمون للترجمة والنشر، بغداد 9891، حين أفدنا من كلامه عن استخدام المحاكاة الساخرة في سرد المواد المستعارة من الواقع الخارجي. 5- مهدي صلاح علي ، أنماط البث والتلقي في الخطاب الروائي المعاصر، 362 جائزة الشارقة للإبداع العربي (461) الإصدار الأول، الدورة (9)، 5002.

البحث عن خصوصية سردية في سرد الشئون المحلية د. سيد ضيف الله.

ورقة بحث مقدمة لمؤتمر أدباء مصر، بمرسى مطروح، 2008م.

” كل من هبَّ ودبَّ يستطيع الآن أن يكتب وأن ينشر ويضع علي غلاف كتابه الجذّاب صك “رواية” دون أدني حرج، وإن لم يفلح في النشر الورقي، فالإنترنت أوسع انتشارًا “. هذا الكلام لسان حال كثير من النقاد والكتّاب الذين تشكّل عقلهم النقدي وتكونت ذائقتهم الأدبية في إطار عقد اجتماعي نصّ في أحد بنوده علي أن الكتابة موهبة أو احتراف، وبالتالي لا يحق إلا لأفراد بذواتهم أن يطلقوا علي أنفسهم مسمَّي “كاتب” وأن يطلقوا علي ما يكتبونه مسمَّي “كتابة”، بحكم أن هؤلاء الأفراد موهوبون أو محترفون في عملية الكتابة. لا أستطيع أن أقول إن هذا العقد الاجتماعي قد عفي عليه الزمن، خاصة أنه ليس سهلاً علي مجتمعات تري أن ترميم البالي وتنكيس المتهالك قد يكون أكثر استجلابًا لبركات الاستقرار من أن تُلقي بأمنها و أمانها في غياهب المجهول الذي قد يستجلب كل مكروه.  ولا أعني بذلك أن ذلك العقد الاجتماعي المتوارث أصبح باليا أو متهالكًا، وإنما ما أعنيه بالضبط أن هذا العقد الاجتماعي الذي يخصّص مهنة الكتابة ويمنح شرفها التاريخي للموهوبين والمحترفين قد واجه في السنوات الأخيرة من استطاع أن يعترض عليه ويرفض التوقيع عليه. ويبدو أن هذا الاعتراض ذاته ليس جديدًا في تاريخ التجريب الأدبي، فهو أمر مألوف يواجه المجتمعات في لحظات مفصلية تتحول فيها أشكال الكتابة ويتغير فيها مفهوم الجمالية أو الأدبية. معني هذا الكلام أن ما يندرج ضمن الأدب لا يخضع لمعايير الجودة الأدبية المرتكزة علي الصفات الداخلية للنص، وإنما إلي جانب ذلك هناك معايير الجودة التي تحددها اللحظة الثقافية التي يتم فيها إنتاج هذا العمل الأدبي أو ذاك، بل الأدق أن نقول إن اللحظة الثقافية هي، بالأساس، التي تحدد المعايير التي يتم علي أساسها التواطؤ المجتمعي علي تنصيب هذا الشكل من الكتابة موقع الشكل المهيمِن في مقابل تنصيب الشكل الآخر من الكتابة موقع الشكل المقاوم والساعي للهيمنة. وعلي هذا فـ”روائية” عمل مكتوب علي غلافه “رواية” هي عبارة عن خصائص  داخلية  وأخري خارجية، والعلاقة بينهما ليست بسيطة ولا ثابتة، لأنها علاقة تتشكل نتيجة تفاعلات معقدة بين النص وسياقه الثقافي. فإذا كانت اللحظة الثقافية تنحاز نقديا وإعلاميا وجماليا لنمط من الكتابة الروائية علي حساب نمط آخر، ففي المقابل هناك نصوص متفردة بقدرتها علي أن تغير شروط اللحظة الثقافية المنتجَة في ظلها لتؤسس لوعي قرائي جديد. لكن جرت العادة أن تقع الكتابة في فخاخ التنميط  بمجرد أن يسلك نصٌ مسلكًا جديدًا فينال تقديرًا أو تهليلاً، فتحذو عشرات النصوص حذوه، فيتحول الجديد إلي مبتذل، والمتفرد لتقليد، والإبداع إلي تكرار. ولاشك أن كل كاتب روائي يتمني وهو يكتب عمله أن يفقد ذاكرته القرائية فلا يكرر جملة ولا وصفًا ولا شخصية كتبها روائي قبله، وهو في سبيله هذا يدخل في محاورة مع تراثه الروائي القريب والبعيد، وما وصله من تراث النوع الروائي. وغاية كل روائي أن يحقق التفرد الذي هو أحد معاني الخصوصية. وباختلاف فهم الروائي لمكمن خصوصيته وتفرده وباختلاف مسلكه لتحقيق ذاته روائيا، يختلف تصوّره للرواية. لاسيما أن الرواية نوع أدبي يتسم بقدر عالٍ من المرونة التي تسمح، بل وتثمّن التواطؤ بين الثقافة الإنتاجية والثقافة الاستهلاكية للرواية. وهنا تتضح أهمية إسهام الباحث مجدي توفيق في قراءة “الروايات الجديدة” التي قامت علي فرضٍ أثبت صحته، وهو أن “نصوص الأدب- بخاصة النصوص التي تبحث عن طرق جديدة تمشي فيها- تحقق إبداعها بأن تصنع ذاكرة جديدة، بما تعنيه الذاكرة الجديدة من معارف جديدة، وتصور جديد للحياة، ومن اختيار لتراثٍ جديد، ومن طرق  جديدة في الكتابة، وجماليات جديدة للنصوص” (1). إن الروايات التي قام توفيق بتحليلها من منطلق مفهوم الذاكرة الجديدة تنتمي وفق مسلك المجايلة النقدي لجيل التسعينيات، وقد كان شاغل الباحث الأهم الكشف عن خصائص سردية يقيم عليها مفهومه النقدي “الذاكرة الجديدة”، وهو ما جعله يعلن منذ البداية تجنبه الخوض في مسألة تحقيق مفهوم “الرواية الجديدة” أو السعي لتقديم تعريف له. ويبدو أن مسلك اجتناب التحقيق في التعريفات المطروحة لمفهوم الرواية الجديدة، ثم عدم التورط في عملية تبنٍ لأي من هذه المفاهيم أو عدم التورط في تقديم مفهوم جديد يضاف للمفاهيم المطروحة للرواية”الجديدة”، يفضي بالباحث لقول نصف الحقيقة حين يذهب إلي القول بأن ثمة خصائص أو سمات كامنة في عدد من الروايات صدرت حديثًا أو مؤخرًا  تؤسس لكتابة”جديدة” أو “خصوصية سردية” أو “قطيعة روائية”، لأن النصف الآخر من الحقيقة المسكوت عنه هو أن ادّعاء الجدّة وادعاء المجايلة ادعاءان ينفي كل منهما الآخر، فهما متغيران لا يحكمهما ثابت، ونحن نحتاج لثابت لنحتكم إليه كمعيار نقدي ليس في التقييم الجمالي للروايات فحسب، وإنما في تصنيف الروايات وفقًا لخصائص سردية تَسِمُ خطابَها السردي. وإذا لم يكن هناك ثابت نحتكم إليه أو نتواضع عليه، فليس بمقدورنا سوي أن نقنع بأحد أمرين أولهما هو الربط  بين المتغيرين (المجايلة/ الجدة) فتكون النتيجة بديهية أو مجرد تحصيل حاصل ولا جديد فيها، وهي أن لكل جيل جديده مع وجود خروجات عن القاعدة هنا أو هناك، أما ثانيهما فهو أن نطرح أحد المتغيرين جانبًا، وأعني هنا مفهوم المجايلة، ليكون البحث عن المتغير الثاني وهو ” الجدّة” في كل عمل روائي ندرسه مستندين إلي تصوّر “للرواية الجديدة” نتبناه لغرض هذه الدراسة. هذا التصوّر يقدمه الباحث شكري عزيز الماضي في كتابه “أنماط الرواية العربية الجديدة” علي خلفية مقارنته بين مفاهيم ثلاثة يستدعي كل منها الآخر (الرواية التقليدية- الرواية الحديثة- الرواية الجديدة)(2) باعتبارها ثلاثة أشكال تمثل تطور الرواية العربية دون الوقوع في فخاخ التحقيب الزمني، وأحاول هنا أن أستخلص أهم السمات المائزة بينها مصنفًا إياها: الرواية التقليدية -تصميم يعيد إنتاج الوعي السائد – وظيفتها متمثلة بالتعليم والوعظ والإرشاد – ظهرت في مرحلةالنشأة والبدايات بصفة أساسية لكنها مازالت موجودة. – من صفاتها النوعية أنها ذات أفكار جاهزة تسقط داخل الشكل الروائي. – هناك حرص علي التوثيق والتسجيل باسم الواقعية مرة وباسم الإيهام مرة – الاهتمام بالوقائع أكبر من الاهتمام بالشخصيات – وسائل الربط بين الأحداث القضاء والقدر أو تدخلات السارد المباشرة – ينهض بمهمةالسرد راوٍ عليهم بكل شيء – الشخصيات تتكلم لغة الكاتب الروايةالحديثة – تصميم يجسد رؤية وثوقية للعالم. – مهمتها تقديم تفسير فني للعالم يعكس الإحساس بالقدرة علي التفسير والتعليل لظواهر العالم، من خلال التغلغل في جوهر الظواهر وتصوير العلاقات من الداخل. – ذات بناء متماسك ومترابط ومتدرج فنيا (بداية- ذروة- نهاية) – يختفي الكاتب من أجل الموضوعيةالفنية الإيهام بالواقعية بغرض إقناع القارئ. – تهدف لأن يحل التناغم مكان الخلل، حتي لو كانت ذات رؤية عبثية تعكس تصور الخلل في العلاقات بين الإنسان ومحيطه. الرواية الجديدة – تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم. -هي جديدة لأنها ضد التحديد والتصنيف بدليل كثرةالمسميات التي تحاول الإمساك بها: (رواية للارواية- الرواية التجريبية- رواية الحساسية الجديدة- الرواية الطليعية- الرواية الشيئية). – الذات المبدعة تحس غموضاً يعتري حركة الواقع، كما تشعر أنها مهددة بالتلاشي. – تسعي لتأسيس ذائقة جمالية جديدة أو وعي جمالي جديد – تستند لجماليات التفكك بدلا من جماليات الوحدة والتناغم لذلك تقوم بتفجير منطق الحبكة والتسلسل. – من أجل تحطيم مبدأ الإيهام بالواقعية يتدخل  الروائي الجديد بصورة مباشرة وغير مباشرة، بل ويخاطب القارئ ويحاوره ، ويعلق ويشرح. يتعمد الروائي الجديد الانحرافات السرديةالمتكررة والانتقال من حدث لآخر ومن زمن لزمن، وإخفاء الزمن أو المكان أحيانا. – موضوع الرواية لا يتصف بالتناغم أو الوحدة والشخصيات مجرد أطياف او حروف أو أصوات. – هناك مستويات لغوية متعددة ومن هنا يمكن القول إن أية محاولة لاستخلاص خصائص لما يسمي بالرواية الجديدة هو عمل تثبيتي لكائن متمرد يقاوم أي فعل تثبيتي. وبالتالي فإن عملنا هذا محكوم عليه بالفشل النسبي أو بالأحري النجاح المؤقت و المقتصر علي نطاق الروايات الثلاث التي ندرسها (العمة أخت الرجال لأحمد أبو خنيجر(3) – كيد النسا لخيري عبد الجواد(4)- فانيليا للطاهر الشرقاوي(5)، والتي ما هي إلا روايات تلقيناها علي اعتبار أنها  ذات أنصبة متباينة من مفهوم”الجدّة”، وهي في نفس الوقت تشترك بدرجات متفاوتة في أنها تندرج ضمن ما أسماه الباحث صلاح صالح في كتابه:”سرديات الرواية العربية المعاصرة” بـ” سرد الشئون المحلية(6)”. 

