سمر حمود الشيشكلي

اغتصاب. قصة: سمر حمود الشيشكلي

قد لا يصدّق  معظمكم  ما سأرويه!

لا ألومكم.. لو كنت مكانكم  ما صدّقت ذلك.                 

ولكنّي فوق رأسها الآن، وجسدها مكوّم، بوضعية الجنين، على الأرض الإسفلتية. أمّا روحها فتقف قريبة، إلى جانبي،  تنظر إلى جسدها، ثمّ تنظر إليّ.

إنني أحاول، بكل صدق،  أن أكون مبتهجاً بشأن هذه الحالة، بالذات. شيء ما كان يستعجلني لأخذها، لكن الأمر لم يكن  بيدي، فعليّ دائماً أن أنتظر الموعد المقدَّر من السماء.

أرجوكم،  ثقوا بى.  قد أكون البهجة الخالصة. يمكنني أن أكون ودوداً، مقبولاً، ومُرَحَّباً بي، أحياناً. أمّا الكياسة، فلها شأن آخر معي، فلا تطلبوها مني.

من أنا؟ لا أملك أن أبوح لكم بشيء الآن ، لكني أعدكم، في وقت ما، بأن كلاً منكم سيراني واقفاً عند رأسه،  في وقت محدَّد خاصّ به، و أرواحكم ستكون بين ذراعيّ. وفي كل زيارة لي إلى عالمكم ، سأحمل واحداً منكم على كتفي، برفق، أجل، برفق، لاتخافوا،  ونرحل بعيداً.

الثلج  الأبيض يكسو كلّ شيء. يظنّ البعض، على الأرجح، أن اللون  (الأبيض) ليس لونًا حقيقيًا. لكني أؤكِّد لكم، يقيناً،  أن  الأبيض لون. لا أعتقد، شخصياً، أنكم تريدون مجادلتي،  وإن كنتم ترغبون بذلك. أنا فعلاً لست بعنيفٍ،  و لست بخبيث؛ أنا  مثل هذا الثلج الأبيض، هادئ، نقيٌ وفريد، فلا تأخذ كلامي على محمل التهديد.

***

تجمَّع الناس في المخيَّم ، في المكان الذي خرج منه صوت الصرخة. وجدوا  أمامهم جثّة واحدة ، من الواضح أنها كانت لامرأة. ظلّل الصمت الأجواء، وكأنه حضور لطائرٍ جارح، ، يجثم متوثِّباً،  يراقب طريدته.

***

أتصدّقون أنّي كنت أسمعها تتحدّث إلى نفسها، كلّما مررت لأحمل أحدهم على كتفي، وأرحل؟!

إنّها تشعر بي! اندهشت! كيف لها أن تشعر بي، ولم يصدر أمر نقلها إلى العالم الآخر، بعد!

كانت تنظر في عيني، تماماً،  وتقول لي، ولا أحد غيري يسمعها:

–        الطريقة التي أشعر بها، والخوف الذي ينتابني يغوص عميقاً في داخلي. أتمكّن، أخيراً، من أن أبادل الرجل الجالس أمامي، الحديثَ عن حالة البلد المدمّر. أتذكّر أنّه أتى، قبل اليوم، عدداً من المرّات، يطرح عليَّ الكثير من الأسئلة، لكن ذاكرتي كانت ملفوفةً بالضباب، ولم أكن أعرف كم مرّ عليَّ من الأيّام، وأنا هنا في هذه المدينة، مدينة الموت، والخوف، والجوع، والأمراض، والأمّهات اللواتي أراهنَّ يحملن أطفالهنَّ، وهم يموتون جوعاً على أكتافهنّ.

مع الوقت،  بدأ شيء بالتغيُّر في قلبي. أشعر أنّي كنت هنا، طوال الوقت، منذ فترة طويلة، تعادل الأزل ربّما! تعلّمت عدم التفكير. قضيت كلّ أيّامي هنا في محاولة مواكبة المهمّة التالية،  التي كان عليّ القيام بها، لمساعدة الناس.  كنت أعتقد أنّ حالي  سيكون أفضل بهذه الطريقة.

كنت أستمرّ في التحرُّك ، طالما كان بإمكاني القيام بشيء، فلا يضيع الوقت في القلق والتفكير. أو هكذا تخيَّلت الأمر. هل بإمكانك أن تدرك ما أعنيه ؟

أبقى صامتاً، لا أستطيع الردّ.

كانت تحدِّثني، ثم تصمت فجأةً، و تشيح بوجهها بعيداً عنّي، وتنهض مندفعةً باتّجاه تلك المرأة التي انتزعت الرغيف من قبضة الطفل الصغير الذي وقف متسمّراً، مذهولاً. عيناه تطلّان من وراء السخام الذي غطَّى وجهه وكامل جسمه، تستره مزق من الملابس، أو تكاد.  شعرت بقلبها يذوب .. في نظرة عينيّ الطفل العسليتين، و سكنتني رهافة أحاسيسها.

