أرشيف الأوسمة: الطقوس

“كحل العيون”..موروث بطعم الحنين:مرفت يس

لكل مجتمع خصوصيته في احتفالاته وعاداته ، لكن خصوصية  المجتمع المصري تختلف عن بقية المجتمعات لأنها ذات طابع تشاركي ، تعمد إلى ذوبان  ومحبة خالصة بين أفراده ساعدت على صموده على مر العصور؛ من خلال هوية كامنة تميزه عن غيره من المجتمعات ، وجذر ثقافي متأصل داخلنا نتوارثه جيل عن جيل؛ ليس عن تشدد وإنما عن وعي ومحبة وتناغم بين جميع أطيافه، وكل طقس وعادة جميلة مرجعها دائما إلى الأم التي كانت حريصة على بقاء تلك الطقوس، ففي صباح السبت السابق لعيد القيامة المجيد  كنت استيقظ على روائح البخور، وصوت إخوتي وهن يتشاركن تنظيف المنزل ، بعيونهن الكحيلة ،المتسعة التي زادها كحل سبت النور اتساعا وجمالا.

استمر في القراءة “كحل العيون”..موروث بطعم الحنين:مرفت يس

قوى الثقافة الفاعلة: من كتاب ( عملية تذويب العالم)

سيد الوكيل

سيد الوكيل
القاص والروائي سيد الوكيل

لاحظنا في الفصل الأول، كيف أن التحولات صارت حادة وسريعة، بحيث أحدثت تغيرات دراماتيكية في كثير من المعاني التي كانت مستقرة، مثل: معنى الزمن والتاريخ والفن، وطبيعته، وأدوات إنتاجه، ووظيفته. فضلًا عن إنها بشرت بفنون جديدة، صارت تنافس بقوة الفنون التقليدية، وتغير من نظرتنا لها، وربما أهميتها بالنسبة لنا. إنها تغيرات أحدثتها ثورة التكنولوجيا على الأرض. تغيرات تأتي لأول مرة، من صيغة العمل وواقع الحياة إلىومية للجماهير الغفيرة. وهذا تغير مهم. فبدخول التقني شريكًا في صياغة الواقع الجديد. لم تعد التغيرات الثقافية الكبرى نوعًا من إلهامات الفلاسفة والرجال كبار الشأن، على نحو ماسار التاريخ في مدارسه واتجاهاته الفنية والثقافية. هكذا أحدثت التكنولوجيا تغييرات أبعد مما نظن، بحيث خلخلت المعنى الميتافيزيقي للفن والثقافة. بل وغيرت من صورة الفنان والمثقف. وبطبيعة الحال تغيرت مفاهيم فرعية كانت ترتبط بمفهوم الثقافة ذاتها مثل: ثقافة المركز وثقافة الهامش، الثقافة العليا والثقافة الشعبية، ثقافة الأنا وثقافة الآخر. وأصبح من المعتاد أن يعيش الفرد تداخلًا بين مثل هذه الثنائيات. بما يعني أن القيم المتعارضة لم تعد تمنع استهلاك الثقافة.

  وقد عبر عن هذا أحد المطربين الشعبيين في إحدى قنوات التلفزيون المصري مدافعًا ضد اتهام أغانيه بالانحطاط والإبتذال، فقال: “لايوجد فرح في مصر مهما كان شأن صاحبه لا يرقص معازيمه على ما أغنيه، الناس يسمعون السيدة أم كلثوم في الصالونات، لكن في الأفراح  يسمعونى أنا”. المغزى هو تغير القيم. إعلاء قيمة إليومي والمعاش، لتتجاور إلى جانب الاستثنائي والرفيع، هذا التجاور يجعل كل شيء عرضيًا كمصفوفة على سطح واحد، وبذلك يصبح الواقع لا تراتبيًا، أي بلا عمق. كما أن ذائقة الناس لم تعد تتشكل على نحو مرجعي ثابت، ومحتكم إلى قيمة كلية ومعيارية ووحيدة، لها معنى تاريخي مسبق. وهذه الظاهرة تعرف بموت الحكايات الكبرى. وتأتي كمقوم أساسي في فلسفة ما بعد الحداثة. ويعني هذا، أن فلسفة ما بعد الحداثة، تدعم التغيرات الجذرية التي أحدثتها التكنولوجيا في واقع الحياة إليومية.

   السرديات الكبرى، هي حكايات مركزية، على نحو يجعلها سلطة متماسكة، تمارس تأثيرًا على تصورنا لذواتنا وعن الآخرين. وتتسرب عبر مكونات ذات طبيعة معرفية وثقافية مثل الدين والفن واللغة والجنس والأساطير والحكايات الشعبية. وهذه الحكايات يمكنها أن تشكل صورة الذات عن ماضيها، نظرًا لالتباسها بالتاريخ. ولهذا هي تستمد طابع الموثوقية والقداسة منه، وتؤثر بهما على الحاضر فتأخذ معاني كلية وقيمية. ولأنها ذات حضور قبْلي على كل معرفة جديدة، فهي تمارس سلطة على المعرفة. ومن ثم هي تضع تصوراتنا عن ذواتنا وعن الآخرين في أنماط معرفية مسبقة وغير حقيقية، مثل: الإيمان بتفوق الجنس الأبيض، أوتفوق الرجل على المرأة، أو سمو الثقافة العليا على الثقافة الشعبية، أو أفضلية العقل العلمي على الحدسي والحسي والخبرات المعاشة، هذا فضًلا عن الأيديولوجيات الكبرى.

والتصور الذي تطرحه ما بعد الحداثة عبر (ليوتار) هو التشكيك في قيمة وموثوقية هذه الحكايات. إذ يراها مجرد ألعاب لغوية، عملت على تزييف معارفنا عبر إطلاق أحكام قيمة مستندة إلى نظام أو بنية لا تخضع للمنطق، وتقع خارج المجتمع والتاريخ، ومع ذلك، فهي تتمتع بمركزية تجعلها مرجعًا في تفسير كل ما يقع من أحداث داخل المجتمع والتاريخ. ويحرض (ليوتار) على إنتاج سرديات بديلة وصغرى لتعمل على نقض السرديات الكبرى، ومن خلال تعارض التفاسير، تختل قيمة السرديات الكبرى وتفقد سلطتها كمرجعية عليا.

فضلًا عن العولمة كمؤثر اقتصادي في تحويل الثقافة من معنى القيمة إلى معنى الاستهلاك. وهو ما ينبيء بتقلص الثقافات العليا في مقابل تضخم الثقافة الجماهيرية، هناك رافدان متزامنان في إحداث التغيير الثقافي: التكنولوجيا، وحالة ما بعد الحداثة.

 لكن.. ثم شيئ يجب إدراكه والاهتمام به في إطار بحثنا عن معنى جديد للثقافة في عالم يتغير، إنه أشبه بالمفارقة: فإذا كانت هناك قوة واحدة تتجهه الآن إلى تكريس لمركزية السلطة وعولمة النظام، باحتكارها لأدوات إنتاج المعرفة، فإن الثقافة.. والثقافة وحدها تنفرد بالخروج عن النظام وكسر السياقات والأطر المعدة سلفًا، وهي بدورها المقاوم للنظام، تقف على يسار العالم الجديد، الذي يسعى طوال الوقت إلى الهيمنة واحتكار السلطة عبر مؤسسات قديمة، غذّت نفسها طوال الوقت بالحكايات الكبرى. وبالطبع.. بالشخصيات الكبرى.

