محمود حسانين
القصة القصيرة, تلك هي الأيقونة للنثر الأدبي, قام الكثير بتهميشها ومحاولة تغريب مكانتها الإبداعية, من خلال مسميات كـ”القصة اللحظية والقصة الشاعرة والقصة الومضة والاقصودة” وألخ, وقد ساعد في ذلك تلك السعفة التي أشعلها الدكتور جابر عصفور حينما أطلق مقولة “زمن الرواية” وكلما وجدنا مقولة تطلق لتعميم شيء جزئي نجده يسطو على ما حوله, ولكن مع مرور الزمن, يعود كل كيان إلى مكانته فقط.
وخير دليل على هذا هو ما أصبحت عليه الكتابات نفسها في أيامنا تلك, لقد بدأت الكتابات تتقولب في قوامها الطبيعي, استعدادا للعودة إلى سابق عهدها, فخرجت كتابات نثرية ما بين قصة وسرد ذاتي حكائي, ونعتبر تقبُل الجمهور تلك السرديات تمهيدا لعودة القصة إلى مكانتها.
للقصة طاقة نور أبدية:
في قصة ” بئر وزيتون وفتاة جميلة” يبدأ الرواي الآني, بالسرد حتي يوقفنا ويقف عند هذا الاستطراد في أول فقرة ” للخيال طاقة نور أبدية” فتكون إجابة على تلك الحيرة التي تملكت الطفل حينما طاف حول البئر.
لحظة المغامرة هي التي فجرت في الطفل منطق الموروث, في معتقد أن وراء كل صوت يأتينا فجأة في وسط ظلام مجهول هو صوت العفاريت.
في الفقرة الثانية نجد صوت للراوي العليم الذي يستحضر المستقبل يهرول بنا إلى حيث مواسم تأتي على القرية ليصف لنا مدلول أن لقضيته دائما فجوة يتركها الجميع, حتى أغصان الزيتون, هي إحالة إلى تلك الأيقونة التي أستخدمها الكثير للتعبير عن القضية الفلسطينية.
البنت التي لها سحر يجذب إليها من نظرة عينيها, هي لحظة توحد بين الحب, فحب المغامرة يأتي أيضا من تلهف قلبك إلى فتاة.
” عندما رأيت خضار الزيتون تذكرت البنت التي مرتْ أمام بيت جدي، ذكرتني عيناها بلون الزيتون”
محاولة ربط اللحظة وتوثيقها بتردد صوته في الفراغ, يحيلنا أيضا إلى فرضية قضيته الأولى, غير أنه يحتاج إلى من يشاركه المغامرة, ولو بصوت في ظلام الكون يتردد بلا مجيب.
” ناديت باسمٍ وهمي للبنت التي رأيتها، تردد الصدى، عاد إليَّ، فشعرتُ بها تنام على صدري، حتى البنات “الحلوين” يسكنَّ هنا، رجعت لبيتنا ممتلأ بحب كبير للبنت وللزيتون”
في فقرة تالية نجد ربط لهفة المحبوب لحبيبه في لحظة مغامرة, ليخط لها الصبي كلمات ويرسلها ولو مع المجهول, فالكاتب لديه القدرة للكشف عن عبقرية المكان والزمان, ورسم أبعاد للبطل في كل لحظة, فيشعرك بأهمية تحول النص إلى كادرات بصرية أو ذهنية, للمشاهد التي يرسمها بالصور والمعطيات الواقعية, وكلما تعمقت في القراءة نجد الكاتب يحيلنا إلى فكرة المغامرة.
” تقافزت الكرة، وابتعدتْ، واستقرت في قاع البئر، جلبنا كرةً أكبر حتى لا تنفذ من خلال الفتحات، لكن مرة مرر أحدنا الكرة، فاستقرت في وسط البئر، من خلال فتحة كبيرة سقطت، جريت بجنون نحوها، علوتُ لأول مرة السياج والجريد،”
فتأكيد الكاتب على روح المغامرة بدأها مع كتابة العنوان, ولكن الاصرار على تأكيدها هو ما جعلها تفقد قوتها, ولكن قوة النص جعلت القارئ ينساها مع متعة الوصف.
