أرشيف الأوسمة: صفوت فوزي

لما أنت ناوي تغيب على طول. قصة: صفوت فوزي.

حين جاءني صوته عبر الهاتف، بادرته بالسؤال: “ازيك يا وصخ”. أجاب مندهشًا: “هذا اللفظ لا يعرفه سوى اثنين، أنت من فيهما؟” ولما أجبته قال بصوت كتلك الأصوات التي نسمعها فى الأحلام، تأتي من بعيد مع أنها قريبة : “يااااااه .. ثلاثون عامًا تنهض من تحت الردم. كيفك، وكيف أحوالك؟ لا شك أنك تزوجت وأنجبت، كيف حال الأولاد والأسرة والأصدقاء القدامى؟”

من علبة شيكولاتة صفيح صدئة تنهض الذكرياتمتزاحمة. صور قديمة بالأبيض والأسود، قصائد البدايات الأولى، نزق الخلافات العابرة، رسائل المراهقة وعتبات الشباب، مجلات مكتوبة بخط اليد ومطبوعة بالاستنسل، رسومات بأقلام الرصاص والفحم، وكلمات أغاني قديمة مكتوبة على أوراق مدرسية اصفرت وحال لونها.

في الحجرة الصغيرة المنزوية في طرف الدار، المعروشة بعروق الخشب وحطب القش، والمدهونة حوائطها بالجير الأزرق الباهت، كنا نلتقي. يستقبلنا والده العجوز على باب الدار موجهًا لـه السؤال : “كنت صايع فين يا وصخ؟ ابقى قابلني لو فلحت”.نضحك متندرين على لغته وأسلوبه وندلف إلى الحجرة المعزولة.يخرج رسومه بأقلام الفحم، والراديوالترانزستور الصغير ببطاريتيه البارزتين إلى الخارج والمربوطتين بأستك حزم النقود والمضبوط على محطة أم كلثوم.هو الوقت المخصص لبث أغاني محمد عبد الوهاب الذي يعشقه بجنون، وكنا نحن أصدقاءه المقربين نشاركه هذا العشق. يمضي بنا الوقتُ سريعًا ممتعًا، مابين الاستماع والطرب والفرجة على آخر إبداعاته من البورتريهات المرسومة بأقلام الفحم، وتبادل الأسئلة المعلقة في رؤوسنا كالذبائح، والتي تعصف بنا ولانكاد نجد لها إجابات شافية.النهم الثقافي والفضول العقلي والبحث عن الحقيقة، والحنين إلى الذى لا يجيء، وكل ما يجعل مراهقين مثلنا يتفتحون لكل ما كانوا يتعرضون له من قراءات جادة.

كنا فى أول الشباب ، ومن هؤلاء الذين يأتون من القرى محتشدين بقلة تجاربهم ، وخجلهم ، يتخبطون فى شوارع المدينة الواسعة تائهين ، يجدون فى تجمعهم ملجأ وحماية .

في عتمة الضوء الكابي للغرفة الصغيرة، تنعتق أرواحنا، تتحرر أفئدتُنا من ربقة اليومي والمعتاد. تنطلق في آفاق رحبة من الفن والفلسفة والجمال، في مناقشاتوحواراتلا تنتهي، موجعة وكاشفة ومحرضة، تتخللها ضحكات صغيرة تغسل الروح وتشفي القلوب المنكسرة التي تنوء بحمول أكبر من سنها ومن فهمها. نتحرر من قسوة الفقر وأحلامنا الموءودة وخيباتنا الصغيرة المكرورة. نربت على أرواحنا بأيدينا، لنكتشف الثابتوالمتحول في وعينا وعلاقاتنا بالناس والأماكنوالأشياء، ماسحين نزيف أرواحنا بقطنة مبللة.

