أرشيف الأوسمة: جديد

مختار أمين: “حول أسلوب جديد في السرد” في قصة (أخونك معك). للكاتبة: صابرين الصباغ.

النّـص:

أخونك معك
 
  جلستْ إلى جواري مترددة، أسنانها تأسر لسانها، وحروفها تصرخ حتى تتحرر وإلا انفجرت من صمت سيودي بحياتها .. تحدثت :كان زواج صالونات ؛ أعجبت بي والدته، فأتى ليراني… تزوجنا !…أصبحت زوجة لرجل لا أعرفه!… يقيني أن والديّ وافقا على هذه الزيجة ؛ ليستريحا مني، بعدما أرهقتهما بحالة الحب التي عشتها، وبرغم يقينهما بأنهما يدفعاني إلى الموت دفعًا.حزينة؛ لأن زوجي حنون، يحبني، ويحترم رغباتي، ولا يجرحني… ليته كان قاسيًا عنيفًا؛ ليمنحني الحق في خيانته أو تركه.سألتها:

استمر في القراءة مختار أمين: “حول أسلوب جديد في السرد” في قصة (أخونك معك). للكاتبة: صابرين الصباغ.

قصة "هكذا ولدت" – جمال مقار


هكذا ولدت
قصة : جمال مقار


 
 
كان نائماً، ولما أدرك ذلك، تقلب في ذاته الضخمة، فارتجت الجدران واهتزت أربعة أركان الدنيا، تأوه تأوهاً يشبه زئير الأسود، وأخرج من فمه زفيراً، خرجت على إثره الأعاصير من كهوفها، صفعت وجه الأرض، قلبت أشجار النخيل ورمت النسانيس العابثة الخضراء والببغاوات الملونة، أظلمت الدنيا وارتفع ماء المحيط، فغمر الماء الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة، وطفت على أديم الماء جثث حيوانات برية اهترأت أطرافها وفاح عفنها حتى جأرت أفراس الماء وحملقت بعيونها المحمرة ثم غاصت مرة أخرى.
أَنَّ أنين النائمين الهانئين، ثم حلم حلماً أثيراً ما ينفك يكرره، حاول أن يمسك بأطراف الحلم الذي راوغه، حتى داخله الشك في ذاته، هرش قفاه وأخرج من عباءته حورية بحرية، جدائل شعرها الأثيث غاية من الحلكة مرمية على أكتافها، غجرية تنعم مع الريح بفوضى وجودها، رفعت جبينها المذهب فطأطأت الشمس خجلا، رنت بعينيها الزرقاوين زرقة ماء المحيط والغامضتين غموض أغواره، جاءت طيور البحر وقأقأت فوق رأسها، وفرت الأسماك الصغيرة الملونة عندما مشت قدماها ـ اللتان تشبهان يمامتين من يمام الجبل ـ نحو الشاطئ.غطت رمال الشط قدميها المبتلتين وجلدهما الذي تغضن، مرت الريح بين فخذيها، فارتعد جسدها، وتلألأت أشعة الشمس على قطرات الماء التي تعلقت بالحرش الصغير عند مثلثعورتها، أدركت عريها، تلفتت حولها، رفعت عينيها إلى السماء وأغمضتهما، فأسدل الليل ستائره، مشت فمشى الوجود معها وغنت الأحلام، انبثق نجم الشرق الزاهر وتضوع عطر المساء فواحاً حاملاً عبق غرائزها الدفينة منذ الأزل، وسمع الليل نداء طبيعتها فنفخ في الصور، تلوى النداء غامضاً يعج بالحنين وسافر في الأرض الخلاء البكر وارتد إلى ثدييها المكورتين بحلمتيهما الحرشيتين البنيتين المنديتين، أنّت فاستعر الأنين بالحنين ملاحاً كان عائداً خالي الوفاض، رف حولها فلما باغتته بنظرة من عينيها، هوى متحطماً كسير الجناح، نظر متوسلاً إليها وهو يومئ لها أن تشيح بعينيها عنه، فمضت عنه، وفي زفة الطبيعة حولها تقافزت حيوانات البرية بأجسادها الضخمة ومشت صاغرة، كانت أفراس الماء بعيونها الكبيرة المضحكة تتثاءب، والحيات تزحف معها وأمامها
 ظلت ترتحل، حتى بزغت الشمس من مكمنها في الماء لكنها لما رأتها هوت وسُمع أزيز اشتباكها مع الماء، ارتفعت سحابات من البخار الأبيض الكثيف؛ وطفت على وجه الماء أسماك ميتة، وغامت الدنيا في ظلمة لا يقطعها سوى دائرة من النور تند عن جسدها المضيء.
تقلقل في نومته وأحس لسعة البخار في جسده الشمعي، فارتفع عن سريره متكئاً على مرفقيه، من حوله حشد من المرنمين يترنم بصوت وان بأغان طفولية عذبة، نهض، فارتموا على الأرض ساجدين، تمطى وتثاءب، فرك عينيه، وابتسم لهم، رفع كفه في الهواء فارتفعت عنهم سحابة غضبه، قاموا من سجدتهم، وعادوا يرنمون بأصوات مرتجفة واهنة.
أزاح وجوده الظلمة جانباً، فسبحت الدنيا في شعاعات النور حين انعكس بهاء وجهه ألقاً على أديم الماء. أقدمت نحوه، نظر إليها نظرة أفعمها من جبروته، انتظر في كبريائه هنيهة أن تسقط، ولما رفع وجهه إليها رآها تنظر إليه هازئة مستخفة، ارتبك قليلاً، أشاحت بوجهها وأنفها الشامخ عنه، زمجر غضباً ففرت واختبأت خلف الستائر الأرجوانية الثقيلة، زأر غاضبا، فقفزت حيوانات البحر هلعاً إلى ماء النهر، ورمت حيوانات النهر بأجسادها إلى البحر، وفرت حيوانات الغابة إلى المدن المكتظة بالسيدات المذعورات، أحدث غضبه “دربكة” في الوجود انقلبت إلى فوضى كونية عامة، كادت تودي بالأشياء إلى هلاك مبين لولا تحرك ماء اللطف بقلبه المتحنن، أمر الأشياء أن تسكن وتهدأ وتؤوب إلى وداعتها الأولى، عاد ينظر إليها ليرى تأثير جبروته العامل في الأشياء، قابلته نفس النظرة المتهكمة الساخرة، قال أجرب أن أقطب حاجبي لعلها تستكين وتستجيب وتستنيم، ولما فعل ارتفعت المياه وغمرت وجه الأرض ورفت روحه فوق الغمر، فلم تستنم أو تستكن أو تستجب.
ظل يجرب الحيلة تلو الحيلة، قال لنفسه (لأريها بعضاً من عظيم أعمالنا)، أومأ إلى الجبل فهوى ساجداً متهدماً من خشيته، وقالت هي لأري الجبل بعضاً من آياتنا، رفع الجبل رأسه واسترق النظر إليها رأى فخذيها جبلين من حجارة بيضاء ملساء مشربة بحمرة الشفق، تأوه وهو يعبر بعينيه مثلثها، وصعد بنظره إلى بطنها الضامر، أخذه أنين من وجع أمسك بذكورته المشدودة، وحين واجه ثدييها بكى حسرة وهو يراهما يرضعان القمر، لحظة ثم مضى يتظر جيدها، رأى برجاً من أبراج القلاع القديمة، ود لو مشى بأنامله على شعرها السارح المتماوج، ولما هم، صرخ فيه السيد فهوى ملتفاً على ذاته مكسور الخاطر.
داعب السيد لحيته وقال (لأرينها عذاب الهداهد) صفق بكفيه، جاءوا بالهدهد المسكين، أمسك به ورنا إليها، جلس على حجر من الصوان أحس برودته تغزو جسده، فتململ في جلسته، وأفرغ غيظه في الهدهد، نتف ريشه وألقاه عارياً، جاءت طيور النورس ونقرت جسده حتى أدمته، رأى الشفقة تتسلل إلى قلبها حين همست (يا مسكين)، هم بذبح الهدهد، رآها تفر من أمامه وتختفي.
**
جاءت موجات الانكسار متتالية باردة وسكنت قلبه وصعدت إلى روحه المترفع، فانطوى على ذاته، قال هامساً لنفسه:
 ـ يا ليتني ما حلمت بها، يا ليتني مت صبياً.
 دق مائدته بقبضة يده، جاء الخدم سراعاً يرتجفون ناءت أكتافهم بالسفافيد المحملة بالثيران المشوية، وتأرجت في المكان رائحة الشواء الطيارة.
عافت نفسه الطعام بعد الثور الأول، زأر؛ فتشققت الأنحاء وهرول الخدم، وأُدخلت الجواري الراقصات في الثباب الشفيفة، تتمايل مع وقع الدفوف ودق الكفوف، شرب من الخمر المعتق في براميل مصنوعة من البلوط برميلين، حتى فاحت من جوفه روائح الأقبية، وترغى فمه بزبد فطر الظلمة والرطوبة وخمير المجد، غنى بصوت مبحوح، وسال على وجنتيه دمعه الأجاج، فاخضلت لحيته وتعلقت قطرات الدمع متكورة لامعة بشعر رقبته وبراح صدره.
**
كانت تلعب مع الظباء الصغيرة، تناديها ثم تختبئ منها خلفأشجار الحور، تغني، فتندهش الظباء وتشرئب بأعنافها باحثة عن الصوت المنغم، ثم تحني رقابها وتتشمم الأرض، وتعود لترفع رؤوسها، تدير عيونها الواسعة الكبيرة المتسائلة، حتى تناهى من بعيد صوت نشيج محموم ونحيب مر مكتوم، امتلكها الصوت، مشت إليه، هناك كان منكفئاً على المائدة يشخر، صنعت قطرات دموعه تحت قدميه مستنقـعاً من الماء والنـور، جاست أناملها في شعره الجعد، رفع وجهه الحزين ونظر في انكسار إليها، أمسكت يده وأنهضته، مشت به إلى الفراش، ألقى عباءته عن جسده فصار عارياً، رأته ذكورته الفاحشة فارتعد كل جسدها، خافت، لكنها كانت في دائرة الاشتهاء تتملكها جاذبيته وتضج بداخلها، تسمع خربشة مخالب قطط تموء وتصرخ، تمددت في الفراش كما تمدد، سبحت كفه الكبيرة المشعرة في أنهار جدائلها، تحسس جيدها، تأوهت، فمشت أصابعه إلى صدرها ، أنت، تكور الثديان واغتبط وجهها، انصرف بأنامله إلى موضع شهوتها، انهارت، وسُمع في الأكوان صوت ارتطام الألم واللذة والاشتهاء والنفور والحب والكراهية.
    اعتلاها، وركض فوقها، شملها بساعديه، وتدحرجا على العشب الأخضر المضيء الذي نما فجأة تحتهما، تمددت فتمدد فوقها والتصق بطنه ببطنها وأحدث صوتاً غير مستحب، ولجها، فجأرت، زمجر من اشتباك الفرحة والعذاب في دمه. نهض عنها، رأى شهوته، أشاح عنها وهو يراها تسبح في لزوجة فيضه.
غاض ماء البحر وجف النهر وتشقق أديم الأرض، رآها بلا اشتهاء مطفأة السحنة، كأنها سراج نحاسي يعلوه الصدأ، مطفأ وملقى في ضوء النهار، كانت بلا حول ولا قوة، مهزومة ضعيفة، فتشت عن شهوتها وجدت بقايا منها التصقت بأناملها، نظرت إليه وهو يدك الأرض بقدميه العاريتين، يذرع الوجود جيئة وذهاباً ويرسل صياحات وحشية تدوي في سكون الكون حولهما.
أخذت من بقايا شهوتها وكحلت عينيها ورمت بسهامها الطائشة قلبه البارد، حين التقت عيونهما، نظر إليها ككتلة من اللحم الممضوغ المتفول مثل بصقته الخالدة على الطين والصلصال، يتراقص فوقها ملاك وشيطان يتبادلان المواقع، مد إصبع سبابته وغرسها في لحمها الطري في قرف، تملكتها أحاسيس متضاربة، كانت خائفة وواجفة ومهزومة أمامه، متدلهة متلهفة متوسلة إليه، مدت يديها وأمسكت جدائلها فرقتها على جسدها وغطته بها، مد كفه الكبيرة المشعرة ولملم جدائلها ورفع جسدها مثلما يرفع طفل عابث دمية، أرجحها في الهواء ثم طوحها، صرخت من عزم ما بها، مر جسدها الطائر بين الأنجم والأفلاك، هوت في ماء المحيط.
***
بعد انقضاء شهور الحمل وجملتها مائة، التفت حول سريرها جنيات البحر وحوريات العين، أطلقن البخور وتمتمن بالصلوات والأدعية، ثم غنين بصوت هامس وترنمن، صمتن حين تحزقت، فانزلقتُ أنا، اندهشتُ حين رأت عيناي النور، أدركت أنني واحد من نسله، ومن صلبه وترائبه خرجت أحمل بروز وجنتيه وعظمة أنفه ولون عينيه وبعضاً من ضعفه المهين.
***
تحت جنح الليل، وضعتني في سلة من الخوص المجدول، تدثرت في عباءة من الحزن والكبرياء الجريح، وتلفعت بالمكر والانكسار، هبطت بي النهر، نادت صياداً عجوزاً، اعتلت القارب، سمعناه يغني ويهزج، فبادلته البكاء.
قال بصوت أوهنه الزمن:
ـ هنا يا سيدتي.
دقت بمطرقة الباب النحاسي الكبير مرة ومرة، فتفرق الصوت أصداء، ارتدت إليها، ساد المكان صمت لم يقطعه سوى انفتاح الباب دارت مفاصله الصدئة التي لم تزيت منذ زمن طويل، فمزق صريره المؤلم أوتار قلبها، أطل عجوز له أنف مجدور، تساقط ريش جناحيه، فتح فمه الخالي من الأسنان، سأل:
ـ ماذا تريد السيدة؟
ـ أريد مقابلة سيدك.
قال بصوت شققته الأنواء والأيام:
ـ أخطأت السيدة التوقيت، فهو الآن يلعب الشطرنج و(يتسلى بمحاربة ذاته)(*).
ـ أرجوك…
لم تكمل، كان الباب يصر في وجهها نفس الصرير المؤلم حتى انغلق، ظلت تدق الباب حتى أدمت كفيها وأدركها اليأس، تركت السلة أمام الباب الموصد، واندفعت تجري في اتجاه النهر، علا صراخي ومزق اتساق الوجود من حوله، تململ في جلسته، كان يداعب لحيته وقد أحرج موقف الشاه، سأل:
ـ ما هذا الضجيج المقرف؟
أجابوه:
ـ طفلك.
ـ طفلي، ما كنت أعلم أن لي طفلاً، دعوني أرى أعاجيبي، هاتوه.
ـحملني العجوز إليه ووقف صاغراً، قلبني في يديه، اندهش وهو يفتش في جيوبه، قال مبتسماً:
ـ لم يعد لدي شيء أقدمه لك، سوى التجربة والألم، هه، خذهما، وحررني منهما والآن خذوه وألقوه خارجاً، فلم يعد معي شيء أعطيه لأحد.
هزوا رءوسهم مؤكدين وهم يطوحون بي في الهواء:
ـ لم يعد لديه شيء يعطيه لأحد.
**
كانت الشوارع خالية مقفرة، وقطرات المطر تنقر فوق أكتاف معطفي الرث، وهواء الليل البارد يصفع وجنتي المحمرتين وأذنيّ الملتهبتين، وها أنا شريد أمضي في الشوارع المظلمة أتخبط في الطرقات، أرفع عقيرتي بالغناء بعد أن رماني صاحب الحانة خارجها، أتسول السجائر من المارة المسرعين، يتسلل الماء الراكد إلى قدمي من ثقوب حذائي البالي، وأنا ماض سادر أمارس كل حماقاته.
 