تأخذ  قطعة الخبز من يد المرأة، وتقسمها بينها وبين  الطفل،  لكنّ المرأة  تصرخ في وجهها: إنّها لأطفالي، هم يموتون من الجوع، حرام عليك….

تستدير نحوي،  من جديد، وتجلس قبالتي،  تنظر في عينيّ، وتهمس، من جديد:

–        ما زلت أمنع نفسي من التنفُّس معظم الوقت.  يُعيينني هذا السلوك على متابعة أيّامي دون أن أنهار، لكنّ الرائحة تقتلني. المرأة تتسكّع بين خيام الإيواء، هائمةً، مثل حيوان برّي، تراها طوال الوقت تنبش التراب بأظافرها، وتنادي على أسماء أشخاص، خمّنت أنّهم أولادها.  يحكون أنّها كانت الناجية الوحيدة من قصف دمّر منزلها، استطاعوا انتشالها من تحت الأنقاض.  أناولها حصّة من الطعام، وأنا أسدّ أنفي عن الشمّ، يخجلني هذا ولكنّه ليس بيدي ألّا أفعل.”

بدأ ذهني يصفو بعيداً عنها قليلاً. أتذكّر أنّني تركتها، كان عليّ الإسراع بالذهاب، عليّ اللحاق بسيّارة الهلال الأحمر، هذه المرّة.

                                                 ***

العيادة الميدانية ، بناء صغير، طُلِيت جدرانه الإسمنتية باللّون الأبيض، وعلم الهلال الأحمر يرفرف فوقه. العيادة مزدحمة، والرائحة تتضخّم فيها،  بفعل حرارة الجوّ. اختلطت رائحة المعقّمات برائحة العرق والجروح المتعفّنة. وعدت إلى تذكّر صديقتي.

الناس يصرخون ويتوسّلون للحصول على المساعدة، لأطفالهم ولهم. الانتظار، هنا، أمر، لا يمكن تصوُّره. أراني، أحياناً، أقف لأراقب العاملين على تنظيم الأمر،  فقط، لأنّي أعرف مهمَّتي، وأعرف مَنْ عليّ أن أحمل، في كلّ مرّة.

ها أنا أنظر إلى الأمام مباشرةً،  وأنا أدخل مركز الإيواء. أراها تدخل مسرعة، يذهب نظرها باتّجاه عجوزين لجأتا إلى ركن، و جلستا القرفصاء، وقد تبوّلت إحداهما في مكانها، تتجمّد مكانها، وأنا لا أدري ما الذي ألمّ بها، لكني مازلت – على الأقلّ –  متأكِّداً من أنَّ دورها في الرحيل معي لم يحن، بعد.

اتّضح لي أنّها شعرت بدوار عنيف؟ ربّما صدمتها الرائحة النتنة. تتقدّم منها متطوّعة شابّة،  تمسك بيديها و تسحبها إلى الكرسي القريب:

–        استريحي، استريحي، يبدو أنّه سيغمى عليك.. وجهك شاحبٌ جدّاً!  سأحضر لك قليلاً من الماء.

بدت كطفل تاه عن أمِّه في سوق مكتظّ بالناس.

جلست إلى جانبها، ووضعت راحة كفّي على كتفها، أهدّئ من روعها. همست  لي، والفزع يقفز من ناظريها:

–        لم أكن قد نظرت  في المرآة،  منذ أن قدمت إلى هنا،  منذ خمسة أشهر تقريباً. الآن، أنظر إلى بطني! أحسّ وكأنّ شيئاً يخبط  في أحشائي.  يتسلّل فزع مثل موجة حارَّة تغمرني من رأسي إلى قدمي. هل يمكن…!؟  أهو سبب توعُّكي طوال الأشهر الأربعة الماضية؟ لم أعرِ الأمر اهتماماَ، من قبل،  فقد استقرّ في ذهني أنّها من آثار سيناريوهات أيّام السجن. يخيَّل إليّ أنّ الكلّ يحدّق بي،  و أتساءل:  أتراهم، (الناس)، يرون ما ألمَّ بي؟ أتراني تعريَّت حتّى العظم، مثلما كنت أقف عارية أمامهم، في المعتقل، هناك، قبل خمسة أشهر؟

شعرتُ بالأسى حيالها، كان دفق  ذكرياتها  السوداء أقوى من الكهرباء المنسابة من راحتي. تتابع همسها لي:

–        كيف عادت الذكرى التي ظننت أنّي دفنتها قسراً،  في غياهب الجبِّ العميق الذي يدعى الذاكرة.  تذكّرتك!  أنت  أيضاً كنت دائماً هناك، كنت دائماً قريباً منّي، رجوتك أن تحملني وتخرج بي مثلما كنت تفعل بالكثيرين والكثيرات حولي. كنت، في كل مرّة، تعود فتقف وتنظر إليّ، ثم  تبتعد وتخرج من دوني.

