أرشيف الأوسمة: طارق إمام،

سرد الأحلام..(ملف خاص): إعداد: مرفت يس

عن الأحلام سألوني..سيد الوكيل

لا أدرى إذا كانت الأحلام غريزة من غرائز الكائن الحي؟ صحيح أن بعض التجارب العلمية أكدت أن الحيوانات يمكنها أن تحلم أيضا، غير أن أحدا منها لم يخبرنا بما حلم، وربما لم يفكر فيما حلم عندما يستيقظ.. لهذا فثم اعتقاد أن طبيعة الحلم عند البشر ثرية ومتنوعة بثراء وتنوع الوجود البشري. الأحلام هكذا، أشبه بملفات مخفية نسيناها في غمار الحياة، تظهر فجأة على سطح المكتب، وفق آلية عمل ذاتية للجهاز العصبي.. لهذا هي وجود حي بداخلنا، ضاغط وملح، بما يجعلها أقرب ما يكون إلى الغريزة. لكن الفرق بين أحلام الحيوانات وأحلامنا، هي طبيعة إدراكنا لها. وهذا الإدراك هو عمل الوعي البشري، إنه في تطور دائم، متفاعل مع الخبرات والمعارف التي مرت بها رحلة الوجود الإنساني منذ خلقه الأول.

الإنسان البدائي عرف الأحلام، لكنه خلط بينها وبين الحقيقة، لدرجة أن بعض القبائل البدائية كانت تعاقب رجلا يحلم بمضاجعة امرأة جاره، بل ويمتد العقاب إلى المرأة كونها ذهبت إليه في الحلم.

مع إدراك الإنسان بوجود قوى إلهية عليا، أخذ الحلم بعدا ميتافيزيقيا. وتحكي لنا الأساطير، عن ملوك سارعوا بقتل أطفالهم، بعد رؤية في حلم بأن هذا الطفل سيقتل أباه يوما، أو بعد فتوى من عرافه بأن ( أوديب ) سيقتل أباه ويضاجع أمه.

لقد رسخت الكتب السماوية هذا المعنى عن الحلم بوصفه نبوءة، فثم أنبياء ألهمتهم الآلهة بنبوءات وحملتهم رسائل، صارت حقائق. هكذا ظل ارتباط الحلم بالحقيقة سعيا بشريا حتى الآن، وكأن الحلم، أداة من أدوات المعرفة.

لقد أفضى هذا الاعتقاد الراسخ بواقعية الأحلام، إلى علوم متخصصة في تفسير الأحلام.. إذ كان اليقين بواقعية الأحلام الذي كتب به ( ابن سيرين)  تفسيره، هو الذي منحه حق الوجود حتى الآن،  وبعد مضى ثلاثة قرون على ثورة العلم، الذي نقل الحلم من فضاء الميتافيزيقا إلى فضاء علم النفس، ثم علم الدماغ، حيث تمكن ( سيجموند فرويد )  من ربط الحلم بالواقع الداخلي للحالم، فبدلا من السعي إلى تفسير الحلم نفسه، أصبح الحلم وسيلة لتفسير السلوك الإنسانية، والظواهر والأعراض النفسية التي يعانيها الحالم. وهكذا لم تعد الأحلام مجرد نبوءة ترغب في التحقق، بل حقيقة ترغب في التعبير عن نفسها.

والآن.. إذا كان الإبداع الأدبي هو حراك داخلي، قلق ومتوتر، يرغب في التعبير عن نفسه، وإعلان وجوده في صيغة من صيغ التعبير التخيلي، فما الفرق بين الحلم والإبداع إذن؟؟

الحلم كما يقول ( إيريك فروم ) هو إبداع الحالم.  الحلم هكذا مادة إبداعية نفرض نفسها علينا في النوم، ولا يمكننا تجاهلها في اليقظة.. تلك آلية عمل قريبة من آلية عمل الكتابة الأدبية، فتجاربنا الواقعية التي حفرت عميقا فينا، نكتبها في قصصنا ورواياتنا، عبر منظومة من الأخيلة والرموز والعلامات، فتصبح شيئا محاكيا لما حدث في الواقع، ولكنها ليست الواقع بالتأكيد.