وسرد الشئون المحلية هو السرد المعني برصد الخصوصيات الثقافية للبيئات التي تتصف بصفة المحلية من منظور قارئ الرواية، وهذا ما يفضي إلي القول بنسبية مفهوم المحلية، فكل بيئة هي بيئة محلية بمعني من المعاني ولها سماتها الثقافية التي تميزها عن البيئات الأخري. إن معيار التمايز الثقافي بين البيئات للقول بمحلية ما أو بخصوصية ما يستدعي في المقابل مفهوم التجانس الثقافي أو المشترك الثقافي للقول بالانتقال من حيز المحلية أو الخصوصية إلي حيز الدولة/ القومية. لكن ما نعتبره وطنيا وقوميا منطويا علي خصوصيات ثقافية متباينة هو نفسه يكون محليا من منظور قارئ لا ينتمي لنفس القومية. ويبدو أن غايات اللجوء لسرد الشئون المحلية متباينة، فهناك من يعتبر ذلك مسلكًا يسيرًا للوصول للاعتراف الخارجي/ الترجمة نتيجة أنه سرد قادر علي إشباع الفضول المعرفي لدي الآخر /المترجِم عن سمات هذه البيئة المحلية أو تلك ثقافيا. كما أن هناك من يراه مسلكًا لتحقيق شكل عربي للرواية متميز عن الشكل الغربي لها والخروج بالتالي من دائرة “التبعية الإبداعية”. وهناك من يعتبر ذلك رهانًا للكشف عن عالمية الشئون المحلية من خلال تجسيد الإنساني (العام) عبر المحلي (الخاص) لتبرز التقاطعات الكبري بينهما باعتبارها أدلة للباحثين عن المشترك الثقافي الإنساني. ولم يزعم أحدٌ من كتّاب الرواية الجديدة – فيما أعلم- أنه يسلك هذا المسلك أو غيره من أجل تقديم شكل عربي للرواية خروجًا من نفق التبعية الإبداعية، لكن مثل هذا القول قد نقرأه كثيرًا لدي كثيرين من كتّاب الرواية الحديثة، لكن في نفس الوقت هناك اتهامٌ موجّه لكتّاب الرواية الجديدة خاصة في العقد الماضي باستهداف الترجمة عند الشروع في كتابة رواية الشئون المحلية. وبغض الطرف عن الغايات المعلنة أو المضمرة وراء كتابة سرد الشئون الملحية، نجد أن طرق معالجة تلك الشئون المحلية سرديا هو الأولي بالاهتمام النقدي هنا. تختلف طرق معالجة الرواية للخصوصيات الثقافية أو البيئات المحلية تبعًا لموقف الراوي من تلك البيئة من حيث تعاطفه معها أو نفوره منها، ومن حيث كونه أحد أبنائها أو كونه غريبًا عنها يكتفي برصد المظاهر البصرية السطحية. ويصعب أن نوزع هذه المواقف علي أشكال الرواية (تقليدية/ حديثة/ جديدة) فنزعم أن الرواية التقليدية تميل للتعاطف، أو أن الرواية الحديثة أو الجديدة تميل إلي العداء مع البيئة المحلية. ولذلك ليس مستحيلاً- نظريا علي الأقل- تصور أن تتلاقي رواية تقليدية مع رواية حديثة مع رواية جديدة في واحدة من طرق التناول للبيئة المحلية التالية: 1ـ التناول الداخلي المتعاطف: (موسم الهجرة للشمال/ مدن الملح). 2 ـ التناول الخارجي المتعاطف:( فساد الأمكنة). 3 ـ التناول الداخلي غير المتعاطف:(الحرب في بر مصر). 4 ـ التناول الخارجي غير المتعاطف:( يوميات نائب في       الأرياف)(7) إن هناك أفضلية محفوظة مسبقًا لروايات السرد المحلي التي ينهض بمهمة السرد فيها راوٍ من أبناء البيئة المحلية (داخلي) علي تلك الروايات التي ينهض بالسرد فيها راوٍ غريب. وذلك لما للراوي “الداخلي” من قدرة علي رصد الجوهر وعدم الوقوف عند المظاهر البصرية أو الخصائص السطحية للبيئة. كما تتمايز روايات الشئون المحلية فيما بينها أيضًا ليس بالحشد الكمي لمظاهر الخصوصية الثقافية، وإنما بالانتقاء الكيفي للمادة التي تتفرد بها البيئة حتي لو كان لهذا الشيء النادر والمتفرد هو” الغسيل الوسخ” الذي ينشره الراوي أمام القارئ. ومن وجهة نظري يصعب علي الرواية التقليدية أن تنشر الغسيل الوسخ للبيئة المحلية لأنها تسعي بشكل عام للحفاظ علي الوعي السائد واستمرار العالم علي ما هو عليه. لكنها قد تفعل ذلك من باب الإحساس بالدونية تجاه الآخر، وهو ما تشترك فيه الرواية الحديثة أحيانًا، لكن الرواية الحديثة قد تلجأ لهذا الفعل أيضًا لتحقيق هدفها التقدمي من باب أن نقد الذات ضرورة للتقدم. أما الروائي الجديد فإنه يفعل نفس الفعل بغرض التعرية والفضح  وتفكيك الصورة الإيجابية المختزنة عن تلك البيئة المحلية، دون أن يتورط في إعادة بناء جديدة لهذا العالم لأغراض أيديولوجية أو سياسية لأنه يشعر بفعله الفضائحي أنه ينتقم من عالم يشعر فيه بالتلاشي، فيما يشبه عملية تفجير للذات، بعد إدراكها يائسةً أن العالم لن يتغير من حولها ما لم تفجّر نفسها فيه، لأنها ذات عاجزة عن الحلم بالتغيير وهي في مأمن من التلاشي. ومن هنا، يمكن القول إن ما تتمايز فيه روايات السرد المحلي يكمن بالأساس في عملية انتقاء المادة المتفردة والنادرة التي تحقق الدهشة للقارئ في مناطق متفرقة من العالم. وبنفس الدرجة تتمايز الروايات في طريقة صياغة تلك المادة. ومن هنا فإن رواية السرد المحلي  تفشل جماليا وتنجح أنثربولوجيا حين تتحول لمتحف تتجمع فيه الآثار الأصلية والمقلّدة من كل صوب وحدب. «العمة أخت الرجال» لأحمد أبو خنيجرة ..  رواية تستحي أن تتمرد “قلت بفراغ صبر: وأنت الآن مهيأ للمّ العائلة !! قال: من حقك أن تسخر يا مثقف. (ص109) . “كثيرًا ما كان يتهمني محمد بالخوف، قال :الكتابة تحتاج إلي شجاعة كما الحياة تمامًا ..ويبدو أنك أوقفت حياتك للفرجة دون الخوض في معركتها (…..) فأطلق ضحكة وهو يقول: ينقصك الخيال يا ابن العم. (ص113) “خبِّرني ماذا فعلت الحكومات المتعاقبة .. لم يكن الجنوب في حساباتها أبدًا، يبدو في نظرها كتلة يمكن إهمالها وتجاهلها .. فقط الانتباه لنهب خيراته وتشريد ناسه عبر طول البلاد وعرضها. (ص130) هذه المقتطفات تثير سؤال العلاقة بين الراوي وعالمه الروائي، ليس فقط من زاوية طبيعة هذا الراوي بوصفه تقنية سردية، وإنما أيضًا  بوصفه ذاتًا تربطها بهذا العالم الروائي  علاقة معقدة تتراوح بين الانتماء والاغتراب عنه.  اختار أحمد أبو خنيجر الراوي بمواصفات معينة تلائم العالم الروائي الذي يدخله، فهو راوٍ مشارك في الأحداث، فهو ابن أحد الرجال الستة الذين تشتتوا في البلاد، لينطبق عليهم – اسمًا وفعلاً- عائلة الرحال تاجر العبيد، و الراوي بهذه الصفة يكتب تاريخ  عائلته. وعلي الرغم من هذه الصلة الوثيقة بين الراوي وعالمه الروائي (الذي هو عائلته)، فإن المقتطفات السابقة من الرواية توضح لنا  أننا أمام رؤيتين مختلفتين ليس تجاه العالم الروائي فحسب، وإنما للعالم بشكل عام. فالشتات هي الكلمة التي تنبني عليها الرواية بوصفها تأريخًا فنيا لعائلة الرّحال، وتفسير الشتات في الرواية يروي علي ألسنة العديد من الشخصيات مرةً كعقاب أخلاقي علي تجارة العبيد التي كان يمارسها الجد الأكبر مشتتًا بذلك العبيد عن أهاليهم، ومرةً كقدر محتوم من الله علي هذه العائلة دون أن يكون في ذلك عقابًا أخلاقيا. وكلا التفسيرين ينتميان لرؤية قدرية، تعتمد علي الإيمان بالله في تفسيرها لكل ما يحيط بها من ظواهر، وما يلم بها من أحداث. وفي مقابل هذه الرؤية القدرية نجد الرؤية العقلانية لدي الراوي الذي يوظف معرفته وثقافته ليدحض الركن الأساسي في الثقافة القدرية وهو الاعتقاد بأن تجارة العبيد حرام، و يعاقب الله من يقترفها بشتات ذريته، حيث يقول الراوي ردًا علي ابن عمّه محمد الإسكندراني:”قلت بنوع من الاعتراض : في البداية حين بدأ الرجل الرحال الكبير تجارته، والتي لم يكن العبيد جزءًا منها، لم يكن هناك حس من التجريم أو التحريم لهذه التجارة، بل علي العكس كان هناك غطاء ديني كامل مشمول بدعم سلطوي يؤمِّن هذه التجارة، ويكفل لها ازدهارها، هل يمكن للأحفاد تحمُّل أوزار لم يقترفوها.. لنكن أكثر صراحة: لم تكن أوزارا عند الرعيل الأول.( ص129)  إن الراوي يرفض التفسير الأخلاقي لشتات العائلة، ليتبني التفسير الاجتماعي والسياسي لشتات الجنوب بأكمله والمتمثل في إهمال الحكومات للصعيد علي مر سنوات وعقود. إن الزمن الثقافي لكلتا الرؤيتين مختلف بطبيعة الحال، وبالتالي من الصعب أن نتوقع من محمد الاسكندراني أن يمتثل لتلك الرؤية، خاصة أن صاحب تلك الرؤية العقلانية الشجاعة في إدانة الحكومات المتعاقبة هي شخصية موصومة بالخوف والفرجة علي الحياة دون المشاركة فيها من قبل محمد الاسكندراني وكل من ينتمي لنفس الرؤية القدرية. والمفارقة أن صاحب الرؤية القدرية (محمد) هو القادر علي مواجهة الشتات بزواجه من زينب مما يعني استمرار العائلة، وكانت وسيلته لخوض تلك المغامرة التي لا يجرؤ الراوي عليها، هي  الحلم الذي رآه وأعاده من الشتات ليلمّ شمل العائلة، ذلك الحلم الذي لم يستطع سعيد ابن العمة أن يحققه من قبل. إن الحلم ضرب من الخيال، وقد استعان محمد بالخيال لمواجهة الواقع/ الشتات، فكان من الطبيعي أن يدين محمد ذلك الراوي / المثقف بنقص الخيال، وهو اتهام قاتل. يأتي الراوي من زمن ثقافي مختلف، وهذا الاختلاف يحدد لنا ما الذي يلفت نظره فيراه جديرًا بالرواية، والأهم الكيفية التي يرويه بها.  هذه رواية تقليدية من حيث البناء، تبتدئ بمقدمة طويلة تمتد لتشمل الفصل الأول كله (كتاب العمّة)، يسير الزمن السردي فيه بطيئًا رتيبًا، وينحصر المكان في بيت الرّحال القديم حيث العمة، وذكرياتها مع العائلة، أما الراوي فلا حضور له في القص. فنحن في الفصل الأول أمام راوٍ عليم يسكن بيت الرحال وذاكرة العمّة في نفس الوقت. فهو راوي حكايات لا راوي أحداث بالدرجة الأولي. وعلي الرغم من مشاركته في الأحداث بدءًا من الفصل الثاني (كتاب الرجال) إلا  أن هناك بعض المواقف التي سردها لنا دون وجه حق، فكونه راويا مشاركًا في الأحداث لا يتيح له التواجد داخل غرفة نوم العمة بعد موتها وهي تحاور امتدادها الإنساني الحي(زينب) وقد تعري جسدها، في هذه اللحظة الخاصة التي أتت فيها روح العمة فاطمة محملة برسالة من العالم الآخر حيث الجدة فاطمة لتنصح زينب “الفارسة تعرف متي ترخي اللجام”، لترخي زينب اللجام أمام محمد الإسكندراني. في هذا السياق السردي لا يحق للراوي التواجد بأي صفة، فضلاً عن أن ينقل حديث المتوفاة (فاطمة) إلي الحالمة المستيقظة(زينب): ” كانت تحاول التيقن من كونها مستيقظة، بيدها الخالية قرصت صدرها، تأوهت، والعمة أوقفت ضحكتها وأعقبتها بسعلة قبل أن تقول: الأيام بتروح يا بتي….قالت في نفسها: أنا صاحية». (ص120) ولم ينج من أحبولة الراوي المتحدث باسم الجميع عمه عثمان العجبان نفسه، وذلك حين استوجب السياق السردي دخوله في لحظة حيرة تناسبها تقنية المونولج أو الخطاب غير المباشر الحر (8) حيث يعمد الكاتب أن يتداخل صوت الراوي بصوت الشخصية فلا نتبين لأيهما يكون الكلام بالضبط، ومع هذ لا يتحقق ذلك التداخل  لتحقيق هذا الإيهام: “وهاجمه سؤال: هل ستمتد يده علي ابن عمه، إن فازت فاطمة؟ …. لا يدري علي أي نحو يتصرف، ما الذي دفع مصطفي لهذا الفعل؟..إلخ (ص143) . والسؤال ما هي الحكايات أو العادات والتقاليد التي رواها  أو الموتيفات التي وصفها  لنا هذا الراوي العليم ؟ وهل تحققت خصوصية روائية ما لهذه الرواية؟ “تذكر أن خرّاط البنات كان يغامر كي يزورها ليلا، ليجعل جسدها يستدير، كما تقول جدتها حين تأخذها في حضنها: بالليل عندما تنامين، يأتي خرّاط البنات، متلصصًا  يرقب إخوتك الرجال، ولما تأخذهم الغفلة، يدخل إليك، تكونين نائمة، يعمل يديه في جسدك. (ص11) هذا التفسير الذي تقدمه المخيلة الشعبية للبنات في سن المراهقة للتحولات الفسيولوجية التي تحدث لأجسادهن لا يقتصر علي جنوب مصر، وإنما هو  تفسير شائع في أنحاء مختلفة من البلاد العربية، لكنه خاص بفئة اجتماعية معينة لا يمكّنها مستواها التعليمي من التثقيف الجنسي لبناتهن. إن وجود الحكاية خارج الرواية له غاية التوظيف الحياتي لذاك التفسير الشعبي  بين الأم والابنة، مع الوضع في الاعتبار ما يتعرض له المأثور الشعبي بشكل عام من انحسار. لكن وجود الحكاية في الرواية يجب أن يكون له وظيفة روائية حيث تأتي الحكاية في إطار تذكر العمة فاطمة لعلاقتها بالجدة فاطمة التي سميت علي اسمها، فقد كانت أقرب إليها من أمها حتي تحكي لها تحولاتها الفسيولوجية علي هذا النحو. والملحوظ أن كل الذاكرة يتم سردها بطريقة الاستعادة من الماضي لكن دون حضور معقول لصوت العمة صاحبة الذاكرة نفسها! إن ذاكرة العمة كانت بالنسبة للروائي مصدرًا لم يقدّر قيمته فنيا، علي الرغم من حاجة السرد لها سواء لإضفاء حيوية وطابع إنساني علي المروي أو لإقناع  القارئ ببعض الأحداث التي لا يقف وراءها المنطق السائد اليوم بين جمهور القراء، وإنما يقف وراءها معتقد شعبي لا يحتاج القارئ لتفسير وتبرير وإقناع بصدقه خاصة إذا كان من بيئة ثقافية مغايرة بقدر ما  يحتاج لأن يصله الإحساس  بمدي إيمان تلك الشخوص بذلك المعتقد ومدي تأثيره علي حياتهم. ومن هذه المعتقدات الشعبية الإيمان الشديد بالحسد، فهذا المعتقد هو أساس الشتات الذي تقوم عليه الرواية، فالجد الرّحال كان يعتقد في حسد أهل القرية له بشكل قد يراه القارئ مَرضيا ما لم يصله إحساس صاحب المعتقد  بغير ذلك، وذلك حتي يمكنه أن يتقبل ما ترتب علي ذلك المعتقد من انعزال عن القرية خلافًا لطبيعة البشر في تشكيل التجمعات السكانية سواء كانت قروية أو مدينية. إن الذاكرة قد تختزن موروثًا ثقافيا جديرًا بالحكي، لكن هذا الموروث الثقافي إنما هو في الحقيقة عبارة عن علاقات إنسانية كانت قائمة بين حاملي هذا الموروث في ذاكرتهم الفردية والجمعية. وإذا كان هذا الموروث هو المقوم الأساس للخصوصية الثقافية للمكان الذي اختاره الروائي ليكون عالمه الروائي فإن استعادة أصوات حاملي الموروث ليكونوا هم رواته هو جزء هام من عمله السردي  افتقده الفصل الأول. ومن ناحية ثانية، إذا كان المعتقد الشعبي حول الحسد يفسّر حدثًا هامًا في الرواية وهو انعزال الجد الأكبر الرحال عن القرية، فإن المعتقد الشعبي يلعب دورًا هامًا في الاعتراف بتميز وتفوق “عيد” في رسم الجداريات الخاصة بالحج، التي هي نفسها أيقونات تختزن ثقافة الجماعة الشعبية. إن الاعتراف بـ”عيد” هنا  ليس كرسّام فحسب، وإنما كفنان قادر علي تمثيل روح الجماعة الشعبية بأفراحها وأتراحها من خلال أيقونات تضرب بجذورها في تاريخ الجماعة. ومن هنا كان المعتقد الشعبي في شخصية سيدنا الخضر عليه السلام وظهوره كداعم للأبطال الشعبيين، مفسِّرًا ليس لموهبة “عيد” المفاجئة في رسم الجداريات فحسب، وإنما مفسِّرًا للعلاقة الخاصة بين الرسوم والرسّام والحالة النفسية للعمّة /المرسوم. ” أين يكمن الخطأ؟ تساءل (عيد) مُحدِّثًا نفسه: في حالات مشابهة تغلبني هواجسي، لكني الآن فقط أعيد رسم الصورة القديمة. مدّ يده مشيرًا إليها، لكن ما الذي حدث، أهي الصورة التي تتحكم في إظهار ذاتها كيف تشاء، أم هي معايشتي لها ولحزنها الذي بات مُسيطرًا عليها؟ رغم قوتها التي تحاول أن تدعيها لتداري بها ضعفها وحاجتها للحماية والتعاطف!! (ص87). إن الوصول لهذه الحالة من التوحد الإنساني بين الفنان ولوحاته سواء كانت أيقونات  علي الجدران أو شخوصًا يعاشرهم، قد مهدت له الرواية باستدعاء تراث الجماعة دون حواجز تاريخية بين تلك الموروثات؛ فمن الخضر ومباركته لعيد إلي استدعاء فعل “دثريني دثريني” المحفور في الذاكرة الجمعية بوصفه علامة لغوية تستدعي كل الحالة النفسية التي عايشها الرسول (ص) بعد تلقي الوحي وعايشتها معه السيدة خديجة. “فبعد الذي حدث بينه وبين الرجل الطيب عند ضفة النهر جري عائدًا، مرتعدًا إلي أمه التي دثرته، ومن خلال ارتجافه علمت بما جري له، قالت له : إنه سيدنا الخضر(ص27). ثم انتقال هذه العلاقة الخاصة للراوي نفسه  في نهاية الرواية،  حيث تتحول الرسوم لما يشبه اللوح المحفوظ الذي يستقي منه ما سيلي من أحداث. ” وللمرة الثانية داهمني إحساس بأن ما أراه الآن سبق وشاهدته بين الرسوم، رفعت عيني للحائط المواجه لي، كان شاب حائر يتحرك بين قافلة، يريد الوصول لسيدها الذي علي جمله في المقدمة، (….) ضحك عيد ..قال : عقبالك وعقبي له. وأشار إلي محمد الذي كان في هذه اللحظة يجلس بجوار عمه وقد وضع يده علي كتفه..صعقتني المفاجأة، …جلست مبهورًا، وعيني جرت للرسوم، وكان شاب قد توقف بجوار فتاة، لم تكن موجودة قبلاً، وكانت يده ممدودة لراكب الجمل: سيد القافلة.” (ص142) هل يمكن أن نعتبر أن ذلك بمثابة تحول في رؤية الراوي للعالم؟! يبدو أن ثمة  ما يشير لاكتشاف  الراوي  بأن في عالم الجماعة الشعبية أشياء لا تخضع للمنطق والعقل كما كان يجادل في الفصل الأول، فإذا كان “لم الشمل” مكتوبًا في جداريات الفنان/ اللوح المحفوظ للعالم الروائي،  وقد قرأه، علي هذا النحو، الراوي نفسه، فإن من قرأ “لمّ الشمل” بوصفه قدرًا مقدورًا، ليس أمامه سوي أن يعيد النظر في قراءته لـ”الشتات”!! وهنا يمكن القول إن تحول موقف الراوي من راوٍ داخلي غير متعاطف إلي راوٍ داخلي متعاطف لدرجة الانبهار بما يكتشفه من أسرار بيئته المحلية وما فيها من شخوص، هو تحول وإن كان يتم علي استحياء وعجل في نهاية الرواية إلا أنه يمكن أن نعتبره علامة الجدّة في هذه الرواية حيث يتزعزع اليقين والرؤية الوثوقية للعالم والتي كانت مهيمنة علي رؤية الراوي وعلاقته ببيئته المحلية طوال الرواية كما تجري العادة في غالب الروايات الحديثة.  إن الشتات كلمة تحمل شحنة عاطفية  سلبية، لكن إذا حاولنا تجريدها من تلك الشحنة العاطفية، لا يتبقي منها سوي أنها تشير لابتعاد عن “مركز”، وتأسيس “مراكز”جديدة، أي أنه نوع من الانتشار والتوسع للعائلة، ضريبته ضعف هيمنة المركز الأول علي الأطراف/ المراكز الجديدة. إن الاعتقاد في أن الشتات قدرٌ، بذنب أو بدون ذنب، يعني أنه أخذ قوة “المعتقد الشعبي”، وبالتالي يستلزم أن تنتج الجماعة الشعبية حيلا حياتية أو طقوسا وشعائر قادرة علي مواجهة ذلك المعتقد لتحافظ علي استمرارها وتواصلها. وهو ما رصدته الرواية من تناسخ الأسماء فنجد عيد الجد ثم عيد الأب ثم عيد الحفيد، مع استمرار الموهبة، ونجد الجدة فاطمة والعمة فاطمة مع استمرار قوة الشخصية الفارسية وقوة الحنان وحكمة المرأة التي تعرف متي ترخي اللجام . وتسمية زينب / امتداد فاطمة باسمها احتاج من عثمان لتأكيد  أن الأم /ابنة عمه  الصحراوية هي التي أسمتها. ووراثة الاسم كمقاومة لموت الأحباب أو فراقهم لنا خصيصة ثقافية تستهدف استحضار كل ما هو بعيد عن المركز ليحضر معنا هنا والآن. وقد تصل المسألة إلي ما يسمي بعبادة الأسلاف، ولا يتم التخلي عن تلك العادات إلا إذا مسّ الأبناء والأحفاد سوء المصير الذي لحق بالأسلاف، أو خيف منه عليهم وهو ما دفع العمة فاطمة للكف عن تلك العادة مع أبنائها بعد فراق أبنائها الذين أسمتهم علي أسماء أخوالهم. ويبدو أن الرواية قد بالغت في تناسخ الأسماء والمصائر حتي الغموض، وهو ما شعرت به تجاه شخصية “الغريب” . “الغريب” يظهر في الفصل الثاني “كتاب الرجال” ويضفي حيوية عالية علي السرد لقدرته علي الاستهزاء بعائلة الرحال في حلقة التحطيب، ويبدو أن من ورائه سرًا غامضًا، وهذا السر لا يبين إلا عندما يكشف الراوي علاقة العم عثمان بهذا الغريب العائد للانتقام منه. لقد ضخ العم عثمان دماء جديدة في شرايين الرواية حين أقسم بأن يصفع  من ينهزم أمام أخته فاطمة في سباقات الخيل، إغلاقًا منه لباب “السداح مداح” في المنافسة، وذلك لأن الرواية لا يمكنها أن تسرد مسابقات معروفة نتائجها سلفًا بذكرها أن الفائز بالعمة فاطمة هو ابن عمها مصطفي الذي تزوجها وأنجب منها، و بالتالي كل من سيتسابق معها هو من المنهزمين، وبالتالي لا جديد في السرد، وذلك خلافًا للسرد في السير الشعبية، فعلي الرغم من معرفة الجمهور بانتصار البطل أبي زيد في هذه المعركة أو تلك إلا أن الشغف بالسرد له أسبابه الأخري، ولهذا فإن قسَم العم عثمان جعل الشغف بالسرد في هذه المسابقات يتعلق بموقف العم عثمان من المنهزم، هل سيستطيع صفعه علي وجهه أم لا؟ وماذا سيكون رد فعله؟ يعود الغريب لينتقم لكرامته من العم عثمان الذي صفعه أمام الناس، لكن هذه  المرة في حلقة التحطيب وبشروطه : إما أن ينازله في حلقة التحطيب، أو يرد له الصفعة، أو يزوجه من زينب ابنته. والسؤال: أي غريب هذا الذي كان صالحًا للتقدم للزواج من العمة فاطمة، ومازال صالحًا للتقدم للزواج من زينب الحفيدة، بل وأن يعود ليهزأ من كل من يبارزه،  بل ويوصف بأنه “رباية مدارس”؟ إن عدم معرفتنا بعمر الغريب، مع وجود شخصية واحدة تحمل اسم الغريب يجعلنا نعتقد في أحد أمرين: إما أن الرواية تمارس نوعًا من أسطرة الشخصيات برفعها فوق الزمان فلا تجري عليها تغيرات الزمن، وإما أن هناك نوعًا من تناسخ الأسماء الذي تمتد الشخصية عبره في الزمن لتؤدي نفس الدور، فيكون الدور هنا أكثر أهمية من الاسم. وفي كل هذه الأحوال هي شخصية لا تعدو أن تكون طيفًا يمكن استبداله بـ”س” أو “ص”. وكأنها شخصية تنتمي لعالم الرواية الجديدة في ضيافة رواية حديثة. إن أسطرة العادي والمألوف سمة من سمات هذه الرواية(العمة أخت الرجال) محاكاةً للسرد الشعبي واليومي، فالرسوم تتحول للوح محفوظ يقرأه عيد والراوي، والنخلة تتحول لكيان مقدس، لا تقربه إلا العائلة، أو كجبل مقدس لا يصعده إلا أبناء الجد الأكبر، حتي عيد الرسام حفيد عيد الجد مستلم الموهبة من سيدنا الخضر، ممنوع من صعودها، والطيور أرواح تربطها علاقة وثيقة بروح العمّة حتي أنها تموت بموت العمة(الدجاج/ القطة)، وتنكسر عيون النعجة والخروف، وانكسار العين مذلة، لكنهما يؤديان مهمتهما القديمة التي كلفتهما بها العمة وهي تسوية الحشائش حول النخلة، بل إن الريح تُسير خصيصا لا لتلقّح النخلة كبقية النخيل، وإنما لتهزها فتسقط بلحها علي الحشائش، والأهم أنها نخلة تأبي أن ينبت بجوارها أي نخيل آخر، وكأنها، في موازاة رمزية مع عائلة الرحال واجتنابهم الناس/ الآخرين، سلف بلا خلف!! هل يمكن أن نقول إن الآخرين بالنسبة لعائلة الرحال لم يكونوا إلا العبيد أو الغريب، وأن وسيلة التعامل معهم كانت القوة وبالتالي الانتصار في مسابقات الخيل أو التحطيب، مما جعل منها عائلة منغلقة علي نفسها ومعرضة للانقراض، وأن محمد الإسكندراني بعرضه للزواج من زينب دون تحطيب كما فعل عثمان مع عمه عبد الله البشاري عند زواجه من ابنته(فاطمة أيضًا)، ودون سباق خيل (كما تزوج مصطفي من العمة فاطمة)  تكون الدنيا قد بدأت تتغير بالفعل، وإن كان ما زال الوقت طويلا ً حتي يتحول الغريب إلي شريك في الحياة. إن ميراث هذه العائلة  القسوة، علي حد تعبير العم عثمان الذي رفض أن يحضر جنازة أبيه، ردًا علي طرده من البيت. وعلي الرغم من إجلال الموت في الثقافة الشعبية بشكل لا يجوز معه إلا الخشوع أمامه وليس التشفي أو الانتقام، فإن شخصية عثمان المتمردة هنا مؤهلة فنيا للانحراف عن الثقافة الجمعية / الذاكرة القديمة وتأسيس ذاكرة جديدة يتجاور فيها المدنس/ الفردي  مع البطولي/ الجمعي، فالبطل عثمان هنا يدخل في عملية أسطرة مستمدة من الحكايات الشعبية والأساطير  حيث يجب عليه مثلما كان يجب علي كل الأبطال الشعبيين أن يفعلوا من تخطٍ لكل العقبات  لينالوا الاعتراف بكونهم أبطالاً، وبالتالي مؤهلين للزواج من الأميرة،  فعليه الذهاب لخور السلم ليقطع شجرة “خور السلم” وليس معه سلاح سوي البلطة، ومن غرائب الخور أن فرع الشجرة يتحول لحية، ثم يقتلها عثمان فتنزف دمًا، والدماء تجري خلفه حتي تكاد