ذات مرة هاتفتني إحدى قريباتي، قالت مباشرة: أريد رأيك بوصفك كاتبًا ومثقفًا. أنا في مكتبة ـ كذا ـ وأرغب في شراء هدية عيد الميلاد لابني. بالصدفة كنت قريبًا من مكانها، وعندما وصلت المكتبة وجدت بصحبتها فتاتين جامعيتين من عمر ابنها، وكان ثلاثتهم حائرين أمام ركام الكتب المعروضة. وكانوا جميعًا يرشحون روايات لكتّاب شباب من نفس عمر الفتاتين تقريبًا، كتّاب غير معروفين بالنسبة لي. لاحظت أن الفتاتين تعرفان كل شيء عن هذه الكتب، وعن كتّابها. وفيما كنت أفكر في عيون الأدب العالمي، كانتا تشرحان لي باستفاضة، عن الإثارة والطرافة والمغامرات التي تزخر بها هذه الروايات الشبابية، وتؤكدان أنهما يعرفان ذوق صديقهما المحتفل به. ثم لاحظت أن قريبتي تميل إلى اختيار الفتاتين. لهذا لم يكن لدي ما أقوله أو أفعله غير إدراك أن وجودي هنا مجرد أيقونة، تضفي نوعًا من الوجاهة والشرعية ـ بوصفي مثقفًا ـ على اختيار الفتاتين.

عندما كنت في عمر هذا الشاب، كان علىّ أن اختار كتبي بنفسي، وكنت أقرأ لديستيوفيسكي وزولا وتوماس مان وغيرهم من هؤلاء الكبار ذوي الشأن، كانوا يطلون عليّ من الماضي وكأنهم من آلهة الأولمب، لكن شباب اليوم لايفضلون قراءة كتب الآلهة.ولايهتمون كثيرا بالماضي والماضويين فلا تراتبية ولا عمق في وعيهم بالعالم، فكل شيء على سطح المكتب يحدث هنا والآن. إنهم يحتفظون على هواتفهم المحمولة بصور لكتّابهم المفضلين، صور تسبر أغوار حياتهم اليومية، وهم يكتبون، وهم يحتسون قهوة الصباح، ويدخنون الشيشة على المقهي، وهم بصحبة أصدقائهم على الشاطيء. هكذا لم تعد المسافة بينهم وبين كتّابهم بعيدة على أي نحو. وبهذا التقارب يصبح مستهلكو الثقافة هم أنفسهم منتجوها. لكن المؤشر الأهم في هذه الحكاية، هو نوع الثقافة المتدوالة بينهم، إنها ليست ثقافة الألهة كبار الشأن، وليست ثقافة شعبية ـ أيضًا ـ كتلك التي تناولها أجدادي عن أدهم الشرقاوي وشفيقة ومتولي،فضمخت نفسها بعطر الماضي المقدس. إنها ثقافة ثالثة تخصهم. كأغنية الراب التي سمعتها من أحد صبية الأحياء الشعبية يغنيها في عربة المترو أثناء عودته من المدرسة مع زملائه، كانت كلماتها تدور عن حياته الشخصية، تعثره في الدراسة، كرهه لمدرس الرياضيات، تصرفات والدية ومشكلته معهما. بعض الركاب يتبادلون الابتسامات ليشجعوه، وبعضهم يعبر عن امتعاضه، وكانت المفاجأة أن الصبي أعلن بفخر أنه الذي ألف الأغنية ولحنها. وهاهو يغنيها بصوت اعتلته بوادر البلوغ الجنسي. سأنهي هذه الحكاية بمفارقة، أن الولد الذي زعم أنه ملحن الأغنية على طريقة الراب، لم يكن يعرف أي شيء عن مطرب الراب العالمي eminem)) لكن المفارقة في أن أغاني (إمنيم) مكنت هذا الصبي أن يؤلف ويلحن ويغني بنفسه عن نفسه.إن الصبية والفتيات في الضواحي والأحياء العشوائية بمصر، لم يعد بوسعهم أن يميزوا أنفسهم بثقافة خاصة، إنهم يستهلكون ثقافة عالمية كتلك التي يستهلكها نظراؤهم في المدن الكبرى وهو ما يعتبره (إليكس كوتلفيتز)(1) في مقال له بعنوان: روابط زائفة، نوعًا من الاستهلاك العاطفي التعويضي. إنهم يبدون أكثر تشبثًا بأنماط ثقافية كبرى تظهر في أغانيهم وقصات شعورهم وموديلات ملابسهم. وفي ظني أن هذا يضع مقولة ليوتار عن موت السرديات الكبرى محل مراجعة، إذ يبدو لي أن موت السرديات جاء لإفساح الطريق أمام سردية كلية وحيدة تغرد تحت سماء العولمة.

المتفائلون أمثال إدوارد سعيد يعتقدون أن الثقافة ستضطلع بدور مقاوم للعولمة، وينتقدون ـ في نفس الوقت ـ الدور الذي تلعبة المؤسسات الثقافية القديمة في دعم احتكار السلطة. فهل احتفظ النظام العالمي بالصندوق، وسلم مفتاحه للمثقفين كما يفكر إدوارد سعيد، أم سلمه للجماهير الغفيرة؟.

 هناك احتمال أن الثقافة التي يقصدها (سعيد) ليست هي الثقافة العليا التي ُأنتجت داخل هذه المؤسسات. وربما ليست الثقافة الشعبية التي اعتصمت بآليات إنتاج تراثية وشفهية، واستعصت على الكتابية فضلًا عن الصورة. ربما نتحدث عن ثقافة ثالثة، هي في الحقيقة نتاج تحريك للثقافتين القديمتين. منطقة مائعة بين المتن والهامش. تمكّن منتجو الثقافة أن يكونوا ـ في نفس الوقت ـ هم مستهلكوها. ربما من الأفضل أن نسميها ثقافة الجماهير الغفيرة، مع التقدير لجلال أمين. ومع هذا التصور يصبح مفهوم المثقف نفسه ضابيًا ومائعًا، ويحتاج لكثير من التفسير.

***

على أي حال، يحسن أن تكون البداية من داخل مؤسسات السلطة المعرفية نفسها، أو على نحو ماتقول ( إلىزابيث إ ميس) في مقال لها بعنوان: السياسة الجنسية والحكم النقدى: ” إننا إذا ما التمسنا تحويل بنى السلطة، فإن علينا أولا أن نسميها، وبذلك نكشفها ونعرضها للجميع “(2) وذلك بمناقشة وفضح أساليب الهيمنة التي تمارس في صيغ ثقافية، ثم تتحول هي نفسها إلى سلطة، يتبناها أفراد كبار أو مؤسسات كبرى، يعطون أنفسهم حق الكلام نيابة عن الآخرين، وهم في سبيل ذلك لا يتوقفون عن إنتاج النظريات والمقولات المقدسة التي تتحول إلى سياسات عامة للعمل الثقافي، وعلى أساسها يتحدد من هو المثقف؟

تشير أصابع الاتهام إلى دور الأكاديميات العلمية في السيطرة على مقدرات الخطاب الثقافي، وهو دور يبدو شديد التعاظم والرسوخ، حتى ليصبح واحدًا من المسلمات التي فرضتها الحداثة، غير أن تجاوزنا لمعطيات الحداثة إلى ما بعدها، يحفزنا على مراجعة مواضعاتها، التي فرضت نفسها كحقائق تستمد شرعية وجودها من اليقين العلمي.

 ربما يكون من المناسب أن نبدأ بمراجعة المفهوم ذاته، نعني مفهوم المثقف، من هو المثقف؟ وماهي طبيعة العمل الثقافي؟ وهل يجوز لجهة ما، أو فرد مهما كان عظيم الشأن، أن يرّسم بوصفه مندوبًا ثقافيًا ساميًا؟   

ذات مرة، دعت مجلة أمريكية إلى مؤتمر للكتاب المناهضين لسياسة (ريجان) وكانت النتيجة أن حضرت أعداد كبيرة من الناس لايجمعها سوى شيئ واحد: مناهضة سياسة ريجان، كانوا خليطًا من الأدباء والفنانين والنقاد ورجال الدين والأكاديمين والحقوقيين والإعلاميين ونشطاء في مجالات المجتمع المدني: البيئة وحقوق الإنسان والمرأة والطفل وبرامج التنمية البشرية والإغاثة وإدارة الأزمات وخبراء التربية..ألخ.