 لهذا.. فكما سكنت الأحلام أساطير الأولين، سكنت روايتنا، وقصصنا، ومسرحياتنا، وأفلامنا، ولوحاتنا التشكيلية… بل سكنت ( بوستاتنا ) على شبكات التواصل الاجتماعي. فمطلقو الإشاعات ضد الأنظمة السياسية، والمروجون لها، يعبرون فقط عن أحلام مجهضة عجزوا عن تحقيقها.

***

نخصص هذا الملف عن علاقة الأحلام بالإبداع الأدبي. وهي علاقة قديمة، تبدأ كما أسلفنا مع الأسطورة، بوصفها كيانات حكائية، كما نجدها في أشكال السرد الفني القديمة ( ألف ليلة وليلة ) على سبيل المثال. ثم نجدها في الرواية الحديثة منذ ديكاميرون  ودون كيخوته، وها هي، في القصة القصيرة، تصبح فنا أدبيا مستقلا على نحو ما يستهدفه هذا الملف.

هل يعني هذا أن ثمة فارق بين الحلم في الرواية والحلم في القص؟

هذا ما نعتقد.. فالحلم في الرواية له وظيفة في خدمة الفضاء الروائي، وتوسيع أفقها الدلالي، ومن ثم يظل أثره محدودا بتحقيق وظيفته، وبعدها يذوب داخل الفضاء الروائي، بوصفه عنصرا من عناصره.. أما في القصة القصيرة، ونظرا لطبيعة الوحدة الموضوعية لها، وكثافتها، فالحلم ليس عنصرا فيها بل هو القصة نفسها. إنه يطمح إلى إبراز أخيلته، ورموزه، وآليات إنتاجه، بل وقدرته على تشكيل الأبعاد الزمكانية  والشخصيات بما يكسبها أبعادا متجاوزة للواقع.  

عندما كتب نجيب محفوظ ( أحلام الفترة الانتقالية ) أعطانا مشروعية، أن يكون الحلم فنا سرديا مستقلا، يقف إلى جوار القصة القصيرة، يمكن أن نسميه حتى الآن ( سرد الأحلام ).. لكن المغامرة الأولى – عند محفوظ – لكتابة الأحلام في ذاتها، كانت عام 1982 م تحت عنوان ( رأيت فيما يرى النائم ) ويمكن ملاحظة رغبة الراوي في الإخبار ( اللغة الإخبارية) التي تشابه لغتنا عندما نستيقظ من النوم ونخبر شخصا ما بما حلمنا كأن نقول ( رأيت في منامي أنني أفعل كذا وكذا.. إلخ) ومن ثم فهي مجرد حكي للحلم يستسلم للطابع الإخباري، محدود الأثر الدلالي على نحو ما نجد في رواية ( حديث الصباح والمساء) حين يرى (يزيد المصري) في المنام  شيخه القليوبي جالسا في المقابر، يدعوه لأن  يقيم خلوته له في المقبرة المجاورة لمقبرته. بسهولة ندرك إن الحلم هو عتبة لموت يزيد المصري. تلك هي وظيفة الحلم في الرواية. أما في (أحلام فترة النقاهة ) فلم يكن لقاء الراوي ( بالست عين)  في ( أفراح القبة) خبرا يخدم دلالة مغايرة، بقد ما كان تجسيدا لحضور حقيقي، هو موضوع النص. إنه حضور نلمسه شكلا وموضوعا وشعورا. نقرأه وكأننا نراه، أو وكأننا نشارك الراوي حلمه. فلا شيء قبله، ولا شيء بعده، ولا مُدخلات خارجية فيه، تسعى لتفسيره،  أو التعليق عليه.إنه حضور فحسب. هكذا يظل الحلم مكتنزا بطبيعته التي نراه عليها،  بلا معقوليته، وألغازه، وشطحاته الغرائبية المفارقة للواقع. بما يعطي للقارئ وحده، حق اقتناص الدلالة، من بين براثن اللاوعي الجمعي الذي يسكننا نحن البشر. إن الحلم مقصود لذاته في ( أحلام فترة النقاهة) على نحو ما يفصح العنوان، بوصفه نصا قصصيا مكتملا بذاته، وليس مجرد تقنيه في خدمة فضاء سردي أكبر منه. هكذا أدرك نجيب محفوظ أن القالب القصصي، مؤهل بطبيعته لسرد الأحلام.