أن تغرقه،  ومع شروق الشمس تتحول الغابة إلي جبال. إن هذا الخيال الخصب يشد الرواية شدًا إلي موروث ثقافي حكائي أنتجته الجماعة الشعبية، وبهذا تبتعد الرواية عن تاريخ طويل من الكتابة الروائية العربية  التي جرت العادة فيها علي أن يكون سرد البيئة المحلية سردًا واقعيا، لكن في الوقت نفسه يجب القول إن رواية “العمة أخت الرجال” لا تعيد إنتاج مفردات عالم الحكي الشعبي علي حساب كونها رواية تكتب هنا والآن، فالبطل العم عثمان علي ما شهده من عملية أسطرة فهو لم يكن يؤمن بهذا العالم الخرافي إلا باعتباره عالم الحكايات الخرافية فقط، وهذا خلافًا لاعتقادات الأبطال في الحكايات الشعبية. كما أن مكافأة البطل بالزنا وتحقيق شهوته الفردانية مع نعيمة وتجاور ذلك مع موروثه العائلي المحافظ ومع تحقيقه للبطولة بعد ذلك هو نوع من تجاور المتناقضات الذي تبرزه الرواية في الشخصية دون إدانة أخلاقية. إن تلك السمات ليست بسبب مفردات البيئة المحلية الجنوبية أو خصوصيتها فحسب، وإنما هي نتيجة تفاعل الرواية مع تراث سردي طويل رفضًا وقبولاً، تسعي من خلال هذا التفاعل أن تحقق لنفسها خصوصية روائية، لكن يبدو  أن هذه الرواية كانت تتمرد أو تقترب من “الرواية الجديدة” علي استحياء، فهي تضع قدمًا حينًا في البناء التقليدي للرواية حيث يستنسخ الراوي العليم الشخصيات والحكايات بلغة الكاتب غير المتعاطف مع البيئة حتي قرب النهاية، وحينًا تسكن في الحيز الروائي للرواية الحديثة بامتلاك الراوي القدرة علي تفسير  العالم علي أساس أيديولجي أو سياسي، وهو ما يجعلنا نري أنها رواية تستحي أن تتمرد، فهي أشبه بذاكرة قديمة يستنسخ الراوي منها الشخصيات والحكايات. «كيد النسا»  لخيري عبد الجواد .. محاكاة السرد الشفاهي تمرُّدٌ علي قواعد كتابة الرواية الحديثة في هذه الرواية علاقة مركبة بين الكاتب / الراوي والبيئة العشوائية (بولاق الدكرور)، حيث تسقط المسافة بين “جمال” الملقب بـ” الكاتب خيري عبد الجواد” والراوي لسيرة هذا المكان وناسه، وبالتالي لا مجال للإيهام بالواقع عن طريق خلق عالم روائي مطابق في جغرافيته وشخوصه وعلاقاته للواقع، وما يستلزمه ذلك من حيل فنية، وذلك لأن الكاتب / الإنسان يعوّل علي أن الكلام المروي يكتسب مصداقيته من كونه كلامًا علي مسئوليته الشخصية ككاتب لأنه واحد من أبناء تلك المنطقة يروي ما سمعه وما رآه، وهو لا يكتب نتفًا من سيرته الذاتية في مرحلة حرجة من حياته فحسب، إنما يكتب سيرة شخصيات كانوا بمثابة أركان بيئته المحلية التي  اختزنتها ذاكرته وهو طفل حتي أصبح الكاتب والباحث في الدراسات الشعبية خيري عبد الجواد. لا يتحايل خيري لإيهام قارئه بأن ما يرويه واقع، وإنما يتحايل ليحاور القارئ الذي يشاركه نفس الخصوصية الثقافية بهدف أن يفيقه من سطوة الخرافات المتوارثة التي تسكن عقله ووجدانه، ويدرك الباحث خيري عبد الجواد أن أقصر الطرق لإقناع الجماعة الشعبية بشيء أن تفعل ما يفعلون وتؤمن بما يؤمنون به حتي يعتبروك واحدًا منهم ليستمعوا لك بعد ذلك فيما تريد تغييره جزئيا،  ومن هنا كانت منهجية خيري في الحكي هي منهجية أقرب للتمرد علي الحكي الكتابي الذي جرت عليه  عادة كثير من الروايات الحديثة، ومحاكاة الحكي الشفاهي وطرائقه الذي جعل “كيد النسا” أقرب للرواية الجديدة، حيث تعتمد علي الخروجات المتعمدة من السرد وتوجيه الكلام للقارئ والاستطرادات وإخبار القارئ صراحة بالبرنامج السردي العفوي للراوي حين ينتقل من حكاية لحكاية أو حين يحتاج للعودة لحكاية لم تكتمل، أو حين يؤجل حكاية لأنه لم يأت الوقت المناسب لحكايتها. “وقع في حب “صفاء” ابنة الناس الذين كان يبيض شقتهم في شبرا من أول عينه ما وقعت عليها وحكايتهما طويلة ومعروفة ـ ليس هذا أوانها. ( ص 22) وكذلك: “هذا ما ستعرفونه إذا ما تبعتموني في الصفحات التالية – فكونوا معي (ص81).  وكل ذلك محاكاة متعمدة لطرق الحكي الشفاهي الشعبي، لكن الراوي هنا هو خيري عبد الجواد الكاتب والمشارك في الأحداث. “هنا أبدأ الحكاية وأنا علي يقين مما حدث في تلك الفترة، فقد كنت طرفًا فيها، ذلك لأن العائلة التي أقامت عندها بديعة عائلتي. (ص14) يؤسس خيري عبد الجواد لثقة القارئ فيه كراوٍ يسرد ما يعدُّ من الحكي السري المضنون به علي غير أهله، وأهل هذا الحكي الذين يروي لهم ليسوا أقل من أصدقاء أو قراء سيرة ذاتية لا قراء رواية. “أصبحت أنا ابن السادسة أري بديعة أمامي في كل لحظة، بل أنني كنت أصحو من نومي في بعض الأحيان لأجدها نائمة بجواري علي سريري بملابسها الداخلية… صرخت وقامت منتورة تتلفت حولها في ذعر، وبعد لحظة تنبهت إلي أن الفاعل لم يكن سواي فنظرت إلي وتبسمت. (ص14-15) حضور”خيري” الكاتب والراوي في هذه الرواية ليس مجانيا أو من باب إشهار نفسه، كما أنه لا يكتب علي غلاف كتابه “سيرة ذاتية”  وإنما كتب رواية، لكنه يعرف أن الحكي عن الذات يذيب المسافات بين الكاتب والقارئ، لاسيما إذا كان يمس الجانب الإنساني، لأن الإنسان واحد في مكان، وحيثما تجد خصوصيتك وتطلعني عليها فإنك تساعدني علي أن أجد خصوصيتي إما بطريق المشابهة أو بطريق المخالفة. وهنا نجده يؤرخ لإصدار المجموعة القصصية الأولي لخيري عبد الجواد ككاتب بأحداث في الرواية وكأنه ينتمي وشخوصه لتقويم مختلف عن التقويم المألوف في غير تلك البيئة المحلية (بولاق الدكرور). “عشرون عاما مرت علي موت نور، وأنا كبرت وبدأت أكتب قصصا قصيرة نشرت معظمها في الصحف والمجلات، حتي تشكلت مجموعتي الأولي، وظللت أنا وأستاذي الكاتب الكبير إدوار الخراط في حيرة من اختيار الاسم، (…..)، لكني اخترت أحد عناوين القصص وأضفت إليه كلمة حكايات ليصبح عنوان المجموعة هكذا : حكايات الديب رماح” .( ص103) وإذا كان موت نور قد أصبح أقرب لنقطة بدء التقويم  علي غرار ميلاد المسيح أو هجرة النبي محمد، فإن خيري يقيم في نفس الوقت تاريخًا موازيا للتاريخ الوطني والقومي يستند لأحداث روايته. فحرب أكتوبر توازيها في تقويم “كيد النسا” حرب السحرة، وكارثة الخامس من يونيه توازيها وفاة الأخ الأكبر للراوي وإصابة جده وابن عمه بالعجز بعد أن طارت رجله بفعل أحد السحرة الأشرار. ” عشت تلك الأيام العصيبة من عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، كانت بدايتها، بالتحديد في شهر يناير، وبالتحديد أكثر، في الثالث عشر منه حين أعلنت الحرب الكبري بين نجية وأم وجدي من ناحية وبديعة وفتحية ومن بعد حليفتهما أم جمال – أمي – فكيف دخلت أمي تلك الحرب ؟ (ص81). إن خيري لا يؤرخ لبولاق الدكرور التي اختزنها في ذاكرته بهذا التاريخ الموازي للتاريخ الوطني فحسب، وإنما يرمي ليتواضع مع القارئ علي أن يكون هذا التقويم هو التقويم الذي يؤرخ به مسيرته ككاتب ينتمي لتاريخ تلك البيئة المحلية وينفصل عنها في نفس الوقت، فكانت رواية “كيد النسا” بمثابة توثيق لظروف إنتاج كتابات خيري عبد الجواد، لاسيما كتاباته الأولي التي يستقيها من تلك البيئة المحلية ، لكنها في نفس الوقت هي التي نقلته من كونه “جمال” إلي كونه الكاتب الملقب بـ”خيري عبد الجواد”. “لاقت روايتي الأولي (كتاب التوهمات ) نجاحا ملحوظا، واستقبلها الوسط الأدبي بترحاب وحفاوة كبيرين، حتي أن البعض كتب عنها باعتبارها كتاب الموتي الحديث، مقارنا بينها وكتاب الموتي الفرعوني، ولهذه الرواية حكاية، كانت أمي قد توفيت….» (ص160) ومن هنا بدت الرواية ذات مواضيع متعددة وكأنها جلسة سمر بين صديقين (الكاتب/ القارئ)، ينتقلان فيها من موضوع لآخر حسب ما تمليه عليهما الذاكرة والحالة النفسية للكاتب، وليس وفقًا لبرنامج سردي محدد تتسلسل فيه الأحداث زمنيا ويفضي بعضها إلي بعض علي أساس وجود علاقة سببية بينها. فخيري الراوي الذي يصحب بديعة للمقابر لزيارة زوجها نور، يستدعي خيري الكاتب صاحب التوهمات، لأنه يشعر أن في نفسه حاجة للهمس في أذن قارئه برهبة الموت في داخله، وهذا الشعور أقوي من قواعد الكتابة التي يعرفها جيدًا، لكنه يعرف أن التمرد علي تلك القواعد وليس الامتثال لها هو الإبداع. فيأخذ القارئ معه في رحلة طويلة مع مشاعره تجاه الموت في خروج عن مسار الرواية وأحداثها وكأنها لحظة شرود شاركه القارئ فيها: “قادتني وسط الطرقات وشواهد القبور حتي توقفت أمام مقبرة بلا شاهد وأشارت :عمك نور نايم هنا . للموت رهبوته ولي معه وقفة، في التوهمات، توغلت إلي أبعد حدود التوهم، ودخلت في سكة اللي يروح ما يرجعش، وصعّبت الحياة علي نفسي، وعشت في نكد ما بعده نكد ، وكدت أفارق من شدة توغلي في تصور لحظات المغادرة، هل أطلعكم علي نتف مما كتبته في تلك الفترة المحنة ؟ وهل يسمح المجال بذلك ؟ ولم لا، واذا كانت هناك قواعد للكتابة فالتمرد عليها أولي، انظروا لهذا التوهم : توهمت أن روحي راحت ( ص107) بعد المشاركة في هذه الحالة الإنسانية يتملك الكاتب قلب وعقل القارئ لأنهما وجدا نفسيهما في مواجهة رهبوت الموت، وهنا يعود الكاتب بصديقه القارئ إلي مسار الرواية من باب تناسي الحقيقة التي يواجهانها معًا: “يقول شيخي محيي الدين ابن عربي : الموت سهم صوّب إليك لحظة مولدك، وحياتك بقدر وصول السهم إليك . قضي الأمر وطويت الصحف ولا راد لقضائه، فالسهم انطلق، وهو آت لا محالة، مسألة وقت ليس إلا، فصلت ذلك في توهماتي لمن أراد المزيد من النكد، أما أنا فأرد نفسي عن شرودها وأعود الي روايتي . (ص113-114) إن العلاقة القوية التي أسسها الكاتب/ الراوي مع القارئ بإزالة الكثير من الحواجز الكتابية بينهما تعفي الراوي كثيرًا من التحايل الفني لتبرير علاقة التداخل أو “التلبس” بين صوته وصوت العديد من الشخصيات، وكذلك بين لغته و لغاتها، بل والأهم بين رؤيته ورؤيتهم. لم يزعم الراوي موضوعية فيما يروي، وإنما أعلن صراحة أن مروياته تستند لنوع من الثقافة مشكوك من وجهة نظر الثقافة الكتابية في مصداقيته وبالتالي موضوعيته، وهي الثقافة السمعية، فكل ما هو منقول سماعيا لا يعوّل عليه كثيرًا لمن أراد الموضوعية أو التوثيق أو التدقيق وكلها أشياء قرينة الثقافة البصرية/ الكتابية. “أما بديعة، فقد دخلت في شرنقتها الخاصة وتوحدت مع نفسها، لم أعد أراها، لكني كنت أسمع عن أحلامها وهلاوسها المتعلقة بنور وإصراره علي إقامة ضريح له بأية طريقة . (ص162) إن “التلبس” كلمة مناسبة لوصف العلاقة بين خيري الراوي وشخصيات عالمه الروائي في بولاق الدكرور ليس لأنه أسير ذاكرة تقوده أينما ولّي وجهه ككاتب، وإنما لأنه قد تلبّسه الموروث الشعبي فأصبح مضروبًا به فتسقط المسافة بين الباحث (الذات) والمبحوث (الموضوع/ الموروث الشعبي)، ليحدث نوع من تبني الباحث لرؤية المبحوثين للعالم لأنه في واقع الأمر باحث ومبحوث أو ذات وموضوع في آن. وهذه الحالة من تلبس الشخصية للراوي ليذوب فيها لغويا واستعاريا ومعرفيا هي حالة تتجاوز علاقات التعاطف  المعتادة بين الرواة  وبيئاتهم المحلية سواء كانوا من أبنائها أو من ضيوفها. وقد كان خيري واعيا بذلك فنبّه القارئ لما يمكن أن يترتب علي ذلك من التباس لديه في موقف الراوي مما يروي من خرافات وأساطير:  “وفي تلك المرحلة، كان اهتمامي بالموروث الشعبي قد وصل لحد الهوس المبالغ فيه. (ص162) حيث نجد الراوي يؤكد  بوصفه شخصية مشاركة في الأحداث معجزة نور زوج بديعة الذي بقي في كفنه دون تحلل بعد عشرين سنة من وفاته، وهو ما يجعلنا نري أن خيري الكاتب والراوي قد تجاوز بذلك منطقة أنه راوٍ يروي عن الذات الجمعية أساطيرها إلي منطقة أنه واحد  من المؤمنين بتلك الأساطير، وهو ما يعد تمردًا علي تقدمية وعقلانية تراثه الروائي الحديث. “