**
ضمن مجموعة قصص : طريد ـ الصادرة عن المركز الثقافي العربي ببيروت في عام 1996
 
 
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
رؤية نقدية : صباح الخراط زوين.
 
باختلاف يكتب جمال زكي مقار، الاختلاف هنا في تبنيه لغة خاصة به غير مستقاة من المراجع القصصية في المكتبات أكانت عربية أم غربية ، يتميز جمال زكي مقار باعتماده التجريد كثيرا ليصل به إلى التصوير القريب من الكتابة الشعرية، لكن من المنطقة القادمة من عمق الخيال والارتفاع بالكلام نحو الأمكنة الخالية من أي علامة قد تدل القارئ على طريق القص أو السرد، كأن مقار يتخلى في أحيان كثيرة عن مهمة القص المعترف بها في شتى أساليبه وأنواعه ليغيب في عوالم غريبة وتخيليية تحاذي المكان الرحب والواسع حيث تضيع القصة في متاهات ( الشعر ) أو ما يشابهه أو يتفرع عنه ، متاهات الكلام التجريدي أو الصوري المحض ، كما لو كان في يد الكاتب ريشة شبه سوريالية أو شبه أتوماتيكية < يضرب بها الورقة في آن واحد يضرب فيها عين القارئ ؛ فيصير الأخير في جهد القراءة يحاول التقاط المعنى من بين الألوان المتوهجة والمتسارعة المتضاربة ، يحاول كمش رأس الخيط الذي منه يصل إلى حبكة الحكاية .
هذا ما نلمسه بامتياز في قصة ( هكذا ولدت ) وإن لم تبتعد بقية قصصه عن النمط المذكور ، إلا أن هذه الأخيرة تخلت كليا ( إلا في المقطع الأخير ) عن أي ركيزة ملموسة قد توصلنا إلى عالم القص ( الطبيعي ) لولا ذلك المقطع الأخير الذي أعاد القصة إلى ( قواعدها ) فأفهمنا أن ثمة موضوعا قد حيك، لبقي العمل أسير القول الشعري حيث كل ما يقال يبقى لوحة لا تُمس.
إذن في ( هكذا ولدت ) صخب تصويري وعرس ألوان كأننا في يوم زفاف عناصر الطبيعة ، فالحكاية تضيع معالمها بين ثنايا الرسم المتوهج الحارق في اتجاهات أيروسية تجريدية ووصف شغوف لحياة الطبيعة في أشكالها البدائية، إلا أن القاص يعلم أنه لا يستطيع أن ينهي القصة مهما ارتفع بكلامها إلى قمم التخييل والتصوير المجردين من دون العودة الضرورية إلى واقع لا مفر منه ، واقع ( الحل ) أو ( النهاية ) ليضع القارئ في منطق هو منطق الحكاية التي مهما اختلفت الأعيبها تبقى محكومة أولا وآخرا بأصول اللعبة الأساسية ، أي بضرورة الخروج إلى موضوعية السرد، حيث مغزى القصة ( الذي يمكن أن يكون أيضا لا مغزى ) والكلمة أردتها( في معناها الشامل)حيث ثمة وجود لمكان ما ولزمان ما يدور في فلكهما شخص ما.
كيفما كنب ( جمال زكي مقار ) يبقى غريبا عن ذاته وعن العالم الذي يخلقه من حوله، متفردا إلى حد بعيد في الصياغة القصصية متذوقا الكتابة إلى حد المزج بين الأنواع
 
_________
مقتطف من مقال نشر بجريدة الحياة بتاريخ 20 نوفمبر 1996 بعنوان ( صيغة قصصية تمزج أنواع الكتابة )
 
 
 
بطاقة تعريـــف:   جمال مقار
 
 
 الاسم جمال زكي مقار
ـ قاص وروائي مواليد عام 1955 محافظة السويس ؛ نشرت أولى قصصه في مارس 1987 بمجلة إبداع ـ له سبع مجموعات قصصية ، احتوت على تسعين قصة قصيرة  بعضها ينتمي إلى النوفيللا.
ـ اهتم في مطلع أعماله بتقديم صور قصصية للحياة في مصر الوسطى ( المنيا وأسيوط) ثم انصرف في أعماله التالية لتقديم صور من الحياة في مصر بشكل عام ، حيث لا تقف به التجربة عند حد ما ، لذلك قدم صور تدين القهر السياسي كما تدين التعذيب ، كما امتح من بئر الطفولة ناسجا لوحات من لحظات كاشفة لعملية التكوين الفريد للانسان عبر تفاعلات معقدة بين الطفل ومعطيات الحياة كتلك التي قدم لها عشرين قصة في ( سفر الطفولة ونصري والحمار )، أو تراه يتخذ من الخيال جناحا يحلق به إلى مكامن القص ليقدم صورا للحب كما في قصة ( بينما فيروز تغني ) أو لإدانة الحروب التي تدمر حياة البشر كما في قصة ( حقيبة الأيام ) ، أو ذلك الولع بأنسنة الحيوان وتقريب العلاقة بينه والإنسان في غير ذي قصة ؛ مثل ( نصري والحمار ، ومأساة السيدة ليندا ، وقليل من الريش)
 
الأعمال المنشورة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( الضعيفة يأكلها القراد ) مجموعة قصص قصيرة ، صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، عام 1991 .
*( أغنية الدم ) ــ رواية ــ صادرة عن دار سعاد الصباح ــ  1993
* ( طريد وقصص أخرى ) ، صادرة عن المركز الثقافي العربي ـ بيروت 1996
* ( تحولات إنسان عابر ) ــ مجموعة قصص قصيرة ، صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ، سلسلة أصوات أدبية عام 1998 .
*( جواد ) ــ رواية ــ صادرة عن المجلس الأعلى للثقافة ــ سلسلة إبداعات التفرغ ، 2004 .
*( سفر الطفولة ، ونصري والحمار) روايتان ، صادرتان عن دار العين  2006 ..
*( كتاب الودعاء ) رواية من جزءين ، صادرة عن دار الشروق عام 2007
*( رقصة الكتكوت الأخيرة ) رواية صادرة عن مطبوعات ورشة الزيتون .
*( بينما فيروز تغني ) مجموعة قصص قصيرة ، المجلس الأعلى للثقافة 2012.
*( القرداتي ) مجموعة قصص قصيرة ، الدار للنشر 2017 .
* ( ثلاث دوائر للحياة ) مجموعة قصص قصيرة ـ الدار للنشر ؛ 2018
 
حصل على جائزة ساويرس للأدب المصري عام 2007، فرع القصة القصيرة عن مجموعة سفر الطفولة ونصري والحمار .
 
 
 
 
 

 

هذه اللحظة ..قصة : محمد المخزنجي

  انقطع التيار، فجأة، وأنا في الشارع.
  سادت الظلمة، وأحسست أنني-على غير انتظار- أنبعث في هذا الليل.
  بدا العالم حولي كأنما ولد من جديد في هذه اللحظة. بدا طازجا وأليفا خلال صفاء الظلمة، حتى أن هواء الليل البارد قد استحال نسيما يرطب جبهتي، ويملأ صدري بالانتعاش.
  شعرت على نحو مفاجئ أنني أفتقد الحياة، أفتقد الحياة حقا منذ أمد بعيد. وغشاني اليقين أنني كنت أحيا سنيني الأخيرة ميتا على نحو ما.
  شعرت بحاجة هائلة للبكاء، المحرق، وودت لو أجري صارخا ما أستطيع، دون أن يتعرف عليّ أحد في هذه الظلمة.
  لكنني اكتشفت المدى اللانهائي من الراحة، في الغناء.
  راح صوتي يتعثر، حتى سلست “الدندنات”، ثم انبثقت في فضاء الروح مقاطع الأغنيات الحلوة، البسيطة، البعيدة، التي ظننتها ماتت في نفسي من قديم.
  أخذ أدائي يُشجيني كلما جلوت صوتي بالغناء. وكنت أتمادى فأشعر كأني أفلت من مراقبة ما، كأني أُعتق من شيء يكبلني، وأنطلق خفيفا خفيفا في رهافة الظلمة، وبراحها.
  انتبهت إلى نفسي وقد بلغ شدوي حد ارتفاع الصوت، فسكت متلفتا أتحسب استغراب الناس الماضين -كأشباح- في الظلمة حولي.
  لكن هنيهة خجلي تحولت إلى دهشة عندما أرهفت السمع، واقفا في ظلمة الشارع الكبير.
  سمعتُ ما يُشبه همهمات خافتة، ثم تبيَّنتُ النَّغم في تداخل الأصوات، وكأن أفراد فرقة موسيقية –مُختفية في مكان ما- يضبطون آلاتهم قُبيل ابتداء العزف.
  رحتُ أُميِّز اختلاف الأصوات والأغاني كلما مرَّتْ بي أشباح الناس في الظلمة: كلُ شبح بصوت، وكل صوت بأغنية، وكل الأغاني كانت مُفعمة بالشجو والشجن.
  عدتُ أواصل سيري والغناء، وكان صوتي يرتعش، وتروغ الأغاني، كلما أوجستُ عودة التيار بغتة.
***
محمد المخزنجي”
من مجموعة “رشق السكين”.
مختارات فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984.
محمد المخزنجي.. الساحر الشاعر
اختيار القصة والرؤية النقدية/ حسام المقدم
بالتأكيد ليس أمرا عاديا أن يقول “يوسف إدريس” عن “محمد المخزنجي”، الكاتب الشاب في ذلك الوقت: “كل الكُتّاب في كَفّة والمخزنجي في كَفّة”، بعد ذلك سَيُتبِع قوله بالمزيد عن حساسية المخزنجي الهائلة. بمرور الأيام سيتضح للجميع معنى الحساسية النادرة التي قصدها المُعلّم الكبير “يوسف إدريس”، وستزدهي صورة “المخزنجي”.. ذلك الإنسان جَيَّاش اللغة والمشاعر، بامتداد مشواره الفني الإبداعي، الذي أنجز فيه حتى الآن عَشر كُتب قصصية متفردة في القصّ المنفتح على آفاق سردية عابرة لكل الحدود، فضلا عن كتب أخرى ذهبت للسرد في حدائق العالم، مثل كتابه الفاتن “لحظات غرق جزيرة الحوت” الذي صنَّفَه بنفسه على أنه “رواية حقائق قصصيّة”، يلتقط فيه بشفافية إنسانية بعض ما جرى في الاتحاد السوفيتي، في أوكرانيا تحديدا، عام 1986 ساعة الكارثة الأعظم بانفجار المفاعل النووي تشيرنوبل، ومجموعته الفارقة “أوتار الماء” التي غامر فيها مُرتَحلا إلى الثقافة العلمية، ومُحتفظا في الوقت نفسه بحِسّه الإنساني المعادل والموازي لكل العلوم. منذ البدء وهو يُصرّ على تسجيل الوِجهَة التي يذهب إليها سرده: “الآتي” قصص قصيرة جدا، “رشق السكين” فصول قصصية، “سَفَر” متتالية قصصية، “البستان” كتاب قصصي، “البحث عن حيوان رمزي جديد للبلاد” تكريسة.. وها هو يكتب بنفسه كلمات تعبيرية كاشفة عمّا يدور في أعماقه الفوّارة، ويُسجلها على الغلاف الخلفي لمجموعته الثالثة “الموت يضحك” 1988: “ما أُحب الإشارة إليه، لو كان ذلك واردا، هو أن هذه النوعية من القصّ ليست مرحلة من مراحل تطوري في الكتابة باتجاه القصة القصيرة جدا، أو القصة القصيدة أو الأقصوصة الموجزة، التي اشتُهرِتُ بها واشتُهِرتْ بي، إلى حد ما، ولكن هذه القصص الأميل إلى الطول هي طبقة من طبقات الصوت القصصي الذي لا ينبغي أن يكون أُحادي النبرة..”.
  قدم المخزنجي كتابه “جنوبا وشرقا”، كنماذج رفيعة لتحقيقات أدبية صحفية مُصورَة، جالت وصالت في جغرافيا الأرض وجغرافيا النفس، عبر استطلاعات مجلة “العربي” الكويتية التي عمل بها مُحررا علميا لعدة سنوات. وفي يناير 2018 صدر له ثلاثة كتب دفعة واحدة عن دار الشروق بعد توقف سبع سنوات عن النشر وليس الكتابة. كتابان سرديان هما: “بيانو فاطمة” نوفيلا وتكريسة، و”صياد النسيم” قصص.. أما كتابه “مع الدكتور محمد غنيم.. السعادة في مكان آخر” فيُمثِّل احتفاء إنسانيا بقيمة إنسانية وطِبيّة كبيرة هي الدكتور محمد غنيم.    
  لا تزال “المنصورة” التي وُلد بها المخزنجي عام  1949عائشة في وجدانه وكتابته، وحتى الآن، رغم الإقامة بالقاهرة، يحضر منزل العائلة الحميم هناك في كثير من النصوص والقصص، وتُطِل عبر الذكرى الحيَّة أيام الدراسة في كلية الطب، وأيام المِحن المتوالية والاعتقالات المُتسلسلة على خلفية اعتقاد سياسي مزعوم. لكن، وبعد كل ذلك العمر في الكتابة والتجريب، تبقى القصة، بكل سُبُلِها، هي عشقه الخاص والأثيرة لديه، لذلك لا نتعجب، كما قال الناقد الكبير “فاروق عبدالقادر” حين نراها، أي القصة، قد أهدته أشهى ثمارها.    
***
هذه القصة.. “هذه اللحظة”:
  شاعرية “المخزنجي” الإنسانية تتهادى نسائمها عبر سطور هذه القصة العذبة قليلة الكلمات. وماذا تكون الشاعرية غير الإحساس بالأشياء والفناء في اللحظة؟؟ هنا ذات ترى الصفاء وتعيشه في الظُّلمة الفُجائيّة، وتنبعث من عُمق الحياة البليدة، إلى لحظة شرارة تُلامس الأسلاك العارية للداخل العاطفي المشتعل دوما. ذات تلتقي مع الجِذر الإنساني فيكَ وفيّ، ذلك الجذر المُحرِّض على تأسيس عالم فني خاص مواز، حتى لو كان في لحظة يتيمة لن تدوم طويلا. هذه اللحظة تمسَّكتْ بسحرها هنا على الأرض، وفي نفس الشوارع التي نمشي فيها.. لم تُغادر لكوكب بديل، أو مدينة فاضلة في فانتازيا مصنوعة، إنما كانت من لحمنا ودمنا، لذلك تسربتْ وامتدتْ وأصابتْ مَنْ حولها بعدوى الفن، وعدوى الحياة في صميمها وعلى حقيقتها.
***