خلافا للسرد القصصي والروائي، فإن أحلام نومنا  بلا عتبات ولا مقدمات، نجد أنفسنا داخلها فجأة، ونخرج منه كما دخلناها بلا نهايات حاسمة، دونما تحصيل لأي معنى. وعندما نستيقظ نحاول تذكرها ربما يمكننا أن نقف على بعض المعاني، لكن علماء الدماغ يؤكدون أننا لا نتذكر منها سوى نسبه ضئيلة جدا. فالحلم هو نشاط عصبي وظيفته التخلص من بعض الذكريات والصور المخزنة في الذاكرة بما تحمله من مشاعر معطلة مثل مشاعر الذنب، أو الدونية.. الأحلام إذن عملية تطهير للوعي يقوم بها اللاوعي . أي أن القول بأن نجيب محفوظ كان يكتب أحلاما رآها فارغ من المعنى. فلا أحد يمكنه أن يتذكر الحلم، وما نحكيه بعد يقظتنا عن أحلامنا، هو تصورنا الواعي عن نشاط اللاوعي،  والمسافة بينهما واسعة وغير مأمونة، لهذا فإن كتابة الحلم هو خلق إبداعي تماما، ينتجه وعينا الجمالي، وليس توثيقا أو تدويرا لأحلام رأيناها.

لكن.. ما لو أردنا كتابة حلم رأيناه بالفعل؟

تخيل أنك تمشي في شارع مظلم تماما، وفجأة ومض ضوء خاطف واختفى، فإن كل مار رأيته هو انطباع عام عن شارع ما، أما إذا طلب منك أن تصفه، فإن خبراتك السابقة بالشوارع  ووعيك بمحتوياتها، هي التي ستكون أدواتك في الوصف. لهذا فإن ما تصفه سيكون من إبداعك أنت، ويخصك أنت وحدك. كذلك ما نكتبه بوصفه أحلاما، هو إبداعنا الذي يخصنا.

أما إذا كانت فكرتنا عن آليات كتابة الأحلام غير واضحة، فعليك أن تقرأ هذا الملف، ففيه وجهات نظر، وطرائق مختلفة في فن كتابة الأحلام، وكعادتنا ندرك أن الاختلاف ليس خصومة، بقدر ما هو سمة تفاعلية، توسع فضاء الإبداع.

 

الجزء الأول

: مقالات عن الأحلام

فدوى العبود

الحــــلم والشيــــفرة الســريّـــة للمعرفــة والــوجود

سيد الوكيل

فن كتابة الأحلام ..تأسيس نظري : سيد الوكيل

الجزء الثاني:

نماذج من سرد الأحلام

نجيب محفوظ

الحلم 16..من المجموعة القصصية : رأيت فيما يرى النائم

حكاية الرجل الذي لم يحلم أبدًا..طارق إمام

رغم الظلمة …رغم النوم..طارق إمام

كنت أضحك في حلمي….قصة : رءوف مسعد

الجمعية …قصة: حلمي محمد القاعود

برج الحمار: قصة: عبدالقهار الحجاري

نصوص في لمح البصر…سيد الوكيل

رجل وحيد يخشى الأحلام…قصة :أحمد أبو خنيجر

الحلم الذي لن أرويه لجدتي…قصة: صفاء النجار

قصر الأموات قصة : شريف صالح

علاء الدّين وامرأة تحلم..قصة: روعة سنبل

كشوفات مصطفى يونس

الحلم ..قصة : مصطفى لغتيري

أطياف محفوظية…عبير سليمان

الجزء الثالث

قراءات نقــدية في نصـــوص الأحــــــلام

دمحمود الضبع

البنية والتجريب في أحلام نجيب محفوظ

 

