عن الأدب والأيروتيك بين الضرورة والضمير..فتحى اسماعيل

منذ فترة وجيزة أهداني صديقي الروائي الأردني : مصطفى توفيق أبو رمان، روايته “نجوى” الصادرة عن دار نشر ايبيدي لعام 2021، وكنت قرأتها مرة، ثم أعدت قراءتها لضرورة الكتابة عن هذا الموضوع الذي يؤرقني على نحو خاص وبشكل شخصي، فأثناء مناقشة إحدى مجموعاتي القصصية لقّبني أحد الكتّاب الروائين ب “الكاتب المؤدب” وهو يرى بذلك أن خلوّ أعمالي القصصية من لفظ خارج أو مشهد جنسي صريح هو من دواعي “الأدب” بمعنى الخجل، وليس بمعنى الأدب بمعنى الإبداع. وفي نفس الفترة وأثناء مناقشة رواية لي انزعجت ناقدة مصرية لكون المشاهد الحسية بالرواية خدشت حياءها.

 ورغم إدراكي حقيقةً بأن التصنيف الإبداعي لا علاقة له بمضمون الفكرة أو الحدث بقدر ما هو له صميم علاقة بكيفية تناولها وسردها، وحتى أدخل في الموضوع مباشرة، وللربط  بين ما يؤرقني على المستوى الشخصي، ويعج باللغط على المستوى العام، سأشرع في عقد المقارنة بين قصة “نجوى”  لمصطفى أبو رمان وقصة “ميرا” ل قاسم توفيق، فالأولي تحكي بلغة فصحى سهلة نسجها الروائي، بينما اختار اللغة العامية للجمل الحوارية، استخدم الكاتب أسلوب السرد التناوبي حيث اعتمد أكثر من راوٍ(العليم .. المتكلم)، تتمحور الحبكة حول ليث البطل الأساسي وبطل الرواية دون منافس، تبدأ الرواية من زمن متقدّم حين يخبر ليث أباه أنه متزوج من مصرية منذ واحد وثلاثين عاما وأن اسمها نجوى، يصطحب البطل قارئه إلى مصر، وقصة عشق الفتى لها فيتنقّل بالزيارة بين  محافظات مصر،  محور الرواية وفكرتها الرئيسية هي علاقة الحب التي جمعت بين ليث ونجوى البنت المصرية التي تصغره بعامين وشاء قدره أن يسكن قبالتها ويستوطن شرفتها ويغني لها الأغاني المصرية ونجوى هي ابنة لرجل عراقي أقام علاقة حب مع أمها ونشأت من زواج عرفي انتهى بهروب الوالد وزواج الأم من رجل يسمى مرجان عرف ليث من الوهلة الاولى أنه ليس أباها لإختلاف البشرة والشكل عنها وعن أمها، الذي وافق أن يتزوج أم نجوى طمعًا فيها ووصف الكاتب حالة العداء التي جمعت بين مرجان وبين ليث مما دفع الأخير إلى ترك العمارة  التي تواجه بيت نجوى. ثم تزوج من نجوى وكانت حياتها مابين بيت أمها وبيت ليث الذي أغدق عليها من الأموال والهدايا ثم رحلة ليث للبحث عن أبيها الذي أسماه الكاتب سرمد ووصوله إليه إلا أنه لم يوافق بالعودة لابنته أو الاعتراف بها لحساسية موقفه، في الرواية ذكر الكاتب أكثر من حالة زواج بين مصرية وعربي آخر محاولًا ألقاء الضوء على هذه القضية التي يتشرّد فيها الأبناء ويعانون من الغربة الداخلية، يتزوج ليث بهدى الأردنية لأنه لم يستطع أن يخبر أهله بزواجه من مصرية وبعد أكثر من ثلاثين عاما وإنجابه أربعة أولاد من نجوى يعترف لأبيه وتذهب والدته لنجوى ويتعرف أبناؤه من نجوى على أبنائه من هدى ويتم لم الشمل. الرواية في مجملها شيقة، ظهر فيها خفة روح الكاتب وذلك في سرده الكثيرمن الأغنيات والأمثلة الأردنية”

وفي كل تلك الأحداث كان المناخ الحسي حاضر، تعدد العلاقات والغربة، قصص الحب والزواج، ولكن استطاع الكاتب بنعومة ايصال كل الحكاية بدون لفظ جنسي أو حسي، او الاتكاء على نداءات الأيروتيك الصارخة التي أجزم أنها ستدعو أي كاتب عربي حي يتناول مثل تلك الأحداث، أن يحاول أن يضفرها بالجمل والمشاهد، وهذا يذكرني بمجموعة يوسف إدريس القصصية “بيت من لحم” والتي تناولت كل نصوصها العلاقات غير الشرعية والمحرمة، وزنا المحارم، بدون أن يؤخذ على الكتاب بمجمله لفظًا واحدًا خادشًا.