قصة "كن..كان" – يحيى حقي

قصة “كن..كان” – يحيى حقي

 
 

 

 

 

خرج حسين من الجو المكتوم المفعم بالأدخنة والضجيج, وانطلق إلى الطريق. فوقه سماء القاهرة تكاد الروح ترشفها من فرح صفائها. تناثرت فيها نجوم لامعة وأخرى خابية, لا يكاد النظر يستوعبها في مواقعها, حتى تجد الأذن أن هذه النجوم المبعثرة مختلفات الألوان ينظمها نغم حلو جميل. لكل لون منها نصيب في إيقاعه, ولكنه نغم خاف تشعر به الأذن ولا تتبيّنهُ, كأنما هي أيضًا عين ترى ولا تسمع. وبدأ حسين سيره إلى “شبرا”? وهو حين يشعر بالليل يحجبه عن الأنظار, يلذ له أن يحتضن أفكاره ويختلي بها, فيسرح ذهنه, وتعود إليه ذكريات قديمة. عيناه تتكلمان تارة بالسرور وتارة بالحزن. ويهتز رأسه مرة بالعجب ومرة بالحسرة. وقد يتمتم باسمًا. (…) 

آه إنه الليلة آسف على حياته, نادم من جديد. أما يأتي اليوم الذي يتاح له فيه أن ينسى كيف ألقى بنفسه في مدرسة المعلمين وهو كاره لها? وكيف نكص عن الزواج بجارته آمال! تلك الفتاة التي خلبت لبه وسحرته, ورضي بالزواج من إحسان. خشي الأولى لأنها مستبدة لعوب فاتنة, وقنع بالثانية لا عن حب, بل قيامًا بواجب, فهي ابنة عمه. اطمأن لها لأنها ربة بيت, هادئة, معتكفة, فماذا فعلت بنفسك يا حسين? أدرت ظهرك للنشوة والمتعة, واللذة المتجددة, والحياة المليئة بالعواطف, وآثرت حياة راكدة كالمستنقع. سرعان ما مل إحسان, وسرعان ما انقلبت هذه الفتاة الممشوقة القد إلى امرأة بدينة خشنة اليدين. لم يرها مرة تستقبله عند عودته وقد سرحت شعرها أو اعتنت بزينتها. تبدو له الآن حياته سلسلة من أخطاء وسوء حظ. إن كان في الحياة مهنة يمقتها أشد المشقت فهي مهنة التدريس. هو عامل فرض عليه أن يبني الأساس ولا يتعداه, ثم يجيء آخرون يتممون البناء ويتمتعون به. أي لذة في عمل لا تتجسم أمامك نتائجه, فتمنح النفس جزاءها من الرضا والغبطة!? 

ما فائدة التوفر على تعهد فرخ الطيور وتغذيته, حتى إذا نما ريشه أفلت من يدك وطار? العالم كله يتحرك إلى الأمام, والمدرس ثابت في مكانه! وإن تلفّتَ فإلى الماضي يتلفت. ما فائدة تعليم هؤلاء الصبية, وهو واثق بعجزه عن إسعادهم? فالحياة مليئة بالشراك والمصائد, محفوفة بالمظالم والآلام والأحزان. سيخوضون غمار معركة من أشد المعارك تطاحنًا وهَولاً, على حين أنه لم يسلحهم إلاّ بقشور من العلوم النظرية. وشقشقة لسان إن لم تكن تضر فهي لا تنفع. كم كان يود أن يكون محاميًا. إنه يحس في نفسه المقدرة على الفهم واستخلاص المبادئ وسلامة المنطق. – وهذه مواهب لا تفيده في صناعة التعليم. ولكنها خليقة بأن تتقدم به إلى الصفوف الأولى, لو أنه مارس المحاماة. ودّ حسين لو أنه استطاع أن يدافع يومًا عن مظلوم, أو يرد حقًّا إلى صاحبه, ولكنه عاجز. فمما يكرب نفسه أنه يرى المظالم تتزايد أمامه وتتلاحق, ولا أمل له في أن يرى نهايتها, أو يرى عالمًا تسوده العدالة. هذا تفسير ما في نظرته من حزن عميق مختلط بغيظ مكتوم. ماذا يفعل? إنه يقف طول النهار ينبح أمام تلاميذ كالقرود يلهون ويعبثون, حتى يجف حلقه ويضطرب قلبه. هل نسي أن الطبيب قال له إن قلبك ضعيف يُخشى عليه من كثرة الإجهاد? 

وعندئذ تريث حسين في سيره, ووضع يده على مكان قلبه وتأوه… إنه يحس كأن إبرة تغرز فيه… لقد ساءت حالته الليلة. إنه الإجهاد الذي يخشاه.. فمتى تأتي الإجازة? متى? 

كان قد ترك الطريق الرئيسي وانعرج إلى درب ضيق ينتهي بالمزارع. سكون شامل ومنازل نائمة. 

حدثته نفسه: 

– لو أستطيع أن أرتد القهقري عشر سنوات. عشر سنوات وحسب, ولو ضحيت من أجل ذلك بعشر سنوات مثلها من مستقبل عمري. سنة بسنة. 

لم يكد يسير بضع خطوات بعد هذا الخاطر, حتى خيل إليه أنه يسمع زحيرًا شديدًا يتلاحق من ورائه. هل يجري في إثره أحد? أجهد أذنيه فلم يسمع وقع أقدام. ومع ذلك استمر هذا الزحير يسرع إليه ويدنو منه. طمأن نفسه يقول لها: لعله وهم وخيال. فالليل عالم مجهول مليء بأصوات غريبة لانتبينها, ثم سار قليلاً فإذا يد تلمس كتفه, والزحير يكاد يشق صماخ أذنيه. سمع حسين وقرأ أن شعر الرأس يقف عند الذعر, ولم يكن يصدق, في تلك اللحظة أحس كأن يدًا قاسية جمعت شعره في قبضتها وشدته شدًّا قويًّا يكاد يتمزق منه جلد رأسه. وشعر حسين بأن اليد التي وقعت على كتفه لوح من الثلج. فقد جمد لها قلبه, وإن يكن جبينه قد التهب لها وتصبب عرقًا. 

التفت حسين مذعورًا, فوجد وراءه رجلاً نحيفًا هو إلى القصر أدنى منه إلى الطول. يرتدي ثوبًا أسود كثياب التشريفات, من طراز يرجع إلى عهد غابر, ذَكَّر حسينًا بصورة قديمة لأحد جدوده.. والغريب أن هذا الثوب كان فضفاضًا كأنما فصل لرجل أطول منه وأشد امتلاء; فقد رأى حسين أمامه رقبة نحيلة تائهة في ياقة مُنشّاةٍ واسعة… يريد ذقنه أن يعتمد على حافتها فيشنقها فرط ارتفاعها… لم ير له يدين, وخيل إليه أن الكمّين فارغان, ليس فيهما ذراعان. حدق بنظره في تقاطيع هذا الغريب. ورأى – أو خيل إليه أنه رأى – وجهًا إنسانيًّا ذا عينين وأنف وأذنين… ولكن عجبًا لماذا لا تستقر نظرته على هذا الوجه? لم تنطبع له صورة في ذهنه, كأنما وجهه هُوّةٌ لولبية, أو سراديب ملتوية أو صورة فوتوغرافية مهزوزة. 

أشاح حسين بوجهه من الرعب, ومن تلك الرائحة المنتنة القاسية التي غمرت وجهه من فم هذا الغريب. وحين بدأ الرجل يكلّمهُ, إذا بصوتهِ صوتُ طفل وديع, وإذا بهذا الصوتِ الحنون وحده يراخي قبضة اليد التي كانت تجذب شعره فيعود إلى رقاده. وخامر قلبه شيء من الطمأنينة لم يدرِ سببها. قال له الرجل: 

– لا مؤاخذة ياسي حسين… خشيت أن تغير فكرك قبل أن أستطيع اللحاق بك. كنت مشغولاً جدًّا في قصر العيني وفي مستشفى الحميات.. فأنا – كما ترى – مجهد حقًّا ولي عمل شاق لا ينتهي. سمعتك تتبرع بعشر سنوات من عمرك لقاء أن تعود القهقرى عشر سنوات مثلها, وأنا في ضيق- علم الله – ومحتاج أشد الاحتياج إلى يوم, فكيف بعشر سنوات مرة واحدة. 

– لا شك في أنك سعيد في حياتك. فلم أر قبلك أحدًا يتعلق بالدنيا تعلقك بها.. – لا. لا. لا أريدها لنفسي, بل لغيري.. دعني أتذكر. نعم عندي أب قارب الرحيل, وقد قدر له أن يرى ابنه الوحيد الشاب يموت قبله. سأعطي الابن شيئًا من هبتك حتى أجنب أباه تجرع غصة الألم. وهذا الشاب لو انتقل عن هذه الدنيا لحرم أولاده من ميراث جدهم. سأعطيه سنة حتى ينتهي أجل أبيه. وهذا الفتى أحب فتاة غاية الحب, سيموت قبل الزفاف – وليس أشهي على من أن أمتعه بها ولو شهرًا واحدًا. فها أنت ذا ترى أن هبتك السخية تكفي لبعض هذه الأعمال الخيرية. لهذا أسرعت إليك. 

خفّت الأبخرة المنتنة شيئًا فشيئًا, واستطاع حسين أن يقارب وجه هذا الغريب, بل بلغ به الاطمئنان أن ضحك في وجهه وقال: 

– مهلاً! مهلاً! هذه هبة كما قلت, ولكنها – يا عزيزي الأستاذ – ليست بدون مقابل… فهل أنت قادر على أن تردني القهقري عشر سنوات? 

انتبه حسين إلى أن جوا من الطيب والرائحة الزكية تسطع من مخاطبه, وتمني لو استطاع أن يقترب منه أو يضع ذراعه في ذراعه. 

أجابه الرجل وهو يبتسم: 

– ألم تقرأ في القرآن الكريم ادعوني أستجب لكم ? إنني عبد من عباد الله لا أعلم أن أحدًا قد كلف بمهمة شاقة كمهمتي… وأنا مقبل على أدائها بإخلاص وبكل قوتي.. حرصًا على رضا مولاي… وإني, لحسن الظن بكرمه ومَنّه, لم ألتمس منه طلبًا من قبل, فلا أظن أنه يخيب رجائي لو سألته هذه المرة. كن واثقًا بأنني أحقق لك ما ترجوه… 

ودّ حسين لو أنه تردد قليلاً, أو سأله مهلة ليفكر من جديد, ولكنه خجل من رقة محدثه, فوجد نفسه يقول له وهو ذاهل.. 

– لا مانع عندي… 

– يا لك من سخي شجاع… 

وعندئذ أخرج حسين ساعته ونظر إليها فأوقفه الرجل قائلاً: 

– لا. لا. إنني لا أعرف حساب زمنكم هذا… 

ثم التفت إلى السماء ونظر إلى النجوم وقال: 

– سيكون بدء تنفيذ اتفاقنا في تمام منتصف الليل. 

قال له حسين: 

– اتفقنا… 

أجابه الرجل: 

– هذا القول لا يكفيني… إنني أريد منك أن تهبني السنوات العشر بالصيغة الشرعية. فقل معي: 

“أهبك عشر سنوات من عمري طائعًا مختارًا, وأنا في تمام عقلي وإرادتي, على أن أعود القهقرى عشر سنوات مثلها”. 

 

 

كرر حسين وراءه الصيغة كلمة كلمة… فإذا بالرجل يربت كتفه ويقول: 

– إنك أكبر المحسنين لو علمت. وليس أحد أولى منك بأن يقام له تمثال. 

ثم ابتعد عنه, يتحرك جسده, ولا يرى حسين على أي قدمين يسير. 

واستمرحسين في طريقه وهو ثمل لا يدري هل يغتبط بفعلته أم يندم عليها. همس لنفسه يقول: “إنك أسعد إنسان على وجه الأرض! ستقوم برحلة لم تتسنّ لأحدٍ من قبلك”. 

وفجأة وقف حائرًا وقال: 

– ولكني نسيت أن أسأله: هل سأعود القهقرى عشر سنوات محتفظًا بما فيّ من تجارب وأفكار ومن خبرة ومزاج?… ليتني أدخلت هذا الشرط في اتفاقنا! 

عشر سنوات إلى الوراء! سيغير حياته كلها… سينعم بما حرم نفسه منه… سيتجنب كل أخطائه. تألق وجهه وأسرعت خطواته, وأحس أن نشوة غريبة تهز عِطْفَيْه.. فإذا به يقف من جديد وقد ساوره شيء من القلق: 

– ليتني سألته كم يبقي لي من العمر بعد تبرعي بعشر سنوات? 

كان قد وصل إلى داره وفتح باب الشقة, فإذا رائحة المرحاض تزكم أنفه مختلطة بعفونة قشور البصل المتخلف في صفيحة القمامة. 

اعتاد حسين, إذا عاد في مثل هذه الساعة, أن يجد شيئًا من الطعام على المائدة فيتناوله باردًا وهو صامت, وزوجته نائمة لا تتحرك… ولكنه في هذه المرة لم يكد يدخل حتى سمع صوت إحسان تنادي: 

– من? حسين? 

وقامت إليه محمرة العينين, مشعثة الشعر تقول: 

– عجبًا! ما كدت تدخل حتى طار النوم من عيني وانتبهت مذعورة لا أدري ماذا بي. 

جلست معه على المائدة وسخنت له طعامًا, وحدثته عن بعض توافه يومها, ومع ذلك كان كلامها ينزل بردًا وسلامًا على قلبه. هي زوجه, وليس في حياتها أحد سواه. حبيسة داره, حياتها كلها وقف عليه وعلى أولاده. كثيرًا ما اشتكت وثارت وضجت, ولكنه لم يسمعها تؤلمه بكلمة تجرح قلبه. حنّ لها حسين وضاحكها, بل عرض عليها أن يسهرا معًا ويتسليا بلعب الكونكان, وهي لعبة الورق الوحيدة التي استطاع أن يعلمها لإحسان. 

واستمر اللعب زمنًا طويلاً, وتناول حسين ورقة يربح بها الدور, فرفع يده مسرورًا يقول: 

– كُنْ… 

ولكنه لم يستطع أن يتمها “كونكان”! كان الليل قد انتصف… … … 

 

***

 

 

دخل عليه وكيل المكتب يقول: 

– السمسار منتظر يريد أجره. 