اعتبرني حلما فدوى العبود

اعتبرني حلما :مقولة كافكا الشهيرة عندما قضى ليلة في بيت صديقه ماكس برود، ودخل بالخطأ غرفة والد ماكس ، وفزع الرجل ، فما كان من كافكا إلا أن انسحب بهدوء معتذرا وهو يقول له تلك الجملة التي استلهمتها الكاتبة فدوى العبود عنوانا لقراءتها في نصوص الأحلام و نشرت في كتاب الديكاميرون  2020الذي أعدته الكاتبة السورية روعة سنبل وقدمت له قراءات نقدية فدوى العبود.  اقتبس الكتاب اسمه  من عنوان رواية (الدّيكاميرون) للكاتب “جيوفاني بوكاشيو”؛  التي تسرد قصّة مجموعة أشخاص هربوا من الطاعون، واختاروا -وهم في خلوتهم في منطقة ريفية- أن يسردوا في كلّ ليلة قصصًا تخفّف عنهم عناء الوجع، فتكون الحصيلة كلّ صباح عشر حكايات،ومن هنا جاءت فكرة الكتاب عن جدوى الحكاية وهل هي مجدية؟ “فكانت  هذه النصوص  إجابة   صريحة  عن دور الحكي  في المقاومة .احتوى على  خمسين نصاً قصصياً اندرجت  تحت ثيمات خمس هي “المرايا” و”القطارات” و”الحبال” و”الفقاعة” ويختتم الكتاب بثيمة “الأحلام وتحتوي على تسعة نصوص لمجموعة من الكتاب  هم زهير كريم ، هبة شريقي، مهند الخيكاني ، غفران طحان، نبأ حسن مسلم ، صلاح حيثاني، حنان الحلبوني، زوران جيكوفيتش، سيد الوكيل. تبقى  الأحلام كثيمة هي الأمل في الخلاص وتوقع الأفضل عن طريق الحكي ؛ “نحكي لننجو ” “.

كُتاب الديكاميرون

المدد المحفوظي في كتابة الأحلام …ومشروعية الحلم كنص أدبي

نماذج تطبيقية لشريف صالح ومحمود عبدالوهاب

مدد الأحلام …سيد الوكيل

د. خالد عبد الغني

العودة لأحلام نجيب محفوظ آخر أشكال السرد في الأدب ([1])

قراءة في لمح البصر بقلم فردوس عبدالرحمن

الغوص في اللاوعي والبحث عن أسطورة الذات الخاصة

أحمد رجب شلتوت وقراءة في نصوص” أضغاث أنفاس

أحلام نسوة يعانين القهر والاستلاب

مرفت يس .. قراءة في مشاهد عابرة لرجل وحيد للكاتب أحمد أبو خنيجر

المزج بين الأسطورة والحلم في ” مشاهد عابرة لرجل وحيد”

الحلم فى القصة المغربية….الطيب هلو

الإيقاع السردي وحداثة القصة القصيرة ـ إيقاع الحلم نموذجاً

الجزء الرابع

قراءات عـن بنية الحـلم في الرواية

علي كاظم داود

السرد بالأحلام في رواية ” لاريب فيه” لطاهرة علوي

منير فوزي

قراءة في نص (أحلام سرية) للروائي مصطفى بيومي

الحلم في النص السردي بين التخييل والتفنين:

تأويل الحلم عبر الذاكرة في رواية كيميا للكاتب وليد علاء الدين

الجزء الخامس:

قــــراءات

الحلم كهندسة عقلية..عمرو عزت وفن تعبير الرؤيا: محمد عبدالنبي

أدب الأحلام ..قراءة في كتاب عبده وازن “غيمة أربطها بخيط” بقلم حسن عبدالله

” كتاب النوم”هيثم الورداني …عندما تستيقظ الغفوة : طارق إمام

لغة الروح والنفس المنسية ..مرفت يس

كتاب الأحلام بين العقيدة والعلم للدكتور علي الوري ..قراءة صالح البلوشي

” أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها” ( 2)….لـ طارق إمام

البصيرة

كانت كلما نظرت في وجه رجل، ترى عيني امرأة.

تطالع حيرتهما في الأرض الغريبة، تحت الجبهة الخطأ، تتلمس زرقة الدموع المكحولة في بكاء الرجال الذي لا لون له. تبحث عن أحمر الشفاه بين الشارب واللحية، ولا تمل تتبع سراب الضفيرة في سراب القفا.

