أرشيف الأوسمة: محسن الغمري

أدب التحولات في قصص القفز فوق السحاب.بقلم: تغريد محمود

             

دراسة في العلاقة الجدلية                            

                       محسن الغمري وتحولاته الدرامية

  

د. تغريد محمود

  1. مـقدمـة :

         القصة القصيرة هي تكثيف اللحظة الدرامية ، فالناس في الحياة يمرون بلحظات يمكن اعتبارها أزمنة تختزل مسيرة الذات، وتستجمع تاريخها النفسي والذهني ، وصراعات الوعي واللاوعي ، إنها لحظات يصل فيها الجدل داخل الذات إلى أعلى درجات صعوده ، ولا يستطيع الانفعال أن يظل سجينا في الأعماق ، مما يؤثر على مسار الشخصية وحركتها في سياق العلاقات التي تصل بينها وبين نفسها من جهة والعلاقات التي تربطها بالآخرين من جهة أخرى.

    إن الحياة في مرجعيتها الاجتماعية لا تسير في خط واحد، وإنما هي محطات من التحول ، واللحظات التي تعد مجالا لعملية التحول هي الزمن الدرامي ، هي الفضاء النفسي المشحون بالصراعات ، وهذه الصراعات تكشف حقيقة الذات وجوهرها وسياقها الاجتماعي ، إنها ثنائية الصعود والهبوط ، تلك الثنائية التي تتأزم فيها الذات وينكشف وعيها الحقيقي أو وعيها الزائف.  

والفن القصصي هو مرصد التحولات الكاشفة لجوهر الذات الإنسانية ، فهو يضع أمامنا صورة لأعماقنا ومن خلال تأمل هذه الصورة ندرك شيئًا من طبيعتنا المتوارية في مناطق بعيدة نحاول أن نخفيها ونهرب منها حتى نستمتع بالاستقرار السطحي الزائف ، مع أن رغبتنا الصادقة مخنوقة ، ووجودنا الحقيقي مقيد ، والصورة المثلى لما كنا نتمناه قد انطمست ملامحها ، إننا نخوض تجربة الحياة دون وعي حتى نعيش اللحظات الدرامية ، فنصبح في اختبار نكتشف من خلاله أن الحياة ليست كما نتصور وإننا في حاجة لمعرفة أنفسنا ونتساءل عن حقيقة ذاتنا ، ونتأمل أنفسنا من جديد ، ويستدعي هذا التأمل خلاصة ثقافتنا ورصيدنا والمحصلة المعرفية للحياة كما انعكست في ذاكرتنا التي تنشط في تلك اللحظات وتمدنا بنماذج من التجا رب الإنسانية ، كان للأدب في غالب الأمر دوره الكبير في تشكيلها ، ونبدأ في رؤية العالم من جديد بعين جديدة ، عين أصبحت تعي جيدا أن التحولات تحدث في كل لحظة ولم نكن نشعر بها ، ونصبح نحن شخصيات درامية ، تعرف معنى الصعود والهبوط ، وترصده في التجارب الإنسانية المحيطة بها ويكتسب العالم معناه الجديد في وعينا ، لأننا أدركنا الطبيعة الدرامية له وعرفنا فلسفة التحولات التي تعد قاعدة أساسية في حركة الطبيعة والنفس الإنسانية على حد سواء .

    ومجموعة القاص المصري محسن الغمري تتأسس على مفهوم التحولات الدرامية أو ثنائية الصعود والهبوط ، ويجد القارئ هذه التحولات بأكثر من نمط ، كل نمط يدل على مرحلة من مراحل وعي الكاتب بالعلاقة الجدلية بين الشكل الفني وتقنياته من جهة وأزمة الإنسان المعاصر من جهة أخرى .

2 – التحولات في جماليات العنوان :

  وضع محسن الغمري لمجموعته تعبيرًا دالًا على وعية بالتحولات وهو القفز فوق السحاب ، وهو عنوان يطرح مفهوم الثنائية الجدلية لحركة الدراما التي يعيشها الإنسان في عالمه الداخلي وعالمه الخارجي أيضا .

 إن القفز حركة لأعلى ، نوع من أنواع الحركة الصاعدة ، لكنه لا يخلو من سلوك انفعالي يتجاوز المنطق ، إنه حركة فجائية سريعة ، وهكذا الإنسان في أحد بعديه ، ذات مندفعة تريد تجاوز موقعها ، أن تعلو ، أن تتخلص من قوانين الجاذبية ، ونقصد بهذه القوانين في هذا السياق مجموعة المعطيات النفيسة والاجتماعية التي تربط الذات بموقعها وتحدد وظائفها في إطار ما تملكه من إمكانات.

