بيتر ماهر الصغيران
الافتتاحية يحيلنا الكاتب إلى شخصية البطل بشكل مباشر ،حيث وضع مقدمة بنى فوقها كل أفكاره ،عن ملامح الشخصية التي تصارع من أجل المثل العليا ،كما ذكر هذا في أول سطر بالرواية .
المثل العليا ينقلها فيما بعد إلى رؤية البطل عن صراع الطبقات بين الأغنياء و الفقراء ، كيف تؤثر الحالة الاجتماعية في طريقة التفكير ؟
التضاد يتضح في الرواية على أكثر من شكل ،يوجد الصراعات الفكرية و الطبقية ، حتى الصراعات النفسية ;لذا عمق رؤية الشخصيات من الخارج و الداخل .
جاء العنوان في حد ذاته هو أول مظهر خارجي أهتم به الكاتب; بل و إبرازه كعلامة استرشادية رمزية ،تطرح رؤية الكاتب حول البصيرة التي تتخفى فيما وراء هذا السواد الذي حجب العقل .
كما لو أراد الكاتب أن يقول ليس كل مبصر يقدر أن يرى بالبصيرة ، يستكمل أيضا الشكل الخارجي للبطلة أنها تعاني من قصر النظر و يمتد الحديث عنه ،عندما تكون الأفكار أحادية الجانب ، كنظرة قاصرة عندما تركز على الجسد كمفهوم مادي ، ذلك في مقابل العاطفة و الإحساس ،فهو أراد الحديث عن ماذا تفعل الغريزة إذا سيطرت على الإنسان و تحكمت فيه ؟!
على سبيل المثال في وصفه للبطلة من الخارج قال :
كانت تمثلا جميلا من الحجر
بينما البطل بحسب المظهر الخارجي الذي وصفه الكاتب عنه، فهو الفنان الذي يصدر إلينا في صور بصرية أفكاره بينما نقدر أن نقول أن (سوزيت) هى كل شىء قابع داخل شخصية البطل غير مرئي ;لكنه أراد أن يخفيه، فهى المراّه العاكسة لشخصيته كنقيض للبطل .
لذلك يقول الكاتب :
لكنه كان يشعر بإن هناك شيئا يربطه بها
على الرغم من حالة السخط الذي عاشه ضدها ;إلا انه في نفس الوقت كانت تثير قلبه و شغفه عنها
يمتد حديث الكاتب ، يكسر الحاجز ما بين السرد الروائي و الصحفي ، يكتب عن الفرق ما بين الإنسان و الحيوان.
فهو الفرق بين الوعي و اللاوعي ،بين الفكرة و المادة ،بين المبدأ ولا مبدأ .
فقد عبر الكاتب في شخصية (سوزيت) عن تجليات تخلي الإنسان عن إنسانيته ; لذا وجدنا المازوخية و محبة الاستسلام حتى في حضور الألم .
على النقيض من هذا الاستسلام ،جعل الكاتب الحب بمعناه الشامل و المجرد ،بعيدا عن المادة الحاضرة في الجسد
هى العلاج لمن تعامل معها كمريضة يعالجها بالحب ،حتى دار الحديث عن الجسد في مقابل الروح .
يضعنا الكاتب أمام الوعي و الإدراك في قدرته على إيقاف زحف الغريزة، في مقابل التركيز على الحرية الهادفة أو المسؤولة .
قطع الكاتب السرد بتعليقه كرواي عدد من المرات على الأحداث بنفس تقنيات الصحفي المحقق ،ثم يتدخل كرواي عليم يدافع عن البطلة كضحية ،فلم يترك القارىء ليقرر بنفسه مدى براءة البطلة من عدمه .
عن مجتمع ما قبل يوليو 1952 حيث الحضور الكبير داخل المجتمع المصري للأجانب سواء المقمين في مصر و لم يحدث تزاوج بينهم و بين المصريين أو الذي أطلق عليهم الكاتب (المتمصريين)
تدخل أيضا كرواي عليم و يوجه القارىء إلى أفكاره ،أن تلك الطبقة كانت سببا في إفساد العقلية المصرية اّنذاك .