أطرق حسين برأسه ذليلاً. لقد انحدرت به الحال إلى أن أطلق بعض السماسرة يتصيدون له الزبائن من على القهاوي. لم يبلغ إيراده في هذا الشهر عشرين جنيهًا, وإنه والله ليخشى أن يعود إلى داره, فقد طالبته آمال بثوب جديد لا يقدر عليه. من كان يظن أن فتنة هذه الفتاة ستزول سريعًا? عاشرها وتمتع بقربها, ولكنه يشعر بأنه ظل طول عمره غريبًا عنها. لا يدري ما يجول برأسها. يريد أن يخضعها فلا تخضع, ويأمرها فتنفلت منه طليقة. ثم كم تؤذيه ويؤذيها بهذه الكلمات القاسية الجارحة التي يتبادلانها كثيرًا. ثم – وهنا العجب – يضُمُّهما الفراش فينسيان كل شيء في ضمة الجسد للجسد. وتعود العداوة والبغضاء في الصباح. طبيعة حيوانية يتعامي الإنسان عنها ويتعالى, وهو عاجز في قبضتها, غريق, في أحضانها: ترى أين إحسان الآن? ألم يكن أولى بها – وهي ابنة عمه – من زوجها العامي الذي لا يحسن معاملتها? ألم تكن راحته وسعادته في الزواج منها? ولكنه تكبر وخان, وجرى إلى آمال كالأحمق… 

وسار حسين على مهل إلى داره… المحاماة? هي مهنة مليئة بالكذب والخداع. كم يتألم ضميره وهو يصرخ أمام القاضي بكلام يعلم من قرارة نفسه أنه كذب وتلفيق. كل ذلك لقاء دراهم معدودة لا تسمن ولا تغني من جوع. 

آه! آه! إنه أضاع حياته. وما فائدة جهاده في المحاماة والناس كالوحوش الضارية والذئاب المفترسة? إن اكتسى وجه الظالم بغلالة سوداء بغيضة, فما أجدر المظلوم الأنوف بأن يرفع رأسه ويتجلى وجهه أبيض وضيئًا. ولكن حسين يتطلع إلى وجوه زبائنه فلا يتبين الظالم من المظلوم. كل منهم تنطوي نفسه على الغلّ والحقد. لا يكتفي الظالم بجبروته, بل يهبط به جبنه إلى الدس والكيد والتلفيق… وعمي المظلوم عن نبل المطالبة بحقّه وثوابها, وامتلأت نفسه سما. لا يرضيها استرداد الحق بل الانتقام بأي ثمن من الخصم – ولو ظلما! كم كان يود أن لو اشتغل بالتعليم, لتكون براءة الطفولة الساذجة هي مادة عمله, وليساهم في بناء جيل صالح ينشأ على الأخلاق الفاضلة, تبدأ به مصر حياة جديدة. وهل هناك أنبل من وقفة المعلم أمام صف من الصبيان, يتطلعون بعيونهم المتعطشة إلى كل حركة تصدر منه وكل كلمة تخرج من فمه? هذا هو البناء الذي يرضي النفس. وأي مهنة أخرى تهيئ لصاحبها مثل هذه المتعة الروحية? أما الآن فإنه يجاهد في المحاماة جهادًا زائفًا مضيعًا. أحقًا أنه يعمل لرد الحقوق إلى أصحابها? إن صح هذا – وهو غير صحيح – فما فائدة تعمير البناء والأساس فاسد مختل? إنه يحس في نفسه القدرة على الصبر والتؤدة والتبسيط. وهذه صفات تؤخره في المحاماة, ولكنها خليقة بأن تدفع به إلى الصفوف الأولى لو أنه مارس التعليم. 

قابلته آمال غاضبة تقول: 

– لا أراك إلاّ والليل متقدم… وما أظنك غبت في هذا المكتب المبارك وهو أفرغ من فؤاد أم موسى… أكبر الظن أنك كنت مع صحبة السوء في لهو وعبث. 

– كيف أرضيك يا آمال? ألاّ ترينني متعبًا? 

وضع حسين يده على قلبه وتنهد. 

– إن الأزواج ليرجعون إلى البيت فيحدثون أزواجهم ويلاطفونهن ويتسلون معهن… 

– وماذا تريدين? 

لوت خرطومها وتركته. 

سار وراءها ذليلاً يقول: 

– آمال! تعالي. تعالى نلعب الكونكان معًا, فأنا مهموم أريد أن أتسلى… 

بلغ من ضعفه بين يديها أنه لا يجسر على أن يمن عليها بما يفعله لإرضائها, فكل خدمة منه لها يصورها خدمة منها له. 

واستمر اللعب زمنًا, وتناول حسين ورقة يربح بها الدور, فرفع يده بها مسرورًا يقول: 

– كُن… 

ولكنه لم يستطع أن يتمها “كونكان”. 

انشق الجدار وخرج إليه منه رجل غريب, ولكنه ليس بالغريب عنه. هو أقرب إلى القصر منه إلى الطول. مال بوجهه الزكي الرائحة على حسين يقول: 

– ياسي حسين! هل أنت ذاكر? لقد نفذت عهدي من الاتفاق. أليس كذلك? 

ابتسم له حسين ابتسامة ملؤها الاطمئنان والود والإخاء وقال: 

– تمم حديثك ولا تخف عني شيئًا. أكاد أفهم الآن كل ما كان غامضًا عليّ… 

– نسيت أن أخبرك في ساعة اتفاقنا أنه لم يكن لك عندئذ من بقية العمر أكثر من تلك السنوات العشر التي تبرعت بها.. 

فهل أنت مستعد? 

أسبل حسين جفنيه, وخفق قلبه, ومال عليه وجه سمح منزعج بقول: 

– حسين! حسين! ما بك? 

– من أنت? 

– أنا إحسان! ألا تعرفني? لقد كنت أمامي منذ لحظة سليما معافى. فماذا بك? هل يؤلمك شيء? رد عليّ! أأدعو الطبيب? 

ولكنه كان قد فارق الحياة, وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة. 

ووقفت أمامه إحسان ذاهلة لا تقوي على تفسير ما حدث كيف حدث! 

____________

مؤلفات يحيى حقي القصص 1 الهيئة العامة للكتاب 1990رسوم الكتاب للفنان سيف وانلي تشمل أشجان عضو منتسب عبارة عن سيرة ذاتية – قنديل أم هاشم – السلحفاة تطير – كنا ثلاثة أيتام – كن كان – القديس لا يحار- بيني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

رؤية نقدية للدكتورة: عطيات أبو العينين

“ما معنى هذه الحياة?”. 

ينخر هذا السؤال كالسوس في نفس حسين فرغلي كل ليلة وهو خارج من القهوة بعد أن كوموا مقاعده وأطفأوا أنواره يخف إليه قبل الغروب, فيجد زملاءه المدرسين قد اجتمعوا حول “الطاولة” ويدور اللعب بينهم – لا ينقطع لحظة واحدة – كالمعارك الحربية في غليانها وقعقعتها. يتساقى اللاعبون كؤوسًا مترعة من رحيق الفوز ومرارة الهزيمة, فينهلون من وهمها ويسكرون. حسين لا يلعب بل يكتفي بتتبع الحجارة والزهر بشغف كبير. يلتوي رأسه ذات اليمين وذات اليسار, كعروس ميكانيكية انفلت ضابطها. وهكذا هو أيضًا في الحياة يعيش على هامشها, ويلوذ بالشاطئ خوفًا من تيارها. عواطفه موزعة, تارة مع الغالب, وتارة مع المغلوب. فالمحايد المحروم من لذة المشاركة في الصراع يتسلى بمقدرته على الموازنة بالعدل والقصاص. إذا دار الحديث فعن العمل والوظائف والدرجات, حتى كأنهم الإبل, يجترون بالليل ما أكلوه بالنهار. أيّ عقل شيطاني تفتّقت حيلته عن اختراع هذه “الطاولة”? هي لعبة ساذجة متشابهة متكررة, ومع ذلك لا ينقطع سحرها (…). 

إذا أمعنا التدقيق  في عنوان قصة الأديب يحيي حقي “كن كان” نجد أن هذا الإسم يرمز لأكثر من معني حيث إنه بين الكاف والنون يكمن سر من أسرار الخالق العظيم وهي  قدرة الله ومشيئته وهي ما لا يستطيع الإنسان أمامه عمل أي شيء سوي الامتثال لقدرته لأنه أمر يتعلق بالقدرة الإلهية التي لا تتأتي لغيره عز وجل 

كذلك علي الناحية الأخري نجد أن معني كن كان هو نوع من المقامرة في أوراق اللعب وقد استخدمها الكاتب للإسقاط علي شخصية بطل القصة الذي قامر بعشر سنين من حياته دون أن يعلم هل سيبقي له غيرها أم لا وإن كان هذا التصور لا معقول إلا أنه يرمي به إلي عدم رغبة حسين بطل القصة في البقية الباقية من حياته والتي لا يعرف إن كانت ساعة أو عشر ساعات أو عشر سنوات لأنه ليس له هدف في الحياة 

وتبدأ القصة بسؤال عميق جدا ربما  حير العلماء والفلاسفة وكذلك الأدباء وهو:

ما معني الحياة

إن حسين يرى حياته سلسلة من الأخطاء وسوء الحظ ، ولكنه لم يفكر يوما أن يغير ما لا يعجبه في حياته أو يلفت نظر زوجته إلي المظهر الذي يحبه فيها أو يحب أن تكون عليه كعادة الكثير من الأزواج ليعتبرها زريعة للخيانة أو الزواج بغيرها ،  ويشعر حسين أن قلبه يؤلمه يخبره الطبيب أن قلبه ضعيف يخشي عليه من كثرة الإجهاد ويتمني أن تأتي الأجازة وما الأجازة هنا إلا حيلة للهروب من مهنة يمقتها وزوجة لا يحبها ولكنها فرضت عليه بحكم المجتمع والتقاليد ونجد هنا ثورة داخلية للكاتب قد عبر عنها ليس هنا في قصة كن كان فقط وإنما أيضا في قصة قنديل أم هاشم وزواج إسماعيل من ابنة عمه ونجد أن الكاتب نفسه قد تزوج في أول حياته بابنة عمه فربما يود أن يعبر عن تقاليد وعرف المجتمع في ذلك الوقت وما تفرضه علي أبنائها ربما بأشياء لا يرغبون فيها ولا يتمنونها  ويحاول الكاتب أن يلفت نظر كل زوجة إلي مظهرها الذي تهمله بمحرد أن تتزوج فتصبح غير التي أحبها أو حتى  تزوجها بطريقة تقليدية ولقد جاء علي لسان الكاتب نفسه أنه سرعان ما تغيرت زوجته وأصبحت بدينة مشعثة الشعر يديها خشنة إذن هو يري ويلمس فيها كل ما لا يحب ولا يرغب ، ونجد أنه حينما تزداد حدة ما يشعر به الفرد من اغتراب وانفصال عن نفسه أو مجتمعه أو عالمه الموضوعي فإن حياته النفسية تختل ومعاييره تهتز وتظهر عليه زملة الأعراض المصاحبة للشعور بالاغتراب والتي قد يتمثل بعضها في الشعور بالعزلة والتشيؤ واللا معيارية والعجز واللا معني والتمرد واللا هدف واللامعقول، وليس ضروري أن تظهر كل هذه الأعراض بل يكفي أن تظهر إحداها وهنا نجد أن حسين بطل قصة كن كان ظهرت عليه بعض مظاهر الاغتراب مثل عجزه عن اختيار مهنته وعجزه عن اختيار الفتاة التي أحبها شعوره بأن حياته لم يصبح لها معني شعوره باللا معيارية وعدم الاتزان في مشاعره  شعوره بعدم الثقة في نفسه ويوضح لنا روبنز أن هناك علاقة بين مفهوم الذات والاغتراب عن الذات فالاغتراب عن الذات ينتج عن تضاءل مفهوم الفرد لذاته وأن النمو السوي للفرد يتضمن معرفته بذاته ومن ثم إحساسه بهويته إحساسا قويا ونجد أن تافز وشاختل ومادي وهيلين امتدادا لما بدأته هورني برد الاغتراب إلي الذات وإلي عوامل نفسية تؤدي إلي الشعور بالخزي والإحساس بالدونية تجاه الآخرين والشعور بالانفصال عن الواقع الخارجي وما يستتبعه من تحريف له فنجد حسين يري المظالم تتزايد أمامه وتتلاحق ولا أمل له في أن يري نهايتها أو يرى عالما تسوده العدالة. 

ويشير “ليفكورت” إلي أهمية التفاعل بين الفرد والموقف عند تحديد مفهوم وجهة الضبط ( الداخلي –الخارجي ) بأن هذا المفهوم يمكن أن يفيد في التبؤ بالإنجاز الأكاديمي ويساعد في التنبؤ بالسلوك المعتمد ومفهوم وجهة الضبط يتضح في أن الأفراد ذوو وجهة الضبط الداخلية يعتقدون أن التدعيمات الإيجابية أو السلبية التي تحدث للفرد في حياته أو ما يحدث له من أحداث طيبة أو سيئة يرتبط بالدرجة الأولي بعوامل داخلية أو عوامل تتعلق بشخصية الفرد مثل الذكاء والمهارة والجهد سمات الشخصية المميزة التي تحدث للفرد في حياته أو شخصية مثل الحظ والصدفة وتأثير الآخرين لعوامل غير معروفة فنجد أن حسين بطل القصة من هؤلاء ذوي الضبط الخارجي الذي ينظر إلي فشله أنه نتيجة للظروف وللآخرين أو للحظ أو الصدفة ووجهة الضبط متغير من متغيرات الشخصية تتعلق باعتقاد الفرد بأنه يستطيع التحكم في الأحداث والنتائج في حياة الفرد ( ضبط داخلي ) وفي الجهة المقابلة الاعتقاد بأن الفرد لا يستطيع التحكم في الأحداث والنتائج في حياته ( ضبط خارجي )وهذا المتغير يمثل بعدا هاما في الفروق الفردية في الشخصيات لكل من الطفل والراشد .