فى غدوه ورواحه، يمضي في الحارات والدروب. في الشارع الذي تقطنه يتطلع إلى نافذة تطل منها، شرفة تقف فيها مرتدية تاييرًا هادئ اللون، شيش مغلق يتضوع من خلفه عبيرها. لا يغادر حتى تمتلئ روحه من طلتها البهية. يعود إلى غرفته المنزوية، يرسم لها صورًا بأقلام الفحم. يسكب روحه على الورق شعرًا ورسمًا. هام بها. حدثني كثيرًا عنها. في كل لوحاته التي رسمها كانت تبدو قادمة من عالم آخر، عالم مليء بالصفاء كَنَدى حقول الصباح. يؤطِّر وجهها القمحي المدور هالة من النور تنبع من حدقتي العينين البنيَّتين الواسعتين، فتغمر اللوحة وتضفي عليها مزيدًا من المهابة والجمال الشفيف، يطيل النظر في ملامحها فيتدفق الكلام على لسانه، يصبح يمامًا أبيض، يحط بأمان في حنايا القلوب والأرواح.

*****

من الجنوب يأتي مسافرًا نحو الشمال، آلاف الأميال يقطعها في رحلة لا تني تتجدد مع الأيام.النهر العجوز، صبيًّا لم يزل، يوزع الخير والنماء أينما ارتحل، ويلتئم حوله المحبون حيثما حل. على ضفافه يلتقيان. أنيقة في بساطة، جميلة في غير تكلف يكسوها خجل ريفي، قوية القوام تميل إلى الطول بمقاييس النساء. كان القمر بدرًا مكتملًا، والسماء صحوضَحوك. نسيم الصيف كالصبا، ونور القمر غلالة فضية منثورة على ماء النهر، وصوت عبد الوهاب يصدح هادئًا شجيًّا:

                                       مسافر زاده الخيال

والسحر والعطر والظلال

ظمآن والكأس في يديه

والحب والفن والجمال

تبتسم فيتورد الخدان وتبرز الغمازتان في جانبي الوجه الجميل الطلعة. يتناجيان، يتهامسان، فتتفتح كل مسارب النور، وتزهر كل ورود الكون. يزدحم الفضاء بجلال جمالها. ترق القلوب المترعة بالرضا، وتخشع النفوس، فتسيل دموع الامتنان عذبةً بين شفاه ترتعش بالحمد.

*****

كانت للتو قد أنهت تعليمها المتوسط، فيما لم يزل هو يدرس بالجامعة. تقدم لخطبتها. متوترًا مؤملًا يجلس قبالة أبيها الذي يميل إلى القصر، مدكوك القوام، خشن الملامح، على شيء من الغلظة، نظراته واخزة، شديد سواد العينين. الكلام خفيض، ووقع الأقدام أشد انخفاضًا، وهويلقفأنفاسه بصعوبة. سأله الرجل عن استعداداته. أجاب أنه يعمل إلى جانب دراسته. أجاب الرجل أن ذلك ليس كافيًا وأن حب التلاميذ لا يؤسس بيتًا ولا يؤكل خبزًا وأن طلبه مرفوض.

عرق بارد غزير يتحدر من أعلى القفا متدحرجًا ببطء يلمس فقرات الظهر. مكشوف العورة تأكلني العيون. مائلًا للأمام منحنيًا أضع يديَّ–لا إراديًّا– أمام عورتى لأداريها. أتحامل على نفسي، لاتقوى قدماي على حَملي. قلبي مُفعمٌ بالحزن والخجل أغادر المكان.

كنت أدرك على نحو خفي أننا فقراء، وأننى أخفى بؤسى داخل البنطلون المكوى والقميص حديث الموضة ، لكنني الآن أعرف تمامًا معنى الفقر مُجسَّدًا. أن يتم انتزاع أغلى ماتملك في حياتك من بين يديك دون أن تكون قادرًا على التمسك به. تحملني أمواج عاتية، تلقي بي على شاطئ صخري مهجوروتتركني وحيدًا، وحيدًا وحزينًا.

زوجوها لعريس جاهز.

كانت سيناء قد عادت إلى حضن الوطن الأم. منقوصة السيادة نعم، لكنها عادت.حزم أمتعته القليلة ورحل إلى شمال سيناء، ومن يومها انقطعت عنا أخباره تماما. قاطع كل من عرفهم. قاطع الدنيا بأكملها وعاش وحيدًا معزولًا.سنوات كثيرة مضت حتى عرفت بالصدفة البحتة رقم هاتفه المحمول وتواصلنا.

