أرشيف الأوسمة: منتصر القفاش

قصص الهوية السيميولوجية عند منتصر القفاش

  • د سيد محمد السيد

    اللغة وسيلة التخاطب والتفاعل والمشاركة والإدراك والفهم، هذه المقولة هي أساس قصص تفسير الاتصال، إن هذا النوع من القصص يعالج مشكلة اللغة التي نفهم بها أنفسنا والعالم من حولنا، اللغة المشتركة بيننا وبين الآخرين، والعلامات التي نخترعها لأنفسنا وكأن لنا عالما خاصا لا يدركه سوانا.
    نطالع نموذجا لقصص الهوية السيميولوجية من مجموعة “في مستوى النظر” لمنتصر القفاش الذي يقدم لنا رؤية في تفسير العلامات التي تحيط بنا:
    “يثق أن هناك أشياء في الحياة لا مفر منها، مثل ظلك الذي يلازمك دون أن تعرف فائدته، إلا إذا فكرت أنه يطمئنك على كونك إنسانا ولست شبحا.”
    نجد هنا علامة للتواصل بين الإنسان ونفسه، علامة تمثّل كيف توجد حولنا لغات كثيرة بالإضافة إلى اللغة اللسانية المنطوقة واللغة الخطية المكتوبة، هذه العلامة من وجهة نظر المؤلف تمنحنا نوعا من إدراك وجودنا الإنساني، وسبب ذلك أن الإنسان في عصرنا يكاد يشعر أنه غير موجود، أنه شبح لا يراه أحد، لا يتواصل معه أحد، لا أهمية له، إن الأهمية للمال، للشركة، للمؤسسة، للمصالح، للمنافسة، للأدوار التي نؤديها في سياقاتنا الاجتماعية، أمّا الإنسان نفسه، أي ذاك الكائن البعيد المتواري الذي تسجنه أعماقنا فلا يكاد أحد يعرفه.
    في قصة “المشي” لمنتصر القفاش من مجموعته “في مستوى النظر” نجد لغة أخرى تمارسها شخصية “كريم” إنها لغة الاصطدام بالشخصيات المحيطة به، فهو لا يرى من حوله إلا بعد أن تحدث بينهما صدمة، مع أن تلك الشخصيات لا تعرفه، والعلاقة التي تربطه بها هي المشي في شارع واحد، شارع الحياة:
    “ثالث مرة اليوم يصطدم كريم بشخص وهو يسير في الشارع، ويكرر: “آسف” مضيفا إليها هذه المرة “معلهش. مستعجل شوية.”
    إن الصدمة أصبحت علامة تعارف، علامة رؤية، علامة تفتح باب الحكايات بينه وبين الآخرين كما نرى في المقطع الآتي:
    “تذكّر المرأة التي شتمته، وراحت تخاطب المارة بعد الاصطدام عن مشكلتها مع شركة زوجها التي تماطل في صرف التعويض المستحق عن إصابته أثناء تأدية عمله، والتي أدت إلى أنه صار مقعدا في البيت، وكررت الشكوى أكثر من مرة كلما لمحت أحدا ينضم إلى الواقفين حولها.”
    إن الاصطدام لم يكن عشوائيا بل كانت له أسبابه الخفية، لقد أصبح علامة اتصالية حدسية، أي تحدث لسبب خارج عن المنطق الشكلي، سبب يرتبط بإنسانيتنا المهدرة التي لا تجد في السياق الاجتماعي صديقا يمكن أن يمنحنا شيئا من وقته لينصت إلينا، أو مؤسسة تتفهم مشاكلنا واحتياجاتنا، هنا يصبح كريم فاعل الصدمة معادلا رمزيا للمبدع الذي يستخرج شكاوى الناس من عالمهم النفسي وسياقهم الاجتماعي ليترك لهم مساحة بيانية في فضائه القصصي.
    في نهاية القصة تصطدم الشخصية بنفسها، أي أن البطل الذي يتيح للشخصيات في القصة أن تتحدث يريد أن يتحدث عن نفسه، يريد أن يأخذ المتلقي إلى عالمه ليراه من داخله:
    “صرخت فيه فتاة خرجت من المحل، ونادت على أشخاص في الداخل ليساعدوها على إبعاد كريم عن الفاترينة التي راح يضغط عليها بوجهه، مصدرا همهمة تشتد كلما حاولوا تخليصه منها، ولا أحد يستطيع فهم ما يقوله، أو الانتباه إلى أنه يصطدم بصورته المنعكسة على الزجاج.”
    هنا نصل إلى عبقرية القصة الاتصالية، فشخصية كريم التي يقدمها الراوي بضمير الغائب هي التي تحكي القصة بوعيها لا بصوتها، أي أن رؤيتها وإحساسها وفكرها وحيرتها تصل إلينا من صوت الراوي الذي يتماهى معها، إن شخصية كريم لا تتحدث عن نفسها لأنها رمز المبدع الذي ينطق بما في أعماق الآخرين، لكن هذا المبدع نفسه في حاجة إلى من يسمعه، في حاجة لمن يرى وجهه الحقيقي في الفاترينة الإبداعية، أي في العمل الفني، فلا أحد يرى حقيقة المبدع، إن القراءة النقدية لم تتفهم الأعمال الأدبية بما فيه الكفاية، وصوت القاص الذي يمثله كريم في القصة هو همهة غير مفهومة، إن الإبداع ملتصق بذاته، مهجور، لا جمهور له، لا قراء يقبلون عليه بإيجابية، هنا يدخل منتصر القفاش منطقة ماوراء القص، أي فلسفة القص، أي نظرية الإبداع والتلقي التي لا يناقشها النقاد والأدباء والجمهور، إن القاص في حاجة إلى من يراه ويترجم لغته الفنية إلى السياق الاجتماعي، وهذا ما يجعل قصص الاتصال مفتاحا لقراءة الإبداع وإذا ذهبنا أبعد من ذلك نقول إن قصص الاتصال هي مفتاح قراءة الخطابات المتنوعة في السردية الكونية الحافلة بالعلامات، وهي تفسّر لنا لماذا أصبحت التجربة الذاتية للمبدعين منعكسة بدرجة كبيرة في أعمالهم، فكلّما ازداد وعي الإنسان بذاته استطاع أن يستخلص من تجاربه قصصا تشترك معه فيها الإنسانية المختنقة في نفوسنا لأنه أكثر وعيا من الآخرين بذاك الاختناق.
    هذا النوع من السرد يمكن أن نطلق عليه الأدب الهوية السيميولوجية الذي ينقل الخطاب الإبداعي من كونه حكايات تشويقية إلى محاولة لتفسير رموز التواصل.