إن حسين لم يدرك جمال زوجته وابنة عمه إلا عندما عاشر آمال التي أحبها ووجد نفسه يتمنى ابنة عمه وكذلك المهنة التي كان بنعي حظه أنه لم يمتهنها مهنة المحاماة ولكنه عاد وتمنى المهنة التي ثار وتمرد عيها ولعن حظه من أجلها إذن المشكلة ليست في المهنة أو في الحياة نفسها ولكنها في نظرتنا تجاه هذه الحياة وإيماننا بالله ويقيننا فيه وفي قدرته فبيد كل منا أن يخلق عالما يحبه بالإرادة وبالإيمان وليس بالعجز والاسستسلام وبعض الدراسات تجد أن مفهوم إرادة المعني هو القوة الدافعة التي من خلالها يكون الفرد المعني والهدف من الاستمرار في الحياة ذلك أن غياب إرادة المعني كما يري فرانكل يؤدي إلي الشعور باللا معنى والسأم والملل واللامبالاة واللا هدف وعدم الانتماء وكلها محددات لشعور الفرد بالفراغ الوجودي  فليبحث كل منا داخله ما هي قدراته و ماذا يستطيع أن يفعل ويسلح نفسه بالإيمان وعندما نستطيع أن نقضي على الاغتراب نستطيع أن نقهره ونعود إلي ذواتنا من جديد كان بإمكان حسين أن يكون مدرسا ناجحا ومؤثرا في جيل الأبناء أو أن يكون محاميا ناجحا له هدفه إذا كان يملك أدوات ذلك كما يقول ويربط مادي بين اغتراب الذات بما يسميه بالعصاب الوجودي حيث يري إن العصابي هو شخص منفصل عن التفاعل مع وجوده وعن التفاعل العميق مع الآخرين ولهذا السبب يقول مادي فإن العصابي الوجودي هو شخص مغترب عن نفسه وعن المجتمع وهذا التعريف يستمد خصائصه من الفكر الوجودي عامة ومن التحليل النفسي الوجودي خاصة والذي يري أن العصاب هو أسلوب في الوجود ينتج عن فشل الفرد في تحقيق مطالبه الوجودية في الحياة وعن الاضطراب في الاتصال بالواقع وعن هذا الفشل والاضطراب تنتج أشكال الوجود الفاشل التي تتمثل في الاغتراب عن الذات وعن الآخرين.

 

 

 

يحيى حقي محمد حقي 

 

 

(17 يناير 1905م – 9 ديسمبر 1992م) كاتب وروائي مصري. ولد في القاهرة لأسرة ذات جذور تركية. درس الحقوق وعمل بالمحاماة والسلك الدبلوماسي والعمل الصحفي. يعتبر علامة بارزة في تاريخ الأدب والسينما ويعد من كبار الأدباء المصريين. في مجاله الأدبي نشر أربع مجموعات من القصص القصيرة، ومن أشهر رواياته قنديل أم هاشم، وكتب العديد من المقالات والقصص القصيرة الأخرى.

ولد “يحي حقي” في 17 يناير 1905 في بيت صغير من بيوت وزارة الأوقاف المصرية ب”درب الميضة” ـ الميضأة ـ وراء “المقام الزينبي” في حي السيدة زينب بالقاهرة؛ لأسرة تركية مسلمة متوسطة الحال غنية بثقافتها ومعارفها، هاجرت من (الأناضول) وأقامت حقبة في شبه جزيرة “المورة”، وقد نزح “إبراهيم حقي” (توفي سنة 1890)، أحد أبناء هذه العائلة إلى مصر ـ في أوائل القرن التاسع عشر، قادما من اليونان، ـ وكانت خالته السيدة حفيظة المورالية (خازندارة) بقصور الخديوي إسماعيل ؛ فتمكنت من تعيين قريبها الوافد في خدمة الحكومة، فاشتغل زمناً في دمياط ثم تدرج في الوظائف حتى أصبح مديرًا لمصلحة في بندر المحمودية بالبحيرة ؛ ثم وكيلًا لمديريةالبحيرة ؛ هذا الرجل هو جد يحيى حقي[2]. وقد كون “إبراهيم حقي” أسرة تركية مصرية؛ فأنجب ثلاثة أبناء هم على الترتيب محمد (والد يحيى حقي)، ومحمود طاهر حقي (ولد في دمياط سنة 1884م ،وتوفي في يناير 1965م، وهو الأديب المعروف)، وأخيرًا كامل حقي (توفي في 2 مايو 1972 م).[3]

تزوج محمد إبراهيم حقي ـ والد يحيى والموظف بنظارة الأوقاف ـ من (سيدة هانم حسين) التي تنتمي إلى أب تركي وأم ألبانية، وقد التقت أسرتا “سيدة هانم ” ومحمد حقي في بندر المحمودية بالبحيرة.

الأخوة

أنجب محمد حقي عددًا كبيرًا من الأبناء هم على الترتيب :إبراهيم، إسماعيل، يحيى، زكريا، موسى، فاطمة، حمزة، مريم. وقد توفي حمزة ومريم وهما طفلان، كما توفي عدد آخر من الأطفال قبل أن يبلغوا من العمر شهورًا.

الأخ الأكبر ليحيى هو “إبراهيم حقي” وكان يعمل في الخاصة الملكية ثم انتقل بعد ذلك للعمل في إحدى الشركات التجارية الكبرى (فيلبس). ثاني إخوته (إسماعيل حقي)، قضى زمنًا في التدريس في المعاهد المصرية ثم أحيل إلى المعاش وسافر إلى الرياض ليعمل بجامعة الملك سعود. أما أخوه الذي يصغره وهو الرابع في الترتيب فهو “زكريا حقي” الذي درس الطب وعمل مديرًا بإحدى مصالح وزارة الصحة، ثم “موسى حقي” الذي تخرج في كلية التجارة، ثم حصل على درجة (الماجستير) في السينما وكان يشغل وظيفة كبيرة بإحدى المؤسسات السينمائية.

حياته العملية 

تلقى يحيى حقي تعليمه الأوليَّ في كُتَّاب “السيدة زينب”، وبعد أن انتقلت الأسرة من “السيدة زينب” لتعيش في “حي الخليفة”، التحق سنة 1912 بمدرسة “والدة عباس باشا الأول” الابتدائية بحي “الصليبية” بالقاهرة، وهذه المدرسة تتبع نفس الوقف الذي كان يتبعه (سبيل أم عباس) القائم حتى اليوم بحي “الصليبية”، وهي مدرسة مجانية للفقراء والعامة، وهذه المدرسة هي التي تعلم فيها مصطفى كامل باشا. قضى “يحيى حقي” فيها خمس سنوات، وفي عام 1917 حصل على الشهادة الابتدائية، فالتحق بالمدرسة السيوفية، ثم المدرسة الإلهامية الثانوية بنباقادان، وقد مكث بها سنتين حتى نال شهادة الكفاءة، ثم التحق عام 1920م بالمدرسة “السعيدية”، انتقل بعده إلى المدرسة “الخديوية” التي حصل منها على شهادة (البكالوريا)، ولما كان ترتيبه الأربعين من بين الخمسين الأوائل على مجموع المتقدمين في القطر كله، فقد التحق في أكتوبر 1921م بمدرسة الحقوق السلطانية العليا في جامعة فؤاد الأول، وكانت وقتئذٍ لا تقبل سوى المتفوقين، وتدقق في اختيارهم. وقد رافقه فيها أقران وزملاء مثل: توفيق الحكيم، وحلمي بهجت بدوي، والدكتور عبد الحكيم الرفاعي؛ وقد حصل منها على درجة (الليسانس) في الحقوق عام 1925، وجاء ترتيبه الرابع عشر . 

 

