“الآن أبصر”..ومواجهة نسق الخوف..مرڤت يس

قراءة في المجموعة القصصية الآن أبصر للكاتب صفوت فوزي

الخوف وحش داخل ذواتنا نواجهه طول الوقت ، من منا لايكمن بداخله رعب دفين، خوف من مجهول ، خوف على أبناء، قلق من واقع مرير، هواجس تنتابنا من حين لآخر تظهر في أحلامنا ،كتاباتنا مع أي مثير يستدعيها، فهى جزء من كينونة الإنسان وصيرورته في الحياة ؛ لذا كان من الطبيعي أن تجد تلك المشاعرطريقها إلى الأدب، بم إن موضوع الأدب في الأساس هو الوجود الإنساني.  وكثير من الأعمال الأدبية كان الخوف بطلها الأساسي . تلك المخاوف كما لها وجهها السلبي  – حيث من الممكن أن يكون غير ضروري  فيصبح الانسان حذرا اكثر مما يجب – فهى أيضا  لها وجهها الإيجابي فهي تأتى إلينا لتحمينا وتحذرنا من خطر متوقع، فتشحذ احاسيسنا ووعينا بكل شيء يحيط بنا لنتمكن من مواجهته والاستعداد له فهو اذا نوع من المقاومة للبقاء ، ولمواجهة مستجد يثير التهديد .

تطل مشاعر الخوف بشكل  بارز في قصص “الآن أبصر “الصادرة عن سلسلة إبداعات قصصية بالهيئة العامة للكتاب  للكاتب صفوت فوزي،  حيث تختبيء  في النصوص بشكل عام وبشكل خاص داخل كل نص قصصي بما يلائم حبكة القصة. فأبطال قصصه يسيطر عليهم هاجس الخوف  بدأ من الطفولة كالخوف من العتمة التي تظهر في أغلب نصوص المجموعة فيلعب الخوف دورا أساسيا في تكوين تلك الشخصيات وعلاقتها بالآخرين ومواجهة المجتمع  هذه التيمة المسيطرة تجعل هناك وحدة موضوعية بين كل نصوص المجموعة فتصبح أقرب لشكل المتتالية القصصية . بمايجمعها من وحدة موضوعية هي نسق الخوف المهيمن على ذوات النصوص.

قبل الانتقال للكيفية التي ظهرت بها تيمة الخوف داخل القصص كان هناك ملاحظة في غاية  الأهمية أوحى بها عنوان المجموعة ” الان أبصر” ولماذا الان تحديدا ؟  هذا العنوان الرئيسى يعكس أهمية قصة “الأن أبصر” التي اتخذ الكاتب من عنوانها عنوانا للمجموعة ككل،  فهل المقصود  هنا فعل البصر أم البصيرة؟ وهل العنوان الرئيسي مرتبط بعناوين النصوص بما يمكن اعتباره عتبة رئيسية  للمجموعة وعناوين القصص هي عتبات صغرى  مرتبطة بها. القراءة وحدها الكفيلة بالاجابة على هذه التساؤلات

نلاحظ أيضا أن أغلب نصوص المجموعة تدور في أجواء حلمية فالمخاوف الكامنة داخل النفس البشرية تجد في الأحلام متنفسا لها من ناحية وتمنح الكاتب فضاء أوسع للتعبير من ناحية أخرى

في قصة ” الآن أبصر”

تدور القصة في أجواء حلمية لذات ترى نفسها طفلا بصحبة والده يشاهد من تحت سرير خمسة رجال يؤدون الصلوات يقرصه الجوع فيتناول قطعا من الخبز اليابس،

تستمر الأجواء الحلمية التي يرى البطل فيها الأب يفتش في جيوبه، كتبه، يمزق أشعاره، يضغط عليه كثيرا لارجاعه عما يدور في رأسه ربما شفقة عليه قائلا : “عيونُكَ تقفزُ فوق المستقبل لترى، والرؤية عذاب”.

تلك الرؤية هي الرغبة في المعرفة التي يقصد بها أنه كلما اذادات المعرفة زاد الشقاء، فالانسان منذ وجد وهو يتوق إلى اسئلة تتعلق بهذا العالم الذي يبدو عدائيا ومرعبا فكانت الحكايات الأسطورية والدينية والخرافية بمثابة مرآة تنعكس عليها كوابيس ورغبات اللاوعي لهذا الكائن البشرى القلق الحائرباستمرار .

“صرت الكاتبَ والمكتوبَ، تضنيني “كيف” و”لماذا”، تسلب من روحى السكينةَ والهدوءَ، تلقيني على نصلِ سكينٍ من أسئلةٍ لا حدودَ لها ولا جواب، أنقب وراءها، أتقصَّى عروقَ الوجعِ لأكتبَك وأكتبَني، أواجه بها سارقي النور من عيون النهار، أشعلها قنديلا يضيء مساحاتِ العتمةِ في الشَّوارع المنهكة.”