الشباك الموارب ..قراءة في مستوى النظر لمنتصر القفاش

علاء الديب

المصري اليوم 30/3/2014

أين تسكن؟ كيف تذهب إلى هناك؟ ماذا ترى عندما تفتح نافذة سكنك؟! هل عندك- أصلاً- نافذة؟ أم أنك وصلت إلى سكن بلا باب أو نافذة؟! «مجموعة قصصية» للفنان الكاتب «منتصر القفاش» مكونة من 21 قصة قصيرة: تستطيع أن تثير فى روح القارئ وعقله حيرة إنسانية ممتعة.. مقلقة هى علاقة الإنسان بالمكان الذى يعيش فيه. العلاقة المتبادلة بين الواقع والحلم، بين الطفولة والشيخوخة، بين الفضاء الرحب وخنقة الجدران والنوافذ المغلقة «مقلق هو التفكير فى العلاقة بين الجسد والظل، قلق- قد يكون ممتعاً هو التفكير فى إنسانية النوافذ والطوابق، فى شخصية الشقق، والمناور، والمخازن، والمغارات» منعش ومثير هو استحضار الطفولة وإسقاط العقل على حيل الخيال البكر، والذكريات الأولى التى لا تمحى من العقل المندهش من رؤية الأشياء للمرة الأولى. «فى مستوى النظر» مجموعة قصصية جميلة ومحيرة لكاتب لا يكتب بل «يكتشف حياته» وواقعه فى وعى ساذج أو سذاجة واعية غير مرتبط لا بمدرسة أو اتجاه، لذلك فهو يخلق مع كل قصة مفاجأة طازجة تنسيك فكرة التصنيف الخانق بين الحداثة وعكسها، وتذكرنى أنا شخصياً- إلى حد كبير- بنوع متعة المفاجأة والاكتشاف التى كانت تقودنى إليها جمل الراحل «أصلان» فى قصصه القصيرة أو مقالاته. لا تستطيع أن تصنف هذا النوع من الكتابة أو ترجعه إلى تأثر بالمدارس الغربية أو بموجات غرائبية أمريكا اللاتينية، ولكنك دون شك تستطيع أن تتنسم رائحة تراث حكى ألف ليلة، والجمال الصافى للعربية الناضجة البسيطة.