وأنا أردت التأكد فاقتربت من الجسد ولمسته بأصابعي لمسا خفيفا فسرت رعدة في جسدي، كان غضا ودافئا، والماء الذي غسّل به مازالت نداوته يحملها اللحم الطري الذي تفوح منه رائحة ماء الورد.» (ص 114-115) بل إن حالة التلبس تلك تتعدي الرواية كنوع أدبي إلي المقالة حيث يروي خيري أنه كتبت عن الولي الذي لم يتحلل جسده مقالة ونشرت في جريدة: “وفي إحدي الجرائد وقعت عيني علي عنوان بدا لي للوهلة الأولي أني أعرفه : الولي الذي تم اكتشافه في بولاق الدكرور . وتحت هذا العنوان وببنط أصغر :دفن حيا وبعد خمسة وعشرين عاما يخرج من قبره ليظهر كراماته.» (ص118) وتتجسد حالة التلبس تلك لغويا ليس في نقل حكايات شعبية(كيد النسا- حكاية العجوز والقرد- حكاية المرأة التي أنجبت قردا) علي ألسنة الشخصيات الروائية بلغة الحكي الشعبي فحسب، وإنما بحدوث الهجنة بين لغة الحكي الشعبي ولغة الراوي عند نقله لخطاب الشخصيات. ” فما حكايتك الله يفتح عليك . قالت زوجة الأسطي حمامة: ما انتهيت من قولي حتي رأيت دموعها سحت علي وجهها،. ثم أنها أجهشت بالبكاء فأخذت أطبطب علي ظهرها حتي هدأت.» (ص64) وحين ينتقد الراوي موقف حفني الذي خانته زوجته صفاء مع محمد عبدون زوج أخته صديقة، ولم يقتلها أو يطلقها، فإنه ينتقده علي أساس ما  تنص عليه التقاليد في تلك البيئة المحلية وتدعمه ثقافتها الشعبية، بل إنه كراوٍ مشارك في الأحداث يصوغ رأيه بنفس التعبيرات الدارجة علي ألسنة بقية شخصيات ذلك العالم الروائي/البيئة المحلية: “أصبح تحت رجلها، مرمطته وحطت رأسه في الطين، وبدلاً من أن يطلقها أو يقتلها كما يفعل الرجال، أخذها ورحل فهو لا يستطيع الابتعاد عن المرة النجسة» (ص48) إن طبيعة علاقة الراوي الذي  تتلبسه أرواح شخصياته ثقافيا حتي أُصيب باللايقين فيما إذا كان المنطق العقلاني هو الذي يحكم العالم أم الخرافة، سمحت لهذا الراوي يروي من معين الثقافة السمعية  ما لا يروي إلا علي لسان الشخصية، كما في روايته لأحلامهم. ” رأي حفني نفسه فيما يري النائم وكأن حجرا ثقيلا وضع علي صدره فلا يستطيع التنفس». (ص123) أو هلاوسهم ومونولوجاتهم الداخلية، كما في تلك الغمغمة بين بديعة وزوجها المتوفي(نور): “طب وهاتشوفه فين، انت في الجنة ونعيمها، وهوّا في النار وبئس القرار بعد عاملته السودا مع صفاء .» (ص101 ) ويصل الراوي / الكاتب إلي أن يتبني نفس الاستعارات  التي تحيا بها تلك الشخصيات في بيئتها المحلية، والتي تشد انجذاب القارئ غير المحلي لها، لكنها في نفس الوقت تجسد رؤية كامنة في تلك الاستعارة تجاه مفردة من مفردات الحياة، فعلي سبيل المثال نجد استعارة تتعلق بالتخيل الشعبي للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة باعتبارها مسألة قدرية “فكل فرج مكتوب عليه اسم ناكحه. (ص164) . لكن ذلك الفرج هو إما قلعة يأتي الرجل ليهدمها.. ” ودخل(نور) عليها (بديعة) فوجدها درة ما ثقبت، ومطية لغيره ما ركبت فأطلق مدفعه علي قلعتها. (ص7)   وكذلك: ” وهي(صفاء) ترهز من تحته حتي هدم(حفني) قلعتها وخربها». (ص39) أو مغارة يأتي الرجل ليسبرغورها.. “وتتحسس ( فتحية) جسدها بأناملها فتجد اسمه (رمضان) محفورًا هناك بحروف بارزة وحادة تكاد تنطق فتشعر بالنشوة وتصبح علي يقين من أنه هو وحده سوف يمتلك جسدها ووحده فقط من سيصل إلي مكامنها، أليس اسمه مكتوبًا هناك علي باب مغارتها». (ص56) وبالتالي إذا ما ضعفت قدرة الرجل علي هدم القلعة أو فقد ماله فعليه ألا ينتظر من وراء أية امرأة ودا. “إلا قولي لي يا اختي كيف ترضين بالعيش مع عجوز النحس هذا، وقديمًا قال الشاعر : إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له في ودهن نصيب». (ص63) إن اللايقين الذي تملك الراوي فجعله يتساءل عن  منطق العالم في حركاته  وظواهره ما بين ظواهر تمتثل لقانون العقل وتستهدف التقدم، وأخري تخرق ذلك كله هو ما يجعلنا نعتبر تلك الرواية متمردة لولا أن ختامها جاء تنويريا يتبرأ من حالة اللايقين التي خلقتها علاقة التلبس مع صانعي الأساطير والخرافات، فجاء ختامًا يليق برواية حديثة بينما كنا نقرأ رواية جديدة.  ” ومع مرور الزمن ينسي الناس كعادتهم كل ما هو حقيقي وأرضي ليتعلقوا بالأساطير، وفي أوقات الشدة والملمات تتراءي بديعة للناس علي هيئة قرص من النور المضيء فوق إحدي مآذن الجامع الكبير». (ص182) «فانيليا» للطاهر الشرقاوي .. الراوي عليم لكن ذاته منشطرة لماذا رواية “فانيليا” في بحث عن سرد الشئون المحلية بينما أحداثها تدور في ميدان التحرير / وسط البلد الذي يعد مركزًا ثقافيا وإداريا تتبعه كل البيئات المحلية سواء كانت في شمال مصر أو جنوبها، في شرقها أو في غربها، زراعية كانت أو بدوية، عربية عرقيا كانت أو نوبية، فضلاً عن الحزام العشوائي  الذي يحاصر ذلك المركز ؟ من المؤكد أن الإجابة لا تتعلق بكون الكاتب من مواليد محافظة قنا في جنوب مصر، ما دام لم يكن لذلك المولد أثر علي السرد. لكن سبق أن أشرنا إلي أنّه إذا كان القارئ هو الذي يحدد إن كانت هذه الرواية أو تلك رواية شئون محلية بالأساس، فإن نسبية المفهوم تجعل من المركز الثقافي والإداري أيضًا ذا خصائص ثقافية محلية بالنسبة لقارئ من جنوب مصر أو من شمالها أو حتي من الضواحي العشوائية التي تحاصر ذلك المركز، فضلا عن القارئ العربي، وذلك لأن الخصائص الثقافية لذلك المركز النخبوي لم تُعمم لتكون خصائص ثقافية عامة لكل القطر المصري فضلاً عن الأقطار العربية. ومن هنا فإن وسط البلد بشخوصه وعاداته وتقاليده ومشاكله النفسية والاجتماعية شأن محلي وليس شأنًا قوميا، خاصة علي مستوي الرواية. وجرت العادة في الرواية المصرية أن يروي تلك البيئة المحلية”وسط البلد” رواة من خارجها، جاءوا إليه سعيا  للعمل في الثقافة أو الصحافة، لكن لا يكون غالبًا موطن رأس لأي منهم، لأن موطن الرأس يكون إما في جنوب مصر أو في شمالها كبيئة محلية غائبة حاضرة في السرد. وهو ما يترتب عليه من صراع قيمي أحيانًا ومعاناة اجتماعية غالبًا، وشعور بالاغتراب والوحدة تصل أحيانًا لدرجة المرض النفسي المألوف في تلك البيئة المحلية “الاكتئاب”. وهو ما ينطبق علي شخصيات رواية فانيليا، خاصة البنت “ذات القدم الطفلة “التي أثرت بيئتها الجديدة “وسط البلد” علي رؤيتها لموطن الرأس، فمحت الصورة الذهنية القديمة لبيت العائلة، الذي أصبح مجرد جدران متشققة وتراب تستنشقه فيه . “في آخر زيارة لها إلي بيت العائلة، في المدينة الصغيرة، اكتشفت أنه ضيق جدًا، علي عكس ما كان مرسومًا في ذهنها». (ص51) لكن ماذا عن الراوي الذي يمكنه أن ينقل لنا تلك البيئة المحلية المدّعية للمركزية ومشاكلها النفسية والوجودية، لاسيما إذا كان راويا غير مشارك في الأحداث؟ وكيف أمكن لتك الرواية “فانيليا” أن تتمرد علي قواعد الكتابة الروائية لنعدها رواية جديدة بامتياز؟ أعتقد أن رواية فانيليا للطاهر الشرقاوي قد أقامت حوارًا مع النوع الروائي هدفه المطالبة بإعادة النظر في تقييم المؤسسة الكتابية للـ:” راوي غير الحاضر في العالم الروائي ويري العالم الروائي من داخله”. علي اعتبار أن الرواية قد لجأت لهذا الخيار الفني التقليدي جدًا والذي لا يعدو كونه مجرد نقطة بدء للسرد الكتابي، لكنها استطاعت أن تقدّم تصورًا مختلفًا علي المستوي المعرفي والجمالي لتقنية الراوي العليم في ضوء الظرف الثقافي ما بعد الحداثي؛ حيث انشطار الذات وتجاور مفرداتها المتناقضة من أهم مفردات هذا المشهد الثقافي. إن هذا المشهد الثقافي لا يتم أداؤه وإخراجه باحتراف في بيئة مصرية كما يتم ذلك في تلك البيئة المحلية التي اختارها الشرقاوي لروايته وهي وسط البلد، وكأن ذلك المشهد المابعد حداثي هو الخصوصية الثقافية  لتلك البيئة. يبدو أن رواية فانيليا منذ البداية أراد لها كاتبها أن تلعب باستخفاف بالفكرة الحداثية المألوفة والمرتبطة بانقسام العالم إلي مركز وهامش، ليس بخلق مراكز متعددة أو بتفكيك المركز، وإنما بتحويل المركز إلي هامش، وتحويل الهامش إلي مركز. حيث ينقل الشخصيات العادية والمألوفة في حياتنا اليومية والتي  اعتدنا أن تحتل مكان المركز بين شخصيات الرواية التقليدية ليسْكنها هامش الرواية ويطلق علي عالمها الروائي (الملاحق)، وهذه الشخصيات هي (سيدة القطط / السيدة المهووسة بالغسيل/ سيد الجنازات)، فكل شخصية تمثل نمطًا حياتيا مألوفًا ومتوفرا في الأسواق المحلية بدرجة تجعلنا نراه “الطبيعي” الذي يجب أن يقيس عليه الآخرون مدي اختلافهم عن الأنماط السائدة في المجتمع المصري، فسيدة القطط امرأة عجوز تلتف القطط حولها حين تسير بالشوارع، وهي تحاول أن تتذكّر الأماكن بها دون جدوي لأن الأماكن تبقي، بينما روادها يذهبون بلا عودة، هي امرأة بسيطة لم تحقق حلمها في شبابها بأن تصبح ممثلة، كملايين  لم يحققن حلمهن، لكن حياتهن في مرحلة الشيخوخة تتحول للعيش علي الذكري سواء كانت ذكري ما تحقق أو ذكري الأحلام التي لم تتحقق. إنها نوع من أنواع الإيقاف عن ممارسة الحياة بعد فوات الحياة من بين الأصابع. أما السيدة المهووسة بالغسيل فهي نوع آخر من أنواع تكريس الحياة لفعل عديم الصلة بالحياة، فهي تعيش لتغسل، وربما لا تتمكن من أن تلبس ما تغسله لتعيش حياتها بتلك الملابس. وهذا النوع علي ألفته الشديدة فهو توقف إرادي عن ممارسة الحياة باختزالها في فعل لا يصلح أن يكون الغاية من الحياة لدي البعض، لكنه كذلك عند هذا النمط من الناس. وعلي مستوي الرجل، فالرجل “سيد” كما هو المألوف في ثقافتنا، لكنه هذه المرة “سيد الجنازات”، الذي يمكن اختزال حياته في كونها الخطوات التي يسيرها منذ بدء علمه بوفاة شخص ما له صلة به من قريب أو بعيد، وحتي تسليمه إلي القبر. ولم يندم “سيد الجنازات”علي شيء إلا ندمه علي أنه كان طفلاً أيام جنازة عبد الناصر فلم يحتفظ بصورة لنفسه في الجنازة،  أما في جنازة السادات فقد كان مشغولاً بالمرة الأولي التي يمارس فيها عادته السرية، لكن الذنب لم يكن ذنبه فقد تسببت بنت الجيران في هذا التأخير غير المقصود عن جنازة السادات، ففاته حدثٌ مهمٌ كان يريد أن يزين به حياته! إن هذه العملية الروائية المقصود  منها تهميش المركزي، المألوفة مركزيته في المجتمع، وذلك لحساب الوجه الآخر، وهو مركزة الهامشي غير المألوف في المجتمع وذلك بجعله “متن الرواية”، وقد أسكن الروائي شخصيتين فحسب في هذا المتن وهما “الولد الصامت”، و”البنت حافية القدمين”. وهاتان الشخصيتان تشتركان في كونهما طرفي الفعل المدهش علي مستوي الإنتاج والتلقي. فالبنت تثير الدهشة بقدمها الصغيرة أو كما يسميها الولد متعجبًا ومعجبًا “القدم الطفلة”، وهذا خلافًا لموقف الثقافة السائدة التي لا تري للقدم أية علاقة بعلامات الأنوثة، فالشيء الهام عندها هو نمو الأعضاء التناسلية علي النحو المألوف. وترتسم شخصية البنت ذات القدم الطفلة بوصفها كائنًا غير مألوف، فهي التي تجرؤ علي السير حافية في الشارع، وهنا نلحظ علاقة نشوة بين باطن القدم والرصيف الساخن، لكن مسار النشوة مخالف لمسار النشوة التقليدي في العلاقة الجنسية المألوفة بين رجل وامرأة، حيث تسير النشوة من أسفل إلي أعلي” وفي حركة تلقائية تخلع الصندل، وتمسكه في يدها، وتواصل سيرها بشكل عادي تمامًا، منتشية بإحساس ملمس الرصيف لباطن قدميها. لم تكن تسمع شيئًا من تعليقات المارة، الذين لاحظوا أنها تمشي حافية، أو تلقي بالاً للعيون التي تتابعها في صمت، فقط منتبهة لصوت دبيب خفيف، يسري في عروقها، ويدغدغ برقة، صاعدًا ببطء من أسفل القدم إلي الساق، ثم ما بين الفخذين، مواصلاً رحلة الصعود مارًا بالبطن، والصدر، والرقبة، والخدين، والأذنين، حتي فروة الدماغ، التي تنكمش بسرعة محدثة دغدغة يقف لها شعر الرأس.( ص14 )  وفي هذا العالم اللامألوف للسعادة أسباب بسيطة لدي هذا الكائن كصوت محمد منير، وحمام دافئ، والرقص عارية أمام المرآة، والمشط الخشبي المسكون بالعشق الذي كان لجدتها ذات يوم. وفي عالمها اللامألوف ليس من الضروري أن يكون لكل شيء سببٌ، فيكفي أنك ترغب في شيء أو تشعر بشيء لتعبر عنه دون حاجة لتبرير ذلك بالبحث عن العلل والأسباب، التي يمنطق بها عالم المألوف الأفكار والمشاعر ليسيطر علي مصدرها  وهو “الإنسان”.  ولذلك فالبنت حافية القدمين أو ذات القدم الطفلة دون أن نقيدها باسم، هي بنت تريد أن تموت في سن 48 دون سبب لهذا التحديد، وهي تريد لشقتها أن تكون كلها مطبخ .