استمر في القراءة قصة "كن..كان" – يحيى حقي

أنشودة الغرباء” قصة: يوسف إدريس

انشــــودة الغرباء
قصة للدكتور \ يوسف ادريس
نشرت فى مجلة القصة فى  مارس 1950 م
_  الليلة من ليالى الشـــتاء ..  ليلة عجوز شــمطاء .. البرد يكاد يمتص
كل ما على وجه البســيطة .. برد قارس كئيب تفوح منه رائحة الفنــــاء
وتهب نســائمه فتلفح الوجوه التى انهكها سعى النهار . واحتواها ظلام
الليل فتهرب منها الدماء مخلفة وراءها صفرة تقشعر لها الجلود المنهكة
_  لم يسع المعلم عمر الا ان يقفل باب القهوة ليمنع النسائم التى
اعتصرها البرد ان تدلف الى المكان  .  لكنه عاد ليفتحه قليلا عله يلتقط
هاربا من جحيم البرودة . ثم تربع على اريكته ومضى يتأمل زبائنه بعينه
نصف المغمضة وقد استقرت خلف اطار عتيق من الاهداب . وبوجهه
الاسمر . تلك السمره التى لا يفصلها عن السواد الا غلالة شفافة .
وبملامحه التى يصبغها طابع من الغموض . غموض قد تخف وطأته
فتلمح فيه اشمئزازا من حياته . وقد يزداد غموضا فلا يفصله عن
سمرته الا غلالة شفافة .. لم يكن يزيد على الخمسين . ولكن تجاعيد
وجهه كانت تنطق بأن ثمة احداثا هائلة قد عبثت بكيانه . عبثت بجاويش
المطافى التى كانت اشرطته وسلطته مضرب الامثال . فجعلته يغتصب
امرأة دخل عليها من نافذتها ذات يوم وقد اشتعلت النار فى دارها
فوجدها تكاد تكون عارية .. ثم يستقر بعد سنين السجن العجاف فى هذا
الجحر …. كنا نرهبه ونخشاه . فالحياة التى قضاها خلف القضبان كانت
تضفى عليه هيبة . وكأننا حين ننظر اليه نرى وراء طلعته المتهالكة
السجن الرطيب .
.. وجلسنا نحن . نحن الغرباء فى دنيا الناس . نحن الهاربون من ضجة
الحياة وصخب البشر . نحن الذين رأينا الناس يندفعون فى موكب الحياة
المجنون وكأنهم قطرات الرذاذ قد تحولت الى تيار ماجن دافق ينخر فى
صلب الوجود .. آثرنا ان نركن الى الشاطئ وان نحتمى بمرفئنا الهادئ
وكأننا قوقع نهر اشفق عليه الموج فدفعها فى حنان وتؤده الى شـاطئه .
أهو جبن منا . ؟؟  أم عجز عن ان نتدافع بالمناكب .. سمه ما شئت .
وسمنا ما شئت فنحن لا يهمنا رأى البشر المتخبط فى مجراه . يكفينا
اننا اعتزلنا ما اصطلح الخلق على تسميته بالحياة . وما نسميه نحن
تناحر النفوس وقد تحولت من فراشات ترفرف فى سمو .  الى عش
للزنابير اهاجها يوم قائظ فمضت تلدغ ماتشاء ومن لا تشاء . وما نسميه
تضارب العقول وقد عز عليها ان تسير الى الابد فى مجراها السليم
فمضت تتصارع فى جشع . وتتلوى فى انانية . وما نسميه تحجر القلوب
وكأنها قبيلة من أكلة البشر لم تجد ما يقيم اودها فراحت تتربص
بنفســـها . الاخ يلعق دماء اخيه . والام تتخير لنفسها غذاءا دسما من
بين اطفالها .
.. نحن أهل الشاطئ .. اخترنا هذا الحصن . وما هو بحصن . واجتذبنا
صاحب المكان . فهو وان كان ليس منا . الا انه كان يقف فى مكانه
من تيار الحياة لا يريم . واذا تحرك فلينقض على هذا أو يعرقل ذاك أو
يتراجع فى خطى يائسة معاندا التيار . التيار الضخم الجبار . وكأنما كانت
وقفته او انقضاضه سكون وسط هذا الجو المشحون بالحركة والجنون .
فلما تراكمت الناس من خلفه يدفعونه . ويرغمونه على المسير . آثر
ان ينزوى على الشاطئ . وان ينفض يديه من المعركة وان يحنى رأسه
للعاصفة . لا عن فكرة تدفعه الى التسليم ولا عن عقيدة فى الانطواء انما
عن جبن وعجز .
كان لنا نعم الملجأ . وحين عثرنا عليه ونحن تائهون بين رمال الشاطئ
تتلقفنا تلقف الملهوف . واتخذنا تلك القهوة المتداعية مركزا لنا ومقرا .
فهى بصاحبها وصبيه أحمد الفتى . الذى لم يتجاوز العشرين . بوجهه
الصبوح وشعره المشعث فى فوضى محببه . ولذعاته عن طربوش المعلم
عمر .. هو يهمس بها لنا فترتفع قهقهاتنا فى ضحك صاف حبيب .
كانت هاته جميعا ما حبب الينا المكان وربطنا اليه برباط لا تنفصم عراه .
ومضيت اتطلع الى الباقين من الرفقاء . الى الغرباء المتظلليين بهدوء
الشاطئ وسكونه . كان الجالس عن يمينى الاسطى حنفى بجثته الضخمة
وشاربه المفتول فهو محدثنا اللبق خاصة حين يداعب شاربه وهو يروى
لنا مغامراته التى يعتز بها فى قيادة السيارات والتى انتهت بساق من
ساقيه ذهبت مع تيار الحياة الدافق . وكانت حنجرته الجوفاء البارزة
من عنقه تضفى رنة حبيبة تمده بسلاح قوى للتأثير على سامعيه . كنت
اعرف انه كثيرا ما يخلط الواقع بما يتمتع به من خيال خصب . ولكن
ذلك لم يمنعنا من الاعجاب بخياله قدر ما اعجبنا حقيقة افعاله .
وهذا ابراهيم .. أو ابو خليل كما كنا نناديه دائما حتى اندثر لفظ ابراهيم
فأصبح ينافس الحذاء القديم الذى يرتديه . وجلبابه الذى تناثرت فيه
الرقع . ومعطفه الاصفر العتيق . وعمامته التى حال لونها من كثرة
ما حملت من اقذار . ومع ذلك كان قريبا الى  نفوسنا جميعا .
كان يتكلم فننصت مصخين .   ففى صوته رنة حزينة عميقة تأمرك
كان كلامه كنغمات ناى قديم تنساب فى ليلة ظلماء . أو كأنبثاق دمعة
من دموعه يذرفها على امينه التى اضاع من اجلها عشرة فدادين . ثم
افاق من غفوته ليجد نفسه فقاعة دفع بها الموج الى الشاطئ حيث لا
امينه ولا فدادين .
.. أما حسن بك فقد كان مكتئبا فى المساء . أهو جيبه قد عمر مرة اخرى
بالنقود . هذه عادته كلما انتفخت حافظته . انه ذو ثروة يسيل لها اللعا ب
ولكنه يحاول دائما ان يهرب من ماله ومن الطرق التى يحاول بها البشر
ان يستدرجوه بها لاستثمار امواله فيأتى الينا ضاربا عرض الحائط
بطرقهم وبمالهم وبالتيار وما يزخر به من متدافعين .
والتفت الى الشيخ شبراوى فوجته يلوك فى فمه وامامه قدح القهوة .
السادة . فأبتسمت ..  كان اماما وخطيبا فى احد المساجد . غير ان نفسه
التى تسعى وراء المجهول . ابت ان تتلقفها عيون المصلين الخاشعين
بأحترام قد يرتفع الى مرتبة التقديس ابت ان يكون رائدا للجموع وهو
ادرى بما فى قلوبهم من ظلمات وبمافى قلبه هو من ظلمات قد تكون اشد
حلكة . فلاذ بنا فرارا من نفسه والجموع .
.. أما انا … حقا من أنا .. أنا غريب حتى عن نفسى فلا تسلنى من أنا .
يكفيك انى واحد من الغرباء .
كنا جلوس فى تلك الليلة وقد اكتمل جمعنا . ومضينا ننهل من الدخان
الازرق . يدخل صدورنا ويتصاعد مختلطا بدمائنا الى عقولنا .
فننسى ….. ننسى  اننا عشنا يوما فى هذا التيار . واننا كنا يوما بين
المتدافعين .. اننا ننظر الى حلقات الدخان وقد تصاعدت من جوفنا وملأت
المكان . فنلمح من خلالها بقايا ما يوم كان يحتوينا الخضم الهائل .
بقايا البغض والحقد الذى يترسب فى اعماق مواكب النمل التى ماكان
يهمها من دنياها غير لقمة العيش وجرعة الماء .. اننا ننظر من شاطئنا
الى معركة الوجود كما نظر نيرون يوما الى حريقه . فتهمس الغبطة
فى نفوسنا _  دعوهم فى صراعهم . دعوى الذئاب تعوى . والقطيع
يصرخ . والافاعى تلدغ . والكلاب تنبح . والبوم ينعق . والصقور تنهش
دعوهم فى حياتهم يعمهون .
وتأخذ النشوة الشيخ شبراوى مما اجتذبه فى صدره ولاكه فى فمه
فينطلق فى الغناء . ولم يكن صوته حلوا . ولم يكن كذلك قبيحا . انما كان
قويا واحسسنا انه يغنى لنا ..   انه يستمد الحانه من دقات قلوبنا ومن
اطياف الهدوء والسكون التى تحلق فوق رؤسنا . يدفعنا الاعجاب به بل ويدفع بأبى خليل الهادئ الرزين الى ان يفك عمامته ويحيط بها وسطه
ويرقص ونصفق نحن . ثم يستخفنا الطرب فنردد مع الشيخ شبراوى
اغانيه الذى يسره ما بعثه فينا من نشوة . وما اثاره فينا من مرح  .
فيمسك بعمامته ويقذف بها فى الهواء . ثم حدث شئ مفاجئ غادر بعثر
الغرباء ..ا لتأم جمعنا . الجمع الغريب مرة اخرى . ولكن فى فناء السجن
هذه المرة .
.. ما للجمع يسوده غموض حائر متطفل . وما لأهل الشاطئ قد استكنت
السنتهم فى افواههم . وما لنبع الهدوء الساحر الذى كان يسيل من
وجوههم ينقلب غبره يشع منها الوجوم .
لم يكن السر عميقا فى خفائه بل كان واضحا وضوح اشعة الشمس
الغاربة الحمراء وكأنها انفاسها اللاهثة وهى تحتضر وهى تطل عليهم
من بين القضبان .. كأن مواكب النمل قد ضاقت وعز عليهم ما ينعمون
به وحدهم . فأخذت القواقع من سلام واثقلتها بالقيود ثم ارسلتها الى
الاعماق . الى ما خلف معركة الوجود . الى حيث لا يشعرون بدبيب
المواكب وهى تمضى فوقهم . وكان دخانهم الازرق هو السبب .
.. لم يجرؤ واحد منا على ان يلوث قدسية ما نحن فيه من سكون .
انه الانتقال المفاجئ من الشاطئ الساكن الى ضيق الاعماق . انه الليل
حين يقبل _  اول ما يقبل _ على الانسان الاول . وقد قضى يومه فى
نور بهيج . انها الاشجان حين لا يحلو لها ان تداعب خيالنا الا فى ظلمة
الليل .. اهناك رابط بين الاشجان والظلام . ؟؟ أم ان الانسان حين يضيع
بصره فى حلكة المساء يرتد الى نفسه باحثا منقبا . فلا يجد الا اشجانه
التى تلوذ بأعماقه . ولا يلمح بارقة لافراحه فهى كالعطر الثمين تنعشه
ساعة ما . ثم تمضى ولا تخلف وراءها اثرا .
انه الليل والظلام والاشجان هى ما يثير فينا الوجوم .وتدفعنا الى السكون
غير ان ثمة شيئا ما جعلنا ننسى انفسنا ونصيخ السمع اليه . كان ابو
خليل ينقر على عكاز الاسطى حنفى ووجهه هادئ لا ينم عن شئ .
هى الاحداث ترتفع وكأنها الجبال الشامخات وتنخفض كأنها اعمق
الوديان . ووجهه لا يتبدل . فالابتسامه التى يخيل اليك انها سوف تحتل
وجهه ومع ذلك لا تفشيها . ملامحه  هى هى غير ان لحيته قد طالت
وزاد سوادها وكأنها طلاء فنان عربيد قد احاط بوجهه . كان ينقر وكأن
نقراته رعدة تمر بيده فيخفيها بتحريك انامله . لكنها ما لبثت ان اتخذت
طابعا نعرفه جميعا . طابعا يعرف الطريق الى قلوبنا فيسلكه حينما يشاء
ليجدها تنتظره وترحب به .
وانفجر الجمع الغريب . رقص الشيخ شبراوى وصفق حسن بك وقهقه
المعلم عمر وتمايل الاسطى حنفى . وانطلقنا فى غناء مرح صاخب .
انها الاعماق حقا .. لكننا غرباء بعيدون عن صراع القطيع وحريق
الرغبات .
نحن الهاربون من الحياة . نحيا الحياة التى وان كان يمجها المتزاحمون
ويحتقرها المتصارعون النهمون . انما هى حياتنا . نحن احرار فيها .
نحياها فى الشاطئ الهادئ الساكن أو فى القاع المظلم الرطيب .. ؛؛
الدكتور \ يوسف ادريس
سلسلة الاعمال الابداعية
  العدد الثانى _  مجموعة تلميذ طب  _  نصوص لم تنشر من قبل
  قامت بجمعها د \  عبير سلامه .
 قدمتها برؤيا نقدية \  نورهان صلاح .
                        انشـــــودة الغربــــاء
                 قصة الدكتور \ يوسف ادريس عن مجموعة
                تلميذ طب 1950 رؤيا نقدية \ نورهان صلاح
              ———————————————–
مفتتح :
فى وصف شديد الخصوصية . بارع فى تفاصيله الدقيقة . وصف يوسف ادريس الليلة انها عجوز شمطاء .. وهو وصف حاد دال بحالة ومفتوح التأويل .. ثم وصف حالة الليلة وكأنه يفسر دلالة عجوز شمطاء . انها كانت ليلة باردة جدااا . ووصف البرد انه قارس كئيب تفوح منه رائحة الفناء . وهو الوصف الاعمق لتأويل ليلة عجوز شمطاء .
بدأ يوسف ادريس قصته  بهذه الوصفية الدقيقة البارعة التكوين فى نسق الجمل النثرية التى تكون النص . كأنه يجهز المتلقى لاستقبال قصة فى التجريب او الحداثة . ليشحذ عقله ليصل الى المعنى الذى اراده .
ثم دخل فى سرد القصة مخالفا العرف السائد فى كتابة القصة آن ذاك . وبدأها بتصوير حالة المعلم عمر صاحب القهوة ( الجحر ) فى التفاعل مع هذه الليلة وهو صاحب المكان ( المقهى ) مصورا المكان والحدث وكأنك تتخيله . فبدى السرد من بدايته كصورة واقعية لما يجرى من احداث . وزادته الوصفية الدقيقة التى كتبت بلغة نثرية موسيقية لها  وقع يرن فى العقل . زخما وألقا فى تفصيلات حركة القصة .
النص :
النص يدور عن مجموعة من البشر لاشئ يجمع بينهم سوى فكرة اعتزال الحياة والبعد عن الناس . لانهم اكتشفوا فجاة انهم لن يستطيعوا مسايرتها كما باقى البشر . ولما حاولوا قذفتهم الحياة نفسها بعيدا عنها
كما تقذف الامواج القواقع الى الرمل . فلاذوا بهذا المكان الامن يخلقون حياتهم الخاصة وهم ينفثون الدخان الازرق الذى يؤكد صحة مرماهم ويوهمهم انهم على صواب . منهم صاحب المقهى وقد اسهلب يوسف ادريس فى تفصيلات شخصيته . ومنهم ابراهيم الذى باع ارضه على امراة واصبح مفلسا تماما . وغيرهم من شخوص كان مابهم من عورات كفيلا بإنعزالهم عن الدنيا والبشر . انهم الهاربون من الدنيا . أو الغرباء عنها الذين جربوا حياتها ففشلوا وكادوا يهلكون .
الفكرة :
هل يستطيع انسان ان ينعزل عن الدنيا وينقطع عن الناس . بحجة انه لا يستطيع ان يتعايش مع افعال البشر السيئة التى لا تراعى اهلا ولا اخوة وكثرت فيها البغضاء . وتجبر القوى . هل يجعل الانسان هذه الحجج الواهية سببا وجيها لانعزاله . ام ان الانسان هو الانسان الذى خلقه ربه بين ثواب وعقاب . به من الخير والشر معا . وان الحياة هى الحياة بكل صراعاتها وبؤسها وشقائها . وخلقها الله هكذا . لانتخاب صفوة البشر . ام ان الدخان الازرق هو الذى يوهم الضعفاء . ان العزلة هى الحل . وان الحشيش يجعل الدنيا اكثر رحمة . ويمكن ان تعاش .
فكرة . كأسألة ملحة على رأس الكاتب . يريد ان يفضى بها الى قارئه . ويتعرف عليه فى بداية مشواره الادبى . لقد جعل يوسف ادريس النص القصى رائعا فى تكويناته المجازية وحركته اللغوية . وجعل الفكرة هى الاساس السليم لبناء قصة . وجعل اللغة الوصفية بتنقلاتها بين الشخوص والمكان من اعمدة النص الجيد . وان اللغة النثرية هى ورود الكاتب الى قارئه . ليعلمه انه يقدر ماضاع من وقت لقراءة نصه . وانه يعده ان يكون عند حسن الظن .
يوسف ادريس علامة فارقة فى القصة القصيرة فهو اول من ادخل التجريب فى النص . واول من نقل القصة من الكلاسيكية الى الحداثة .
نورهان صلاح . ؛؛

قصة "الخلود" – من حكايات "أصداء السيرة الذاتية" – نجيب محفوظ

قصة “الخلود” – من حكايات “أصداء السيرة الذاتية” – نجيب محفوظ

قال الشيخ عبد ربه التايه:وقفت أمام المقام الشريف أسأل الله الصحة وطول العمر. دنا منى متسول عجوز مهلهل الثوب وسألني: هل تتمنى طول العمر حقا” فقلت في إيجاز من لا يود الحديث معه:من ذا الذي لا يتمنى ذلك؟
فقدم لي حقا صغيرًا مغلقا وقال:إليك طعم الخلود لن يكابد الموت من يذوقه.فابتسمت باستهانة فقال:لقد تناولته منذ آلاف السنين ومازلت أنوء بحمل أعباء الحياة جيلا بعد جيل.فغمغمت هازئا.يا لك من رجل سعيد.فقال بوجوم:هذا قول من لم يعان كر العصور وتعاقب الأحوال ونمو المعارف ورحيل الأحبة ودفن الأحفاد.فتساءلت مجاريا خياله الغريب
ترى من تكون في رجال الدهر؟
فأجاب بأسى:
كنت سيد الوجود ألم تر تمثالي العظيم؟ ومع كل شروق أبكي أيامي الضائعة وبلداني الذاهبة وآلهتى الغائبة.”          —————————————————-
“أصداء السيرة الذاتية” – دار الشروق – ص 80

____________________________________
·        قراءة نموذج “أصداء السيرة الذاتية “نجيب محفوظ”.. بقلم السيد نجم
لعله من المناسب التوقف قليلا أمام “أصداء السيرة الذاتية“…هل عمد “محفوظ” إلى إسقاط نظرية “فيليب لوجون” التي تقول بأن مرجعية الأنا في السيرة الذاتية معصومة من الوقوع في دائرة التخييل متى تحقق التطابق بين الهويات الثلاثة: هوية المؤلف والراوي والشخصية؟
ربما عمدًا خلط محفوظ” بين المرجعي والمتخيل, وتنصل من مسئولية السير ذاتية التي يلزمها قدر غير قليل من الجرأة والصراحة والوضوح.. ربما إلى حد التعري! يتذكر المتابع لأحاديث الكاتب الصحفية, مقولته في صحيفة “أخبار الأدب” أن سبب الإقبال على جنس “السيرة الذاتية “أن أصبح الأدب معقدًا غير مفهوم للقارئبينما السيرة كلام واضح عن حياة الناس
فيما يقول “محفوظ” مرارًا أن شخصية “كمال” في “زقاق المدق” هي شخصيته وأرائه, وأن ما كتبه من روايات حول بعض الأماكن والشخصيات, هي في الحقيقة جزء من سيرته, ورجمًا لحيرة وقلق يثقلان الكاتب من خلال علاقته بتلك الأماكن والشخصيات, فتبدو تلك الروايات بما تتضمنها من شخصيات هي “سيرة ذاتية” بمعنى ما.
أما وقد هم الكاتب لكتابة “السيرة”, الطريف أن بدت أكثر غموضًا, ولم يفصل بين الذاتي والمرجعي والتخيلي والوهمي.. بدا وكأنه عمدا لا يريد أن يكون هكذا صريحًا وواضحًاوكأنه بدا جريئا في قوله أثناء الكتابة الروائية أكثر منها وهو يكتب السيرة.. خصوصا أنه يعلم أن قارئ السيرة لا يضع إحتمالات الصدق أو الكذب فيما يستنتجه أو يقرأه.
لقد أبدع الكاتب شخصية “عبد ربه التائه” لتلعب دور الرابط والراوي في العمل/الأعمال. كان أول ظهور الحكاية رقم5: ولد تايه يا أولاد الحلال ..ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال:“فقدته منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عنى جميع أوصافهتبدو الحكاية (الخلود) وكأنها حلم يكابد التلاشى, وتحمل فى مضامنها مفاهيم “الخلود“, “نمو المعارف”, “أعباء الحياء”.. فى مقابل “دفن الأحفاد”. انها المكابدة بين طريقين يعيشهما اﻹنسان على الأرض, معهما وبهما يكون الصراع والمقاومة.وإذا أضفنا بعض المقولات المبعثرة هنا وهناك..أمثال أقواله:
لقد فتح باب اللانهاية عندما قال “أفلا تعقلون” من رقم 10
إن مسك الشك فأنظر في المرآة نفسك مليا” من رقم 12 
جوهران موكلان بالباب الذهبي يقولان للطارق تقدم فلا مفر هما الحب والموت” رقم 15
عندما بلم الموت بالآخر يذكرنا بأننا مازلنا نمرح في نعمة الحياة” رقم 16
.. ثم إذا ما تأملنا عناوين الحكايات بالأرقام: دعاء – رثاء – دين قديم – السعادة – الطرب – التلقين – الأشباح – المرح – التحدي – المطر – التوبة – التسبيح – ليلة القدر – الحياة..
ففي الفقرات أو الجمل.. قدر واضح من التأمل, الوعي بالمخاطب وثقافته, النزعة الصوفية والتي غالبة على كل النزعات فكرا وسردا, الألف ولام التعريف التي تعنى التحديد والقصيدة لعناوين أغلب بل معظم العناوين, وغيرها من الملامح والشواهد, والتي نرى معها أن “نجيب محفوظ” كان مدركا لعنوانه “أصداء” السيرة الذاتية.. فلم يكتب السيرة الذاتية”, وهو المدرك تمامًا لخصائصها, ولكنه لم يشأ أن يكتبها بل يكتب بحول الخبرة العمرية وأصداء التجارب التي عاشها. فلم يكن “التخييل” التي قالت به الناقدة “جليلة طريطر” محاولة واعية من الكاتب للتجاوز, بقدر أن منهجية الكاتب أصلا لم تكن “كتابة السيرة الذاتية”! وما حكاية “الخلود” إلا نموذجا مختارا لتأكيد ذلك, بل واختيار تلك الشخصية الدرامية الرامزة عبد ربه التايه” كرابط درامي وإطار تتحرك حوله وبه الأفكار التي تبناها الكاتب للتعبير عنها من وحى حكمة الأيام وخبرة السنين.. والتى تحمل فى ثناياها حكمة الأيام وخبرة السنيين التى ترى وتفعل للمقاومة وان علت روح الايقاع الصوفى, أليست الصوفية فى مرحلة ما وبفهم ما, هى طريق ما للمقاومة الفردية وشكل من أشكال “المقاومة السلبية” (فكم من المجموعات الصوفية ترفض العزلة وتدعو للعمل بين الناس)إذا كان الأمر كذلك فتعد قصص اصداء السيرة ل “نجيب محفوظ” كاشفة عن البعد المقاوم فى الأدب, وفاعلة من أجل تقوية الذات الجمعية بكشف الخفى والمسكوت عنه, وبالتالى رصد الأحداث وابراز أكثرها تأثيرا على الناس, هى دعوة للانتياه, والانتماء, والحرية, والخلاص.. أليس من أدوار الأدب أنه ذاكرة للأمم والشعوب.
******