استمر في القراءة الشباك الموارب ..قراءة في مستوى النظر لمنتصر القفاش

الملاكم ..قصة:منتصر القفاش

يظهر في الصورة مرتديًا قفازي الملاكمة، ويرفع ذراعيه إلى أعلى وينظر مبتسمًا نحو الكاميرا، وخلفه يبين حائط مرسومة عليه فروع شجرة تضم “أستديو الأنوار للتصوير” على شكل عش يسكنه عصفوران.

كانت هذه الصورة الوحيدة في بيتنا لمن كان جدي يطلق عليه دائمًا ” البطل محمود”. وأفهمني أنه            ” في منزلة عمك”، ليختصر صلة القرابة البعيدة به. وأكد على وجود صور أخرى لدى أقربائنا المتناثرين في محافظات عدة، تم التقاطها وهو في حلبة الملاكمة يوجه لكمات إلى خصومه أو يقف متحفزًا في ركنه أو يحيي الجمهور بعد انتصاره. وتمنى كثيرًا لو جمع كل تلك الصور في ألبوم واحد. وظل في مكالماته مع هؤلاء الأقرباء يطلب منهم معاودة البحث عن صور البطل، ولا يقتنع بأنهم فتشوا في كل مكان ولم يعثروا على أية صورة. ويحثهم على التفتيش في الحقائب والصناديق والأكياس المهملة منذ زمن، والمكدسة بأشياء قديمة يحتاج فرزها إلى صبر. ولولا ضعف صحته لسافر إليهم وبحث عن الصور بنفسه.

استمر في القراءة الملاكم ..قصة:منتصر القفاش

الفرجة على الشقة..قصة:منتصر القفاش

بدأت الحكاية بمكالمة من محسن. وجد شقة على النيل. وسعرها في حدود المبلغ الذي ادخرتُه. رفضت مباشرة فور علمي أنها جوار سجن طرة. كما تشككت في وجود عيب فيها بسبب رخصها. ” مش حتخسر حاجة لما تيجي تتفرج عليها”. سمعت هذه الجملة كثيرا حتى ظننت أنني لن أنال سوى الفرجة على الشقق، وتخيل نفسي لو سكنت فيها.  قررت الذهاب فهذه أول شقة يعرضها علي محسن أكثر أصدقائي سماعا لحكاياتي عن الشقق.                     