إن الكائن اللامألوف كائن يعيش الحياة وحيدًا سعيدًا بوحدته حينًا حين تكون إرادية كما في اختيارها يوم الأحد ليكون ملكًا لها وحدها، حتي أنّ أصدقاءها يسمونها “ميس صنداي Ms.Sunday”  لكن تصبح الوحدة معاناة قاسية حين تكون مفروضة عليها بسبب عزوف الآخر عنها من خلال الفشل  المتكرر لعلاقات عاطفية مع الآخر / الولد، فتكون الكنبة ، التي هي مكان لممارسة الحياة لفرد واحد منعزلاً، هي المكان المفضّل لديها لممارسة الحياة متأملة سقف غرفتها وكاتبة لمذكراتها ..إلخ. إن هذا الكائن اللامألوف هو كائن مختلف منذ كانت طفلة تتمني أن تكون زهرة أو سمكة عندما تكبر لا أن تكون طبيبة أو مهندسة، ويبدو أن هواية الاحتفاظ بمخلفات الماضي هواية تربِّي الشخصية علي القدرة علي الاختلاف مع المحيط الاجتماعي بوعيه المألوف للعالم، فمخلفات الماضي تحيل إلي فكرة جدوي الحياة ومعناها، حيث الأشياء تبقي، بينما لا يستطيع أصحابها البقاء معها! هذا الكائن اللامألوف هو صانع الدهشة في الرواية وهو المؤهل لقدراته الإنسانية أن يخترق عالم المألوف، لأن هذه القدرات الإنسانية  تأسست علي تنوع مصادر المعرفة، بل واختلاف هذه الوسائل عن وسائل المعرفة المتاحة في العالم المألوف، فالحدس وسيلة أساسية من وسائل المعرفة التي تتحصل عليها، والخيال- وليس المنطق- مهارتها وخاصتها الإنسانية الأساسية، وبالتالي من الطبيعي جدًا أن تختلط خيالات هذا الكائن غير المألوف  بواقع وحدته فتتحول أفكاره إلي واقع معاش بالنسبة للشخصية (فالحيوانات بديل البشر) دون شعور بأدني حاجة لإضاعة الوقت في إقناع الآخرين المألوفين بما صنعت. تلعب البنت حافية القدمين دور مثير الدهشة والولد هو المتلقي الأول لها غالبًا، لكنه ليس الوحيد، فجميع الشخصيات في الرواية متلقون لأفعالها غير المألوفة مع تباين المواقف منها . “صاحب كشك السجائر، قال لولد بدت علي ملامحه الدهشة لما مرت بجواره، وهو يناوله الحساب : إنها مجنونة. لكن ماسح الأحذية العجوز، الذي يقعد دائما قدام بار “بارادايس”، ذي الباب الموارب، تمتم: قدمها صغيرة جدا ،ونظيفة….إلخ». ( ص13) تبدأ علاقة الولد  الصامت المؤهل بصمته هذا للدخول لعالم اللامألوف بموقفه المختلف من القدم الطفلة، فالقدم “خلقة ربنا” تراها شخصيات الرواية جميعها إما تثير الأسي والشفقة أو أنها غضب من الله، بينما يراها الولد وحده مثار إعجاب، وأنها قد وقع عليها ظلم تاريخي بشع مقارنة ببقية الأعضاء التناسلية. إن القدم الطفلة تلعب دور المرشد للبنت حافية القدمين للتعرف علي بقية جسدها وخاصة أعضاءها التناسلية المألوفة المعترف بها في الثقافة السائدة، وكأن العضو الذي لم يكتسب الاعتراف به تاريخيا يسهم في التعرف علي بقية الأعضاء، وكأن أيضًا كل الأعضاء لم تُختبر حتي لحظة اكتشاف القدم الطفلة لها! ومع ذلك تبقي رغبة الولد الصامت الذي يعجب بالقدم الطفلة كرغبة علماء الآثار في الاحتفاظ بالتحف الفنية ؛ حيث يضعها ملفوفة في غلاف زجاجي. (ص12) إن الخبرة باللامألوف تعلو عند الولد فيتحول لنوع جديد من العلاقة به وهي علاقة (موسي بالخضر) الذي يطلب أن يصحبه ليتعلم من علمه الحدسي، فالولد الصامت الذي عاش في المدينة لسنوات لم يعرفها إلا علي يد البنت حافية القدمين وكأنه كان أعمي استرد بصيرته فرأي الأشياء البسيطة  التي كان يمر عليها كل يوم، ولم يكن يراها، علي الرغم من أنها كانت مما يبحث عنه (محل الحلويات ورائحة الفانيليا المحببة لديه). إن الرؤية بالعقل في عالم المألوف لا تتيح ما أتاحته الرؤية بالحدس في عالم اللا مألوف لهذا الولد الصامت علي يد “خِضره الجديد” في المدينة البائسة، ففي هذا العالم يتعرف علي رائحة الفانيليا التي تقترن بجسد البنت حافية القدمين، وبمجرد أن يشتم الجسد/ رائحة الفانيليا تنفك عقدة لسانه لينطلق حاكيا ذاته دون توقف، بينما تكون البنت حافية القدمين قد انشغلت عنه بذاتها طارحةً علي نفسها أسئلتها الوجودية. وهنا تأتي لحظة الافتراق بين “موسي والخضر” (هذا فراق بيني وبينك). إن الكائن اللامألوف بعد أن علّم الولد الصامت كيف يمارس الحياة، يكون قد أدي بعض رسالته، لكن البعض الآخر من رسالته لا يكتمل إلا بتحوله إلي مسيح ينقذ البشرية من الألفة / قرينة الموت. فتصعد الفتاة حافية القدمين إلي السماء لتمطر السماء علي الأرض رائحة الفانيليا، عسي أن تنفك بها عقدة ألسنة البشر فيستطيعوا أن يحكوا ذواتهم قبل أن يتحولوا لـ”سيد الجنازات” أو “سيدة مهووسة بالغسيل” أو “سيدة القطط”. إن عالم اللامألوف بشقيه ( الولد الصامت/موسي، والبنت حافية القدمين/الخضر) كان يعاني من عسر الكتابة، فالولد الصامت يود أن يكتب عن عالم لا مألوف لأنه يعيش المألوف، فيختار البنت ذات القدم الطفلة موضوعًا لكتابته، بينما البنت ذات القدم الطفلة تود أن تكتب عن عالم المألوف الذي لا تنتمي إليه، فتبدأ في كتابة قصة “السيدة المهووسة بالغسيل”. إن عسر الكتابة هو همُّ الولد وهمُّ البنت كقاسم مشترك بينهما، وكلاهما لم يكتب ما يود كتابته، وإنما الذي كتبهما هو”الراوي العليم غير الحاضر في القص” الذي أعطي لنفسه الحق في أن يري ويروي أحلام البنت ذات القدم الطفلة، ويروي كذلك هواجس الولد الصامت بحرية تامة كأنه يروي ذاته أو بعض ذاته. نعم هذا ما أود الوصول إليه، ففي سياق ثقافي يعد  انشطار الذات وتجاور متناقضاتها من مفرداته الأساسية، أستطيع أن أري في توظيف تقنية “الراوي العليم غير الحاضر في القص” التقليدية توظيفًا ما بعد حداثيا في رواية فانيليا للطاهر الشرقاوي، حيث إن هذا “الراوي العليم غير الحاضر في القص” قد انشطرت ذاته ليكون بعضُها ذات الولد الصامت/ موسي، وبعضها الآخر “ذات” البنت حافية القدمين / الكائن اللامألوف/ الخضر/ المسيح. وعلي هذا، تكون رواية فانيليا قد أقامت حوارها الخاص مع النوع الروائي الذي تنتمي إليه باقتدار. وفي الختام، إن وصف رواية بأنها جديدة من وجهة نظري ليس “كارنيه عضوية” في مدرسة أدبية، وإنما أنصبة تتوزع حسب قدرة هذه الرواية أو تلك علي التمرد علي مؤسسة الرواية التقليدية والحديثة. وإذا كان التمرد يقترن ثقافيا بالشباب مثلما تقترن الحكمة بالشيوخ، فإن الحكيم المتمرد أعلي قيمة من الشاب  الشيخ في مجال الإبداع الروائي. وهذا ما لا يتفق وسعي مؤسسة النقد للعمل علي “الثابت المألوف”، فإذا ما واجهه “المخر (المألوف المتغير” فإنه يسعي لتثبيته حتي يتمكن من قياسه علي أسسه النقدية  الثابتة المألوفة. ومن ناحية ثانية، فإن الشئون المحلية أو الخصوصية الثقافية لبيئة محلية ما إحدي وسائل تحقيق الخصوصية الروائية لعدد من الروائيين علي مختلف أنواع الرواية العربية من تقليدية وحديثة وجديدة، وذلك حين يحسن الروائي انتقاء المواد النادرة والمتفردة في بيئته المحلية، ثم ينجح بتمكنه من أدوات السرد في حفز قارئه علي أن يبصر إنسانية الشخوص المحلية، فإذا ما عجز الروائي عن تحقيق ذلك روائيا، فإن رواية السرد المحلي تسقط في فخ المتحف الأنثربولوجي، فلا تعدو أن تكون الرواية عملاً أنثربولوجيا فاقدًا لشروط البحث الأنثربولوجي بعدما افتقدت شروط الإبداع الروائي.