يرى (إدوارد سعيد) في مقال له بعنوان: (الدور العام للكتاب والمثقفين) أن هذا التجمع هو أبلغ رد على مجموعة المقالات والكتابات التي راحت تبشر بموت المثقف، معتمدة على أن انتهاء دور المثقف المتوحد الرومانسى يعني اختفاء كلمة ثقافة من الوجود، كما يلاحظ ـ أيضًا ـ أن المعنى المفهوم لما هو كاتب وماهو مثقف أصبح مشوشًا، وفضفاضًا، بحيث يمكنه احتواء الكثير من التخصصات والممارسات التي تندمج في سياق كبير يطلق علىه (المثقف العام) وهذا المثقف الجديد يتخذ من (الحقل الثقافي العام) مجالًا واسعًا لنشاطه الذي يتوجه ـ في الأساس ـ كدور مقاوم لصور الهيمنة الجديدة، أنهم معنيون بألا يفقد المجتمع البشري إنسانيته في مواجهة آليات التنميط والتشيؤ. 

ويعبر (إدوارد سعيد) عن فزعه من مبالغة الخطاب الأكاديمي بنزعته التنافسية غير المهدَدة، ولغته المحكمة المليئة بالرطانة الخاصة لما يجري في الحقل العام من حوله، ثم يشير إلى دراسة (ماساواميوشى رياديا) عن دور الأكاديمية في العلوم الإنسانية، ومحاولة عزلها عن الحقل الثقافي العام، ونتيجة لذلك لم يُلتفت إلى مثقفين غير أكاديمين من أمثال (جون بيلجر والكسندر كوكبرن).

يقول إدوارد سعيد: ” إن الفصل بين الحقلين، العام والأكاديمى أكبر في الولايات المتحدة ـ كما أعتقد ـ منه في أي مكان آخر، رغم اللحن الجنائزى لبيري اندرسون عن اليسار الذي يبدأ به تحرير مجلة نيوليفت ريفيو، ويعبر بواسطته عن كون هيكل الآلهة البريطاني والأمريكي، وما تبقى من الأبطال القاريين (في أوروبا) مع استثناء واحد فقط، أصبح أكاديميًا بصفة حصرية، أفراده من الرجال ويعاني من المركزية الأوروبية” (3).

هنا يمكن ملاحظة أن ثلاث قوى قديمة مازالت تسعى لاحتكار الثقافة وتقدم نفسها بوصفها تمثيلات للمثقف:

1ـ الأكاديميات: بوصفها مؤسسات تتسلح باليقين العلمي، وتحتمي بموضوعياتها ومناهجها التجريبية. ومن ثم، فإن أحد المهام التي تقوم بها الثقافة الجديدة، هو تفكيك مركزية الأكاديميات، بدمجها في المجال الثقافي العام وإخراجها من عزلتها، وتذويب الحدود الوهمية بينها وبين الواقع العام، من خلال خلق قنوات للتواصل مع مثقفين كبار خارجها تقديرًا لتعددية المعرفة وتعدد مصادرها، وتوسيعًا لمجالات التخصص عبر مناهج تكاملية، وكبح جموح التفكير النظري حتى لاينمو ذاتيًا مثل كرة الثلج. 

2ـ الرجال: بوصفهم تمثيلًا لثقافة ذكورية، فرضت نفسها عبر التاريخ، ومررت خطابها في صياغات ميتافيزيقية مثل الأسطورة والدين والفلسفة وأخيراً.. العلم. ويتطلب الأمر، تقويض مركزية القضيب في الخطاب الثقافي، ورواية التاريخ من وجهة النظر النسوية، فضلاً عن آليات التمييز الإيجابي لتغيير صورة الهامش الثقافي. تذويب حدوده وتوسيع دوائره ليدخل في المجال الثقافي العام.

3ـ المركزية الأوروبية: التي راهنت في تدشينها للحداثة على تمييز نفسها كمركز (أنا) في مقابل الهامش (الآخر) ولم يتوقف الأمر عند مجرد تمييز نفسها، بل تجاوز ذلك إلى تدخلات سافرة في صنع وتحديد هوية الآخر خارجها، وتمثيلاته في حيازاتها الاستعمارية إبان فترة الكشوف الجغرافية وسطوع الاستشراق، وهي الآن تمارس نفس الدور عبر احتكارها لتكنولوجيا المعرفة.  وتُعنَى اتجاهات مابعد الاستعمار بمعالجة الآثار التي ترتبت على احتكار أوروبا لإنتاج المعرفة، وفضح أوهامها ولا سيما في رسم صورة الآخر، والتمييز الإيجابي للخصوصيات الثقافية الصغرى.

هذه الملاحظات الثلاث، وثيقة الصلة بجسور ممتدة فيما بينها، بحيث لايمكن معالجة إحداها بمعزل عن الأخرى. لهذا سيكون من المناسب أن نلقى نظرة تأملية وتحليلية لهذه المركزيات الثلاثة، مع التسليم بطبيعتها المتعاضدة بين بعضها البعض. فعلى سبيل المثال، لا يمكن عزل ذكورية المعرفة عن سردية تفوق الرجل الأبيض، وهما ـ بطبيعتهما ـ وثيقتي الصلة بشكل العلاقة بين الأنا والآخر، ومن ثم، بمحددات الهوية.

الإشارة التي يفصح عنها (إدوار سعيد) في أكثر من موضع، هي انحياز الأكاديمية بوصفها مؤسسة، لتعزيز المركزية الأوروبية الأمريكية للهيمنة ـ المعولمة ـ على مقدرات العالم، بطرحها لنمط ثقافي موحد يتجاهل الخصوصيات المحلية، ومن ثم فإن (المثقف العام) هو المخول له ـ الآن ـ القيام بدور مناهض لهذا التعزيز المركزي. وذلك بوقوفه على يسار العالم الجديد بكل مؤسساته الراديكالية. إن المواجهة بين الأكاديميات والمجال الثقافي العام لا سبيل إلى تفاديها، إذا ما توخينا الخروج من المأزق لذي وضعتنا فيه الحداثة.

 يصور (سعيد) الموقف الأكاديمي كما لو كان خيانة للمثقفين، وتراجعًا عن دورهم التنويرى، باستثناءات قليلة يشير فيها إلى أكاديميين كبار من أمثال (تشومسكي). ومع ذلك ينبغي ألايفهم الأمر كما لو أن ثم صراعًا فئويًا بين ما يدعوه (سعيد) بالمثقف العام والأكاديمي. فالأمر في تصورنا قد يكون أوقع، عندما يصور كصراع بين نمطين من الخطاب الثقافي، أحدهما يسعى إلى التأسيس النظري، والتخصص والمركزية والتنميط، والآخر تقويضي متغير، يحترم الخصوصيات المحلية، ويؤمن بالتعدد والتجاور.

وكانت الحداثة منذ نشأتها قد راهنت على العقل العلمي، واتخذت من الأكاديميات معاقل لها، حولتها إلى غرف عمليات تدير من خلالها العالم. فلا يخفي أن ثمة حربًا باردة بين المؤسسات العتيقة على حكم العالم، حيث كان للعلماء اليد العليا فيها منذ الحداثة. كما كانت لهم الكلمة الأخيرة خلال الحربين العالميين. صحيح أن الآرض الآن ترتج من تحتهم بفضل مجموعة التقنيين الصغار الذين يسيطرون على كل وسائط الاتصال والمعرفة، ويجترئون على الكلام عن نهاية العلم. لكن الأكاديمات تعمل على علمنة التكنولوجيا في ميادين التخصص التي مثل العلوم الطبية وعلوم الفضاء. وفي المقابل، ينفلت المجال الثقافي العام من قبضتها، ليسقط في قبضة التقنيين. هناك تخوف من أنهم  يتحولون ـ هم أيضًا ـ إلى طغاة يحكمون قبضتهم على العالم، مع تغيير طفيف في الشكل المؤسسي. هذا التخوف، رهن باستمرار المؤسسات الثقافية القديمة، وقدرتها على السيطرة والتحكم في عمليات صنع وتوجيه الثقافة التي ينتجها الهامش. عمومًا، يظل الإبداع الثقافي الفردي والهامشي، له هذا الدور في مقاومة كل أشكال السلطة والهيمنة على مقدرات الإنسان، ومقاومة النظام الذي يطمح في أن يكون كونيًا، ما دامت هذه السلطات الثقافية القديمة هي التي تحكم العالم.