استمر في القراءة الفرجة على الشقة..قصة:منتصر القفاش

منتصر القفاش «شخص غير مقصود» بقلم: سيد الوكيل

حققت السبعينيات من القرن العشرين نقلة نوعية للشعر في مصر، فاتجهت نحو تحررها من لوازم التركيب البلاغي والنظم في مقابل الاهتمام بالمعنى، ومضت في تطورها حتى انتهت إلى ما يعرف بقصيدة النثر مع بداية التسعينيات. فالشعر هو رؤية وليس مجرد بنية لغوية. وربما أن التحول من الشكل إلى المعنى خروجاً عن المألوف لم يحظ بأقطاب الشعرية القديمة كعادة كل تغيير، لكنه كان محفزاً لجيل جديد من كتاب القصة في الثمانينيات – وهي المرحلة التي تعتبر بمثابة انفتاحاً على العالم – أن يبحثوا لأنفسهم على مسارات جديدة للقصة القصيرة.  وبظهور هامش نسبي من حرية التعبير، والرغبة المضمرة لدى الأجيال الجديدة في تجاوز  الماضي الأليم ممثلا في ما بعد نكسة 67، كانت هناك رغبة في مفارقة الواقع في صورته المؤدجلة، والالتفات إلى الواقع بوصفه وجودا إنسانيا وجماليا كامنا في الذات الساردة، وليس مجرد موضوع. إنه طموح يحرر المبدع من وهم الكاتب النبي، صاحب الرسالة التي يمكنها أن تغير العالم، مكتفيا بتأكيد ذاته، وساعيا إلى البحث عنها بعد سنوات من الشتات والتيه. لقد أصبحت الذات موضوعا مؤكدا للتفرد، والتجريب، والخروج من أسر النمط، ومناطا للصدق الفني. هذا ما أدركة جيل الثمانينيات، وكان على رأسه المبدع ( منتصر القفاش) وظني أن هذا الوعي بالذاتي ظل ملازما له في تجربته الإبداعية، نراه في مجموعته القصصية (شخص غير مقصود) لتحمل العتبة النصية الممثلة في العنوان رحلة بحث عن الذات، وهو ما نراه أكثر دقة ووضوحا في روايته ( أن ترى الآن) على نحو ما يشير إليها شوقي عبد الحميد ” “أن ترى” ليس بالضرورة تعنى الرؤية البصرية، وإنما يمكن أن تتخطاها للرؤى، أي لاستشفاف ما هو وراء الظاهر. فرؤية الظاهر في شخصية السارد، تسوقنا للبحث عما وراءها من دوافع، ظاهرة وباطنة، الأمر الذي يبتعد بالعنوان عن التقريرية، ويدخل بها إلى صميم الأدبية، أو الشاعرية، خالقا معبرا يسير عليه القارئ، عبورا نحو النص”.

غير أن تجربة منتصر القفاش، شأنها شأن التجارب المميزة، مرت بتحولات لا يمكن تجاهلها قبل أن تصل إلى نضجها، وفي ظني أن هذه التحولات ضرورية في حياة كل مبدع، كونها تدريب على العبور والسعي وراء التجريب والتجديد.       

فی ۱۹۸۹ أصدر (القفاش) مجموعته القصصية الأولى “نسيج الأسماء” على حسابه الخاص، حيث لم تجرؤ واحدة من مؤسسات النشر الحكومية، أن تتحمل مسئولية نشر كتابه وصفت بأنها مخربة للعادي والمألوف، بمعنى أنها تتقاطع تماما كل الأعراف والمواصفات التي قام عليها القص من قبل. لقد أحدثت المجموعة ردود أفعال عنيفة ومتباينة ففي الوقت الذي اعتبرها البعض ليست قصصا على الإطلاق واتهموها بالغموض والتعالي على القارئ، اعتبرها البعض الآخر نقلة نوعية جديرة بالرعاية والاهتمام.

هنا يبرز دور (إدوار الخراط). إنه كاتب ومثقف موسوعي، يجمع بين السرد بنوعيه، والشعر، والنقد والترجمة في آن. بما يبرر هوسه بالتجريب، وربما هوسه بالريادة، تلك التي أعلن عنها في أعقاب نكسة (67) بتبنية لتيار (الحساسية الجديدة) ربما متأثرا بثورة الطلاب التي بدأت في فرنسا، وطالت كثيرا من بلاد العالم ومن بينها مصر. وهي المرحلة التي أعلنت عن رواد التفكيك وعلى رأسهم (دريدا). وربما متأثرا بواقعية (آلان روب جرييه) الجديدة. التي عبرت عن نفسها بوضوح في انفعالات ( ناتالي ساروتي).        

إلى جانب كتاب آخرين في ذات النهج، مثلت (نسيج الأسماء) لمنتصر القفاش النموذج الأوفى لنقلة هامة في فن القص، ما دفع (الخراط) إلى إعلان رغبته في احتواء تجاربهم، وأقام عليهم مشروعه النقدي عن ما أطلق عليه (الكتابة عبر النوعية) أو كما أسماها البعض (القصة القصيدة) نتيجة لغلبة الطابع الشعري عليها. 