في آخر مكالمة هاتفية، كان متدفقًا سعيدًا، وهو يحدثني عن آخر إبداعاته في فن البورتريه الذي تخصص فيه وأتقنه، وكيف أنه صار يرسم بألوان الزيت وأنه أحرز تقدمًا كبيرًا في هذا المضمار، واتفقنا على أن نلتقي ليطلعني على ما أنجزه وهو كثير.

هذه المرة، ظل جرس الهاتف يرن طويلًا طويلًا، وعندما جاءني الصوت كان صوت ابنته ضعيفًا واهنًا. قالت: أبويا تعيش أنت.

دمعة ساخنة فرت من عينيّ. أغلقت الهاتف وفتحت علبة الشيكولاتة الصفيح الصدئة المدورة. حكايات من الزمن القديم تنهض من النسيان حزمة من شرايين حية . ذكريات تضرب خاصرتى من غير رحمة .هأنذا أعدو من غير حسبان ، متجاوزا سنينى ، عائدا لتلك المنطقة السرية من ذلك الزمن البعيد . تتقافز أمام عينيّ صورمن ذكريات قديمة، فيما ينساب صوت محمد عبد الوهاب شجيًّا أسيانًا:

لما أنت ناوي تغيب على طول

مش كنت آخر مرة تقول ___ _____ ______ ___

مبتدأ الأوجاع..قصة:صفوت فوزي

خلع عنها ملابسها . خلع ملابسه .اتخذ مكانه على الكرسى المجاور للطاولة الصغيرة .بقايا مأكولات، علب سجائر مختلفة الماركات ، مناديل ورقية ،كتب ، اسطوانات موسيقى ، صور لنساء بملابس البحر مقصوصة بعناية من مجلات قديمة ، وفى الركن تستقر أدوات القهوة .

استمر في القراءة مبتدأ الأوجاع..قصة:صفوت فوزي

“الآن أبصر”..ومواجهة نسق الخوف..مرڤت يس

قراءة في المجموعة القصصية الآن أبصر للكاتب صفوت فوزي

الخوف وحش داخل ذواتنا نواجهه طول الوقت ، من منا لايكمن بداخله رعب دفين، خوف من مجهول ، خوف على أبناء، قلق من واقع مرير، هواجس تنتابنا من حين لآخر تظهر في أحلامنا ،كتاباتنا مع أي مثير يستدعيها، فهى جزء من كينونة الإنسان وصيرورته في الحياة ؛ لذا كان من الطبيعي أن تجد تلك المشاعرطريقها إلى الأدب، بم إن موضوع الأدب في الأساس هو الوجود الإنساني.  وكثير من الأعمال الأدبية كان الخوف بطلها الأساسي . تلك المخاوف كما لها وجهها السلبي  – حيث من الممكن أن يكون غير ضروري  فيصبح الانسان حذرا اكثر مما يجب – فهى أيضا  لها وجهها الإيجابي فهي تأتى إلينا لتحمينا وتحذرنا من خطر متوقع، فتشحذ احاسيسنا ووعينا بكل شيء يحيط بنا لنتمكن من مواجهته والاستعداد له فهو اذا نوع من المقاومة للبقاء ، ولمواجهة مستجد يثير التهديد .