تقف، بإعياء شديد،  لتخرج  رأسها من خلال النافذة، وكأنّها تأخذ جرعة من الأوكسجين، ثم تصرخ، ووحدي أفهم هذيانها:

–        لماذا تزداد  الرائحة بشاعةً في المكان، هنا؟ إنّها   رائحته نفسه،  تغلب على كلّ  رائحة، تطلّ من كوى الذاكرة مثل أفاعي، لا أملك لها منعاً.

ناولتها الشابّة المسعفة كأساً بلاستيكياً مليئاً بالماء، فازدرته.. هدأت أمواج ذاكرتها وهي تحدّق في  طفلة تمرح في بركة الماء الذي خلَّفته النقاط المتسرِّبة من الخزان، أمام البوابة.

–        طفلة تلعب! تلعب، أغبطها. ليتني أعود طفلة لألعب، وأن أترك للحنفية مهمّة امتصاص الحرارة التي تفتّت أعصابي.

تنفلت منها ضحكة هستيرية، وأنا مازلت أراقبها. تهمس من جديد، ولايسمعها غيري:

–        تتجلّى لي أرضية السجن، الآن أمامي، إسمنت خشن، ودورة مياه! دورة مياه بدون ماء! والرائحة!!! يا للهول، الرائحة! كانت تلك رحمة أن لاسبيل لرؤية نفسي في المرآة.

أتذكّرك وأنت تقف في الزاوية البعيدة.  لم يعد بي أيّة رغبة في الاهتمام بجسمي إلا بالقدر الذي يقوم به بوظائفه.  أتفقّد ذراعيّ وساقيّ إن كانا قادرين على العمل،  في كل مرّة كنت أندهش من شعور  الفراغ الذي يسكنني،  بعد ابتعادك.

الحقيقة المفزعة أكثر من الموت ذاته، هي تلك التي تبدّت واضحةً على وجه الطبيب، تؤكّد لي أنّي حامل!! أتسمعني، أيّها البليد؟ أنا حامل!

الغريب أنّ رأسي اشتعل لاضطرابها، وأنا المفطور من جوهر السلام والهدوء والصمت!

و يتحوّل كيانها الهشّ الرقيق إلى كتلة من الغضب.  لا يذهلني – كما فعل الآخرون – صوت زعيقها، الذي خرج مثل زعيق طائر نورس جريح، تَنكَّس من عليائه، في البحر العاصف، لكنّي لا أملك إلّا أن أغوص في صمتي، من جديد.

–        ألم تكن معي، و تراه يقبض على لمّة شعري،  ويلفُّها على ساعده ، و يجعلني أركع قسراً؟ للخوف رائحة تشجِّع الضواري على الهجوم على الفريسة، ويشجع غريزة العدوان عند البشر، أيضاً. يبعث ذعري أنيابه ومخالبه على الظهور، ويبعث فيه شهيَّة إذلالي، وكأن ذلك حقَّه في المسلمات.  يستفيق الوحش من قيلولته، كل مساء، جائعاً يقتات على خوفي وإذلالي، يرتفع رأسه بالغ البشاعة، فأسمع وسط دوامة الألم، صوت هياجه كالكلب المسعور ينهش جسدي المرضوض ، الممزَّق ، ويقضم عظامي.

و الرائحة!! الرائحة!! إنّها تفوق أعلى درجات التعذيب ، تلك الرائحة التي تنبعث من روحه النتنة، مع أنفاسه وعرقه.

يخيّل إليّ أن جلاّدي قادم من عالم مذعور، يحمل معه رغبته في الانتقام من ذعره وقهره المخبوء في نفسه. ضحكته المجلجلة الشامتة التي يرسلها، كلّ مرّة، بعد أن ينتهي منّي، ولم يكن ليكتفي إلّا ببلوغي، أنا ضحيَّته، أبشع درجات التهدُّم، وبلوغه،  هو جلاّدي، أخسّ مراحل النشوة المجرمة.  وأنت تقف مراقباً. لا أنت تأخذني في سلام صمتك، ولا أنت تأخذه إلى جحيم أمثاله.

لقد شهدّتَ، مع الأيّام خوفي واشمئزازي يأخذان شكلاً مبطَّناً بالسكون، وشهدتَ اختفاء النظرة المذعورة في عيني، وكنت شاهداً على صمتي المطبق بعدها. أيضاً، لقد شهدت على نفسي وهي تنكمش ثمّ تتقوَّض كل مرَّة، أمامك. أكرهك!