واذا كانت هذه الكتابة قد أكدت إمكانية قيام النص بعيدا عن المقومات التقليدية للقص مثل «الحدث – المكان-  الشخصية» وكذا بعض جمالياته التقنية كالمفارقة، فإن الخطأ الذي ارتكبته هذه الكتابة ليس مجرد الرغبة في عبور النوع، بل احتماؤها بلغة الشعر السبعيني المفعمة بالمجاز والصور البلاغية فضلا عن الطابع التجريدي حتى كادت تفقد هويتها السردية. وكان الأولى بكتاب (القصة القصيدة) أن يسعوا إلى تفجير الطاقة الشعرية في المشهد القصصي، بدلا من استعارة لغة الشعر كما هي إلى القصة وترصيع القصة بها. هذا ما أدركه (القفاش) فقدم روايته الأولى «تصريح بالغياب 1996م» التي أكدت هويته تماما، فمنتصر القفاش قاص متميز يرى العالم بحدسه لا بعقله.  علما بأن الحدس وفق (باشلار) هو درجة من  الوعي المضمر، أو ما يطلق عليه العقل الباطن. وهو درجة من الوعي يتكون من عمليات تحدث في العقل تلقائيا، وتنتج عبر الاستبطان، أو الإدراك الواعي.

وثمة فارق كبير بين الأمرين، فالذي يدرك العالم بعقله، يسعى دائما إلى هندسة العالم بتصنيفه وترتيبه أو تقسيمه إلى سلبي أو ایجابي أو جميل وقبيح، إلى أخر مثل هذه التصنيفات، وهكذا فإن الوعي الثنائی الذي حكم الحداثة بالوسائط الأيديولوجية هو الذي سيطر على العقل بوصفه أعتى حصون الذات، أما الذي يدرك العالم بحدسه، ويمكنه أن يرى بين هذه الثنائيات -التي تصنع المفارقة الضدية- مناطق عديدة قابلة للارتياد، أنها في الحقيقة، الأكثر التباسا والأكثر شعرية. هكذا يمكن القول إن « تصريح بالغياب» كانت تصحيحا ضروريا لمسيرة القفاش الضرورية أيضا.

في عام 1999م صدرت مجموعته القصصية: «شخص غير مقصود» عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» فبدت تأكيدا على نضج واستواء تجربته القصصية من ناحية، ومن ناحية أخرى تأكيد على ملامح قص جديد بدأ يتشكل عند كتاب الثمانينيات الذين لم يلقوا العناية الكافية من النقاد حتى ذلك الوقت. ولن تخطئ العين أن تجد ملامح هذه الجدة في مواقف الشخصيات داخل النصوص، ففي قصة «خروج» نلاحظ أن الخروج ليس رمزاً دالاً على قيمة، ليس فعلاً ثورياً مثلاً، ولا فعلاً هروبيا كخروج موسی وقومه من مصر، بل هو مجرد رغبة في أن يمارس الإنسان فعلاَ موجودا بين أفعال البشر، أو بمعنى أدق هو بحث عن إنسانية الإنسان. هكذا تأتي أفعال الشخصية غير مبررة بل وغير ضرورية أو مصيرية، وهكذا تفقد الأفعال معناها، فمنح ذلك القصص نزعة تفكيكية خافتة ومبررة.

يضطر (بطل القصة) نفسه إلى الانهماك في البحث عن ذاته، ويهيئ كل المبررات التي تجعل ما يفعله طبيعيا بل وضروريا له، فأن يجد روحه مثل «مخاليق ربنا» أمر ليس هينا وتحقيقه ليس بالأمر الهين.  وما الضرر في أنه أثناء تجوله يتوقف أمام فاترينة، لا يركز انتباهه ولا يدقق، يكفي أنه في مثل هذا الوضع، وضع من يبحث حتى لو «مش بجد» عن شيء غير مهم،  ومع ذلك فعليه أن يبحث ليؤكد وجوده.

هو يدرك أنه  قد خرج لشراء هدية لخطيبته، لقد بدا هذا  هو المبرر الأول للخروج، أو التيمة الأولى التي تتم توسعتها فيما بعد، فسرعان ما يكتشف أن الأمر ليس مهما على الإطلاق، وأن كل الهدايا التي حصل عليها يوما لا يذكر أين هي الآن، غير أن ثمة رغبة في أن يؤدي دور من يقوم بفعل ما.. وأثناء بحثه سنلحظ أن (الكاتب الضمني) يبحث معه، غير أن بحثه – هذه المرة –  يكون في ذات الراوي، وسوف نشعر فعلا بوجود الكاتب، إذ لا مبرر للتخفي كما أنه لا مبرر للفصل بين المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني، ولا مبرر لاتخاذ موقف مناهض للآخر وفقا لمنطق العقل وثنائياته الضدية.