      القفز عند محسن الغمري لفظ متعدد الدلالات وهذه الدلالات كلها مرتبطة بمفهوم الحركة الإنسانية المتعددة الاتجاهات ، القفز هو الأحلام بالمتغيرات الطبقية ، بالتواصلات الاجتماعية، بالإشباع العاطفي ، بالحصول على الرغبات المختلفة  ، القفز هو الطموح الإنساني في أن يخترق جدار الواقع والمساحة المتاحة في وجوده المحدود ، والانسان لا يريد أن يعي أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا ، إن كائن مكلف بالوعي العقلي والضمير ، كائن عليه أن يحسب مواقع خطواته ، لكن لا يستطيع أن يحد جموحه ، إنه لا يريد أن يسير ويتأمل وينظر ويسلك سلوكا إيجابيا ينفعه ، ويمكث في الأرض ويفيد البشر من حوله ، إنه  يريد أن يخرج من السياق المقيد بمن حوله وبما حوله ،  يريد أن يقفز ، فوق الأماكن ، فوق الطبقات ، فوق البشر ، مع أنه أحد هؤلاء البشر .

       القفز هو مساحة من الحركة الذهنية أو الشعورية أو السلوكية ، لا تستطيع الوقوف على المساحات الفاصلة بين الحقيقة والوهم ، وهذا ما يجعل من لفظ القفز في عنوان المجموعة منطقة ثرية للدراما السردية التي تعكس صعود الذات ، لكنه صعود انتظاري ، صعود قلق ، صعود اختباري ، هل سيستمر ويتواصل أو أنه سيتعرض لانكسار ؟ إن استمرار الصعود يعني أننا في منطقة الحقيقة ، أما انكساره فيعني أننا قد انتقلنا إلى منطقة الوهم .

        وهذا المعنى يؤكده العنصر الثاني في العنوان وهو المركب الإضافي ” فوق السحاب ” فالقفز يتم في الهواء دون أن يكون هناك المرتكز الصلب الذي يحكم صعوده ويستند القفز عليه، إنه فوق السحاب في ذاك الفضاء غير المستقر المعلق الذي يتعرض دائما للسقوط ، فالحركة الدرامية تنمو في مناطق عدم الاستقرار، وما أكثر هذه المناطق في التكوين النفسي والاجتماعي للذات الإنسانية ، إنها مناطق صراعات الحلم بالواقع والحقيقة بالوهم ، مناطق مختلطة ومتوترة ومتسعة تعيش فينا ونعيش فيها ونحتاج إلى وعي بوجودها وموقعنا منها .

  إن السحاب مكان للعلو ولكنه مكان للسقوط وهنا تأتي جدلية الصعود والهبوط التي يتخذ منها محسن الغمري مجالًا للصراع الدرامي في قصصه القصيرة .

3 – تحولات المفارقة :

       النموذج الأول الذي نقدمه لتحولات الصعود والهبوط في الدراما القصصية عند محسن الغمري ، هو نموذج يمكن أن نطلق عليه تحولات المفارقة ، حيث تسير الأحداث في اتجاه عكسي بالنسبة لشخصيتين تتمتع إحداهما بنفوذ وسيادة وسلطة وموقع تتحكم منه ، والشخصية الأخرى في الموقف الضعيف الذي يتوجه إليها الفعل ، فهي موقع المفعول الذي لايستطيع أن يكون ندا للمسيطر المتحكم ، وتعايش الذات أزمة رهيبة ولكنها تنتهي النهاية المعتمدة على المفارقة ، النهاية التي تخلص الضعيف من ىالقوي وتعيد إليه استقراره .

إن الحركة الدرامية للقوى تمضي في صعود وهيمنة ثم يحدث لها هبوط مفاجئ ، وتسقط من فوق  سحاب التسلط وتلقى النهاية الائقة بها ، وتخرج الشخصية الضعيفة من أزمتها وتحصل على استقرارها النفسي .

وهذا النمط من القص يذكرنا بنموذج الموظف المأزوم عند تشيخوف مع اختلاف الرؤية إذ تحدث النهاية التي يسعد بها المتلقي ويشعر من خلالها أن المنظومة الكونية فيها عدالة تساند المظلومين ، وعند هذا الحد نتذكر قصص التراث العربي وبصفة خاصة النمط الخاص بأخبار الفرج عند ابن أبي الدنيا والتنوخي .