طقوس الكتابة:
طقوس الكتابة كثيرة ومتعددة, عندما يبدأ أي كاتب في الإمساك بالقلم وسرد التفاصيل هذه هي نقطة البداية, قد نعتبر الأمر تلقائيًا أو طبيعيًّا أو مُعتادًا, تقول الكاتبة سوزان سونتاج: الأدب يعلمنا الحياة, ما كنت لأكون الشخص الذي أنا إياه, لو لم أكن أفهم ما أفهم”
وأقول من خلال كلماتها أنه لولا القصة ما كنت أفهم ما أفهم, ما كنت الشخص الذي أنا إياه, في لحظة تحول للبطل يتحول الكاتب أيضا إلى منولوج مونودرامي يؤهلك لاستحضار لحظة الحكي.
” بدأتُ أمارس طقسا آخر، أحكي حكاياتي للبئر، كنت على يقين بأن الكائنات التي تسكن في الأسفل، تسمعني”
يستمر البطل في السرد الحكايات للبئر في لهفة, حتى يجد من يشاركه المغامرة بذلك الولد الذي يأتي إلى البئر في نفس مكانه ليلقي بأشياء إلى البئر, كلاهما يرنو إلى سمع صدى المجهول.
” حزنتُ لما عرفت أن أحد الأولاد الذين كنا نلعب معهم تسلل إلى البئر، دار حولها حتى وصل إلى الفتحة المحببة لي، بدأ يرمي الحجارة الصغيرة، اهتزَّ الماء في الأسفل، أخبرني أنه شاهد ضوءا منعكسا على صفحة الماء، أخذ بعد ذلك في إلقاء أشياءَ لا يحبها، بواقي طعام، ألعابٍ قديمة، نَوَياتِ البلح، قِطعٍ من الخشب والحديد، مساميرَ، ولمباتِ إنارةٍ قديمةٍ”
لحظة موت الشغف بدأت عندما علم الأولاد بالبئر, حتى يفقد البطل شهيته للحكي لها, يبدأ تطور الحدث حيث يقرر الجد ردم البئر, فنجد منولوج داخلي يتقطر حسرة ينذر بنهايتين أحدهما مؤسفة للذكريات والثانية مشوقة للمتن, من خلال صوتين صوت الراوي وصوت الطفل.
” جلب جدي عُمالا، أزالوا غطاء البئر، قاموا بنزح مائه، رأيتُ الكرات التي فقدناها أثناء لعبنا، كلَّ الأشياء التي ألقاها الأولاد، كلَّ ما ليس له قيمة خرج مع جرادل الماء، كنت أنتظر أن أرى خطاباتي للبنت، لم يخرج ما أنتظره، رُدم البئر بالتراب، وسُوِّيَ بالأرض، وقفتُ فوقه، منتظرًا أن أسمع حكاية واحدة قديمة، تمنيت أن ينبتَ يومًا الزيتون، ويطلَّ وجهُ حبيبتي من بين أغصانِه.”
نجد الكاتب حتى نهاية القصة قد أعتمد على كادرات ذهنية وبصرية مختلفة, ما بين الذكريات ووصف الحدث, استعان بهما الكاتب في الدخول إلى عالم التخيل لمشهد البئر والبنت, كما استطاع أن يجعل من لهفتك على المعرفة انشطار للهفة الطفل لمعرفة ماذا سيحدث أيضا للبئر, أنتهى الشوق إلى المفارقة التي لم تعد لها نصيب الأسد في القصة, بعدما حلت محلها تقنيات الفن القصصي بين التكثيف والحكي, حيث أستعان الكاتب بقوة اللفظ أو كما يطلق عليه فزياء اللغة علم المعنى أو الدلالة, فالنص يراوغ التأويل بين فكرة المتلقي ولعبة الكاتب السردية, لقد سلب الكاتب بكل خفة القارئ إلى سحر تصوير المشاهد إلى أدق التفاصيل.
رابط القصة