 وهكذا يكون لدينا مستويان للسرد، أحدهما يبحث في الداخل والآخر يبحث في الخارج، غير أن المهارة الفنية لا تضعهما کمتقابلين يحققان مفارقة، أنها حالات من الاشتباك والتداخل المستمر، بحيث يتحول السرد كله إلى حالات عديدة من البحث غير المبرر عن شيء غير هام.

إن موقف الراوي على هذا النحو ليس موقفا بطوليا وجوديا، ولا هو موقف البطل الضد، فالبحث والخروج، لا يتحولان في أية لحظة إلى قيمة أو يقين، فقط يظلان مجرد رغبة في فعل شيء عادي يفعله الآخرون، هكذا فإن الذات ليست في مواجهة مع الآخر كما هو موقف الشخصية الوجودية، بل هي على الأرجح لا يمكنها أن تنشغل بشيء خارجها، إن انعدام المواجهة لا يجعل شخصيات (القفاش) في حالة ممارسة فاعلة، كما أنها أيضا ليست في موقف عدمي، أنها فقط في حالة من الإغواء المستمر دون انتشاء، أنها حالات الالتباس القائم التي لا تحمل يقينا أو مطلقا، هذا ما يحدث حين تنكشف المواجهة، فليس ثمة شيء سوى هشاشة العالم. «لا يعرف متى سينتهي أو متى سيتوقف، فقط يريد الاستمرار والاستمرار في المشي، وإذا لم يفلح في أن يصدق كل ما يفعله الآن، فعلى الأقل يستطيع حينما يعود إلى غرفته النوم دون اضطرار إلى أن يستيقظ مبكرا»

غير أن الأفكار العابرة التي تؤكد هشاشة الواقع، يمكنها أن تتحول مأزق وجودي، تماما كما تتحول أحلام يقظتنا إلى حقائق، وهو ملمح يمكن ملاحظته في رواية (أن ترى الآن- 2002م) التي لا تعتمد على حدث مركزي بقدر ما تبدأ بفكرة تبدو لبطلها نزوة عابرة، تمثلت في رغبته أن يلتقط صورة لزوجته وهي عارية، كان يعرف أنها مجرد فكرة، أقرب لمزحة، أو لعبة، حاول أن يتجاهلها، كأنه لا يراها، لكنها كانت تلح عليه، تطارده حتى تمكنت منه، وتحولت إلى حقيقة، واقعا يحدث هنا والآن بلا إرادة.

وإذا كانت قصة (خروج) في (شخص غير مقصود)  بدأت بحدث مقصود لذاته، عندما قرر بطلها الخروج لشراء هدية لخطيبته، يتحول إلى موقف عبثي بلا معنى، فإن فكرة عبثية في ( أن ترى الآن) تحولت إلى حدث غيّر مسار، ليس السرد فحسب، بل غير مصائر شخصيات الرواية.

تتعقد حياة بطل الرواية عندما تصله نسخة من صورة زوجته العارية، إنها بالضبط تلك التي التقطتها بنفسه، ليكتشف أن آخرين كثر يملكون نفس الصورة. عندئذ يدخل بطل الرواية في رحلة بحث داخلية تعكس شعوراً بالذنب، ليكتشف هامشية وضعف وجوده. بمعنى أن التعري يطاله هو وليس زوجته فحسب. ترى.. من منهما هو بؤرة السرد في الرواية. الزوجة أم الزوج؟ وعلى الرغم من الإفادة من تقنية تبئير الحدث وغموضه كما تنتهجه الرواية البوليسية. إلا أن (أن ترى الآن) هي رواية وجودية، ذات بعد فلسفي، تنظر إلى داخل الذات الإنسانية، لترى ما فيها من تناقضات بين العقل والغريزة لتؤكد انتصار الغرائز والرغبات والهواجس والأحلام على عقلنا المقدس، فتطرح علينا سؤالا: ترى.. أين يكمن الواقع بالضبط، في العقل أم في الخيال، في الجد أم في الهزل، في الأنا أم في الآخر، في الوجود أم في العدم؟؟؟

إنه سؤال هاملت: أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة.