قصة "البكاء" – يحيى الطاهر عبد الله

البــكـــــــــــاء
قصة: يحيى الطاهر عبد الله
قطع رجل – ذات يوم – بقضيب من حديد ذيل حية, فهربت الحية من بيته – واحتمت ببيت أرملة عجوز.
قالت الأرملة العجوز – وكانت حكيمة – لنفسها:
” حياتي في دجاجاتي.. فأنا أقايض صاحب الدكان – يأخذ البيض ويعطيني كيس الشاي وقرطاس السكر وعلبة الكبريت.. كذا الزبال يأخذ زبل دجاجي ويعطيني الإبرة وشلة الخيط وحفنة الملح وحبات الفلفل.. والحية رفيقة قبر, وهي في الدنيا رسول موت بخاخة سم بنات قاتل.. الحية تحب البيضة مطبوخة بالبصل.. سأطبخ للحية كل يوم بيضة بالبصل.”
هذا ما فعلته العجوز من أجل الحية. وعلى هذا الحال مرت الأيام وفي يوم باضت الحية بيضها الأرقط أخفته كما تفعل كل حية أم.. ثم جاء يوم وطلعت ديدان تتلوى تحت أرجل الدجاج الآمن. وما هي إلا أيام – وإذا بالديدان حيات تسعى في أركان البيت الآمن. ويوم وجدت الأرملة العجوز دجاجة قتيلة – قعدت على تراب الأرض والدجاجة القتيلة في حجرها وظلت تبكي ضعفها وخيبة حكمتها، وهوان أرملة عجوز أجبرها الزمان على مواجهة صغار حية مقطوعة الذيل.
أما الحية التي قطع رجل ذات يوم ذيلها بقضيب من حديد – فقد لمت صغارها وشمّتهم الواحد بعد الواحد وكانت قد شمّت الدجاجة المقتولة, ولما تمكنت من فاعل الفعلة أطبقت على عنقه بأسنانها ومنعت عنه الهواء, ولم تتركه إلا جثة بغير روح, ثم فارقت الحية الوفية المكان يتبعها صغارها إلى عراء رحب لا أمان فيه. بينما الأرملة العجوز – في جحرها الضيق – مع دجاجاتها وقتيلين تبكي ولا تعرف متى تتوقف عن البكاء.
هكذا تم الفراق.
البكاء: قصة يحي الطاهر عبد الله، مجموعة قصص (الرقصة المباحة) – سلسلة الكتابات الكاملة – الطبعة الثانية 1994 (دار المستقبل العربي)
الرقصة المباحة (مجموعة قصصية ، كان يحيى قد أعدها للنشر فى مجموعة، ونشرت بعد وفاته، ضمن الأعمال الكاملة التي نشرتها دار المستقبل عام 1983م

قراءة: أحمد سعودي
****************
قراءة غير نقدية لسلسلة التداعيات الحرة؛ وكلمة (حرة) هنا مجازية، فلا شيء حر في حياة مدفوعة أصلا بقوى غير حرة, تلك التداعيات التي أسلمت أرملة عجوز – أدركت في الأراذل برجماتية الحياة- من القرار: “الحية تحب البيضة مطبوخة بالبصل.. سأطبخ للحية كل يوم بيضة بالبصل” إلى القعود – بقتيلين في حجرها، تبكي ضعفها وخيبة حكمتها وهوانها أمام صغار حية مقطوعة الذيل.
متى يتوقف البكاء؟
كيف تم الفراق؟
أكم من الأحداث والشواهد والتحولات لا يمكن لاثنين أن يتفقا تمام الاتفاق في تأطيرها كإجابات وافية للسؤالين، فليس كل نبي رسول وليس ثمة نبيين للبكاء؛ إلا أن نبيا ما كان قد أدرك وزن الكلمة وكثافة الجملة، فأوتي سر السطوة الكامنة في الجمع بين “نقطة” و”تحول” والتراتبية المثلى لنقط التحول في حياتي أفعى مشردة مقطوعة الذيل وأرملة عجوز تدفع الحياة/تدفعها الحياة.
“الأفعى أنثى وإن كانت مقطوعة الذيل، وبداخل كل أنثى أم وإن كانت بلا أبناء، أما الترمل والعجز وإن كانا قابضين فلهما متنفس ولو كان بضع دجاجات” هذا ما أ‘سِرَّ للنبي ليكتفي بدوره بمعروفٍ وغريزةٍ ووفاء ليخبر عن الفراق – كيف تم، وعن البكاء – متى ابتدأ؛ أما “متى يتوقف البكاء؟” فسرّه محفوظ في قبر ينتظر انقضاء حياة لا شيء فيها حر.

قصة "الرأس" – خيري عبد الجواد

الرأس
قصة: خيرى عبد الجواد


والليل قد بلغ منه الثلث أو الثلثان، ولم يكن هناك غيرى فى الشارع، والظلام قد اشتد ساعده فرمانى بأغنية تتحدث عن فوائد الاستحمام، فغنيت ولعلع صوتى فى السماء الدنيا. أما المواصلات فقد انقطعت منذ حين، وكانت هناك عربة آتية من المنحنى المظلم مسرعة. وقفت أمام العربة فاتحا ما بين ساقى فاردا ذراعى. فوقفت لى، مددت رأسى وعنقى عبر النافذة المفتوحة لأواجه السائق.
دون أن أتكلم، ودون أن يتكلم، مد السائق يده إلى رأسى وعنقى، كانت يده تحمل سكينا كبيرة لمع نصلها فى الظلام وجز رأسى وعنقى فى مهارة فائقة. كنت أنظر إليه فى دهشة وكان يضحك ويصفر بفمه. أخذ رأسى وعنقى ووضعهما بجانبه على الكرسى، وكان جسدى خارج العربة يقف منتصبا دون رأس ولا عنق. انفجر سرسوب من الدماء مثل النافورة فأخذ يصدر هذا الصوت:
– تش.. تش.. تش، وكان عنقى أيضا ينزف دما ساخنا. نظرت إليه مستفسرا فأدار محرك العربة وانطلق. شببت برأسى على عنقى لأنظر عبر زجاج النافذة إلى جسدى المنتصب فى الشارع متباعد الساقين مفتوح الذراعين، بلا رأس أو عنق. كان جسدى يتهاوى فى بطء، واستكانت الذراعان والتوت الساقان وتكونت بركة من الدماء الساخنة التى أخذت تفور وتتصاعد منها أبخرة ملأت الهواء، وكان صوت الدماء التى تفور يأتى عبر الهواء فيح فيح.. فيح فيح.
لم يكن العنق قد جف بعد فأخذ ينزف حتى امتلأت العربة بالدماء الفوارة، غمس السائق يده فى الدماء واغترف وشرب، ثم أنه أخذ يمتصها إصبعا إصبعا، ومسح يده فى شعرى فاحمر وأصبح لزجا. مددت لسانى الذى كان قريبا من يد السائق، لعقت يده، كان طعم الدم مالحا فبصقته، ولكن السائق ملأ كوبا أخذ يرتشفه ببطء وتلذذ، وأصبحت أحس بالقرف من منظر الدم المتخثر، وكنا نصعد جبلا، والسائق يشرب حتى تحول لون الجلد إلى حَمار قاتم وفاحت منه رائحة نتنة ودمعت عيناه دما، استلقى برأسه على ظهر المقعد ونظر إلي. كنت أنظر إليه وكانت نظرته تتحول إلى دماء تنزل قطرة قطرة، والصوت يرن:
– تك تاك، تك تاك. حتى هذه اللحظة لم أتحدث معه ولا تحدث معى، امتدت يده إلى عنقى وأخذ يضغط عليه بشده حتى عصرنى، ثم أنه قذفنى من نافذة العربة فأخذت أتدحرج من فوق الجبل والهواء يردد صدى ارتطام رأسى بالصخور:
– بوم بم.. بوم بم، بوم بم، حتى استقرت رأسى فوق الرمال، وكان عنقى لا يزال ينزف دما. فشربت الأرض حتى ارتوت جيدا، ونبتت شجرة أخذت تنمو وتنمو حتى جاء الطائر الكبير الذى أخذ يأكل منها فوقع ميتا. وجاءت الكلاب فأخذت تأكل فى عنقى ورأسى ولم تترك سوى عظام الجمجمة التى لم يستطع أحد الكلاب كسرها. جاء الحيوان المفترس ذو الجثة الضخمة فأكل عظام الجمجمة ولم يبق من رأسى وعنقى سوى بعض الشذرات التى التقطتها ديدان الأرض فى مرح شديد، وكان طابور النمل الفارسى يمر فحمل المتبقى من رأسى حيث قام بتخزينى لعام الرمادة. لم يبق منى شىء إلا شذرة حط الطائر الكبير عليها والتقطها بمنقاره وعَبْر السحاب مررت فانتعشت إلى أن حط الطائر الكبير فى أرض صحراء بالقرب من العين، أخذت أنمو ولم يكن هناك سوى الرمال والعين، جاء بعض الرجال والنساء بالقرب من عين ماء، أراد الطائر أن يشرب فوقعت من منقاره بالقرب من العين، نصبوا الخيام بالقرب منى بعد أن أخذت أتمطى فاردا أذرعى التى تدلت على حافة العين فانتشر الطل، لعب العيال بالقرب منى، وقبل الولد الكبير الفتاة التى نبت لها ثديان صغيران، مدت امرأة يدها إلى أحد أغصانى فقطعته، وضعته فى فمها فانزلق إلى أمعائها، عندما رجعت المرأة إلى خيمتها كانت بطنها قد تكورت، وعمل الرجال منذ الصباح الباكر على اقتلاعى لأن أوراقى جفت ولم أعد أنشر الظل. فى البيت كانت المرأة تلد قولدت ولدا أخذ ينمو ويكبر ويقضى أوقاته عند النبع، كان الولد يحب النبع حبا كبيرا، وكان الولد يحب البنت الجميلة حبا شديدا، وأراد الولد أن يقبل البنت الجميلة عند النبع فابتسمت فى وجهه. كان جسد الولد يحمل رأسى وعنقى.  
__________________

قراءة نقدية بقلم: فكرى عمر
الإبداع عصيٌّ على خط التفسير الواحد؛ لأنه يمنح عطاياه فى كل قراءة جديدة.. هنا فى قصة (الرأس) من مجموعة (حرب أطاليا) للقاص، والروائى “خيرى عبد الجواد” نقف أمام عدة مستويات للقراءة. تستلهم القصة عجائبية القصص الشعبى، والتراثى بهدف ابتكار شكل تعبيرى جديد لفن القصة القصيرة، يستفيد الكاتب فيها من جذور الواقع الخفية، ويتيح للقارئ إدراك العلاقات التى تربط واقعه بماضيه، وتبرز حالة التأثر والعدوان الممتد. يبنى القاص صوره ومشاهده العجيبة بغية الوصول إلى المعنى مفارقًا فكرة الترتيب السببى للواقع الطبيعى. ثمة مشاهد تبدأ فى الظلام، وتنتهى فى النور. وبقراءة أخرى: لا تنتهى هذه المشاهد بانتهاء القصة، فهناك خط ممدود يُجسِّد حالة إعادة الخلق، والتجدد الأبدى. سأقف أمام المشاهد مستغرقا فى الدهشة من هذه التحولات المتوالية التى تبرز العنف اليومى، العنف الذى يمارسه سائق يجز رأس الزبون، ثم يرشف دمه فى تلذذ، بل ويدعو الضحية إلى مشاركته الوليمة البشرية فى مقابل استسلام تام من الضحية، أو إيمانها الباطنى بحالة الاستمرارية فى الوجود. كأنه يطرح سؤالا بصيغة استنكارية: ما الذى نملكه كبشر من أجسادنا؟ ربما لا شىء، وربما كل شىء، فنحن أبناء الأرض مثل الشجر، والطيور، والزواحف، والكائنات المفترسة. إننا صور متقابلة، ومتداخلة معا بشكل لا يدركه سوى من يؤمنون بالحب، فالحب هو ما انتصر فى النهاية. كأننا أمام مسيحٍ عصرى يمنح دمه وجسده لكل الكائنات، فقط ليفرح بلحظات الطيران، والتوالد الأبدى فى وجوه، وأحلام جديدة. 
يشكل العنف اليومى، والإحساس بالافتقاد، وانقطاع التواصل بين البشر بعض سمات الكتابة عند “خيرى عبد الجواد”. هذه العناوين الفرعية تتجسد فى هذه القصة، فلا كلام ولا سلام بين المجرم، والضحية، بل والغريب أن الضحية لشدة استسلامها، أو إيمانها، ولكل فرضية منهما ما يبررها، لا تصرخ، أو تطلب النجدة. إنها فقط تستغرق فى رصد المشاهد، والأصوات التى تنتج منها، أو من ارتطامها بالصخور، وكأن الدقة فى رصد علاقة الذات بالكائنات، والأشياء تدلل على إيمان القاص بأننا نتشارك مصيرنا معًا، وأن الانغلاق على الذات خطيئة، وأن الفكرة والحلم لا يتبددان بموت صاحبهما بل يعاودان الوجود والتحقق إلى ما لانهاية.

