قصتان. بقلم د. محمد حسن غانم

“إسرائيلي”

الدماء تغلي والعروق تنتفض النفوس وتتألم والخوف يلتصق بنا. شهيقاً وزفيراً كان ذلك إبان فترة النكسة وكانت قريتنا قريبة من منطقة أبو زعبل وقد حدث – آنذاك أن أخذت الطائرات الإسرائيلية تعربد وتصول وتجول في الأجواء المصرية حتى ضربت مصنع الحديد والصلب في أبو زعبل الرعب عاش هناك كضيف ثقيل الأنوار تطفئ زجاج النوافق يطلي بالأزرق حتى لا تكتشف الطائرات أن في هذه المنطقة أفراد أحياء وقد حدث أن “أحمد أبو عبد العاطي قد انتهي لتوه من بناء دار جديدة ملاصقة تماما للحقول نام تلك الليلة فيها إلا أنه استيقظ والليل يتوغل ولا يدري كم مضي من الوقت إلا بمغص يفتك بأحشاءه وضع كلتا يديه على بطنه وبسرعة الغريزة خرج إلى الحقل المجاور ليقضي حاجته لا يدرى كم مر من الوقت حتى لمح شبح “يبدو أنه عسكري يسير بالقرب منه متلصصاً محتمياً بأعواد الذرة في الظلام الدامس فتح عينيه جيداً كتم أنفاسه كاد الدم أن يتوقف في عروقه هو عسكري ولا شك في ذلك انتظر برهة مرت عليه كالدهر الحزين ثم هرع سريعاً وما أن لمست يده باب داره الخشبي حتى صرخ من أعماقه إسرائيلي يا رجالة ثم أغمي عليه تماما ولا ندري كم مر من الوقت ولكنه على أي حال وقت لم يكن بالطويل حتى خرجت القرية عن بكرة أبيها وكل فرد فيها محمل بالعصي والسكاكين والمطاوى أو أواني الطعام وأخذ يحرك هذا الجمع المتلاطم اللاشعور الجمعي انتابتهم رعشة أخذوا يصفرون بكل قوة أسرع أحدهم إلى ضابط نقطة شرطة القرية أخرج كل العساكر وكانوا ثلاثة وأخذ يهرعون هنا وهناك وفي أيديهم بنادق قديمة بالية فارغة من الرصاص والضابط يتجول بحصان أبيض والناس يهرعون هنا وهناك لا تسأل كم أتلفوا من المزروعات ولكنهم أتلفوا الكثير ركضوا في كل الاتجاهات لا تسمع آنذاك إلا الرغبة الصادقة في الإمساك بتلابيب هذا العسكري الإسرائيلي وكل فرد يتحيل أنه قد هبطت لهدم منزله أو قتل أبنه أو اغتيال أمنياته الضابط يحاول تهدئه النفوس أسرع إلى التليفون القديم اتصل بمدير الأمن أسرع مدير الأمن بنفسه إلى منطقة الأحداث الجميع تركو منازلهم ويهرعون في كل الاتجاهات فشلت قوات مدير الأمن في تهدئة النفوس والسيطرة على الناس اضطر مدير الأمن أن يبلغ بنفسه شخصياً وزير الداخلية أتت قوة من الوزارة كانت النساء تجرى ويحملن أطفالهن الرضع بيد وفي اليد الأخرى عصيى أو سكين أو عطاء آنية طعام ثم استطعت أنا أخيراً وقبل أن تأتي قوة أمن الوزارة أن اكتشف هذا العسكري كان خائفاً متسللاً في حديقة برتقال الباشا هرعت خلفه وبيدي سكين وبيني وبينه عشرة أمتار تقريباً يرتدي ملابس صفراء على رأسه خوذة حديدية وحذاء أسود برقبة كانت هذه الملابس غير مألوفة لي دق قلبي دقات ملتاعة إذا اقتربت منه ربما قتلني بالموت لم أبالي عندما اقتربت المسافة وأصبحت قاب قوسين أو أدني توقفت تماماً صرخ من أعماقه أنا لست إسرائيلي أنا عسكري مصري توقفت أنا الآخر تماماً  عقلي يعمل بسرعة الضوء بدأ الشك يتسرب إلى وأنا أبن الخامسة عشرة كنت أتصور الإسرائيلي على الأقل لا يتحدث نفس لغتنا لا أعرف أي شيء فقط كنت امتلك مساحات شاسعة من الحقد والعداء لكل هؤلاء الناس الذين يغتالون الأمان ويزبحون الأحلام عندما اقتربت منه وأنا أحاول أن أخفي جاهداً ظلت السكين متثبتة بيدي وبيدى الأخرى أمسكت به أوسعته ضرباً وركلاً لابد أن أصدق عقلي عند ذاك أدركني الجميع قوات الشرطة أخذته إلى النقطة ذهبت به من طريق آخر شاهدت جزءاً من التحقيق معه وزير الداخلية بنفسه يحقق معه وكل رجال الشرطة.