تطل هنا مشاعر الخوف من العتمة  العتمة هى المجهول في غموضه  فتسيطر على الذات مشاعر الخوف من الوحدة، من كثرة الأسئلة،  والشوق إلى طمأنينة طفل كان يمنحها له الأب الراعي مصدر الأمان ، فتتسرب تلك المشاعر من خلال الأحلام ، التي يرى السارد فيها الأب يطلب منه كتابه كل شيء يراه ، فالكتابة هنا فعل مواجهة للخوف الكامن داخل نفسه ، تمنحه البصيرة، تلك البصيرة التي أحال إليها  عنوان القصة “الآن أبصر” عتبة  فتنجلي بها العتمة، الخوف الداخلي .

” صامتين كنَّا؛ إذ لَم يَكنْ أبي قَد تكلَّم بَعد. فَتَحَ فاه قائلًا: “اكتُب كلَّ ما ترى”. ولم أكن أرَى شيئا. فلما انداحت العتمة، أبصرتُ كلَّ شيءٍ، واختفى هو.”

 في قصتي “الخروج ”  و ” والصبح اذا تنفس” أيضا حالة انزياح العتمة ببزوغ الصباح كما يتضح من العنوان كعتبة لقراءة النص. والخروج من حالة الرعب الداخلية بمواجهتها طوال الوقت .يقول في قصة “والصبح إذا تنفس”

” رأيتني طفلًا هزيلًا أخضرَ العود، يغالبُ خوفَه، يتعلقُ بأهداب فرحةٍ ضنينةٍ تتوهجُ في داخلي. أنفَلِتُ من زمتة الحيطان الخانقة، أمسك بذيل جلبابي في أسناني وأقول يا فكيك، أتقافزُ فرحًا كجدي صغير، أتسمَّعُ وقعَ أقدامي هابطًا درجات السُّلَّم الحجري المتآكل. شرخة ضوء هزيل تشق عتامة بئر السلم. القطط الجرباء الجوّابة ماءت بوحشيةٍ وانفلتت هاربة، وأنا مروَّعٌ بفزَعِ الصغار،”

تأتي مواجهة الخوف الكامن في النفس البشرية و الذي مصدره موروثات الطفولة من حكي الجدات عن الأرواح والعفاريت وحكايات الرعب التي حكتها الجدات عن ماكينة الطحين التي لايدور حجرها إلا على دم طفل صغير، الرعب من المقابر القديمة  منذ وقت مبكر، فتتشكل من جديد تلك القصص في المنامات على شكل أحلام تؤرق ليل الأطفال  .

“أسمعها فتنتصب أمامي كلُّ مخاوفي من الظلامِ والعفاريت السارية فيه المتشكلةِ في كلِّ الصور؛ حمير، أرانب، بشر، وقطط سوداء مقطوعة الذيل”

تختفي مشاعر الخوف هذه مع انزياح العتمة وتمكن الذات من مجابهة تلك المخاوف فكان العنوان أيضا مفتاحا لقراءة النص

في قصة ” امرأة ” العنوان جاء نكرة للعموم فهو لم يحدد امرأة بعينها فالحكاية حكاية الكثير من النساء الذين يتعرضن لوحشية المجتمع وجبروته طوال الوقت

لكن الخوف هنا كان قرين الجبن جبن أهل القرية وزيفهم الذين يرمون بأسباب فشلهم وعجزهم على امرأة وحيدة لاذنب لها …فيكذبون الكذبة ويصدقونها تحت تأثير غيرة النسوة منها وشهوة الرجال لها .

“تسكن مطمئنة في بيتها العالي على أطراف القرية، تطل على الخضار المنبسط في الأفق ونخلتها السامقة خلف الدار. تتهادى في الحارات والدروب عفية ممشوقة القوام. رداؤها الأسود يتماوج مع النسمات، وطرحتها السوداء تؤطر وجهها الطري الجميل. تحاصرها العيون النهمة، تتربص بها من خلف الأبواب المواربة في الحارات والأزقة الفائحة برائحة العطن والعرق، والتوابل، والبخور. تمضي واثقة غير مبالية فتأكل الغيرة قلوب النساء، وتمسك النار بأطراف جلابيب الرجال حتى تصل إلى شواربهم. يشتهونها سرًّا ويلعنونها جهرًا.”

فيتوهمون بغباء أن حل مشاكل القرية تكمن في الخلاص من تلك المرأة ، لكنها في نهاية النص تقف شامخة كنخلتها أمام دارها في مواجهتهم عارية تكشف زيفهم وخوفهم المضمر منها .