أمّا رواية “ميرا” التي رشحت من بين عشرات الروايات من قبل لجنة مكتبة الأسرة لإعادة نشرها ضمن إصدارات المكتبة التابعة للوزراة،   ف تدور أحداثها في تسعينات القرن الماضي بين العاصمة الأردنية عمان ومدينة نوفيساد في يوغسلافيا السابقة حين سافر الشاب الأردني المسلم رعد من أجل الدراسة ليتعرف هناك على الممرضة ميرا.وتروي القصة علاقة حب قوية بينهما قبل أن يتزوجا وينجبا شادي ورجاء، مع اندلاع الحرب الأهلية في يوغوسلافيا في حزيران/يونيو 1992، يقرر الزوجان التوجه إلى عمان، لكن بعد سنوات، يقدم شادي على طعن أمه بسكين المطبخ بعد أن سمع رجالا يصفونها بالمومس”

وقد تضمنت الرواية عبارات “خادشة للحياء” بحسب معلقين على منصات التواصل الاجتماعي، متسائلين عن كيفية مرورها عن طريق الوزارة بدون رقابة وخاصة أنها ضمن محتويات مكتبة الأسرة التي يقرأها الصغير قبل الكبير وتوزع في جميع محافظات المملكة. ورغم أن الأزمة مرّت بعد تدارك الواقعة على ما أدلت به السيدة الفاضلة وزيرة الثقافة الأردنية “هيفاء النجار” وهو أن أعضاء اللجنة التي أجازت رواية “ميرا” للكاتب الأردني قاسم توفيق، والصادرة عن دار نشر أردنية منذ 3 سنوات، استقالوا بشكل جماعي .وأضافت النجار، الإثنين، خلال مناقشة لجنة التوجيه الوطني والإعلام والثقافة النيابية في الأردن، أن ما ورد في الرواية خطأ فادح وكبير، وأنه كان غير مقصود ويحتاج إلى مواجهة.

ورغم أن الرواية ليست آخر أو أفضل ما كتب الروائي قاسم توفيق إلى أن المدهش هو انتقاء اللجنة لها خصيصًا من بين أعماله الكثيرة، وهو ما تفضّل ووضّحه تفصيلًا الكاتب الأردني “مفلح العدوان”  حيث قال ” أصدر الروائي قاسم توفيق أكثر من عشرين كتابا في الرواية والقصة، وهو مبدع راسخ، له حضوره المحلي والعربي، وله مواقف تحترم في الحياة والسياسة، وهو من أكثر الكتاب الذين وثقوا بإبداعاتهم عمان، ولعله من أوائل المبدعين الأردنيين الذين وثقوا المكان في الوقت الذي كان معظم الكتاب يتوجهون إلى اللامكان في كتاباتهم” مضيفًا ومؤكّدا على أن قاسم توفيق” تفرغ بإخلاص للكتابة عام 2013م، آخر ما قرأت له رواية “نشيد الرجل الطيب” التي صدرت في عمان وبيروت والقاهرة والجزائر عام 2020م، وكان قبلها أصدر رواية “ميرا” في عمان عام 2018م، وبين يدي روايته حديثة الصدور(2022م) التي عنوانها “ليلة واحدة تكفي”.، ثم مقترحًا عملا آخر لو أنه رشّح للنشر بالمكتبة لما كانت كل هذه الضجة فقال الكاتب “مفلح العدوان”  “لو خيرت أن تصدر رواية من روايات قاسم توفيق ضمن منشورات مكتبة الأسرة/ وزارة الثقافة، لاخترت روايته “حانة فوق التراب”.