وحكايته باختصار أن هذا العسكري من قرية مجاورة لنا ولقد وصله منذ أسبوع خطاب من حبيبته أو أبنت خالته” أن والدها مصر على زواجها رافضاً الانتظار قاذفاً بوعوده في البحر الميت وقد أقسم بالطلاق إذا لم يتم الزواج خلال هذا الشهر فلن تتزوج به حتى إذا انطبقت السماء على الأرض وقد استأذن من العريف في يومين فقط ويحاول أن ينهي هذا الموضوع أما أن يقترن بها ويدخل بها بالفعل أو على أسوء الفروض يحرر قسيمة الزواج دون الدخول بها ثم انتظر حتى جني الليل وجاء متلصصاً عبر الحقول حتى فوجئ بهذا الأعصار الذي أذهله وأرعبه ظن فعلاً أن إسرائيلي قد نزل القرية إلا أنه شعر بغريزته أنه هو المقصود انسحبت أنا خارجاً والفجر تلوح بشائره في الآفاق والناس مازالت تهرع هنا وهناك الخفراء والعساكر يحاولون تهدئتهم وأنه لا شيء بالمرة ولكن ذهبت كل هذه المهدئات إدراج الرياح حتى والدى نفسه أصر على أن ننام في غرفة الفرن وأن نغلق الباب من الداخل جيداً وأصر على أن ينام خلف باب دارنا الكبير مدججاً بالعصي والسكاكين وبعض أواني الطعام أقسم له أنه لا إسرائيلي ولا يحزنون ولكنه صرخ بي أن أنام واصبحت وأن هذه الأمور والمساءل لا أعرفها وفي صباح اليوم التالي اكتشفت أن كل الرجال في قريتنا فعلوا نفس ما فعله والدي وظلوا على هذا الحال شهور أحاول طمئنتهم ولكن لا أحد يستمع لي حتى الشيخ عبد الوهاب بنفسه – واعظ المسجد الوحيد في قريتنا – كف عن مهدئاتك ولن يستمع أحد لك المأساة يا ولدي أن الكبار يكذبون ولم أفهم ما يقصد بذلك ولكني صمت.

“العودة إلى الأضواء”

منذ فترة وبالتحديد في النصف الثاني من العقد السابع من القرن الماضي طغت هوجة كتابة المذكرات السياسية لرجال الحكومة السابقين وكان عبد الوهاب الشال يتابع كل ذلك بتقزز إذ أن القاسم المشترك في كافة المذكرات التي أطلع عليها أن الكاتب يتحول فجأة إلى بطل يدير الدفة يعارض الرئيس برفض بعض القرارات وكان كلما تذكر مذكرات عدنان الويشي” وزير الداخلية الأسبق يكاد أن يستلقي على قفاه من الضحك لأنه كان زميله في الوزارة وكان يصاب بنوبة من الثأثأة والفأفاة حين يتحدث إلى رئيس الوزراء آنذاك وكان يتحول لونه إلى لون الأموات حين يكون في حضرة السيد الرئيس فما بالك بالكلام! ها هو ذا يصول ويجول في مذكراته يعارض ويناقش بل ويترك الاجتماعات ويخرج غاضباً من قاعة الاجتماعات إلى الحديقة والرئيس بنفسه يذهب إليه يتعطفه ويرجوه ويتوسل إليه أن لا يغضب وأن يتغاضي عن رأيه في هذا القرار وهو يرفض وبأصرار حتى دخلت عليه زوجته صباح ذات يوم وفي يدها الجرائد اليومية القومية الثلاثة ألقتها في وجهه وهو مستلقي على السرير صارخة فيه