–        أجل كنت شاهداً. كنت أنا من وضع راحته على صدرك أنت، لتهدأ شهوة هذا المخلوق، وتفتر همَّتُه في تعذيبك، بالاغتصاب. ألم يتوقَّف بعدها تماماً؟ ألم يتحوّل ليكتفي بالضرب والشتائم، حتى  كَفّ عنك،  و تركك أخيراً؟

–        وما الفائدة؟  لقد أفقدني مغتصبي حريَّتي وكرامتي،  بل وأفقدني كلّ ما يمكنني امتلاكه من حلاوة الحياة، في مقبل الأيَّام، كلّ ما يمكن أن أتفرَّد  بوصفي إنسانة؛

كنت أحلم بالأمومة، يوماً ما.  حلم جميل ينبع من الشوق إلى طفولة لم أعشها، فقد نشأت يتيمة في بيت جدّي لأبي. وقتها، لم تكن أنت هناك، ما رأيتك إلّا عندما توفِّي جدّي….آآآه.

نصمت سويةً لبرهة، ثمّ تتابع :

–        أحلم بصورة لطفلي في بيت يعرِّش فيه الحبّ  ببساطة. أحلم أني عشقته ، أضمّه بين ذراعي، إلى صدري.. أغرق أنفي في ثنايا رقبته ، أعبُّ من رائحته البريئة، و البيت النظيف الأنيق يفوح برائحة الزنبق.

–        تنتفضين كلّما عدت إلى وعيك من ذاكرتك الملتهبة بالألم، المتقرّحة بوخز رائحة عَصيَّة، لا تمحى،  لكنّي أؤكّد لك أنّها ستستحيل شيئاً آخر غير مؤلم، عندما ترحلين معي.

–        إذن خذني الآن!

أصمت .. وتصمت.

أحاول تحديد مشاعري نحو الطفل الذي في أحشائي. كرهته، قبل أن أراه! سيكون ذلّي الذي لا يفارقني طوال العمر، مثل الوشم على جبين العبد.  جحيمٌ ما أعانيه، ألا ترى؟! لابدّ أن أتخلّص منه. يرفض الأطبّاء هنا مساعدتي، يقولون أنّي قد أتسبَّب في موتي، وقد أُحرم من فرصة الإنجاب إلى الأبدّ، لا أريد لهذا السرطان أن يتشبّث بأحشائي لتُكتَب له حياة. لا يعلمون أن  الموت هو واحتي  المتبقية لي. أين أنت؟ دعنا نرحل.

–        إنّني هنا.  لكن، لم يحن أوان الرحيل بعد.

–        عندما فتحت عينيّ، بعد عملية الإجهاض، و آثار التخدير مازالت تسري في أعصابي، كان أوّل ما طلبته هو رؤية ما أخرجوه من رحمي. أرأيته؟  مخلوق مدمّى،  شبه بشريّ.  غمرني شعور بالقرف. هل يغمر الأمَّهات عادةً  شعور بالقرف  من أجنَّتهنّ؟! هل شهدت على حبّ الانتقام الذي سكنني؟

–        أجل.

–        وكنت تعرف أنّه غريب عن تكويني!

–        أجل.

–        لكنّه انغرس في أعمق ثنايا ذاتي، كنت أنا أوّل ضحايايَ. أقوم بالاستحمام كلّ يوم، عدّة مرات، أكاد أسلخ جلدي في كلّ مرّة، ولا أتيقن من زوال الأثر،  وأسكب أمام أنفي أيّة رائحة عطرية تصل يدي إليها، وأبالغ في ذلك، لعلَّها تتغلَّب على الرائحة النتنة التي سكنت ذاكرتي. هل ستسمني بوسم الإثم، قبل أن تأخذني معك ؟

–        هوِّني عليك! شهدت كلّ حالات الموت في الدنيا، بعضها، فقط، أخرجني عن صمتي. أتسمعينني؟ أنت من البعض الذين أخرجوني عن صمتي.

–        أجل، أسمعك.

–        إذن هات كفّك، ضعيها في كفّي. ولنرحل الآن.

–        الآن؟

–        أجل! لقد حان الوقت.

تبتسم، و تأخذ عدّة شهقات عميقة. اختفت الرائحة النتنة، فجأة ، وحلّت  محلها رائحة تشبه مزيجا من الزنبق  والمسك. واكتسى الكون بثوب كثيف من الثلج المنعش الصامت. اختفت الضوضاء في شرايينها، وحلّ السلام. لا شمس ولا قمر ولا نجوم، و مع  ذلك الكون مضيء ويمكنها سماع إيقاعه المنسجم.

رأيان حول “اغتصاب. قصة: سمر حمود الشيشكلي”

أضف تعليق