وخلاصة القول أنني وشخصيًا لست على موقف الرافض للمحتوى الأدبي أيا كان نوعه، ف الفن مرآة للواقع ومعبّر عنه، ومعْبر له، ولا يحق لناقد أو مثقف أن يعارض مؤلّفا أو يحكم عليه أخلاقيًا، وتاريخيًا تعج المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تناولت الأيروتيك والجنس ووصف العلاقة الجنسية والأعضاء بشكل مفصّل من أول أشعار عمر ابن ربيعة وأبو نوّاس وكتب ومؤالفات نسبت إلى جلال الدين السيوطي وصولا إلى ألف ليلة وليلة وحتى ” موسم الهجرة إلى الشمال” للكاتب السوداني الطيب صالح، وفي مصر تعرضت رواية أنف وثلاث عيون للكاتب المصري “احسان عبد القدوس” للهجوم وهي ما زالت عرض مسلسلة في احدى المجلا المصرية، أما عن المكتبة الأروبية والعالمية فحدث ولا حرج، ولكل كتاب ولكل موقف تفاصيل قد لا يتسع لها المقال، مثل الضجة التي أثارتها  “عشيق الليدي تشاترلي”  1928 للكاتب البريطاني ” ديفيد هربرت لورانس” ومقابلة المجتمع البريطاني والاوربي لها باستهجان ورفض، حتى أنها صدرت نسخ منها تدعى النسخة المهذبة، ولا أنسى ترجمة الكاتب المصري الكبير”مصطفى لطفي المنفلوطي” لرواية ” بول وفرجينيا” للكاتب الفرنسي “برناردان دي سان بيير ” بحيث أسماها “الفضيلة” كي تتسق مع المباديء الأخلاقية للمجتمع العربي في ظنه .

والحقيقة  اختصارًا لا أجد تلخيصُا لرؤيتي كما وجدتها على لسان الكاتب البريطاني الأيرلندي “أوسكار وايلد” حين استدعوه لمحاكمة كاتب قصة رأى القضاة أنها غير أخلاقية، فأجاب على سؤال المحقق:

“هل تسمي الكتاب الذي يتناول موضوعات تتنافي مع الأخلاق كتابا”، فكانت إجابته: أنه لا يوجد كتاب أخلاقي وكتاب لا أخلاقي – وإنما كتاب أسلوبه رديء أو عمل فني أو عمل ليس فنيا”

ولكن –  وفي ضوء هذا العرض السريع – يبقى السؤال: هل كل ما ينتجه الأدباء والفنانون خاصة في العشرين عاما السابقة فنًا وأدبًا مخلصًا لوجه الأدب والفن؟ وهل يجب على المجتمع محاكمة الكاتب أو الفنان الذي يجتريء على العرف والأخلاق الاجتماعية؟ أجد أن إجابة السؤال الثاني وبكل يقين لا، وأن الضمير والذائقة وحدها هي التي يجيب عليها أن تفعل، ويجب عليها أيضًا أن تجيب بنفسها على السؤال الأول.

ولا أرتدي هنا ثوب الوعّاظ  فالوعظ كتاب هرطقة، عفا على تعاليمه الزمن، أو أداة من أدوات الكهنة لخدمة باب الملك.. أو لاجترار مصلحة ما، وترسُخ في ذهن المتلقِّي على الفور لوحة تشكيلية إغريقية لإله يجلد البشر، فيُوصَم بالقسوة حينًا، ويُلقى بأحجار السأم حينًا، والثورية الفكرية الشرق أوسطية لا تعرف غير شكل واحد للثورة؛ التمرّد والحريات الجسدية، حرية لا تشتمل على حق الآخر، ولا على حق التعدد الديني، ولا على احترام ما خلق الله، و أبدع من ألوان البشرة واختلاف اللهجة، حرية لا تشمل الضمير ولا تعترف بأسس أخلاق اعترف بها العالم، وطبقتها البهائم.

في شرقنا الحريات تعني الضرب في الثابت وما بعد ذلك الطوفان، حتى الذين ينادون بالأصولية لا يرون منها غير نظام الحاكمية والشكل الظاهري للمرأة والرجل.  

على الجانب الآخر نجد أن الشرق منذ بدء القرن التاسع عشر، يلهث انبهارًا وراء تقدم الغرب الصناعي والإعلامي، وكم من مُفكّر وسائحٍ وزائرٍ ودارسٍ عادَ من بلاد الغرب يدشّن المراجع عن الحريات واحترامها، وتقديس الوقت واحترام الإنسانية والالتزام بالمواعيد.

ورغم أن الغرب الذي دشّن الحريّات، يلتزم بأصول وقواعد تُلزم الفرد والمجتمع بها، إلا أنه وبلا أدنى شك يستنكرها على كافة الشعوب، بل ويسعى عبر قنواته التلفزية والإعلامية والثقافية إلى ترويج فكرة الحرية على عكس ما يطبقها عنده، وليس من عجب أن يتبعها ضعاف العقول مذبذبوا الهوية، من افتقدوا الانتماء الحقيقي للجذور الأخلاقية، والتي توارثها المجتمع الشرقي جيلاً بعد جيل، خاصة وهجوم قنوات انتفيليكس وصولًا إلى بعض الأفلام الموجهة لليافعين والأطفال كلها تدفع وتوجّه إلى منحى أخلاقي مضاره ليست قاصرة على الكتب والفن فحسب، ولكنها تخلخل عقيدة السلام والأمن الاجتماعي والأسري.

أضف تعليق