استمر في القراءة “الآن أبصر”..ومواجهة نسق الخوف..مرڤت يس

همس الحيطان..قصة:صفوت فوزي

صغارًا خفافًا نطير إليها ممسكين بأيدي الأهل والصحاب. نداوة خفيفة ترطب نسماتٍ قادمةً من ناحية النهر، ونحن نعبر الطريق الترابي المرشوش. طيور الهدهد تحجل أمامنا وديعة حذرة والبلابل تحلق صادحة في فضاء مفتوح. البوابة الخشبية الكبيرة تئن تحت وطأة رؤوس المسامير الضخمة الصدئة تثقب لحم صدرها، مفتوحة على الفناء الداخلي، حضن وسيع يبتسم في وجوهنا. شجرة الجميز العجوز تقف شامخة مورقة تفرش ظلها بساطًا للوَنَس والسكينة للعابرين اللائذين بحضنها من وقدة الظهيرة. الباب الداخلي يجبر العابرين على الانحناء بقوسه الحجري نصف الدائري. بابٌ صغيرٌ يعمِّق لديك الإحساس بالتواضع عند اجتيازه، ويمنحك دفءَ الاحتضان. درجاتٌ قليلةٌ من حجر أبيض ناحل يهبطها الداخلون. تتسع حدقتا عيني في العتمة الخفيفة الموحشة وتغمرني رائحة بخور.

استمر في القراءة همس الحيطان..قصة:صفوت فوزي

يوم آخر( قصةأونلاين ): صفوت فوزي.

لا أحد في القرية كلها يعرف له أصلًا أو فصلًا. مقطوعٌ من شجرة، لا يزور ولايُزار. الكبار يحكون أنهم فوجئوا به ذات صباح بعيد يخرج من بيت “فهيم”.وحين سألوا، قيل لهم إنه ساكنٌ جديدٌ يدعى”عفلوك”. الاسم وحده كان كفيلًا بأن يُلقي فيروعِنا، نحن عيال الحارة، بمزيجٍ غريبٍ من النفورِ والرهبة والتوجُّس. لام الكبارُ “فهيم” كثيرًا. كيف يؤجِّرغرفةًفي بيته لرجل أعزب وغريب؟! تضاحكوا فيما بينهم حين تذكروا أن”فهيم” نفسه غريب عن القرية.

استمر في القراءة يوم آخر( قصةأونلاين ): صفوت فوزي.

للموتى أجنحةٌ بيضاء. قصة: صفوت فوزي

صفوت فوزي

وكنت، حين يأتيني نشيجُها المخنوق، في صباحاتٍ بعيدة. أرفس الغطاء، أتسلل خارجًا، أتعثر في طريقي، والدار من حولي ساكنة إلا من حركة خفيفة. ألمحها في ظل الجدار الخشن تجرد شعرها الفاحم الطويل بفلَّاية خشبية لها أسنان رفيعة حادة. تهمس بعديدها الذي لا أفهمه، وأنا أرتجف كعصفورٍ بردان. تُربِكني الحيرةُ والقلق. أتكوَّر في ركن بعيد، متقرفصًا دافنًا رأسي بين ركبتيَّ أطوقهما بذراعيَّ، وأنا أجترُّ كلماتها العصيَّة على الفهم. يهبط الحزنُ في قلبي ويهاجمني الخوف، وأنا أقف على حافة البكاء.

استمر في القراءة للموتى أجنحةٌ بيضاء. قصة: صفوت فوزي

تخطي العتبة. قصة: صفوت فوزي

صفوت فوزي

ينفتح الباب الكبير بصريره المكتوم، تبرز من ثلثه العلوي قبضة صدئة ترتكز على كرة نحاسية بهت لونها تعانق خشب الباب العتيق. أنحدر عبره إلى المدخل المعتم. تغزوني رائحةُ عطنٍ قديم. في الركن ينتصب زيرٌ منتفخُ البطن بالماء، مرتاحًا على حمالة حديدية بلون الصدأ، أرجلها الثلاث معقوفة نهاياتها المرتكزة على الأرض المبلولة، تفوح منها دائمًا رائحةُ زخمة نفَّاذة. أتفادى صفائح المياه الصدئة، والطشوت، والخِرَق القديمة المتسخة، والكراسي مكسورة الأرجل، وأنا أخطو بحذر وتوجس بين الكراكيب المتناثرة، وبرك الطين المبلولة. غرف متتابعة تطل على المدخل، مفتوحة أبوابها عن بوابير الجاز المتقدة تفح نارًا وصهدًا تحت الطبيخ والغسيل، وساكنات الغرف يفترشن الأرض بلحمهن المندلق وهدومهن المفتوحة عن أفخاذ وفيرة لامعة وأثداء محصورة منبعجة، أو متهدلة ساقطة في أفواه الرضع، حتى أصل إلى بير السلم. تهب عليَّ رائحةُ رطوبةٍ قديمةٍ، والأنوار تتخايل على السلالم، فوق.