وتمثل قصة ” المضمون عشماوي ” هذا النمط ، فعشماوي هو المدير العام المتسلط الذي يفعل ما يشاء ويظلم الموظف عبد الله الذي لا يستطيع أن يحتمل فيصرخ فيه:

” يا ظالم .. يا رب على كل ظالم جبار ، فوضت فيك الأمر لله ، يا عشماوي ، والتف العاملون حول عبد الله ..يا رجل أنت اتجننت ، يعني المهمة ضاعت ، وكمان تضيع نفسك .. ما أنت عارف إنه مفتري ، ولا أحد يهمه .. وصدر قرار العشماوي بتحويل عبد الله للشؤون القانونية بتهمة التحدث بأسلوب غير لائق للمدير العام.

  ولم يستطع النوم طوال الليل فالمحقق أمامه لم يفارقه لحظة ، وكذلك صورة الجزاء وشدته ، أخذ يسأل الله ليخرجه من أزمته ، لم يستطع في الصباح الذهاب للعمل ، وقرر أن يأخذ اليوم أجازة عارضة ويقضيه بالمنزل ، لا .. بل في الفراش.”

     بعد هذا التوتر يذهب عبد الله إلى العمل ، بل إلى مكتب المحقق ، فإذا به يعلم أن المدير قد مات ، وأن أزمت انتهت ، وأن العدالة قد تحققت بفعل إلهي ، وبذلك يكون المدير قد اتخذ حركة هابطة في الدراما بعد الصعود المتوالي ، ويكون عبد الله قد اتخذ حركة صاعدة بعد الهبوط الذي عاناه في الخوف بسبب تعبيره عن ذاته في لحظة إحساس حاد بالظلم .

     ولحظة التعبير عن النفس هي قمة التوتر التي تنطلق منها الأزمة ، مواجهة قولية من عبد الله، وتوجه إلى الله ، وسيطرة من عشماوي ومشاعر الخوف والرعب من التحقيق ، فالوظيفة تنتمي إلى قانون الجاذبية الأرضية التي تقيد الذات وتصيبها بالقهر .

وتبدو قوة الدعاء باعتباره فعلا إيجابيا يحقق الصلة بين الذات والله ، ويعيد صياغة علاقة الإنسان بسياقة الاجتماعي ، ومن التقنيات الجميلة في الخائص الفنية للكاتب أن الدعاء يأتي بضمير المتكلم المباشر ، لكي نسمع صراخ الموظف المظلوم ، هذا السياق نفسه نستمع إلى جوقة الأصحاب وهم يعاتبونه على هذه المواجهة دون فعل للقول ودون تحديد لهويتهم ، إنهم السياق الاجتماعي الذي يرسي قواعد النفاق والقهر ، وهو سياق له صوته ، ولكن ليس له ذات حقيقية يمكن تحديدها إنها ذات ضائعة ، جوقة بلا شخصية تردد وصايا الخوف .

كذلك لا نسمع صوت لعشماوي من موقع السلطوي ، وليس من صوته الخاص فهو ليس سوى مقعد له هيمنة ن لكن ليس إنسانا يستحق أن يتحدث بصوته إلينا ونسمع منه الصوت هذا الصوت ، والمقعد زائل ، كما يحدث لعشماوي في النص . وكذلك كان اختيار الكاتب لاسم بطله دالًا مقصودًا فهو عبد الله ، الإنسان الذي يرتبط بخالقه ويتجه إليه في أزماته ، أما الشخصية الأخرى فهي  “عشماوي ” الذي يظن أنه قادر على تنفيذ أحكام الإعدام على هؤلاء الذي يعملون تحت إدارته ، ولكن المفارقة تأتي في موته ، لقد نفذ القدر فيه الحكم لتحقيق العدالة الإلاهية وإعادة الاستقرار إلى المحيطين به ، ويكون في موته حكمة في لحظة كشف توضح للآخرين أن هناك قوة أكبر وأعظم من المقاعد الاجتماعية والإدارية ، وعلينا أن نفهم ذلك ونحن نحدد علاقاتنا وبمن حولنا وبكون كله .