وإذا كان (سعيد) يعتقد بأن الولايات المتحدة الأمريكية، هي الأكثر رديكالىة فيما يتعلق بالدور الأكاديمي المؤسسي، فلا يمكننا تجاهل أثر التكنولوجيا في تقويض ـ أو على الأقل تفكيك ـ هذا الدور، في خطابات مناهضة لسياسات حكم العالم، نراها على صفحات الأنترنت وشاشات التلفزيون، وعبر كم هائل من أفلام السينما والروايات والعروض المسرحية، بل وأفلام الرسوم المتحركة التي ينتجها فنانون مغمورون يعيشون داخل المجتمع الأمريكي نفسه، تستعرض فزعها من العلم (فرنكنشتاين) الذي قرر أن يحكم قبضته على العالم.

وفي المقابل، يلفت انتباهنا في هذ الصدد، بزوغ الوحش التكنولجي الجديد، الذي صدرته أمريكا ـ في الثمانينيات ـ إلى كل أطفال العالم في صورة مسلسل الكرتون (ماسينجر) أو الرسول الآلي الجبار الذي يقوم بدور شرطي العالم، فيما هو يحتكر القوة لنفسه. وتقوم على توجيهه مجموعة من العلماء والتقنيين في تعاضد واضح بين السلطتين الحديثتين، يقسم العالم إلى خيّرين وأشرار، على نحو مانطق به بوش ـ بعد ذلك ـ في حربه على أفغانستان. مما يعني أن الحرب الثقافية بين نمطي الخطاب (المركزي والهامشي) تدور من حولنا بشراسة وبنفس الأدوات الجديدة. ويعد لها منذ منتصف القرن الماضي إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، مرافقة لرغبة أمريكا في إعلان نفسها قوة وحيدة ومطلقة في العالم مع نهاية التاريخ بحسب فوكوياما. 

وإذا كان تعزيز المركزية في أمريكا يتم على مستوى أوسع كما يلاحظ (سعيد) فإن اتساع مساحة الديموقراطية فيهما والتفعيل الكبير لنشاط المجتمع المدني، يحد من إحساس الفرد بالدور السلطوي للمؤسسات الكبرى، بحيث يبدو الأمر أكثر فداحة في المجتمعات التي تعاني من تقلصات ديموقراطية. لهذا، فإن المعركة التي تدور في مجتمعات أخرى ـ أكثر هامشية ـ كما هو الحال في مصر ـ مثلًا ـ تتخذ صورة من الشد والجذب مع تلك المؤسسات القديمة في استقطاب الخطاب الثقافي، لاستقطاع مساحات أكبر لحرية التعبير، ولكنها لاترقى إلى مستوى الممارسة الديموقراطية بطبيعة الحال. كما أن أولويات الصراع تتجهة إلى سلطات أكثر قدمًا في التاريخ، ولاسيما السلطتين: السياسية والدينية، فيما تتراجع حدة المواجهة ـ كثيرًا ـ مع الأكاديمية. لكن هذا لايعني أن المؤسسات الأكاديمية ـ عندنا ـ ليست ضالعة بطريقة ما، في رسم الخريطة الثقافية المشوهة والمستبدة، كما أنها ليست بمنأى عن صراعاتها الراديكالية، فضلًا عن خضوعها لسلطة النظام، بوصفها إحدى مؤسساته وأكثرها بيروقراطية. إن الطقوس التي ترافق مناقشات الرسائل العلمية، لا تدعم شيئًا من الموضوعية والدقة العلمية بقدر ما تدعم الأداء الكهنوتي للأكاديميين.   

***

  للحكاية ـ عندنا ـ جذور تاريخية ليست بعيدة، وربما، هذا ما يجعلها خارج منظور الصراعات القديمة. فمثلًا الصراع بين طه حسين والأزهر لم يكن مجرد صراع بين وعيين أحدهما ليبرالي والآخر أصولي كما يتصوره البعض، لم يكن بريئاً كمجرد صراع بين طريقتين للتفكير، بل كطريقتين تتصارعان للهيمنة على مقدرات المعرفة وقيادة الحراك الثقافي، صراع بين مؤسستين أحدهما لها سلطة الوجود المقدس، والأخرى تطمح إلى دور مماثل إن لم يكن أكبر. وعلينا ألا نتوقع غير الزواج السعيد وتبادل الهدايا، فيحصل الشيوخ على شهادات الجودة العلمية، وتمارس اللجان العلمية دور محاكم التفيش على نحو ماحدث لنصر حامد أبو زيد. القطة تأكل أولادها إذا خرجوا عن طاعتها، وهكذا تتراجع المؤسسة العلمية عن دورها التنويري وتقف في طابور المؤسسات الأخرى الحاكمة (دينية ..سياسية ..عسكرية ..رأسمالية).. لقد حازت المؤسسة العلمية ثقة النظام، ففي ظل تهميش الحراك السياسي والثقافي العام، وتفريغ دور الأحزاب السياسية، تسلل الأكاديميون إلى مراكز السلطة الحاكمة، حتى أصبح وجودهم تقليدًا حكوميًا في اختيار الوزراء والمحافطين جنبًا إلى جنب مع العسكريين، وبلا منافسة تذكر من أصحاب الخبرة الذين ينتمون إلى الحقل الثقافي العام بكافة روافدة المعرفية والسياسية. حتى صار تعبير (حكومة تكنوقراطية) مبررًا ومصدرًا لفخر السلطات السياسية الحاكمة. بالطبع، هذا يحدث بمشاركة ودعم كبيرين من المؤسسة العسكرية.

 ويبدو أن الصراع بين المؤسسات الراديكالية سيستمر طويلًا. فحتى بعد ثورة الثلاثين من يونيو، في فترة تولي الدكتور جابر عصفور لوزارة الثقافة. يبرز الصراع من جديد، بين المؤسسة الدينية الأصولية بطبيعتها، وحفنة التنويرين والأكاديميين القدامي على أيهما يضطلع بمهمة تجديد الخطاب الديني، وذلك على الرغم من أنهما ـ معًا ـ مسؤولان عن ما وصل إليه الخطاب الديني من تهافت واضمحلال خلال فترة حكم مبارك. وكان من الواضح، أن تمركز المؤسسة الدينية القديمة في ضمير السلطة السياسية والعسكرية أقوى، إذ انتهي الصدام بإقالة وزير الثقافة، وهذه علامة أخرى على الضعف الذي استشرى في جسد المؤسسة العلمية وحلفائها التنويريين. إن مجتمعات لم تعرف الحداثة بعد، تتوغل فيها السطة الدينية على نحو يكفي لإزاحة أعدائها، وقد نجح الإخوان المسلمون ـ إلى حد ما ـ في إزاحة نظام مبارك، بعد أن تخلت عنه المؤسسة العسكرية. وفيما بعد اضطلعت المؤسسة العسكرية ـ نفسها ـ بمهمة إزاحة تنظيم الإخوان المسلمين ـ الذي ظن نفسه ندًا لمؤسسات الدولة بدعم من جماهيريته ـ إلى خارج المشهد السياسي.       

تراجع الآن كثير من الكتابات موقف الأكاديمية المصرية، وهي تكاد تتفق على معنى واحد، ينتهي إلى أن فشل المشروع التنويري عندنا، يرجع لاستحواذ النخبة الأكاديمية عليه، وانفرادها بتوجيه الخطاب الثقافي ولا سيما في حقول العلوم الإنسانية، دون إنصات كبير لطبيعة الحراك اليومي الذي لايتوقف لحظة عن إنتاج ثقافته الخاصة. ويحتوى هذا الموقف على تناقض واضح، ففي حين يسعى الخطاب التنويري إلى أن يكون متحررًا، فإنه يتحول هو نفسه إلى سلطة. ومن ثم فإن رغبة المثقف العام في خطاب تنويرى يحترم الاختلاف والتعدد باتت ملحة. ونتيجة لغياب هذا الخطاب، يسود التطرف المشهد، ويمكن متابعة ذلك على صفحات الجرائد اليومية وشاشات التلفزيون وشبكات الإنترنت بوضوح، حيث لايأخذ الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين صفة التحاور، بقدر ما يقوم على الاستعداء والنفي المتبادل إلى حد متسم بكثير من العصبية والتطرف. وفي مصر، تبرز مظاهر هذا التطرف في الشارع والمدارس والجامعات ودور العبادة بطبيعة الحال، في صورة نزوعات طائفية بين المسلمين والمسيحيين، وهي مظاهر عززتها سياسات التعليم الموحد الأحادي النظرة التي تنهض على التمييز الديني.