استمر في القراءة تخطي العتبة. قصة: صفوت فوزي

عبورُ الممرِّ الضَّيِّق. قصة: صفوت فوزي

من الممرِّ المعتم الضيق ينسلُّون فرادى. خطاهم على الأرض رقيقةٌ لا تُحَس، كأنَّما عاهدوا الأرضَ ألَّا تبوحَ بوقعِ أقدامِهم. يرفلون في ثيابٍ فضفاضة. يحدقون في الأفق البعيد. لم تند عنهم كلمة. وأنا حين لمحتهم ارتعبت. خلت أنني أهذى، بينما قلبي يضرب بعنف متسارع جريد ضلوعي.

العتمة غلَّابة. يضمر الضوء وتنزل الحركة إلى درجتها الدنيا. الساعة تجاوزت منتصفَ الليل. أقفرت الشوارع من المارَّة، والصمت يُسمَع في الحارات. لا قطط تتعارك، لا كلاب تنبح. سماءٌ بعيدة النجوم، داكنةُ الزرقة، ترسل ضوءًا شاحبًا. همهمةُ الريح خلف النوافذ. تلوح شواشي الأشجار كأشباح غائمة تتخبط، مشكلة جنيات وعفاريت ومردة تسكن دهاليز الذاكرة. وكأني في الصمت المطبق أراهم ينحدرون في الطريق. أسمع خفقات الحياة ووجيب قلوبهم.

حين عبرت الشارع الفاصل بين المقابر وبيتنا عرفتها. أوقن الآن أنها هي. أتذكر كم كانت امرأة جميلة. الوجه القمحي المدور المائل قليلًا للسمرة. العينان البنيتان الواسعتان المكحولتان يطل منهما عتبٌ فادحٌ. جدائل شعرها المصبوغ بالحناء تنهمر ناعمة مصقولة على الكتفين. استدارات وانحناءات جسدها اللين وردفاها الممتلئان دون ترهُّل، تسير بتؤدة في الشارع الخالي. ثدياها قائمان مكوَّران بكبرياء ونعومة، يهتزان تحت النسيج اللدن. منيرة، هتف صوت في داخلي فكدت أصرخ. العروس جارتنا القديمة. جاءوا بها من الصعيد. بالكاد تبلغ السابعة عشرة من عمرها. زوجوها. كانت مثار تندُّر وحَسَد جاراتها. وهي كانت ترى في ذلك مجدها. تختال عليهم بجمالها البكر، جسدها الفائر ونزقها الطفولي. تخرج للحارة تنتظر بائع “غزل البنات” و”نبوت الغفير” و”العسلية”. تقعد على عتبة الدار تأكل بتلذذ ونهم طفلة حُرِمت كثيرًا. كان الجيران حين يسمعون وشيش وابور الجاز وفوقه حلة ملآنة بالماء يعرفون أن زوجها المجند قد جاء في إجازة. يتغامزون فيما بينهم وتنطلق ألسنتهم بوقاحة وبلا خجل. تنتهي إجازته ويبدأ عراكها مع حماتها. امرأة ثرثارة لا تكف عن خلق المشاكل. فاض بها الكيل، وفي لحظة يأسٍ وجنون سكبت الجاز على ملابسها وأشعلت النار. ماتت قبل أن تصل للمشفى. ظلوا طويلًا يتناقلون الحكايات عنها. يتهامسون أنها تأتي لزوجها في الليالي المقمرة، وأنه استولدها أطفالًا هم هذه القطط السوداء مقطوعة الذيل. يجوسون في الحارات ليلًا، يرفعون أغطية الحلل ويسرقون قطع اللحم.