4 – الحلم والواقع :      

النمط الثاني الذي نقدمه من ثنائية الصعود والهبوط الدرامية في مجموعة القفز فوق السحاب في تمثيل مفهوم التحولات ، يمكن أن نطلق عليه تحولات الحلم والواقع  ، وفي هذا النمط يحدث الصراع في داخل الشخصية التي تكون في الغالب شخصية هامشية ترى أنها تملك إمكانات غير حقيقية وبالتالي يصبح لها عالمها الوهي الذي يتصاعد في قفزات متوالية فوق السحاب حتى تجد نفسها بعد هذا الصراع النفسي في هبوط يقضي  على حلمها ويعيدها إلى قســوة الواقع ، وتمثل قصة ” جدار من وهم ” هذا النمط ، وفيما يلي بعض المقاطع منها :     “يشعر أنه أحد جرذان هذا الجبل الصخري الجامد ، الذي تقع قريته في سفحه ، وتحت قدميه بأحد الأماكن النائية.. لا يجيد عملا إلا تقطيع صخور الجبل ، لتباع بعد ذلك بالمدينة .. دار السينما الوحيدة في البلدة التي تبعد عدة كيلو مترات عن قريته هي المتنفس الوحيد له ، في أيام نهاية الأسبوع والأعياد ..بقدر ما كانت تنعشه وتمنحه حالة وقتية من سعادة وحبور ، كانت أيضا من رفضه الساخط لوضعه بالدنيا.. قصة الفيلم تحكي النجاح العظيم الذي أصابه أحد أبناء بلدته بعد هجرته إلى العاصمة معتمدا على قوة ساعديه .. تخيل نفسه بطلا لقصة نجاح أخرى كالتي شاهدها بالسينما .. القليل من الحظ لأكون يوما مثله وربما أزيد عنه .. أيكون الوقت قد حان لأتخلص من قسوة الحياة ..؟ أتخلص من هذا الأحساس المهين ..؟ ترك لنفسه العنان وبناء جدار من حلم برأسه .. قرر أن يرحل إلى العاصمة .. أخذ أول قطار بعد أن اقتطع من قروشه القليلة ثمن التذكرة .. أضيئت المصابيح الكهربائية .. وهناك .. ومع المحطة النهائية ، وجد نفسه بحديقة ليست صغيرة .. وبمعدة تطلب الطعام .. التقط بعض كسرات من خبز جاف حمله معه .. ارتكن إلى جذع إحدى الأشجار .. غلبه النوم.

    أيقظته أشعة الشمس.. وجد نفسه وسط حشد من أبناء عمومته .. توقفت عربة نصف نقل ، كتب على بابها عبارة استديو السينما .. استطاع أن يفسر أبجديتها ..لم يصدق عينيه .. كاد الحلم يتحقق .. لا بد أنهم جاءوا لحاجتهم لو وجوه جديدة .. قفز في العربة دون تردد ، أخذ مكانا تعمد أن يصطدم به ليؤكد لنفسه اليقظة .. أثر السكوت ، فلا مجال للتساؤلات مع تسابق وتواثب لمن سمح لهم بالركوب كما القرود تشب لشجرة موز .. وبإحدى القاعات الفسيحة باستديو السينما .. ووسط مناظر قديمة .. طلب منه هدم الجدران ..لقد تركت قطع الصخر في الجبل هناك لآتي لتغير منظر جدار هنا .. ابتسم بمرارة ساخرا من نفسه .. وبدأ الدق لهدم جدار المنظر وجدار الوهم برأسه .”

إن التحول من الواقع إلى الحلم إلى الواقع مرة ثانية يعكس ثنائية الصعود والهبوط في مسار الشخصية ويكشف وعيها الزائف ووقوعها فريسة للخطاب الدرامي السينمائي الذي يخدعها ويقدم نماذج ناجحة للتحولات بينما النماذج الفاشلة هي الأكثر عددا بكثير ، هي الشخصيات الهامشية التي ينساها الخطاب السينمائي الذي يغازل مشاعر البسطاء بأبجدية ساذجة .

      ومن أكثر التقنايت الفنية تعبيرا عن أزمة الشخصية ولحظات صعودها الواهمة ولحظة هبوطها المريرة،  تنوع صيغة الخطاب أو تحولها من الغائب إلى المتكلم ، فعند قمة صعود الحلم نجد صوت المتكلم يأتي إلى السياق في مونولوج يعكس الحالة النفسية لشعور الوهم ، وقبيل الختام يأتي ضمير المتكلم أيضا ليدرك الحقيقة من خلال البنية الدائرية ، فالختام هو البداية ، تقطيع الصخور والحياة في الهامش ، ويحتفظ الراوي بصيغة ضمير الغائب فتغيب الشخصية بغياب صوتها المباشر وكأنها تعود إلى ما كانت عليه في البداية ويتناسها التاريخ ، فهي هامشية وستظل هامشية.