 ويبدو أن ميدان العمل الثقافي أصبح هو المجال المناسب لإدارة هذا الصراع بعد أن تراجع دور الأكاديمية عن رسالتها التنويرية. بل وباتت منغمسة في تحالفها مع السلطة الأقدم، إلى حد يجعل بعض أساتذة الجامعات يحرصون على الفصل بين الطلبة والطالبات في قاعات الدراسة، ويقطعون محاضراتهم للصلاة، وفي جامعة عين شمس، دأب أحد أساتذة القانون، على استقبال الطلبة الجدد ـ كل عام ـ بخطبة دينية وعظية، لايفوتها أن تندد بكبير أدباء ومثقفي مصر (نجيب محفوظ) بل واستعداء الشباب على المثقفين والفنانين واتهامهم بالكفر والإلحاد. فضلًا عن تراجع الاهتمام بالأنشطة الثقافية والفنية ضمن برامج التعليم، حتى لم يعد ممكنًا لمثقف كبير دخول الجامعة بغير تصريح من الجهات الأمنية. وفي أعقاب ثورة 25 يناير، سمح الانهيار الأمني باحتلال الأصوليون لجامعاتنا، وتمكن عدد من مشاهير الدعاة، أمثال (محمد حسان وياسر برهامي وغيرهما) من إلقاء خطبهم ومواعظهم في مدرجات جامعة عين شمس وغيرها، وظهر جليًا، أن حشودًا، من الطلبة والأساتذة الأصوليين، هم الذين يسيطرون على الجامعة في تلك الفترة، بما يشير إلى فشل قاطع للأكاديميات في دورها التنويري، بل وضلوعها في احتضان وتفريخ الأفكار الأصولية. وفي سياق آخر، نجد دعاوى الحسبة على الأدباء والفنانين، وطلبات المصادرة على الأعمال الأدبية والفنية، يقودها أساتذة جامعيين وعلماء من الأزهر، لايختلفون في دعاواهم عن شيوخ الزوايا غير المؤهلين علميًا، بما يشير إلى تماهي المسافة في فارق الوعي، بين النخب العلمية، والعامة، أو بين خطاب المتن وخطاب الهامش، واندماجهما معًا في خطاب واحد، لايلقي بالًا، بل ويعادي على نحو صريح، الخطاب التنويري الذي حاولت الأكاديميات العلمية تبنيه والانفراد به باعتبارها النخبة الممثلة للتنوير، وراعية العقلانية.

 يبدو الأزهر ـ نفسه ـ كمؤسسة تعبر عن ازدواجية هويتها، بين الصفتين العلمية والدينية. هذا الارتباك بدا شديد الوضوح بعيد ثورة 30 يونيو، بانقسام المؤسسة العريقة على نفسها، في موقفها من تجديد الخطاب الديني. وكان من الواضح، غلبة العرق الأصولي حتى على أكثر رجالات الأزهر تنويرًا، وهم يواجهون شابًا وحيدًا (إسلام بحيري) قرر أن يصارح الناس ـ بلا عمامة ـ بتشوهات الخطاب الديني على شاشة التلفزيون. ولم يكن لديهم سوى مبرر وحيد، أن إسلام بحيري ليس أزهريًا. في وقت يمكّنون فيه شيوخ الزوايا من تشويه الخطاب الديني كل يوم.

 هذان الموقفان ضد كل من: جابر عصفور وإسلام بحيري في وقت واحد، يؤكدان على رغبه الأزهر ـ بوصفه مؤسسة تجمع السلطتيتن الأكاديمية والدينية ـ في احتكار الخطاب الديني. ولم يكن من قبيل المصادفة، أن يؤكد رئيس الجمهورية في إحدى خطبة، على أن تصحيح الخطاب الديني الذي طالب به بعد إزاحة حكم الإخوان المسلمين، لن يقوم عليه سوى رجال الأزهر الشريف. إنه ـ مرة أخرى ـ تعبير عن الهوية المزدوجة للأزهر. ولكنه  ـ في نفس الوقت ـ يؤكد على تعاضد السلطتين الأقدم: الدينية والعسكرية.

    لقد سقط المشروع التنويرى المصري فريسة سهلة، وبسرعة مثيرة للدهشة، وفي حماية سلطة الدولة ومؤسساتها العلمية على مختلف تخصاصاتها، بل والثقافية أيضًا. بما يشير إلى خلل في مسار الخطاب التنويري، انتهي إلى عزلة عن الواقع، وانحساره بين جماعات صغيرة ومتشظية لاتمتلك القدرة على إدارة مشروع التنوير. الذي لم يعد تنويرًا واحدًا على نحو ما يقول سعيد سلامة: ” التنوير الحديث لن يكون تنويراً واحداً.. بل مائة ألف تنوير، تنطلق من شتى المواضع المتباينة في المجتمع، من الجزئي والواقعي والملموس، ومن خلال ذلك يتحرر التنوير من الارتباط المطلق بالدولة، وبالتالي من إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة التي هي إحدى الإشكاليات الأساسية للتنوير المتحجر المحتضر”(4).

وهكذا فعلى الرغم من أن عمر المشروع التنويري عندنا قصير بالمقارنة إلى مثيله في أوروبا وأمريكا، فالحال ـ عندناـ أسوأ كثيرًا  مما تكلم عنه (إدوارد سعيد) بوصفه شعورًا عاماً للمثقف الجديد بالغضب من الانحياز الأكاديمي إلى المركزية، وقيامها إلى جانب المؤسسات الأخرى كسلطة تنفي وتتعالى على كل خطاب ثقافي ينتج خارجها.

***

يطرح ليوتار في ( الوضع ما بعد الحداثة ) المشكلة برمتها في صيغة مفارقة واضحة بين العلم وما يطلق عليه المعرفة، إذ تظهر المعرفة كنشاط إنساني عام يتجاوز حدود الطاقة العلمية ليظهر في صور أكثر انفلاتًا وفوضى، فهي تشمل مثلًا: كيف تعيش؟ كيف تسمع؟ وكيف تستخدم الأشياء؟ وما هي معايير الفعالية والعدل والسعادة والصوت واللون والألم والرغبة والإشباع.. ثم يؤكد على قومية ومحلية المعرفة، أما العلم فهو يؤسس للنظام والكلية من حيث سعيه إلى فرض نمط واحد للوعي بالعالم، ومن ناحية أخرى فهو يقوم على البرهان. ويفترض البرهان استحالة إثبات الشيء ونقيضه في نفس الوقت. وهكذا فإن معكوس هذه القاعدة العلمية يبدو ممكنًا ومتاحًا في المعرفة، كذلك فالعلم يقوم على اللغة الإشارية (المحددة للأشياء) وهو مستوى أولي لخطاب لايمكنه احتواء الرمزي والأسطوري والشعبي، في حين يمكن للمعرفة التي تقوم على لغة (تقعيدية) الإشارة إلى مجموعة القيم والمعايير التي يعجز عن تفسيرها العلم، ذلك لأن المعرفة تقوم على منطق الحكاية، ومن ثم فالمعرفة أوسع نطاقاً من العلم.

إن المخرج الذي يطرحه (ليوتار) للخروج من أزمة العلم، هو فتح مجال أكثر انتشارًا وتداولًا للمعلومات على الجمهور العام، لأن محاولات إخفاء المعلومات باتت مستحيلة ونتائج البحث العلمي لم يعد من الممكن قصرها على نخبة من المشتغلين به، بعد أن أصبح كل شيء متاحًا ويمكن تداوله بفضل مجموعة التقنيين الصغار والمهرة الذين يعملون كوسطاء علميين.