اعتقد أن الكاتب عمل إعادة صياغة لمسرحية (ترويض النمرة) لشكسبير ، كانت قراءة بمفهوم عصري، محاولات البطل الدائمة ،لكبح جماح الغريزة داخل الأنثى (سوزيت) .
بشكل عام حرص (إحسان عبد القدوس) في تصدير هذا المفهوم في الكثير من أعماله ، أشهرهم رواية (أنا حرة)
رغم ذلك لم يغفل الكاتب الصراع الناشىء بحكم الطابع الشرقي للبطل و السؤال الذي طرحه :
كيف يتزوجها و هى ليست عذراء و كان هذا هو السؤال الأهم في رأيه .
التحولات التي طرأت على الشخصية ،فهم منها القارىء ما هو الدافع الذي جعل الكاتب يتدخل في سياق الأحداث ، يقطع السرد و يدافع عن (سوزيت) .
عند المقارنة بين البطل و البطلة، نكتشف أن البيئة التي نشأت بها البطلة ،لم تكن تهتم بالمبادىء ولا بالمثل العليا ;
لذا كان من الطبيعي أن تنحرف .
بينما البطل لم يكن لديه ظروفا مواتية حتى ينحرف ، كان تعلقه بالمبادىءتعلقا زائفا، فهو كان ظلا للمبادىء ، بوق يتحدث بها فقط ،عندما أتت إليه فرصة الانحراف ،تخلى عن كل المبادىء التي كانت سببا في علاج البطلة ، كأنه مثل ساعي البريد الذي يقدم الرسالة، بغض النظر عن الاقتناع بمحتواها .
عام 1963 قرر المخرج السينمائي (حسام الدين مصطفى) تحويل (النظارة السوداء) إلى السينما، في خطوة جرئية منه ،لتحويل هذا العمل الأدبي ،الذي يعج باّراء شديدة التناقض مع المجتمع المصري المعاصر لأحداث الفيلم .
من ضمن خطوات التحويل تمصير البطلة ، تحولت (سوزيت) إلى (مادي) بنفس دلالة تصرفات البطلة التي كانت تقدس الجسد في مقابل إهمال الروح الإنسانية .
لو كانت البطلة قدمت بشخصيتها الاجنبية، من الممكن أن يكون الأمر مقبولا لدى المشاهد، أن البطلة بحسب مفهوم البيئة التي تربت بها ، تقدس الجسد المادي في مقابل الروح .
لكن الغريب أن نجد شخصية بفترة الستينات من القرن العشرين، تعيش بنفس مفهوم المرأة الأجنبية، من ضمن إطار عام من التحولات التي جرت على المجتمع ما بعد يوليو، حدث هذا أثناء فترة عرض الفيلم ،مع بدايات العولمة التي تخطت الطبقة الاستقراطية إلى الطبقات المتوسطة أيضا .
الخطوة الثانية من خطوات التحويل ، شخصية البطل الذي ظل محافظا على المبادىء ، يعمل بالهندسة و يحب القراءة.
قام بتغيرها عن طريق الحب والقراءة و الاشتراك في العمل العام على مستوى المجتمع، فهو خرج من الترويض الخاص إلى الترويض العام عن طريق جعلها فردا صالحا في المجتمع .
التحول الثالث الذي كان نقطة هامة داخل أحداث الفيلم ،أن البطل رغم الانحراف الذي تعرض له في فترة من فترات حياته ;إلا إنه عاد إلى مبادئه سريعا ،عكس بطل داخل الرواية الذي استمر في عناده .
اعتقد رؤية المخرج في عودة البطل ،هو إعطاء الأمل في التغير إلى المشاهد السينمائي ،الذي هو أوسع كقاعدة جماهيرية من القاعدة الجماهيرية للقراء .
من أجل أن يخرج الفيلم من مأزق النهاية الدرامية الحزينة ،كانت تتجه معظم الأفلام إلى النهايات السعيدة ، لم تكن تميل إلى النهايات المفتوحة أو التي تترك الفرصة للمشاهد بالتفكير أو التأمل .