المفتاح ..قصة :منتصر القفاش

كان يعيش بمفرده. تزوره ابنته مرة في الأسبوع. تطبخ له طعاما يكفيه حتى زيارتها التالية. رفض الذهاب للعيش معها. وجد إلحاحها الدائم على أن يأتي معها مجرد كلام. لو كانت بالفعل تريد انتقاله إلى شقتها لحضر زوجها معها بسيارته، وأصرا على عدم التحرك من مكانهما إلا إن غادر معهما. لكنها دائما كانت تلح عليه بنبرة توحي بـ ” تعالى معايا ويحصل اللي يحصل “. كانت هي صاحبة الاقتراح بأن يوارب الشباك المطل على الشارع ليستطيع أحد القفز، وفتح الباب له حينما ينسى المفتاح. اضطر لتنفيذ اقتراحها بعد تكراره كسر شراعة الباب وشرائه زجاجا لها في كل مرة. رفض تثبيت قطعة كرتون مكان الزجاج المكسور. كان يتحجج دائما باحتمال أن يسافر أو ينتقل إلى الإقامة مع ابنته. ماذا ستفعل قطعة كرتون في غيابه؟. منذ أن وارب الشباك صار يحس كلما خرج لشراء شيء أو لزيارة أحد الجيران أو لصرف معاشه بأنه سيعود ليجد الشقة مسروقة. لم ينشغل بتحديد أي الأشياء في شقته يدعو للسرقة. شقة بالدور الأرضي لا أحد فيها وشباكها موارب لا ينقصها سوى أن يقفز داخلها شخص ويسرقها. لم يقتنع جيرانه ولا ابنته بهذا الكلام. طمأنوه بطريقة جعلته يشعر باستهانتهم بمحتويات شقته، فازداد قلقه وثقته في إمكانية سرقتها بأكملها من دون أن يحس الجيران. وأحيانا كان يعود قبل أن يكمل مشواره ليتأكد من عدم حدوث شيء. ويلمحه من يقفون في البلكونات وهو عائد بسرعة والمفتاح في يده وعينه مصوبة نحو شباكه ولا ينتبه لمن يسلم عليه. صارت كلمة مفتاح هي التي تخطر في بال الكثيرين عندما يرونه سواء كان خارجا من بيته أو عائدا إليه، وقد يتحسس أحدهم جيبه فور أن يراه ليتأكد من وجود المفتاح معه أو يحكم قبضة يده على ميدالية المفاتيح.

استمر في القراءة المفتاح ..قصة :منتصر القفاش

فتح الصندوق..قصة:منتصر القفاش

                                 من قصص ” بصورة مفاجئة ” – 2023- دار الكتب خان.

 

 رأيته دائمًا جديرًا بأن يضم كنزًا، وليس مجرد أوراق قديمة، ينتظر أبي دائمًا الوقت المناسب لفرزها. هذا الصندوق الخشبي المغطاة زواياه الخارجية بشرائط نحاسية، وله بطانة من القطيفة الحمراء، ولا يمكن إغلاقه إلا بالضغط على غطائه بقوة عدة مرات.