هل يعنى هذا وجود مشكلة تواجه البحث العلمي؟

إن المشكلة التي يتحدث عنها (ليوتار) هي تهديد العلم بتفكيك حقوله ومؤسساته، ومن ثم تهديد الابتكار، ويعكس هذا حالات الفتور المعنوى للعلماء وانخفاض الإنتاجية في المختبرات والمعامل.

وفي تصوري أنه من المغالاة أن نردد مقولات متشائمة عن أفول عصر العلم، وعلى نحو ما يجاهر الأمريكي المتخصص في العلوم (جون مورغان) في كتابه (نهاية العلم) والذي وضع له عنوانًا فرعيًا عن “مواجهة حدود المعرفة في غروب عصر العلم” والذي يعلن فيه وبأداء مسرحي:” سيداتي سادتي! مهما كان شعوركم بالحزن كبيرًا فإننا قد تركنا كل الاكتشافات العظيمة خلفنا”.

ولعل مايعنيه (ليوتار) بتفكيك حقول العلم ومؤسساته ليس توجيه ضربة قاضية إلى العلم، ولكن توسيع النشاط العلمي بحيث يمكنه التخلي عن الدور المؤسسي أو المركزي، إلى دور أكثر انفتاحًا وإنصاتًا للصوت العام، وهو لايختلف ـ في ظننا ـ عن ما يعنيه إدوارد سعيد بانفتاح المجال الأكاديمي على المجال الثقافي العام. فالعلم كان ولايزال واحدًا من منجزات الحضارة الإنسانية، غير أن نتائج البحث العلمي ـ مهما كانت قيمتها ـ يمكنها أن تتحرر من سياقها لتدخل في مجال آخر، وليعاد إنتاجها مرة أخرى في سياق معرفي أوسع. ويعني هذا أن العلم ـ خاصة في حقول الإنسانيات ـ لم يعد يملك حق الكلام الأخير والمقدس.

وفي هذا المعنى يقول إدوارد سعيد: ” إذا كان من الصحيح، وحتى من المثبط للهمم، أن المنابر الأساسية خاضعة لسيطرة أكثر المصالح قوة، وبالتالي للخصوم الذين يقاومهم الإنسان أو يهاجمهم، فمن الصحيح ـ أيضًا ـ أن طاقة فكرية متحركة نسبيًا يمكنها الاستفادة من نوعية المنابر المتاحة للاستخدام ومضاعفة عددها ” (5)

وهكذا يمتثل الأمر في ذهن (سعيد) كبحث عن مفهوم مختلف للابتكار الإنساني لايفترض خلق الشيء من العدم كما هو قائم في المفهوم الرومانسي للكلمة، تقوم فيه النظريه بنقد السابقة قبل الشروع في إعادة البناء، إذ يطرح المفهوم الجديد إعادة تركيب شيء من تمثيلات سابقة (إعادة الإنتاج) وهنا يلعب المثقف العام دورًا لايمكن الاستغناء عنه، إذ لم يعد من الممكن أن تقوم المعرفة على فرض نقدي وحيد، يُطرح بواسطة: ” مثقف فرد كبير الشأن، حاز على كل المصادر الفكرية بمفرده، أو بواسطة ناطق مخول باسم جماعة أو مؤسسة، تفترض الكلام نيابة عن أشخاص بلا صوت، أو نقابة، أو حزب ” (6)

إن هذه المراوحة بين مفهوم العمل العلمي والعمل الثقافي العام تبدو أكثر إلحاحًا في مجال النقد الأدبي بوصفه محمولاً على العلوم الإنسانية، وحيث يمكن للمثقف العام أن يلعب دورًا كبيرًا يوسع من أفق النقد الأكاديمي الذي حصرته فيه النظرية.

***

كانت النظرية الأدبية قد وصلت مداها من التخصص العلمي، متسربلة بطابع برجماتي يتفاعل ذاتيًا بمنأى عن الإبداع الأدبي نفسه، ومن ثم فنحن في حاجة إلى ناقد جديد تكون مهمتة الأولى، كسر حاكمية النظام النظري لإنتاج خطاب نقدي جديد ومفارق لليقين العلمي.

تلتقي هذه الرغبة مع رغبة المثقف العام في توسيع أفق الخطاب الثقافي، بدخول آخرين غير علميين وغير متخصصين في فضاء واحد، أو (مجال ثقافي عام) ومن ثم فإن هذا المجال العام هو المرشح الآن لتقديم الناقد الجديد.

يمكن النظر بعين الاعتبار إلى النقد الصحفي: المقالات والمتابعات التي يكتبها صحفيون أو مهتمون وقراء يمكن اعتبارهم شركاء فاعلين في المجال الثقافي العام، تستوعبهم صفحات الجرائد الورقية والإليكترونية، لكنها لاتمثل سوى خطوة محدودة، فضلًا عن طابعها البرجماتي. فنمهجية الخطاب الصحفي والإعلامي ـ عمومًا ـ دعائية واستهلاكية بالدرجة الأولى، فمساحات الإعلانات والحوادث والأخبار اليومية، قد تزيح هذه المتابعات النقدية إلى الهامش. لكنها تظل قادرة على إنتاج رأي عام مؤقت يرضي بعض الكتّاب، ويسهم في زيادة نسب توزيع الكتب. ومن ثم تحول النقد إل نمط دعائي أكثر منه إبداعي. لكن هذا يسهم ـ أيضًا ـ  في تدعيم نمط الثقافة الاستهلاكية، وقابليتها للاحتكار وخضوعها لآليات السوق، ومن ثم يقلل من قدرة الأدب على المقاومة، بل ويحيله ـ هو نفسه ـ إلى سلاح داعم لطموحات العولمة. وغير قادر على خلق مناخ صحي للحراك الثقافي.

وفي السنوات الأخيرة، يبدو لي، أن الصحافة متورطة ـ إلى درجة كبيرة ـ في خلق معيارية لا أدبية للرواية على نحو خاص، من خلال أساليب الدعاية والإعلان غير الصريح، والمتخفية في صيغ نقدية هشة، تدعم قوائم الأكثر مبيعًا، وتلهث وراء موضات أو فضائح أو وقائع طريفة. إن الصحافة ـ نفسها ـ عمل ربحي تحرص على زيادة نسبة توزيعها، ومن ثم قد يدخل المحتوى المنشور في نفس السياق الدعائي للجريدة نفسها، هكذا، ينجر الخطاب النقدي إلى منظومة تنافسية لاتعنيه أصلًا.

 إن المثقف العام الذي يتحدث عنه (إدوارد سعيد) والذي يعول عليه إنتاج ثقافة نقدية جديدة، يتعامل مع أشكال المعرفة كافة، منفلتًا من الصرامة المنهجية إلى التعدد، ومن المتن إلى الهامش، ومن السياق إلى الفضاء، متشابهًا في ذلك مع وسائط الانتشار المعرفي الجديدة، لكنه غير مستلب لصالحها، إن هذا النقد ليس خصيمًا للعلمية بالتأكيد. فالعلم كان ولايزال رافدًا هامًا ومؤثرًا. لكنه ضد التحريك التنظيري الواسع للنقد، بحيث يبدو أنه هو وحده مالك الحقيقة. ومعنى هذا أن عمليات التوسيع للنقد غير الأكاديمي، وإنْ تضمن الامتداد الأفقي المتعدد، إلا أنها لا تتجاهل التخصص العلمي، بل تتجاور وتتفاعل معه. وهذا في النهاية يخلق المجال الثقافي العام، الذي هو نتيجة لتعدد وتفاعل مجالات أصغر من كونها مؤسسية أو كبرى. ربما يتسم هذا المجال بالتناقض والجزئية، ولكنه سيكون واسع الانتشار والتراكم، يعبر عن الروح الفردية والخصوصيات الثقافية والبيئات الصغرى. لايخضع لنمط دعائي متشظٍ يفرضه الإعلام، ولا لسياق إجرائى موحد تفرضه المناهج والنظريات.