في قصة ” في حضرة الغياب ” العنوان كاشف لمضمون النص وهو حالة الوحدة ووجع الفقد ، يخيفان البطلة بعد غياب زوجها ولمواجهة خوفها تركن إلى أحلامها طوال الوقت  تستدعي فيها الحبيب الغائب، تستأنس به تعوض حالة الغياب الموجعة

” كل الأشياء تذكرني بك وعبثًا أحاول أن أقنع نفسي بأنك رحلت وأنك لن تطل عليَّ بعد اليوم لتقول لي: يا صباح الخير ياللى معانا. ملابسك المعلقة في مشاجبها، جواربك المبعثرة في رفوف الخزانة، كتابك المفتوح، فنجانك الفارغ. كل شيء يقول إنك كنت ها هنا فكيف لي أن أعرف أن الموت كان يتربص بك وأنه كان يشرب الشاي في كأسك. وكيف كنت سأعرف أن الوقت المتاح لنا قصيرٌ إلى هذا الحد؟ كم حلم عليَّ أن أحلمه لألتقيك ذات وهم؟”

في قصة “همس الحيطان ”   الخوف هنا تمثل في الفجيعة من اختفاء الأشياء التي ارتبط بها البطل منذ الصغر كشجرة الجميز الذي افجعه اختفاءها  ففي وجود هذه الأشياء مايرمز إلى الطمأنينة والونس  والوضوح .

” أؤوب إلى المكان الذي تعلق قلبي به. زحف الإهمال إليه وحاصره. يفجعني اختفاء الجميزة العجوز. الحيطان تغيرت. تاهت ملامحها الداخلية. ضاع الأصل الذي كان”

تلك الحيطان تهمس بحزن تصدر عنها روائح عطنة  كامرأة مسنة بيضاء الشعر تفيض ألما ولاتبوح

” أغوص في حنين أسد به شروخ ذكرياتي. كأني أريد الآن أن أبكي حتى أخفف من هذا التوتر الحزين الذي لا أعي مصدره. أسير كمن ضرب على رأسه. أدرك الآن أني كبرت، وأن الأماكن أيضًا تشيخ، تمرض، تحزن، تبكي، ولا أحد يسمع بكاءها”

قصة “عزف منفرد ” اتخذ الخوف منحا آخر الخوف من الكبر والتقدم في العمر تبدأ القصة

“نكبر فتضيقُ بنا الطُّرُقات. تفتحُ صدرَها الواسع للممتلئين شبابًا وحياةً، وتُزيحُنا نحنُ إلى جوانبِ الطريقِ. غزَا الشيبُ هاماتِنا، تهدَّلتِ الجُفونُ، وتغضَّنتْ منَّا الوجوهُ. مِنَّا مَنْ صَارَ جَدًّا ومنَّا مَن ينتظر. حياتُنا رتيبةٌ ينخُرُ فيها المللُ. تحاصِرُنَا هواجسُ الوحدةِ، وفرَاغاتُها التي لا تحد. نقضمُ الصبرَ ونتجشَّأ الفراغَ. نكسر طعمَ الأيامِ المالحةِ بالتَّلاقي”

في قصة ” رجع الصدي ” أجواء القصة حلمية أيضا  حيث مخاوف بطلة القصة الفتاة التي تعيش بمفردها مع والدتها تخاف من وحدتها وعيون الآخرين المصوبة لها نهارا في موقف السيارات حيث تبيع لهم الشاي فتأتيها هواجسها ورعب النهار في أحلامها، تصرخ فيرتد  لها صدى صوتها مبحوحا مشروخا

عارية تأكلها عيونٌ نهمة. ألسنةٌ طويلةٌ لزجةٌ تمتدُّ تلعقُ جلدَها في نشوةٍ مهتاجة. يتحلقون حولها في رقصة وحشية. تتعالى أصواتهم ويزداد هياجهم. تضيق حولها الدوائر وتستدق حتى تصير كثقب إبرة. وحيدة– كما قُدِّر لها منذ زمنٍ بعيد– تتقاذفها ريحٌ جموح. ترى نفسها وقد استطالت أظافرها، نبتت لها مخالب تخمش بها الوجوه القميئة. تدافع عن جسدها المستباح. تدور وتدور تدفع أكداس الظلام. تصرخ بأعلى صوتها. يرتد إليها الصدى مشروخًا مبحوحًا كأنين ناي مُعذَّب يقف عند حافة السماء وحيدًا.”

وكألية لمواجهة مخاوفها  والعيون المتصلصة التي تنهش جسدها ترتدي ملابس الرجال وقيدت شعرها بالبنس  وأحكمت إخفاءه بغطاء الرأس وأحكمت سجن  مفاتن جسدها بملابسها الفضفاضة  وتتصرف مثلهم حتى أطلقوا عليها”نادية الدكر” فكبتت وجعها وأنوثتها التي تجد متنفسها في أحلامها

وهكذا سيطرت تيمة الخوف على كل قصص المجموعة فكانت هي الوحدة الموضوعية التي ربطت بين النصوص جميعا

أضف تعليق