   وإذا كانت تحولات الضمير الغائب إلى المتكلم والعكس تعد نموذجا تشكيليًا للتحول الدرامي  من الصعود إلى الهبوط ، فإن التنوع السردي أيضا من العرض التاريخي إلى التصوير والمشهد إلى العرض التاريخي مرة أخرى يعد نموذجًا فنيًا لمفهوم التحولات الدرامية ، كذلك يتحول الأسلوب من الصيغة الخبرية على لسان الراوي الخارجي إلى الصيغة الإنشائية الاستفهامية في المونولوج الذي نتلقاه من ضمير المتكلم ، كل هذه التحولات البنائية هي المعادل التشكيلي أو الصياغي للتحولات الدرامية ولتحولات الوعي في ذهن الشخصية ، يضاف إلى ذلك تحولات اللغة من التعبير التسجيلي الواقعي إلى التعبير المجازي لتضيف إلى السمات الفنية تحولا يفيد في قائمة تحولات الصياغة لتعادل التحولات الدرامية وتحولات الوعي من الوهم إلى الحقيقة أو من الوعي الزائف إلى الوعي الإدراكي .

5 – تحولات الأسطورة :

      النمط الثالث للتحولات في دراما الصعود والهبوط لمجموعة محسن الغمري القفز فوق السحاب هو النمط الأسطوري ، وهو أكثر الأنماط نضجا وثراء من الناحيتين الجمالية التشكيلية والدلالية ، وفيه نرى الجدل بين الواقع والتاريخ وعناصر الكون الطبيعية والذات الإنسانية والحياة والموت والهبوط والصعود في تكوين واحد .

     تمثل هذا النوع في قصة النطاطين أكثر قصص المجموعة نضجًا وأعمقها من حيث البنية التكوينية  الحافلة بالمعاني وأحكمها من حيث تضافر التقنيات الفنية وأكثرها تعبيرا عن رؤية الكاتب للحياة والإنسان ، وبها مساحات واسعة للتأمل وتعدد  زوايا وجهة النظر داخل النص وبالتالي تعدد الاحتمالات الدلالية واتساع مساحة التأمل بالنسبة للقارئ الذي  سيستمتع بالنص القصصي ويتحرك ذهنه ووجدانه ويتأزم ويفكر ويمر بمرحلة من التحولات الشعورية وهو يتفاعل مع القصة .

       تحكي القصة عن عالم يجمع بين مرجعية الواقع بسياقه العصري التكنولجي الذي تمثله الطائرة ، لكن هذه المرجعية تنساب في الماضي لتقدم لنا في سياق تاريخي يستدعي عصور التسلط زمن المماليك لكي يتحرك الرواي عبر سياقين مختلفين ليضع أمامنا خطابًا له موقعه من الزمن الحاضر والماضي ، فالإنسان مازال مستعبدا ، للسلطة الإدارية وللمؤسسات ، ويعاني من قرارات تطيح بذاته ، وتؤسس اللغة هذا الجدل ، إن القصة نوع من الأدب الذي يقدم نظرة عكسية للخيال العلمي ، فهو يعيد المنجز العلمي العصري إلى زمن قديم ، ليقول لنا إننا تقدمنا من الناحية الآلية ولكن السياق الذي يحيط بنا ليس سوى النظرة التي كانت مسيطرة من مئات السنين والتي تصدر عن فكر إداري تحكمه رؤية شخصية ومنافع ذاتية من خلال مؤسسة أو تكية القفز فوق السحاب التي تستخدم الدواب الحديدية في التنقل ويقوم  المدير المستبد لهذه المؤسسة بتقليص حجم العاملين ويحيط به الأقارب والمنتفعون ويضع من يشاء في الموضع الذي يراه في هذه المؤسسة ، ونتيجة لهذه الإدارة وخوفا من تصفية العمال ، يصاب أحد النطاطين بخوف من أن يفقد وظيفته ويعيش في الأرض أو يموت فيها ، فالحياة عنده كانت فوق السحاب ، ولا يستطيع تصور حياة أخرى له ، ونتيجة لهذا الخوف يصاب بآلام في القلب ويعرف من خلالها أنه إن لم يتم الاستغناء عنه بسبب تعسف الإدارة فسوف يمنع من الصعود على الأقل لأسباب صحية ويترك الراوي للشخصية مساحات واسعة للتعبير بصوتها في تداخل بين الحديث بصيغة الغائب والحديث بصيغة المتكلم وهو ما يسمى بالخطاب غير المباشر الحر الذي يجمع صيغتين في سياق واحد ، وفيما يلي بعضا من المقاطع الأخيرة التي نتابع فيها القصة ونتعرف على أسلوب الكاتب ونلمس ما أشرنا إليه بصدد التحول الأسطوري :