وإذا كان النقد الجديد يرفض المعنى الضيق للعلمية، فإنه ـ في نفس الوقت ـ يغلق الباب في وجه غير العلميين من ذوى المعرفة الضحلة والضيقة الذين يلهجون بمقولات ومصطلحات من قبيل البركة العلمية. الناقد الجديد مطالب بالاطلاع الجاد والواسع على نتائج البحث الأدبي المتخصص بحيث لايكون مستلبًا لها فيمكنه الاستفادة منها ونقدها وتجاوزها في آن واحد. فليس ثم شيء مقدس ونهائي في المعرفة. ويعنى هذا التوسيع تغييرًا مثيرًا ليس في طبيعة العمل النقدي فحسب، إنما يشمل هذا التغيير مراجعة الكثير من الثوابت العلمية التي أسس لها التنظير عبر تاريخ حافل من الهيمنة على الوعي النقدي، كما يشمل مراجعة الكثير من المسلمات التي أنتجها المصطلح، أو محاولات التخصيص القصري للاشتغال بالنقد. فلم يعد ثمة نقد أكاديمي، ربما هناك أكاديميون يمارسون النقد. إن محاولة التخصيص للنقد بالصفة (أكاديمي) تمثل في الوقت الراهن نوعًا من العزل الذي ترفضه الثقافة في سياقها التعددي الجديد، فالاشتغال العلمي بالأدب قد يمنحنا صفة الباحث، وهذا أمر مختلف عن النقد وأضيق منه، لأن نتائج البحث العلمي تظل مجرد (داتا) تضاف إلى ملايين المعلومات التي تنتج في أماكن أخرى ـ غير الأكاديميات ـ من العالم الواسع، وبطرق تبدو مغرقة في الهامشية إذا قورنت باليقين العلمي البازغ، لتدخل في نسق معرفي كبير هو: المجال الثقافي العام.

 وهكذا فإن مهمة الناقد الجديد ليست سهلة كما يظن البعض، لأنه عندما يخرج من دائرة العلم المحدودة، يجد نفسه في فضاء المعرفة الواسع. عندئذ يأخذ النقد بعدًا حضاريًا وثقافيًا عامًا. وبهذه الصفة، لن يكون النقد مؤسسًا على مجموعة من الإجراءات المحايدة تضمن السلامة العلمية ليس إلا، بقدر ماهو هو قراءة منصتة منحازة للإنسان ـ نفسه ـ وليس للعلم، قراءة تحترم الخصوصيات الثقافية، والخبرات التخيلية والمعرفية والممارسات الإنسانية، التي تنشأ عن اختبار النص في فضاء معرفي متعدد.  

ثم حراك آني يستوعب هذا التغير في مفهوم النقد من التخصص إلى الموسوعية، ومن العلمية إلى المعرفية، ومن المتن إلى الهامش، ولكننا مازلنا ننظر بكثير من الحذر لهؤلاء الوافدين إلى الثقافة من حقول غير مرسّمة أو غير متخصصة. فثم تاريخ هائل من الترسيم العلمي نجح في نقل مفهوم النقد من السطح إلى العمق، ومن العمومية إلى التخصص، بحيث يبدو لنا أن مفارقة هذا السياق بمثابة قفزة إلى فراغ مخيف.

طوال الوقت كان نمط الهمينة العلمية على الإبداع الأدبي لايتحقق إلا عبر النظرية، فالنظرية بوصفها نسقًا علميًا تضفي على النقد قيمة. غير أن القيمة تظل ـ في حد ذاتها ـ مفهومًا قابلًا للمراجعة. فعندما نتحدث عن القيمة، فإن تصوراً مثالياً يقوم في أذهاننا على اعتبارات عقلانية مجردة، فعلى سبيل المثال: علماء الرياضة يعرّفون القيمة المطلقة بأنها، إما أن تكون موجبة أو صفراً، ولكنها أبدًا، لا تكون سالبة. يعنى هذا أن القيمة، تكون دائمًا تصورًا مكتملاً بذاته، يخلو من النقصان.

لكن القيمة، وإن كانت معيارًا مثاليا ومطلقًا، إلا أنها تظل معنىً مجردًا غير متجسدٍ، وهذه الصفة تجعلها قابلة للاحتمالات والتفاوت، ففيم نتفق على أهمية بعض القيم مثل: العدل والحرية والتسامح، قد نختلف على صورتها، ذلك لأنها لاتتجسد في هيئة أوشكل إلا بالممارسة وضمن مواضعات ثقافية واجتماعية مرتهنة بالإنسان والطبيعة وليس بالتصورات النظرية.

لهذا.. فالقيمة بوصفها معيارًا ثقافيًا قابلة للتحولات، بل ويبدو أن التحولات ـ في حد ذاتها ـ هي الثابت الوحيد في شأن الموضوع الثقافي، وأن هذه التحولات هي الطبيعة التي تمنح القيمة جسدًا وهيئة بحيث يمكن تصورها، ومن ثم تنقذها من التجريد، بل ومن المثالية والاكتمال والأبدية التي تدفعنا إليها القيمة المطلقة في المعنى النظري.

 القيمة بالمعنى الثقافي تحترم النقصان والضعف، لأنها منتج إنساني تنتخبه الشعوب عبر خبرات الحياة اليومية والممارسة، ومن ثمّ تسربها إلى فنونها وآدابها ومنتوجاتها الثقافية كافة.

الطريف.. أن المعنى العلمي للقيمة، يتوافق مع المعنى الميتافيزيقي لها، كلاهما ينحو إلى الإطلاق والتأبيد، ففي التفكير الميتافيزيقي نحن لاننظر إلى الجسد ـ مثلًا ـ بوصفه قيمةً، إنه ـ دائمًا ـ الجانب المظلم من المعرفة والوعي، إنه الأرضي الفاني الناقص الشهوي الخاطيء المدنس. لقد استقر الوعي الإنساني على وضع الجسد في الجانب السلبى كنتيجة منطقية لمعادلة القيمة غير المنقوصة. من الواضح، أن نمطًا من الثنائيات الضدية، يحدد لنا ماهو قيمة. غير أن هذا النمط قديم، وطاعن في القدم.

 إن القيمة تظل معيارًا مثاليًا ومجردًا، تؤبد نفسها في نسق من الثنائيات الضدية والتناقضات، وهذا النسق حفظته الحداثة ـ أيضًا ـ عبر احترامها العميق للعقلانية وتمثيلاتها في الآداب والفنون الكتابية على نحو خاص. ففي الحداثة يبرز العقل، داعمًا لكل معاني التجريد المتجاوزة للطبيعة الإنسانية، فربما، منذ أفلاطون وحتى نيتشه، يعيش العقل التحليلي في لجة من الثنائيات، من قبيل: الذات والموضوع والآنا والآخر والعقلي والحسي والواقعي والمتخيل والعميق والمسطح. ثم أنها (الحداثة) انحازت لتصوراتها المثالية عن الذات والأنا والعقل والواقع.. إلخ، وجعلت من هذه التصورات معايير قيمة لكل ممارسات البشر ومنها الإبداع الفني والأدبي. 

  لقد استمدت الحداثة نسقها القيمي من منطق الإثبات في مقابل المحو. ووضعت تصورًا مثاليًا لما هو فن، وميزت بين الفنون العليا الموغلة في القيمة، والفنون الدنيا التي يمارسها العامة.

 لقد تركت النظرية الأدبية ورائها تاريخًا من العلمية يطمئن إليه الناقد، ويمنحه يقينًا بازخًا، ومع البنيوية التي ادعت قدرتها على تفسير كل شيء وأي شيء، وصلت النظرية الأدبية إلى أوج مركزيتها وانشغالها بذاتها عن مواكبة الحراك الإبداعي، الذي يتخلق يوميًا في صياغات مجتزأة تحدوها رغبة واحدة وهي: مفارقة السياق، في حين ـ ويا للمفارقة الساخرة ـ سعت البنيوية إلى إحكام الحلقة العلمية على النص الأدبى وإخضاعة للقوالب النقدية التي تخضع ـ بطبيعة الحال ـ إلى فكر سياقي.