الهوامش 1- مجدي توفيق: الذاكرة الجديدة، دارميريت للنشر، القاهرة، ص 8-9. 2- شكري عزيز الماضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة، ع/553، الكويت سبتمبر 8002، راجع التصوير ص8-61. 3- أحمد أبو خنيجر: العمة أخت الرجال، مركز الحضارة العربية، القاهرة 8002. 4- http: http://www.arabic stary. het/ forum/index.php showtqpic= 8767&pid67243&mode threa& ded &st 5- الطاهر شرقاوي: فانيليا، دار شرقيات للنشر، القاهرة 8002. 6- صلاح صالح سرديات الرواية العربية، المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة، ص13. 7- م، ن ص 92- 94. 8- ميخائيل باختيه: الماركسية  وفلسفة اللغة، ت محمد البكري، ويمني العيد، دار توبقال، المغرب، 6891، ص202.

من أبحاث مؤتمر أدباء مصر 2008م، مرسى مطروح

رئيس المؤتمر الأستاذ خيري شلبي

أمين عام المؤتمر / سيد الوكيل

تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة.العام

المرجيـحـة. قصة: ثريا السيد علي

                         

دقت الساعة الخامسة ، وجاء أبي من العمل  بمفأجاة من مفاجآته العديدة ، مرجيحة ضخمة،  لست أدري ممن اشتراها ، كل ما رأيته حين أحضرها فوق عربة  نقل  كبيرة بزركشتها وجمالها الرائع ومقعدها الواسع الوثير، تأكدت أنها كانت فى حديقة قصر أحد الأثرياء الذين يعرفهم أبي واستغنى عنها هذا الثري ، لأنها تشبه المراجيح الضخمة التي نراها فى ألأفلام العربية الأبيض والأسود .

حين أحضرها هللنا من الفرحة، وتجمعنا حولها من كل جهة   نحن أطفاله الخمسة.

ثم سألنا أنفسنا كيف ستدخل تلك المرجيحة الضخمة من باب  الشقة الصغير، وكان أبي دائما يحمل الإجابات الصعبة ، أحضر عدته الكبيرة بمفكاته الضخمة ، ومفاتيحه العديدة ، فكها إلى سبعة أعمدة ضخمة بهم ثلاثة أعمدة  كبيرة ملتصقة بكلبشات كثيرة ، والمقعد الوثير وضعه وحده وأدخله  بالعرض وأخيراً دخلت المرجيحة في الصالة الواسعة ، وهللنا وتركنا مافي أيدينا من كتب المذاكرة ، وتدافعنا حولها ..من يتمرجح أولاً ؟

قرر أبي بشكل صارم:

  • بعد الغذاء  ،  وبعد التأكد من عمل الواجب وانتهاء المذاكرة ، وأعلن الصغير أولاً ثم الكبير ،  وهكذا وبالوقت ،  قبلنا أبي من السعادة .

وبعد الغذاء قام فعلاً بتركيبها ، عن الفرحة العارمة والسعادة ونحن نتمرجح ونطير فى الهواء  من السعادة ، ويأتى أطفال الجيران ينتظرون بشفقة أن نسمح لهم بالمرجحة معنا .