” إن قرار مجلس شفخانة التكية بتجريدي من رتبة نطاط  ، ومنعي من حق ممارسة القفز ، يعني إحالة أوراقي لمملوك يقضي بإعدامي بنتف أجنحتي ، وإسقاطي من فوق أعلى سحابة دخان أسود بسماء القاهرة إلى باطن بركة حبلى بوحل يوم مطير لأدفن بها. “

  نقف قليلا عند الفقرة السابقة نتأمل مزج الواقع بالتاريخ والتعبير التسجيلي بالتعبير المجازي،  واتساع دائرة المجاز وبصفة خاصة في حقل الطبيعة لكي يشارف النص المنطقة الأسطورية التي تتشخص فيها الطبيعة ، وبالقدر نفسه يتحول الإنسان إلى كائن ينتمي إليها من خلال عملية تحول في تكوينه .

   إن التكية والمملوك من سياق التاريخ ، والقفز وسحابة القاهرة السوداء من الواقع ، ولفظ النطاط الذي أحسن الكاتب اختياره هو حلقة الوصل بين المجال الواقعي والمجال التاريخي ، والإعدام بنتف الأجنحة تحول في ذات الإنسان إلى طائر يفقد قدرة التحليق فوق الأرض ، وباطن البركة الحبلى بوحل يوم مطير تحول في الطبيعة لتتخذ طابع المرأة أي إنسان ، وهكذا يمضي النص في دائرة التحولات ليقترب من الأسطورة ويلتقي بها في النهاية ، ونواصل القراءة مع النطاطين :

  ” لأقلع إذن  ..لأطير وأحلق ..أطير وأرتفع ، ثم أطير وأهبط .. لأقطع كل الخطوط المدارية .. ولتجن ساعتي البيولوجية..لأفقد الإحساس بالزمن .. واتحول لشيء غير معلوم الماهية يدور في فلك غير ثابت حول هذه الكرة التي عشقت التحليق حولها وفوقها .. لأكون طائرًا ألي الأجنحة يضخ وقودا في عروقه .. ليتحرك دونما يعي من أين وإلى أين يتجه.

    ويتذكر المملوك وقراراته .. ويشعر بالألم في شق صدره الأيسر .. حسم الأمر .. فإن لم يسرح بفرمان مملوكي .. فسيمننع منه بأمر مجلس شفخانة طب الهواء .. النتيجة واحدة .. شهادة وفاته بالأرض ! لمن إذن يكون الموت بالسحاب ؟

تمنى دائما الموت هناك فوق السحاب .. ليغسل من برده ويكفن بنسيج غزل من أكوام القطن الأبيض التي يراها كلما حلق هناك .. وأن تشيعه النجوم .. التي لم تمل يوما من أن تودعه بمكان ثم تسبقه مستقبلة بآخر ..وكذا القمر رفيقه الوقور الذي يلقاه دائما بابتسامة بدر .. ويدفن بعد ذلك بباطن أي من هذه السحب النقية التي لم تلوث بَعدُ بذلك الدخان الأسود اللقيط .. وليوضع على قبره شاهد من ريش كتب عليه (مات عن عمر خمس عشرة ألف قفزة) فهذا ما يليق بنطاط قضى عمره قفزا فوق السحاب . تسابق مع كل أقرانه من النطاطين لتحقيق أعلى معدل من القفزات خلال أقل عدد من أيام برنامجه الأسبوعي .. ليكسر رقمه الشخصي المحقق سابقًا .. بات يستعد ليسجل أعلى أرقام التكية.

      صباحا سيحلق بدابته عاليا طيلة النهار ..  وسويعات من الليل حتى إن حل موعد الهبوط يكون قد اختزن بجوفه ما يمكن أن يجتره عند الحاجة .. ويكون له ما أراد.  سريعا ما تهرب ساعات النهار الشتوية.. تجاوز حد منتصف الليل ، صار بعيدًا عن حدود المَمْلوكة .. نقطة ما في الجنوب القصي .. يستعد للهبوط ، احتشدت النجوم بكثافة غير مسبوقة ، تبدو وكأنها بموكب مهيب ..يتقدمها القمر بكامل هيئته .. يرتدي حلة بهية اللون ..لكن ملامح وجهه حزينة .. وقد وضع على أحد جانبيه شريط حداد أسود.