 لقد أنشأ السياق العلمية، وأنشأت العلمية طريقتها في تفسير الأدب. كان هذا واضحًا في ذهن (مورس بكهام) بصدد كلامه عن (مشكلة التفسير) يقول بكهام: “يبدو واضحًا لي أن التفسير التاريخي للأدب مبني على غرار العلم، على معيار التفسير، وأن الاثنين متلاقيان ثقافيًا، ينبثقان من جانب التفكير السياقي ” (7)

أما(بول ريكور) فيرى أن ثمة خطورة تستوجب الثورة على التفسير السياقي، وعلى العكس من ذلك يدعو إلى تفاسير متعارضة لاتستند إلى مركز، أو نظرية، مشيرًا في مقال له بعنوان (تعارض التفاسير) إلى أن الشكلانية النقدية الجديدة والشكلانية البنيوية دفعتا الدراسات الأدبية الحديثة إلى مأزق مماثل لمأزق الفلسفة، وهو مايشير إلىه (هيدجر ـ ت 1976م) بأنه اللاهوت الغربي من أفلاطون والقديس توما الإكويني هتى هيجل ونيتشة والعلم الحديث. إنه المأزق الميتافيزيقي، باعتبار العلم ميتافيزيقا الحداثة الغربية، حيث ثمة جوهر سابق على الوجود يشكل مركزًا، أو معنى يمكن الرجوع إليه. ولكنه ( هيدجر) يعتقد أن البنيوية وإن شكلت إنجازًا هامًا للفكر الغربي، إلا أنها في نفس الوقت تبدو ( نهاية للتقليد الأدبي الغربي) ومن بعدها يكون التفكيك هو الصيغة التي تمثل تاريخًا جديدًا يبدأ من نقطة انطلاق أولي نحو قهر الميتافيزيقا، أو بتعبير آخر: ” تاريخ يضع الأدب في خدمة الوجود بدلًا من أن يضع الوجود في خدمة الأدب ” (8)

 إن هذا المعنى الظاهراتى في عبارة (ريكور) يرفض ـ وبشكل واضح ـ هيمنة المعنى العميق على الخطاب الأدبي، ذلك الذي لايحظى به سوى ناقد من جنس الآلهة، لقد لفت البنيويون ـ أنفسهم ـ الانتباه إلى ماوصلت إليه النظرية من عماء يستوجب إزاحته، كحالة قصوى من حالات التفكير العلمي المركزي. وفي نفس السياق يلتفت (رولان بارت) إلى أن النص الأدبي يتأبى على التفكير المركزي: “لأن النص ليس سطرًا من الكلمات يطلق معنًى  لاهوتيًا  واحدًا (رسالة ـ مؤلف ـ الله) بل حيزًا متعدد الأبعاد فيه مجموعة منوعة من الكتابة، ليس منها ما هو أصلي يتآلف ويتحالف، النص نسيج من المقبوسات المستمدة مما لايحصى من مراكز الثقافة”. (9)

لقد حسم الأمر عند (بارت) بإعلان موت المؤلف (المركز) ومنح القاريء فرصة أكبر لإنتاج الدلالة ومن ثم النص، وبظهور دور القاريء في إنتاج النص بدأ دور الناقد المتخصص في التراجع، كما بدأت النظرية الأدبية نفسها في التداعي، ولكن ذلك مشروط بدور حقيقي وراسخ في المعرفة الجمالية للقاريء، ليكون قادرًا على الاستجابة إلى علاقة حوارية مع النص تشبه العلمية، وهو دور يمكن أن يقوم به المثقف العام بوصفه ذاتًا وقارئًا.

 غير أن هذا الاحتراز بمشابهة العلمية لن يكون له مكان في اتجاهات النقد النسائي، بل ثمة إشارات واضحة من جانب النسوية تعبر عن رفضها للعلمية بوصفها تجسيدًا لمركزية اللوجوس، وللنظرية بوصفها تجسيدًا للغرور الأكاديمي، ونزوعًا إلى مركزية ترسخ لخطاب ذكوري سلطوي يماثل ويدعم مركزية القضيب.

ومع ذلك فالنقد النسوي يواجه نقدًا حادًا، ليس فقط في الأوساط التي مازلت تتمسك بالنظرية، ولكن ـ أيضًا ـ في الأوساط المناهضة لها، وذلك لما يتضمنه الخطاب النسوي من نزوع إلى خلق مركزية نسوية بديلة، تحكم على المؤلفين والنصوص بمقدار مسايرتها للأيديولوجيا النسوية. ومن ناحية أخرى فالنسوية في موقفها المعادي لأشكال السلطة تعبر عن موقف سياسي أكثر منه نقدي.

فعندما بدأت أولى المحاولات في اتجاه نظرية نسوية، قوبلت بتحفظ خشية تكريسها لوضع قائم. غير أن الناقدات النسويات، يوضحن تصورهن عن مفهوم (النظرية) ويشرن إلى الاختلاف عن المفهوم التقليدي الذي قامت علىه البنيوية ـ مثلًا ـ فالمفهوم لايوغل في العلمية والتخصص على نحو ما هو قائم. وما تطرحه نظرية (صور النساء) يتميز باقتراح رئيسي يسمى (الموثوقية). وهو مفهوم مستعار من الوجودية خاصة عند (هيدجر) الذي قصد بها: أي شخص يمتلك وعيًا نقديًا محددًا ذاتيًا في مقابل الهوية الآلية اُلمنتَجة جماعيًا أو المكررة. تعتقد النسويات أن مفهوم الموثوقية في (صور النساء) ليس فكرة غائمة أو انطباعية، بل هي تأكيد على ذات تملك وعيًا تأمليًا نقديًا شبيهًا بالعلمية. فالموثوقية لاتلقى بالًا للخطاب النظري العلمي في حد ذاته، بل في صياغته الأخلاقية من حيث احتواء العلم على ضمير إنساني. ومن ثم تكون الأولوية ليس بالقيمة العلمية للنقد بقدر ماهو لتفهمه للموقف النسائي. وهذا مفهوم يواجه نقدًا من قبل (كتابات النساء) إذ أن تَمسُّح النقد النسائي بالموثوقية في نظرية (صور النساء) يبدو كاستجداء للمركزية الذكورية، كما أنه يركز فقط على تحسين صورة النساء في الخطاب النقدي الذي مازال ذكوريًا، في حين تسعى الكاتبات النسويات، إلى التصدي على أساس سياسي للأيديولوجيا التي تحكم بنى السلطة، التي هي جوهرية بالنسبة إلى الجماعات التفسيرية التي يسيطر عليها الذكور. ومن ثم يبدأن في شن حربًا ضارية على كل أشكال السلطة والهيمنة السياسية والثقافية على السواء. ويرفضن بشكل مباشر الأدب بوصفه مؤسسة والنقد بوصفه طقوسًا على نحو ماتقول (ليسلي فيدلر) بكثير من السخرية المرة: “نحن جميعًا نعرف أن الأدب هو مانعلمه في أقسام اللغة الإنجليزية، وداخل تلك الدائرة التحديدية المغلقة نؤدي الطقوس التي نخرج بها المدعين التافهين من صفوفنا، وندخل خبراء حقيقين، حماة للمعايير التي ينبغى أن يحكم بها على كل أغنية وقصة ” (10)

على أية حال، بدت النسوية، بوصفها احتجاجًا على مركزية القضيب، مناهضة في نفس الوقت لمركزية اللوجوس المتمثل في الأكاديميات، ليس بوصفها مجالاً للتفكير العلمي، بل بوصفها كيانًا مؤسسيًا يدعم المعنى السلطوي للخطاب الثقافي، ويحتكره من جهة مراكز تاريخية يمكن تجسيدها في صورة (الرجل الأبيض) لتشير على العموم إلى تاريخ للثقافة صاغه الرجال (من وجهة نظر ذكورية) كما تشير إلى المركزية الأوروبية.