  • ألم تكن وزيراً في يوماً من الأيام.
  • نعم
  • ألم تكن وزيراً للتموين؟
  • بلي والتجارة الخارجية أيضا
  • ألم تتولي الوزارة في مرحلة حرجة
  • مرحلة أطلقت عليها عدة مسميات تارة مرحلة النكسة وأخرى مرحلة الهزيمة وثالثة حالة اللاسلم واللاحرب.
  • فلماذا أذن لا تكتب مذكراتك؟
  • ولكنها وزارة في الظل.
  • نعم يا حبيبي آكل الناس وشربهم بتسمية ظل.
  • نعم أنت تعلمين جيداً مصير الآكل والشرب بعد الهضم.
  • ولكنك كنت وزير للتموين.
  • ماذا أقول للناس هل أحكي لهم عن حصص الزيت والسكر والشاي والصابون وكوبونات الكيروسين.
  • أليست هذه الأشياء عصب الحياة وإذا اهتزت فسد كل شيء. أدرك بغريزته أن مواصلة الجدل عمل انتحاري فوعدها خير وسيفكر في الأمر وعليها أن تعطيه الفرصة لكي يرتب شتات أفكاره.

لقد ترك الوزارة منذ عشر سنوات لا يتذكر أي شيء فماذا يكتب للناس والتاريخ أن الأخطاء البشعة في حياته تتلخص في أمرين:

الأول توليه الوزارة في مرحلة حرجة والثاني هو زواجه من هذه المرأة الحادة السليطة اللسان وكان زواجه منها نتيجة لتوليه منصب الوزير إذ أن زوجه الأول كانت لا تصلح للظهور معه في المقابلات الرسمية كانت أبنة عمه وكانت حاصلة فقط على الشهادة الاعدادية وكانت ست بيت ممتازة لا تتحدث إلا في الطهي فقط ثم قفزت معه الأحداث فجأة وبدون مقدمات إلى قمة السلطة فما كان عليه إلا أن يواري الزوجة الأولى في الظل ويقترن بسوسن هذه ولكن عيبها الوحيد العصبية وعدم الاقتناع حتى دخلت عليه ذات يوم حجرته قائلة له

  • ألم يحين الوقت لكي تكتب المذكرات.
  • مازلت افكر يا سوسن.
  • انظر وزير الحكم المحلي والإدارة المحلية السابق ينشر مذكراته وهاك الحلقة الأولى منشورة في الصفحة الثالثة في جريدة الأهرام.
  • ربما يتحدث عن قوانين الإدارة المحلية.
  • وأنت ألم يكن لوزارتك قوانين
  • نعم كان لها
  • فلماذا إلا تذكرها
  • مذكورة في كتب القانون
  • صغها صياغة أدبية وأن كان أسلوبك ركيك وهو بالطبع كذلك فلماذا لا تذهب إلى أحد المحررين ليصيغها لك.
  • أنها إهانة
  • أنت الذي تهين نفسك وتهينني.

في المرة السابقة أدرك أن مواصلة الجدل معها بلا جدوى أقسم لها أنه يفكر في الأمر وعليها أن تحضر له الأوراق والأقلام كي يبدأ في القريب العاجل في الكتابة والنشر وكالعادة قذف بالفكرة في الجب العميق ومارس حياته العادية ولكن الإلحاح جعله يقتنع أن المماطلة لا تفيد ففكر في الأمر جدياً وضمها ذات ليلة باردة إلى صدره ولكنها تمنعت غاضبة منه وذكرته بضرورة كتابة هذه المذكرات هذه المرأة يكره عصبيتها وإلحاحها ولكنه في داخله يعشقها إلى درجة الابتلاء فكر جديا في الأمر وقال لها

  • لكي اكتب مذكرات لابد أن أعود إلى الأضواء
  • كيف ذلك
  • أن يعاد ذكر أسمي في الجرائد حتى تتذكره الناس
  • وماذا يفيد ذلك
  • دعاية جيدة للمذكرات
  • ولكنك لم تكتبها بعد
  • عوده الاسم إلى الأضواء سيكون أكبر الدوافع لي وللنشر
  • ولكن كيف ذلك؟
  • دعيني أفكر في الأمر