السحاب .. أين هو ؟ واحدة فقط شديدة البياض كقمة قطبية دائمة البرودة ، وَجَلَ قلبه خاشعا في مكمنه لجلال منظر السماء آنذاك ، تململ في مقعده مرهقًا .. الساعات طويلة مجهدة .. لكن ها هي تظهر أنوار مدرج الهبوط .. أخذ في الاقتراب .. تتسع أمامه مساحة سواد .. تبدو وكأنها ثقب فضائي أسود هائل .. يكاد أن يبتلع دابته كمذنب ضال وقع في حبال جاذبيته .. ضباب حزين يلف قلبه كلما اقترب من الأرض فهو غريب عنها.. تنتفض أرض المدرج مع اصطدام إطارات دابته .. وتلفظها سريعا بعداء شديد عنيف.. تجن الدابة لهذا اللقاء العدائي .. تقفز كمن به مس شيطاني منحرفة بشدة.. تخرج عن خطها المرسوم .. وتنفجر العلبة الصفيحية متقيأة ما بداخلها .. تعرفوا على بقايا من كانوا فيها جميعا إلا أياه .. لم يجدوا له أي أثر برغم تأكدهم من وجوده على ظهرها، أمعنوا النظر في الاتجاهات الأرضية الأربع دونما جدوى ! لم يفطن أحد – مطلقا – للنظر إلى أعلى .. حيث كان حشد من النجوم يتقدمهم القمر قد اجتمعوا لتشيعه، ودفنه بباطن السحابة الوحيدة الموجودة فوق هذه البقعة الأرضية”.   

إن الإيقاع السردي يتصاعد .. الأفعال تتوالى وتتفاعل عناصر الطبيعة والأرض والدابة الحديدية .. ولا نعرف إن كانت ذات النطاط تسعى لهذا أو أنه لا أرادي ..لقد انزاحت المسافات بين الإرادي واللاإرادي .. بين الوعي واللاوعي .. بين الإنسان والطبيعة، بين الروح والجماد .. اكتسبت العناصر التي تجمعت في السياق حيوية .. وامتزج الحزن بالفرح .. امتزجت أيضا الحياة بالموت.. والصعود والهبوط .. نهاية الذات المحلقة .. الإنسان الرافض لقيود الجاذبية يتحول إلى عنصر من عناصر الطبيعة .. يموت ولكنه لا يسقط بل يعلو بين النجوم وفي قلب السحابة التي تنتظره.

   وفي هذه الدراما التي أزاحت المسافة بين ثنائية الصعود ومزجتها معا في تشكيل أسطوري يربط بين الإنسان والطبيعة والموت والميلاد والقيود والتحرر .. يرتفع المستوى اللغوي إلى أقصى درجات الشعرية الاستعارية التي تدمج التعبيرات الحقيقية بالتغيرات الخيالية ليتم تشكيل النسيج النصي الذي تتحول به الدراما السردية إلى طقوس أسطورية .. طقوس للتحرر من جاذبية الأرض والجسد ..من عسف الآخرين .. من تسلط المديرين .. من قسوة المرجعية التاريخية والاجتماعية .. من الخوف والظلم ..هذا التكوين اللغوي الدرامي الشعري المؤسس للطقس الأسطوري هو أنضج النماذج التي قدمها محسن الغمري في مجموعته القفز فوق السحاب لأنماط التحولات الدرامية التي تدور على ثنائية الصعود والهبوط ..

لقد حلق الكاتب في هذا النص وتجاوز القص التقليدي حين استطاع أن يحطم الثنائية ويتخلص من قيودها فاستطاع أن ينطلق إلى مداره الخاص في فضاء القصة القصيرة.                

تجليات الرغبة في مدار الوردة

ءة في قصص فاطمة وبلانش للقاص المصري محسن الغمري”

في مجموعته القصصية الثانية, فاطمة وبلانش, يعود ملاح الهواء محسن الغمري, بلغته الأثيرية ومخزونه المعرفي, أكثر دربة وحنكة, وحيطة فنية, فنراه يرتفع فوق الأرض قليلا, ويتأمل طويلا, قبل التسلل الذكي تحت جلد الحياة, لسبر أغوار الظاهر الطافية على سطحها, متأملا معدة المجتمع التي تهضم مكونات جبلة بشرية تتناسل على سطح الدنيا مجتمعا, يمارس الحاضر بطاقة مكابدات تفاعلت على مدى زمن الخليقة.