من يُصدِّق أن كل الوجوه، كل هؤلاء الرجال، كانوا، بالكاد، وعداً بأخرى؟ وكم رجلاً استطاع أن يدرك أن هاتين العينين اللتين تفتشان فيه، ليستا سوى عينيه، عينيه هو، وقد أطلتا عليه أخيراً، مكحولتين، من وجه امرأة؟

موت الأب

لنحيا حقاً معاً، كان يجب أن أعيش كل تلك السنوات التي قطعتها أنت قبل أن أولد. كأنك، لتضمن لي الحياة من بعدك، خصمت حصتي العادلة من ماضينا المشترك.

رغم ذلك، نحن معاً، في اللحظة نفسها، عالقين في تلك الغرفة المعطلة التي يسمونها الحاضر، وكأن السنوات محض مصعد بين طابقين.

نحن معاً: رجلان أنجب أحدهما الآخر وما زال ينتظر أن يصبح، يوماً ما، في نفس عمره.

كيف تربي المدينةُ كلابها

لا أحد يعرف كيف تربي المدينةُ كلابها، كيف تجعلها تقف عند الأبواب الزجاجية للفنادق، أمام واجهات محال الملابس ومطاعم الوجبات السريعة.. تتأمل البشر.. فقط تتأمل، بما يليق بكلاب تربت في المدينة.

لا تنبح في وجه السادة. لا تطلب الطعام. لا تلاحق عشيقين في شارع مظلم بالنباح.

في المدن الصغيرة لا تفوت الكلاب فرصة للانتقام.

في المدن الصغيرة تموت الكلاب في الطرق وتلتهمها القطط.. لكن في المدينة الكبيرة، الكلاب تعرف ماذا عليها أن تفعل لتعيش طويلاً.

حصان في حجم الكف

هناك، في الغيطان الشاسعة، وحيث صحبوني معهم مضطراً، رأيت حصاناً صغيراً، في حجم راحة اليد. كان يصهل، ربما صهيله هو ما نبهني لوجوده، بينما كان يركض أسفل قدمي كحشرة كبيرة، مختفية بين الحشائش القصيرة، التي سيصير عليّ أن أصفها بالعملاقة بعد ذلك كي أذكره. توقف قليلاً، ليلتقط الأنفاس، حيث تمكنتُ من رؤية لجامه الدقيق، وحوافره التي بدا أنها كانت تؤلمه. كنت أفكر في حمله وتأمُّله بين كفي، لكنني خفت أن يكون مسخاً. لقد كان واقعياً إلى درجة لا يمكن معها وصفه، خاصة بعد أن رفع إحدى قائمتيه الخلفيتين وأطلق خيط ماء ساخن تصاعد معه البخار من الأرض الترابية، ثم قذفت مؤخرته بقطع الروث النفاذة.. ثم صهل مجدداً، صهيلاً كبيراً، لا أدري كيف يمكن الآن لرجل صغير أن يصفه.

القصيدة

يحدث أن تفتش في جيب قميصك عن سيجارة، عن قطعة عملة، عن مفتاح بيت غادرته، فتفاجئك قصيدة.

أنت لن تعرف إن كانت القصيدة فاجأتك في قصاصة منسية بقاع الجيب، أم أنها ما تزال  في رأسك التي تفكر في قطعة العملة، في السيجارة، أو في مفتاح البيت.

في جميع الأحوال: القصيدة كتبت.

الوصية

(إلى ابنتي كرمة)

تلك الجوارب الدقيقة الملونة، الأحذية التي تبدو غير حقيقية، التي تشبه اللعب، التي كلما استوعبت قدميكِ كنتُ أشهق للمعجزة. وأصابعكِ، تلك المقتطفات، التي لا تُصدِّق أننا لكي نصل ينبغي أن نمشي.
كل هذه الخطوات هنا، في هذا البيت، في هذه الغرفة، وأنتِ هناك، تكبرين في طفولةٍ أخرى. كل هذه الخطوات المفرغة من صوت لقائها الأول بالأرض، صارت الماضي الوحيد الذي يمكن أن تعرفه طفلة، إرثك الوحيد المتروك لرجل.
كل هذا تركته أقدامُكِ خلفها، ميلاداً مترباً تحت سريري، كأنكِ كنتِ جنيناً فقط في أحذيتِك.