استمر في القراءة فتح الصندوق..قصة:منتصر القفاش

المتغير السردى في مصر، قبيل الألفية الثالثة

سيد الوكيل

المدخل السياسى

منذ منتصف التعسينيات كان سؤال التغيير من أكثر الأسئلة إلحاحا فى الأدبيات السياسية، غير أنه ظل ـ حتى هذا الوقت ـ ملتبسا بمصطلح آخرهو الإصلاح، وهو مصطلح أسبق تبنته السلطة السياسية نفسها ـ منذ منتصف الثمانينيات، ليأخذ فى البداية منحى اقتصادى، لكن النخب الثقافية فعّلت الإصلاح إلى معنى سياسى واجتماعى شامل أخذ صبغة ثقافية، إذ أن الإصلاح الذى تبنته النخب الثقافية، صار مطلبا جمعيا ملحا أكثر من كونه برنامج عمل حكومى. لهذا، بدا أن الإصلاح معنى متواضع غير قادر على تجسيد الرغبة فى تجاوز المأزق المصرى منذ هزيمة67 وتداعياتها، وبدا أن الأمر يحتاج تغييرا كبيرا في بنية الوعى الاجتماعي السياسى، وبطبيعة الحال، كانت النظرة إلى التغيير في الخطاب الثقافي، بمثابة القاطرة التي يمكن أن تقود مصر إلى تغيير شامل منشود. وقد ترافق هذا، مع ظهور متغيرات حقيقية على الصعيد الدولي، فرضت نفسها عبر المنظومة الثقافية الدولية، صارت مكشوفة وممكنة التطبيق في مجتمعات أخرى بفضل وسائط التعبير التكنولوجية عبر الفضائيات والأنترنت.

استمر في القراءة المتغير السردى في مصر، قبيل الألفية الثالثة

ثلاثة مداخل للمتغير السردي

ثلاثة مداخل..

1ـ مدخل سياسى:

منذ منتصف التعسينيات، كان سؤال التغيير من أكثر الأسئلة إلحاحاً في الأدبيات السياسية، غير أنه ظل ـ حتى هذا الوقت ـ ملتبساً بمصطلح آخر هو: الإصلاح، وهو مصطلح أسبق تبنته السلطة السياسية نفسها ـ منذ منتصف الثمانينيات،نشأ في مواجهة تيارات العنف الأصولية، ليأخذ في البداية منحى اقتصادياً، نتيجة لتنبيهات الكتّاب والمثقفين إلى أن تردي الأوضاع الاقتصادية، سبب أساسي في انتشار العنف، وتزايد النزعات الأصولية المتشددة.

 لكن النخب الثقافية فعّلت الإصلاح إلى معنى سياسي واجتماعى شامل أخذ صبغة ثقافية. لقد بدأ الأمر كهامش صغير سمح به النظام عبر الصحافة الحرة، حتى انتقل الأمر من الوسيط المقروء إلى              وسيط مرئي عبر الفضائيات وشبكات الأنترنت، عندئذ، انفتح الباب على مصرعيه لحركات التغيير.

 ولم يكن من قبيل المصادفة، أن هذه الحركات أخذت طابعاً ثقافياً بالأساس، على نحو مانجد في حركتى: كفاية ومثقفين من أجل التغيير، اللتان قامتا على أنقاض اليسار القديم، غير أن جماعات الشباب من المثقفين الجدد فعّلت طرائق الاحتجاج، وغيرت من نمط خطابه الرديكالى عبر شكبات الأنترنت، وجدير بالذكر أن في مصر الآن، مئات من المدونات والمواقع الأليكترونية التي تتداول خطابها الاحتجاجي على نحو واسع وجرىء أجبر النظام على الاستماع إليه.  

استمر في القراءة ثلاثة مداخل للمتغير السردي

متعة الاكتشاف ليست «في مستوي النظر» بقلم:شوقي عبدالحميد

s22013139454

قصص لمنتصر القفاش

الحياة العادية، العائلية، ببساطتها، هي المنهل الذي يستقي منه منتصر القفاش عوالمه القصصية، يقتطع منها شريحة ويعرضها كما هي. فتبدو الحياة وكأنها تسير سريان الماء المتهادي في النيل في يوم صيفي قائظ، فتبدو وكأنها لا تسير، غير أنها في سريانها تحمل الخير والسقيا، وتخلق حياة. بل حيوات. وكذك حكي منتصر القفاش يبدو بسيطا وعاديا، لكنه ضاج بالمعاني والإيحاءات، وكأنه النيران المخبوءة تحت الرماد. وهو ما يذكرنا بقصص بهاء طاهر القصيرة. وإذا كان الكثير من المجموعات القصصية، تفتقد التجانس فيما بينها، الأمر الذي يفقدها الوحدة، ويفقدها العنوان الجامع الذي يمكن أن يحتوي قصص المجموعة، أو علي الأقل أغلبها، فإن منتصر القفاش في مجموعته يحرص علي تلافي ذلك.

استمر في القراءة متعة الاكتشاف ليست «في مستوي النظر» بقلم:شوقي عبدالحميد