ذهب مساء اليوم التالي متلصصاً بالظلام إلى عرب النجد لكي يقابل الحاج عمران طالباً منه أن يتخفي في الظلام ويطلق عليه عدة أعيرة نارية ولكن بشرط أن تصيبه فقط فكر عمران في الأمر واعتبر ذلك جنونا إذ كيف ذلك وما الهدف من هذا ولكن عبد الوهاب الشال.. رفض الإفصاح قائلاً له فلندع ذلك لحاجة في نفس يعقوب أو يونس أنا موافق المهم نقبض

  • كم ستأخذ
  • عشرة آلاف
  • ولكن ستصيب فقط
  • الإصابة مثل القتل
  • لكنها تختلف يا حاج
  • ولكنها نفس اللحظات الحرجة بل أن القتل أيسر لدي من الإصابة.
  • عشرة آلاف كثيرة جداً.
  • بالعكس أنا خفضت لك المبلغ إلى النصف لأن الإصابة تحتاج إلى احتياطات أكثر من القتل لأن ظني بك أنك رجل طيب
  • دعنى أفكر في الأمر
  • إذا لم تحضر الليلة القادمة في العاشرة مساءا فلتعتبر الأمر كأن لم يكن. عاد يجر أذيال الخيبة حتى الإصابة ارتفع ثمنها أرق طول الليل وسوسن زوجة مسرورة جداً إذ تعتقد أنه يفكر في كيفية البداية والتخطيط للمذكرات بيد أنه كان مشغولاً بقضية أهم قضية عودته إلى الأضواء والتي سوف تتناقلها وسائل الإعلام ويعود أسمه إلى الأضواء بعد خفوت دام أعوام يا لهذا الجو من الإثارة هنا يستطيع أن يمسك بالقلم ويترك العنان للخيال.

صباح اليوم التالي رأي      أمام منزله “عبده قاسم          صاح عليه تنحي به جانبا طلب منه أن يقوم بالمأمورية هذه الليلة أعد له البندقية عبده ظن به كافة الظنون الرجل جن ولا شك وسأل نفس أسئلة “الحاج عمران عبد المقصود والهدف من ذلك بيد أن عبده أشار عليه بعد تفكير أن ينتظر الإصابة آخر الشهر فاليوم الرابع عشر والقمر يتوسط كبد السماء كأننا في الظهر الأحمر أمن على كلامه واتفق معه على كل شيء أنه يجلس في الحديقة وفي الساعة العاشرة يتسلق عبده سور الحديقة الصغيرة من الجهة القبلية ويتربص خلف شجرة الجميز الوحيدة ويطلق العيار الناري بشرط أن يصيب كتفه إصابة طفيفة وجاءت الليلة الموعودة ودون يخبر عبد الوهاب زوجه بما اتفق عليه مع عبده وجلس أمامه طاولة صغيرة عليها عدة أوراق بيضاء أخذ يكتب عدة عناوين لمذكراته ثم يأخذ في محوها طالباً من زوجه أن تتركه ينفرد بنفسه المهم العنوان البراق الذي يجذب القارئ إلى هذا العمل. في العاشرة تماما. حدث أمرين مختلفين الأول أن زوجة عبد الوهاب الشال كانت بجوار زوجها وفي نفس اللحظة أطلق عبده الرصاصة فأصابتها في مقتل لم تتفوه بكلمة صرخ من الأعماق: في دقائق من ذلك الحدث ازدحم البشر من كل صوب بدأت النيابة المعاينة والتحريات والتحقيق وعبد الوهاب الشال في عالم آخر من اللوعة. لم يتهم أحداً وقيدت القضية أخيراً ضد مجهول نشرت الصحف الحادث بالتفصيل. وحين فشلت العدالة في الوصول إلى القاتل الخقيقي اتجهت الاتهامات إلى جماعات التطرف الوحيد الذي كان يعرف الحقيقة هو الزوج ولكن سيموت ومعه السر زاره طيف زوجه في المنام راجية إياه أن ينتهز الفرصة ويشرع في كتابة المذكرات نهض من نومه فزعاً إضاء إباجورة المكتب ودخل إلى المطبخ لكي يعد لنفسه فنجاناً من الشاي بحث طويلاً دون جدوي وأخيراً أطفأ نور المكتب ودثر نفسه في فراشه.

  • كيف أكتب المذكرات وبيتي لا يوجد به سكر ولا شاى.

أضف تعليق