استمر في القراءة تجليات الرغبة في مدار الوردة

مجال الهوية معالجة معرفية لسرد محسن الغمري

مجال الهوية

معالجة معرفية لسرد محسن الغمري

كتب سيد محمد السيد

    السرد عند محسن الغمري هو اختيار وجود.

    لقد اعتاد أديبنا محسن الغمري الحياة فوق السحاب، فكان صعبا عليه أن يهبط إلى العالم الأرضي دون أن يعيد صياغة مشروعه المستقبلي من خلال وثبة إدراكية يحاول بها أن يجد العالم الموازي للتحليق، ونال غايته في مجال الإبداع السردي الذي اتخذته موهبته مجالا لهوية حيوية، هوية تتحقق حين تقوم بتسكين مادة الذاكرة في التكوين القصصي، بعد معالجة شعورية تدرك قوانين الجمال. إن الفن السردي – في القصة والرواية على حد سواء – استوعب طاقة التحليق عند كاتبنا محسن الغمري، ومنحه عالما موازيا لذلك العالم الذي عاشه في متون الطائرات.

استمر في القراءة مجال الهوية معالجة معرفية لسرد محسن الغمري

صورة، وسبعة أُطر. قصة: محسن الغمري

الإطار الأول:  

            أجبرني زحام ليلة العيد على إبطاء سرعة عربتي، وفي أثناء السير ودون سبب محدد التفت جهة اليسار، لمحت العربة المجاورة، يجلس سائقها في مقعده الأمامي، منفصلا تماما عما حوله.

       هي كانت في المؤخرة، التقت عينانا، لم أفهم سر نظرتها إلي، ولا سر هذا التركيز الحادث منها دونما توقع يذكر، كانت ترمقني بشكل يقول إنها تعرفني جيدا، أو تود أن تقول لي شيئا، أو أنها ترسل لي برسالة أثيرية، غير مقرءة، لعينيها جمال أخاذ لا يكون لبشر، لكنهما نضاختان بشجن، حزينتان ! فيهما أسى أصابني بوجع في القلب، لم تنطق ولم تبد أي حركة تحمل نوعا من تفسير لنظرتها الموجعة لي.

استمر في القراءة صورة، وسبعة أُطر. قصة: محسن الغمري

زبالة. قصة: محسن الغمري

زبالة …

           كومة من الزبالة، يقف أمامها منحنيا يلتقط منها كل ما هو متشابه، عمله أن يصنع من هذه الكومة الكبيرة أكواما صغيرة، كل منها حسب صنفه، الأوراق على اختلافها معا، بقايا البلاستيك معا، البقايا الصلبة كالزجاج والمعادن تفرز كل على حدة، أما بقايا المواد الغذائية فيقتسمها والخنازير، فما يمكن أن يســتخلصه لنفســـه – إن فلح في تخليصة من بقايا ما علق به – احتفظ به، أما كل الباقي فيلقى به لجيرانه من الخنازير، الذين يشـــاركهم في جزء من ســياجهم الخشـــبي، صانعا منه ظهرا لتلك العشـــة، التي يرقد فيها بعد غياب الشمس.

استمر في القراءة زبالة. قصة: محسن الغمري

فاطمة وبلانش. قصة: محسن الغمري

                            

                        

      فاطمة وبلانش هو عنوان مجموعة قصصية، للكاتب محسن الغمري، صدرت عن دار ” الدار” للنشر والتوزيع 2008

فاطمة وبلانش …

  توقفت عربة تحمل فِراش شقة ” بلانش” العروس، أمام العقار رقم تسعة في حارة الرومي، المتفرعة من شارع سوق السلاح الواقع في منطقة الدرب الأحمر.

 أهل الحارة يطلقون على البيت  الذي اشتراه عم ” إبراهيم خليل ” من ورثة الرومي – لم يبق منهم غير الاسم-  بيت “المِقَدِس” نسبة له، بعد أن زار مدينة القدس يومًا، عاد بعدها ليعيش وأولاده في هذا البيت القديم، لم يبق من سلالته في البناية غير أصحاب تلك الشقة التي آلت ملكيتها ل”متيلدا” أم بلانش العروس.

 تعالى صوت الحمالين بمنادتهم لبعضهم البعض وهم ينقلون قطع الأثاث من العربة إلى الدور الخامس حيث شقة العروس.

استمر في القراءة فاطمة وبلانش. قصة: محسن الغمري