وكأنها ما ماتت محترقة منذ عشر سنين. وكأن الزمن لم يمر عليها. ابتسامتها الطفولية ترتسم على شفتين مكتنزتين فيتورد الخدان. تتوارى في الحارات والأزقَّة وتغيب عن بصري فينخلع قلبي ويغمرني عرق بارد. أعلم أنها الآن في الطريق إلى بيت زوجها. تتلصَّص على زوجته الجديدة. تنظر بأسى لسريرها العالي ذي الأعمدة النحاسية وداير التل الأبيض، وقد شغلته امرأة غيرها. تتحسس أثاث البيت الذي كان لها. تأكلها الحسرة، ويكبر في داخلها جرحٌ حزينٌ غائر.

يتوالى خروجهم في جوف الليل الخالي، وأنا مُسمَّر خلف النافذة. يشملني الخوف وتعتريني حيرة خرساء.

وكأني به يلقي السلام. يطوف بي فتحلق روحي في السماوات السبع. يأتيني صوته من زمن قديم. صافٍ نقي. يسري في كياني ويغزوني حتى الحشا. بلثغته المحببة والوحمة المطبوعة أعلى الخد الأيمن.

“نبيل” رفيق الصبا ومدارج الشباب. أول المنذورين للموت في شلتنا. كنا نعابثه بلقب “أبو لطعة” فلا يغضب. يبادلنا القفشات بروح مرحة تفيض عذوبة وودًّا. هاجمته العلة مبكرًا. صار القلب عليلًا. ظل يصابر علته ويلتمس لها الدواء. تكاثرت عليه العلل. استسلم لها ومضى مخلفًا في القلب حسرة، ولوعة لا تطفئها الأيام.

كان يمتلك ذاكرة برية. تسكنها الحكايات والأغاني وعديد المحزونين وقصص الأمهات في أماسي الشتاء الطويلة. يفتحها ويفيض علينا. ينثر حبات قلبه بين أيدينا. وحين يحكي أحدنا كانت لديه القدرة على الإنصات إلى ما لا يُسمَع من صوت الإنسان في دواخلنا.

شابان لاهيان كنا– أنا وهو– ينهكنا التجوال في شوارع القاهرة القديمة ببيوتها الطيبة. نميل إلى أقرب مقهى نلتقط أنفاسنا، نشرب الشاي بالنعناع، يدخن الشيشة بشراهة وشغف– رغم تحذيرات الأطباء– قبل أن نواصل المسير.

ضربته الحياة كثيرًا، أحبطته، ولانت له قليلًا. كان عليه أن يدور معها ويتحايل عليها. ترس صغير في آلة ضخمة لا تكف عن الدوران. إذا ما توقف يومًا فإنها النهاية؛ سيقذف به بعيدًا ليحل محله ترسٌ أشد بأسًا لم تتحطم أسنانه بعد. يستطيع الدوران دون أن يتوقف يوما ليسأل: لماذا؟ وأين؟ وكيف؟

وهو ما كان يملك إلا أن يسأل: لماذا؟ وأين؟ وكيف؟

وما كان يحتوي بين جنبيه سوى قلب نقي معذب، وصوت حزنه في مواجهة تقلبات الوجود. عاش الحياة حتى آخر قطرة. حتى آخر نقطة على سطرها قبل أن يؤذن لورقته بالسقوط. وحين رحل حمل معه حياة كاملة.

ها أنا أراه الآن يطوف بالحارات والدروب ربما ليقول وداعًا لشيءٍ ما أو شخصٍ ما نسي أن يودعه أو لم تمنحه الظروف الفرصة المواتية ليقول له: وداعًا. فهو عندما غاب لم يعرف لماذا كان عليه أن يغادر هذا العالم الرائع نازحًا إلى عالم قيل له إنه الأفضل.