 

 

أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها …طارق إمام

 الحياة

كلما انتقلتُ إلى شقة جديدة، أرى نفس الجار.

أخاف في البداية، أستغرب، لكنه يطلب التعرف إليَّ بترحيب الغرباء بينما يمد بالمصافحة يداً لا تعرفني، وكأننا في تمثيلية مُحكمة من صنعه.

كل مرة، نفس الشخص، لكن باسمٍ جديد، بمهنة مختلفة، بمزاج مغاير، بأُسرة حلَّت من العدم لتحط على كتفي حياته: حياته التي تنتهي للأبد كلما تركتُ بيتاً، وحياته التي تبدأ على عجل مع كل باب جديد أفتحه، فقط ليظل جاراً لي.

الموت

ذات يوم قررتُ أن أستبق يومياتي، بحيث لا أضطر لتحمل ذلك العبء الممل بكتابتها بعد أن تقع.

بدأتُ بمستقبل قريب، كان غداً ما، من السهل تذكره. كان يوماً أقرب لماضٍ منه لمستقبل. وقع بالضبط ما كتبته، كأن اليوم أجهد نفسه بإخلاص ليحاكي ما كتبت، كأن كل ما لم يحدث صار ذاكرتي.

عندما مر الاختبار بنجاح، شجعني على تأمين يومياتي لفترة أطول: أجلس يوماً في الأسبوع، لأكتب ستة أيام قادمة، شاحذاً ذاكرتي، ذاكرتي المستقبلية.

في أي لحظة سأموت فيها، ستكون هناك بضعة أيام قادمة عرفتها حياتي: أيام زائدة، وُجدت بالفعل، ولا ينقصها سوى أن أعيشها.

الطريق

كانت قدماي تصغران كلما كبرت، وأحذيتي تتسع، حتى صرت أتجول فيها،

ولم أعد بحاجةٍ للطريق.

نائم يحلم بنائم

في بعض أحلامي أرى نفسي نائمًا. يرعبني ذلك أكثر من أي حلمٍ آخر: أن يحلم شخصٌ بنفسه وهو نائم، فذلك يعني أن ثمّة حلمًا ثانيًا، لن تتاح له الفرصةُ أبدًا ليعرفه.

العمى

ولدتُ ضريراً، لكن الظلمة ظلت تنسحب من عينيّ كلما كبرت، ويزحف النور.

كان الرعبُ قاتماً كضوء، فيما أُدرك أنني يوماً ما سأستيقظ بعينين مفتوحتين.

لم أكن أخشى أن أرى، قدر ما كنت أعرف أن عودة عينيّ ستجعل مني مرئياً، فنحن لا نرى إلا ما يرانا، وقد وطنتُ نفسي منذ الطفولة على أن الضرير هو شخص كفّت عينا العالم عن رؤيته.

فشل الأطباء، والوصفات المجربة، فشلت الأحجبة والأوراد وأدعية أمي المكلومة، (التي كادت من فرط البكاء تسترد بصرها)، في الإبقاء على ظلامي. حتى جاء اليوم الذي اضطررتُ فيه، لأول مرة منذ ولدت، أن أعبر الشارع دون يدٍ تحتضن يدي.

يدٌ خطرة

هذه اليد، التي تطرأ  دائماً على مشهدك، منفرجةً بتصلُّب أصابعها الخمس، ترجو صدقةً أو تترجى المطر.
يدٌ في صلاةٍ أو حانة، ويجب أن تكافأ، هنا أو هناك، سواءً توسدت راحتها عملتُك أو عملةُ غيرك، وسواء بللها ماءُ الله أو غسيلُ الجارات.
يدٌ لن تستغرب بعد ذلك أن تراها وحدها، فصاحبها يتركها كثيراً لينفق ما قدمته له بالأمس من صدقات، ذلك أنها لكي تعيش يجب أن تظل هكذا، مفتوحةً وشاغرة، مثل فمٍ جائع.. فيما تعول جسداً بأكمله كأنه طفلها اليتيم، مدركةً أن عليها أن تكدح كأم لا يكبر أبناؤها.
دائماً، لدى عبورك، ثمة هذه اليد الخطرة: المفتوحة كرجاء، ثم المضمومة كقبضة.