إلى أن أتت إجازة آخر العام وحملنا نحن الخمسة ، وأبي كل قطع المواسير الكبيرة من الحديد المنفرد للمرجيحة الثقيلة ، ومعها مقعدها الوثير الثقيل للغاية ، ثم أتى أبي حاملاً الأعمدة الكبيرة ومعه العدة والصواميل الضخمة ليركبّها قطعة قطعة، فتصير مرجيحة ،

ولأننا كنا نخجل فنذهب بعيداً لآخر شوارع لا نعرفها ولا يعرفها جيراننا وأقاربنا ، ثم يتوالى حضور الأطفال للركوب وفى نهاية اليوم نعود بالمرجيحة وبأموال كثيرة وأحياناً نحملها ونسير بها شبه نائمين.

أحياناً يحملها أبى فوق عربة نقل ، حين يرانا منهكين لنصل إلى البيت نائمين داخل السيارة النقل وبجوارنا المرجيحة .

ومضت الإجازة والدراسة ونحن فرحين بوجودنا فى الشارع نلهو ونلعب  طوال النهار وجزءاً كبيراً من الليل  فرحين حين لا يأتى أطفال يركبونها لنركبها ونبتهج كثيرا .

واستمر فرحنا وسعادتنا بركوبها ، وعذابنا بحملها ستة أشهر ففى البرد الشديد الممطر ، حديدها يؤلم أيدينا فتتجمد  ، وفي الحر الشديد يكتسب حديدها الحرارة الشديدة فتنتقل إلى أيدينا والإحساس بالدوار الدائم من ركوبها المستمر  ، حتى يوم ما كسرعمودها الضخم المزدوج الكبير فتخلى عنها أبي وباعها لبائع الروبابيكيا

كم حزننا وفرحنا في آن. 

   ————————————————————————-

عن لعبة الكتابة والتذكر في “بصورة مفاجئة “للكاتب منتصر القفاش


نجاة علي

لطالما تصورتُ أن القصة القصيرة مثلها مثل أي وحدة لغوية، عملية متكاملة والكاتب في إطار هذه الأسس التي نسميها “جنس القصة القصيرة” إنما يرتب درجة الحرية التي يمارسها أي فرد عندما يتهيأ للكلام بلغته، فالقصة القصيرة كجنس أدبي وكذا النظام اللغوي ما هي إلا أنظمة مغلقة لكنها ليست سجونًا على أية حال. فكل من كاتب القصة القصيرة والمتحدث بلغة ما، يمكن لهما تركيب لغتهما اعتمادًا على العناصر التي في أيديهما، يمكن لهما التجريب والإبداع والبناء والهدم وإعادة البناء؛ لهذا فأنني أنحاز- إلى أبعد حد – إلى الكتّاب من ذوي الأقلام التجريبية في القصة القصيرة أو غيرها من الأجناس الأدبية، حتى لو افترضنا أنهم يجربون كثيرًا لدرجة أن نتخيل معها أن القصة القصيرة تتهاوى أركانها بين أيديهم. بالطبع إذا كانوا كتابًا موهوبين، سوف نكتشف حتمًا أنهم من خلال قصصهم التي يقومون بتدوينها أنهم يخرقون قانون القصة القصيرة الكلاسيكية التي يحاول بعض النقاد التقليديين الإبقاء عليه.
ولعل ما استدعى التأمل من جديد في هذا الأمر هو قراءتي للمجموعةالقصصية “بصورة مفاجئة” للكاتب المصري منتصر القفاش،الصادرة حديثًا عن دار الكتب خان.
ربما مثلتْ لي كتابة منتصر القفاش منذ أن تعرفتُ على أعماله السردية منذ سنوات بعيدة، حالة فريدة تستدعي الانتباه والتوقف أمامها؛ إذ يبدو وكأنه يعيد تعريف القصة القصيرة من جديد من خلال ما يكتبه بوعي مغاير عما هو مستقر في أذهان الكثيرين. وأتصور أن هناك سمات مشتركة تكاد تميز أعماله كلها. ربما أبرزها هو استخدامه لغة مكثفة في السرد مشحونة بالدلالات، تنحو باتجاه التقشف، بحيث يصعب أن تجد لديه أية جملة زائدة عن النص .
ولعل ما يلفت الانتباه أيضًا هو تعامله مع اللغة المستخدمة في الكتابة باعتبارها أداة مهمة لتحقيق لعبة الكتابة نفسها. وأعرف أنه كثيرًا ما ارتبطت كلمة”لعبة” في أذهاننا –على نحو ما- بالشيء الهابط أو التافه أو ما إلى ذلك، لكنها في سياق الفلسفة اللغوية لا تحمل شيئًا من هذه الإيحاءات، فاللغة نفسها ذات طبيعة أيديولوجية، والأيديولوجيا- كما هو معروف لنا- هي “مجموعة من الأنساق الفكرية، ينتظمها نسق فكري موحد وتحقق أهدافًا محددة”.
وربما لو اتخذنا لعبة الشطرنج مثالا وتأملناها جيدًا، لاتضح لنا المعنى المقصود، فكل قطعة من القطع التي تتحرك على الرقعة تمثل نسقًا بعينه من الحركة، يتوازى جزيئًا-مع اختلاف في النسبة- مع سائر الأنساق التي تمثلها القطع الأخرى. ولكن هذه الأنساق جميعا تلتئم في نسق موحد، يهيمن على حركة هذه الأنساق ويوجهها من أجل تحقيق هدف واحد، هو “موت الملك” ،كذلك الأمر في اللغة،التي هي بمثابة مجموعة من الأنساق والنظم، مع الوضع في الاعتبار أن قطع الشطرنج لا تتحرك في الفراغ، بل فوق قطعة لها نسقها الخاص كذلك، والرقعة التي تتحرك فيها النظم اللغوية هي الحياة البشرية.
وإذا أمعنا النظر في هذه المجموعة القصصية التي تضم(سبع عشرة قصة ) سوف نجد أن القاص لا يكتب مجرد حدوتة او حكاية يحكيها للقارئ فحسب، بل إن شاغله الأساسي هو استدراج القارئ ليعيش معه رحلة من نوع خاص، ويدفعه دفعًا للدخول معه في لعبة الكتابة ، فيكتشف تدريجيًا المفارقة الساخرة التي تضعه وجهًا لوجه أمام أسئلة الكاتب وقلقه. وقد استعارتْ القصص في جانب منها بعضًا من خصائص الأدب البوليسي المعروفة، وهي” الإثارة والغموض والبراعة أيضًا في تشويق القارئ وامتاعه.
وفي أثناء هذه الرحلة السردية، سوف نكتشف أيضًا أن هناك حالة من الاستبطان الداخلي يعيشها السارد، تجعله ينكفأ على نفسه ويتأملها من الداخل، لكنه يريد أن يأخد القارئ معه في رحلة. فلعله يعرف أن هذا القارئ قد يرغب في الهروب سريعًا عبر قراءة متعجلة، لكن السارد يراوغه ويدخله في اللعبة ويجعله شريكًا، ومؤلفًا مشاركًا لما كتب، ومن ثم يحلل القصص القصيرة على طريقته. وحتى لا يفلت منه، فإنه ينتقي كلماته بعناية ويربط كل الخيوط في منظومة كاملة، ويقوم بتركيب البناء العام، وهكذا ينتقل به من ترقب إلى آخر، وإلى خطوة محسوبة ويأخذه إلى النقطة التي يقع فيها وقد هالته المفاجأة. ولعل أكثر القصص التي يمكن أن تحوز على انتباه القارئ هي تلك التي تبدأ بكشف الماضي المستور وتكسير الصناديق السوداء المخبأة في القبو، وطريقة استعمال الماضي والذكريات في المجموعة تخضع لخبرة الكاتب وذكائه في توظيفها لخدمة نصه السردي.
يبسط السارد كذلك ألغازه على مسار القصة حتى يصل القارئ بطريقة مفاجئة ومقصودة للحظة الدهشة غير المتوقعة أو إلى نقطة التنوير-لو جاز لنا التوصيف- التي تجعله يقف وجهًا لوجه أمام حقائق جديدة مربكة، ومن هنا تكمن دلالة عنوان المجموعة القصصية.
فعلى سبيل المثال، يتلاعب السارد باللغة في في بداية إحدى القصص التي تحمل عنوان”الحصان”، ويستدرجه بجمل مخادعة، فيتوهم القارئ للوهلة الأولى من مدخل القصة أن الحصان الذي يتحدث عنه، هو حصان حقيقي “من لحم ودم” في حين أنه مجرد حصان لعبة:
“هذا الحصان الأبيض من يوم دخوله بيتنا قرر البقاء فيه، هكذا قناعة جدي الذي عثر على الحصان في الشارع قبل حوالي أربعين عاما، وكان منتصبا جوار الرصيف، كأنه- حسب تشبيهه الأثير- مازال يظن نفسه فوق رقعة الشطرنج يترقب نقله إلى خانة أخرى”.
(.بصورة مفاجئة، ص 16)
وسوف نلاحظ أن السارد أيضًا على مدار المجموعة القصصية كلها هو شخصية واحدة مستمرة معنا في الرحلة السردية، و تتضح ملامحها النفسية بانتقالنا من قصة إلى أخرى.
وربما لو أمعنا النظر قليلا في القصص، سوف نجدها عبارة عن شذرات متفرقة من الذاكرة –خاصة في فترة الطفولة- يجمع ببنها رابط خفي، يكتشفته القارئ حين ينتهي من قراءة العمل ككل، فتتملكه الدهشة والمتعة معًا. وقد تغدو الكتابة حينئذ بمثابة محاولة لاستعادة الزمن ومحاولة أيضًا لاستعادة الذاكرة التي بدتْ لصاحبها كأطياف عابرة بخفة تارة وكأشباح تطارده تارة أخرى. ومن هنا يمكننا أن نخمن بأن فعل الكتابة لدى الراوي هو فعل مقاومة للنسيان وأيضًا رغبة، في الوقت نفسه، في القبض على الهوية، «هوية الراوي المهددة بالفناء». فالهوية كما يعرفها إسحاق شيفا «هي القدرة التي يمتلكها كل فرد منَّا على أن يظل واعيًا لاستمرار حياته عبر التغييرات، وعبر الأزمات والقطيعات». لكن علينا أن ننتبه أن راوي القصص في المجموعة حين يتكئ على الذاكرة ويستعيد الماضي فهو لا يكرره أبدًا، لأنه يعيد بناءه وفق وجهة نظره ويمزجه بالخيال .
وفي ظني الشخصي أن من أبرز جماليات الكتابة السردية عند منتصر القفاش هو انشغالها بإعادة اكتشاف العالم من خلال تأمل بعض التفاصيل التي تبدو صغيرة وعادية،بل إن أحد رهانات الكاتب هو إعادة النظر إليها مرة أخرى؛ فهو يحاول توليد إدراك جديد لدى المتلقى لهذه التفاصيل، فالمرء يعيش حياة تحكمها الآلية، حياة يصبح الهدف فيها هو إدراكه للأشياء، التعرف وليس المعرفة، ووظيفة الفن- بحسب الشكلانيين الروس – أنه يجعل المرء يدرك الأشياء وكأنه يراها للمرة الأولى؛ فالفن طريقة في خبرة الشيء وهو يتولد، ولا يأبه بالأشياء التي اكتسبت شكلها النهائي. وربما يبوح الكاتب لنا على لسان إحدى شخصياته في القصص عن أحد أسرار كتابته، وهو الاتكاء على يومياته باعتبارها مادة للتأمل ووقودًا للكتابة وسبيلا لإعادة اكتشاف الذات والعالم من حوله، وهو ما يمنحها جمالا خاصًا:
” بدأ يكتب يومياته منذ التحاقه بكلية الآداب، أثر فيه كلام أحد الأساتذة عن جدوى اليوميات، وإنها تساعد الإنسان على تأمل حياته يوما بيوم، وتحفظ من النسيان أحداثًا لا تظهر أهميتها إلا فيما بعد بشرط أن يكتبها بأقصى ما لديه من صراحة وشجاعة، ويقاوم رغبته في الإخفاء والكتمان، ولا يتردد في استخدام أي كلمات مهما كانت صادمة”.
(بصورة مفاجئة، ص78)

المقال نشر بموقع الضفة الثالثة