الظلمة تشف وتتوارى. يتسلل النور رويدًا رويدًا. يقبل الفجر وئيدًا. يمتلئ صدري بدقات قلبي العالية وأنا أرى، على قمم الأشجار وبين أوراقها الكثة– داكنة الخضرة– المتراكبة في الظل والنور، أسرابًا من طيور سوداء، طويلة الجسم، كثيرة، كثيرة بلا عدد، واقفة، صامتة، مناقيرها مطبقة ومشرعة إلى الأمام. الحارس الليلي بحلته السوداء أزرارها الصفراء تومض وتنطفئ، يتناهى إليَّ وقعُ قدميه الغليظتين على أسفلت الشارع.

وكمن ينتزع قلبه من بين ضلوعه، أراهم الآن يعودون. عيونهم معلقة بالبيوت النائمة. خطواتهم هامسة. ينحدرون في الطريق إلى الممر الضيق، فرادى كما خرجوا أول مرة. يذهبون لكي يستريحوا من أتعابهم، ثم يعودون ليواصلوا جولاتهم الليلية.

————————-

والصبح إذا تنفّس. قصة: صفوت فوزي

صفوت فوزي

ورأيتُني طفلًا هزيلًا أخضرَ العود، يغالبُ خوفَه، يتعلقُ بأهداب فرحةٍ ضنينةٍ تتوهجُ في داخلي. أنفَلِتُ من زمتة الحيطان الخانقة، أمسك بذيل جلبابي في أسناني وأقول يا فكيك، أتقافزُ فرحًا كجدي صغير، أتسمَّعُ وقعَ أقدامي هابطًا درجات السُّلَّم الحجري المتآكل. شرخة ضوء هزيل تشق عتامة بئر السلم. القطط الجرباء الجوّابة ماءت بوحشيةٍ وانفلتت هاربة، وأنا مروَّعٌ بفزَعِ الصغار، أسمع دقات قلبي تضربُ صدري كمقرعةٍ. أعدو في الحارات الضيقة الساكنة المعتمة في غبشة الفجر. أتفادى بِرَك الماء الصغيرة التي تجمعت من مطر الليل، والكلاب الهاجعة لصق الجدران، والفئران النشطة تطاردها عِرس دؤوبة متوفزةٌ. أراها فيرتجفُ بدني ويتداخل بعضي في بعضي وأواصل الجري. أتطلع إلى سماءٍ حليبيةِ اللونِ، والقمر ابن أربعة عشر يفرش ضَوءَه على البيوت النائمة، رمادية ومتربة. أعب ملءَ صدري من هواء الصبح النقي. قدماي طيعتان، وروحي في خفة طائر محلق. على سطح قريب يطير الحمام ويحط على القش والأفرع الجافة.

استمر في القراءة والصبح إذا تنفّس. قصة: صفوت فوزي

امرأة..قصة :صفوت فوزي

من المجموعة القصصية الآن أبصر

ولقد أتى على قريتنا حين من الدهر، استنامت فيه إلى أن العيبة لا تخرج منها؛ فصارت تختال على القرى المجاورة بصلاح رجالها، زينة شباب القرى. تمادوا في غيِّهم. يمشون في الطرقات خافضين أبصارهم كالبنت البنوت، وفي المساء يتلصصون على النساء من شقوق الأبواب وشيش النوافذ.

استمر في القراءة امرأة..قصة :صفوت فوزي

العزف على أوتار الوجع في قصص / صفوت فوزي

محمد عبد القادر التوني                                                    

استطاع الكاتب في مجموعته ”  الآن أُبصر ” الصادرة سلسلة إبداعات قصصية بالهيئة المصرية العامة للكتاب 2021 م أن يستحضر روح القرية المصرية المتمثلة في قريته في فترة زمنية بعيدة وتقريباً في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي ؛ فصور لنا ملامحها بما التقطته عدسة طفولته من مشاهد عاشها أو سمع عنها في حكايات الكبار ، وقد صورها تصويراً دقيقاً بارعاً ؛ فكنت وأنا أقرأ المجموعة كأنني أقرأ طفولتي في قريتي ، إذ أن ملامح القرية المصرية كانت تتشابه إلى حد كبير في عاداتها وتقاليدها ومستوى معيشتها وخرافتها .

استمر في القراءة العزف على أوتار الوجع في قصص / صفوت فوزي