قصة "القرد" – بهاء السيد

                                 

القـــــــــــــــرد


  قصة: بهاء السيد 




مدخل

في قريتنا البعيدة..
المرمية تحت التل..
الرجال.. مشغولون بنسوة السياح.. ونسوة السياح ملونات.. ممصوصات كأعواد الذرة الناشفة.. والحريم مشغولة بإغراء السياح لشراء(الجعارين)المسروقة.. والسياح مشغولون بالفرجة على القرد العجوز.. يحدقون فيه مبهورين.. يطوفون حوله أسرابا..يتمسسحون فيه ويمسحونه في قدسية وتطهر.. وهو يربض شامخاkعملاقا..عاريا..فوق القاعدة الأزلية..عجيزته الصلبة، تصد الرياح الشرقية.. تستقبل بحذر أشعة الشمس كل صباح.. نظراته المتعالية، الثاقبة تخترق بطون القبور المنزوعة في قلب الجبل من ناحية الغرب.. توقظ الموتى وتنعشهم .. تحت خصيتيه الماء يتدفق زلالا .. لكن طائر (اللقلق) يبدو حزيناعلى غير العادة… فهو يحط فوق ماء الغدير.. مرة..ثم يحوم حول التمثال مرات.. وغيطان الذرة والقصب والبرسيم والكتان وأشجار الحناء تحاول أن تتشرب كل ما تجود به خصيتا القرد العجوز.. لكن بلا جدوى..
محاولة اندماج 
ولما مالت عليه ..بعفرتة بنت العشرين.. همست بدلال..أرغب أن أعتلي ظهر القرد .
سرقته الدهشة.. ولما أفاق.. رد عليها بضيق: – كان أجدادك يعبدون هذا القرد.
ثم حاد بعيدا عنها.. طاردته وهي تتمسح به كقطة شبقة.
وقالت في حنو:- وأنا أعبدك..
ثم غمزت بنصف عين بُنية.. وغاظه منها عدم اختيارها للمفردات .. وفي أعماقه كان يشعر بالغبطة .. متيقنا بينه وبين نفسه أنها لا تتعمد مطلقا إهانته..
وشبكت كفيها ووضعتهما فوق القلب.. بين نهديها. غمغمت: (إن ثمةعصفورًا في حجم القرد يتسلل تحت الجلد.. جلدي..يوجعني.. لكنه أيضا يدغدغني. .فأرتاح.
سحبها بعيدًا..شرق الغدير بمسافة.. قال بحزم: (إن ثمة عصفورا آخر عجوزا يعلم ابنه الطيران) قضمت شفتها السفلى.. فامتزج الأحمر الفاقع بالأحمر الوردي.. وزامت..” عصفور غبي ..ليتركه يجرب وحده..” لمعت عيناه في حزن .. ولمعت عيناها وهي تصوصو.. تحاكي زقزقة العصفور الأخضر..
ورآها تشد ذيل الفستان الأحمر.. كي تعتلي ظهر القرد الشامخ .. وبكل السحر مدت يدها ليساعدها في صعود القاعدة الصخر.. انحنى وقوس ظهره.. ولما همت ..تعرت فثار لأنه للحظة لمح مسافة ضيقة من الفخذ الأبيض.. فأنزلها من فوق هيكل العنف.. وقد تكرمش وجهه ضاقت عيناه .. واحمرت.. ولما استعادت توازنها ..
قرقرت ضحكتها.. وخبطته فوق الصدر وطارت ..راحت تطوف حول التمثال ضاحكة .. وعندما دنت منه أكثر.. همس بضيق: أنت مجنونة..
همست وهي تحرك لسان العصفور: وأنت ..متخلف..
ولما تعبت قعدت .. وركنت ظهرها بظهر النخلة.. وقعد محطوطا بجوارها ..مُتعبًا حانقًا
فمسحت عرقها .. والمخاط الذي يتسلل من أنفها في كُمَ قميصه.. ثم ساوت شعرها الناري وخبأته تحت (الإيشارب الشيفون) الأحمر.. وكشف الأحمر عن استدارة  وجه البدر.. وراحت الغمازتان في خديها تتراقصان حين كانت لا تنزل عينيها من عينيه.. ودلدلت رجليها في الماء والطين.. وكان يرقبها صامتا وراضيا .. وحزينا. وطرطشت الماءَ الممزوج بالطين ..فتناثر فوق وجهه وثيابه ..ولما أحست أنه ما زال غاضبا وعازفا عنها.. سحبت خصلة من الشعر المخضب بالحناء من تحت (الإيشارب) وفركتها داخل أذنه.. فلم يمنعها ولم يضحك.. ولم يقل لها أبدا..أنه لم يغضب بسبب الطين المتناثر في عينيه ووجهه وثيابه..لكن الذي يوجعه حقا ..أنها ..عفصت وجهها القمري وساقيها ..وثوبها الأحمر.. ثم أشار لها بعينيه نحو الغرباء وقد عرتها عيونهم البجحة.. فطوحت رأسها بقرف.. وجزّت أسنانها وصرخت .. لينشغلوا عنا بقردهم الكُهْنةْ.!
واقتلعت عودا من القصب .. من بطن الأرض بكل العنف .. مدته إليه..وقالت قشره لي ..قشره.. فتمنى ولأول مرة أن يلطمها فوق الفم..لا لعنطزة الأمر العادي.. لكن لأنه كان يدرك خبث المقصد. 
ونهض منتورًا وهو يتحسس شاربه الأبيض والشعر الأبيض فمالت بجسمها نحوه وهي تتشبث بذيل البنطال ..وأكدت له أنها لا تقصد ..وقالت إنها تعرف أن أسنانه تكسر (الزلط)..فصدق.. وحين عاد وقعد أراحت رأسها على كتفه وقالت وهي تحاول أن تغفو.. هل تحبني ..مثلي؟
وأجاب للمرة  الألف:- قلت.. أبيع الأطفال و…الزوجة في سوق الرق.. مقابل ظفر واحد من قدميكِ.. التصقت فيه أكثر .. ونامت بخدها فوق ذراعه وانزاح (الإيشارب الأحمر )..وقالت : قلت ستحملني يوما فوق جناحيك ثم تطير لتريني الدنيا.. فقال بكل الصدق والإصرار ..- سأفعل يوما .. وعليك تحديد الوقت .. قفزت فجأة .. نشوانة .. تطير كطفلة .. وبكل شقوتها راحت تصفع وجه الأسفلت الأسود.. وقد طار منها الشعر الناري، هرول وراءها مشدوها..تا بعها لحظة .. ثم توقف.. وقد بدأ يشعر بالاختناق.. ولما لم تسمع وقعا لخطواته المنتشية.. وتراجعت وجلة.. وبدا على وجهها الذعر.. طوقت رأسه بذراعيها.. وأجلسته بحنان الأم.. فوق الأسفلت.. والتصقت فيه.. وأمالت رأسه فوق الصدر وهي تحيطه ثم راحت ترقب طائر (اللقلق) وقد رجع ثانية ليشرب من ماء الغدير..نشوانا
وهويصوصو
و..يصوصو….

انشطار

وتطاول شبحهما فوق الجدران الخلفية وفي الظلمة عصرت كفه في يديها..همست:-هل ندمْتَ ..؟ قال وهو يحاول أن يوسع من خطواته.. وهي تحت ذراعه.. – الكتاكيت قد تنبت لها أجنحة.. ردت وهي تأكل عينيه..- والزوجة؟
صمت لحظة ثم أجاب :- ستكون مشغولة بتقديم الحَب للكتاكيت، وفي نفس الموعد وكانا قد وصلا للعربة ..هتفت بفرح:- تطلع يا اسطى..؟ قال السائق وهو يهز الرأس ويحرقها بعينيه:- لم يبق إلا راكب واحد.. فسحبته ودلفت للكرسي الخلفي.. ولما تساءلت عيناه.. لماذا..؟ قالت في أذنه: سأنام .
ورآها تلملم رجليها وتتقنفذ عند الحافة وتلفّ زراعيها حول رأسها ثم تميل صوب النافذة تحاول أن تغفو.. وقد وضعت حقيبة يدها بينها وبينه.. لكنها قد قالت للسائق وقد راح يدوس برجله بطن الليل الحالك.
:-عندك فيروز يا أسطى..؟ أدار الرجل مفتاح التشغيل للكاسيت.. وانطلق (الطبلاوي)… يرتل ..فيزيح من الليل بعض الظلمة والأحزان .. مدت يدها .. قرصته .. وهتفت بصوت واه..ناقم ..”لا تحاول أن توقظني ..هل تسمع؟” مد الراكب الأخير أنفه بسيجارة .. قال له:-هل تدخن يا حاج..؟ شكره بصوت عال..
وفى سره .. لعن أباه وأمه والساعة التى جمعتهما به.. وأحس بها تخنق ضحكة شيطانية .. ولما ألصق خده..بخد الشباك رأى ظلال الأشجار ..تترى فى الاتجاه المضاد عبر الحقول..وأحس بجسمه يتجمد والبرد يكرمش اطرافه..فمال بنصفه نحوها يتصنت ..وسمع أسنانها تطقطق والمقعد تحته يهتز ..خلع سترته الصوف وغطاها..وفتح الحقيبة الجلدية وأخرج منها منشفة الوجه ولف بها رجليها..وحشر الحقيبة بين رأسها والحافة.. تحسبا لمطبات الليل .. وأراح رأسها ببطء .. مد الراكب الأخير أنفه من عمق الظلمة وفح:- طوبة..خطر على الأطفال..وللمرة الثانية..سمعها تخنق ضحكة..شقية.. رمى رأسه بضيق على حافة المقعد..حاول أن ينام ..ولما أفاق سمعها تقول للراكب الأخير وقد لوى عنقه نحوها..- ده .. مجرد فسحة و….ضغط على قدميها بنعل حذاءه.. فسكتت
وهى تزوم.. وضبطه يحدق فيه في المرآة ويبتسم بجفاء.. فاجتازت السيارة حدود المدينة الكبيرة.. قال للسائق:- كوبري الجامعة من فضلك.. وهبطا..
قالت وهي تطير من فوق الأرض كطفلة..: وعدت وصدقت ..هاهي الدنيا.. ثم راحت تتقافز وتتنطط فتناول يدها في حنو الطائر.. همس جادا من هنا سنبدأ.. وأشار إلى تمثال (نهضة مصر) وكلمها عن (مختار).. و طار بها محلقا وهي تحت جناحه فوق النصب التذكاري للجندي المجهول. ثم ضريح سعد..وقبر عبد الناصر .. وطوف بها حول ميدان عابدين..ومبنى مجلس قيادة الثورة.. وهبط بها فوق جبل المقطم .. وأشار نحو برج القاهرة وكوبري عباس والمعرض الصناعي الدولي .. وغير اتجاه عينيه نحو القلعة ومبنى التليفزيون.. ثم طار بها من جديد..
وهي تحت جناحيه .. حلق فوق مقهى ريش وإيزا فتش وإسترا ومسجد عمر مكرم والمتحف.. ولما نزل بها عند تمثال (طلعت حرب) وراح يحدثها عن صاحبه.. كانت قد انسلت من تحت جناحه وصارت منجذبة نحو مبنى السنما(رآها تتسمر تحت الأفيش الضخم للبطلة العريانة) ولما نظر إليها متعجبا صرخت فيه: انا…تعبت..! قال هو الآخر :- وأنا تعبت..ثم همست برجاء وهي تحدق في الأضواء البراقة :-أحب أن أرى الفيلم.
تحرك وهو يجرجر رجليه نحو الشباك..منصاعا.. فابتاع تذكرتين..ولما مدّ لها يده.. وكان في أول الممر الطويل المظلم .. قالت بصوت واهن متقطع مبحوح ،وهي تغوص في عينيه ..وتتأوه..:-أشعر بالجوع….؟ تراجع صامتا وعبر الميدان الوسيع .. تحرك حثيثا بمحاذاة السياج الحديدي وتوقف عند (الشوّاء) الذي تقع دكانته عند ناصية الشارع.. ولمارجع.. كان يسحب أنفاسه من رجليه وقد تقوس ظهره.. وقف جانب الحائط وهو يسعل بمرارة.. وشعر بالظمأ فجأة يكوي حلقه! ..دلف إلى المقهى الأفرنكي المجاور للسينما كي يشرب، ففوجئ بها في ركن وراء الباب الآخر الموارب..تجلس نشوانة ووجها كله يضحك، وعروقها تفز وتتنطط.. لم تكن وحدها، كان راكب العربة معها .. فرجع مذعورًا قلقا.. مطعونا..لكن لما وقعت عينيها في عينيه أزاح الشعاع النافذ من عينيها البنية 
قلق للحظة
ثم تقدم منها
طوح لها باللفافة
ثم 
مضى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) القرد: هو تمثال الإله تحوت إله العلم والحكمة عند الفراعنة، ومقر عبادته قديما الأشمونين، وهي قرية مجاورة لمحل إقامة الكاتب.. والقصة من مجموعة ثلاتية الوجع سلسلة أصوات أدبية عدد 248 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. 

تعريف بالكاتب 

 محمد بهاء السيد وشهرته بهاء السيد أديب من ملوي. المنيا ج.م.ع صدرله مجموعاته القصصية الثلاث (الذباب لا يلفظ عصافير – مجموعة قصصية – هيئة الكتاب نوفمبر 1992- رحلة الجانب الآخر – مجموعة قصصية – هيئة الكتاب 1994، ثلاثية للوجع – مجموعة قصصية – هيئة قصور الثقافة 1998)، كما لا ننسي مجموعة (السفر في الليل) مجموعة قصصية صدرت من هيئة الكتاب 1970، وهي مجموعة مشتركه مع رفيقي الدرب القاص / الخضري عبد الحميد والقاص / الداخلي طه، كما له رواية مفقودة وهي (بوابة سيسكو) . حيث سمعنا فصولها منه لكنه أعطاها لمراجع لغوي وتوفي في 2001 ولم يعثر عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رؤية نقدية بقلم سيد الوكيل

كان لدي انطباع، أن كثيرا من كتاب القصة القصيرة من صعيد مصر، ولا سيما في التسعينيات، لم يتجاوزوا يحي الطاهر عبد الله، وكأنما يرغبون في بعثه من جديد. وهو نفس الشعور الذي خالجني وأنا اقرأ السطور الأولى لقصة القرد هذه. ثم سرعان ما فكرت في الاعتذار لبهاء السيد لسوء ظني به. 

صحيح أن قصة القرد تنهض على بنية المفارقة مثل أغلب قصص يحيى الطاهر عبد الله، لكنها لا تستغرق في الغنائية، ولا تعلق لافتات أيديولوجية في خلفية النص. 
قصة القرد ذات طابع مشهدي حيوي وعنيف ومتنوع، وربما نتيجة لذلك، فكل العلامات التي تخدم الفكرة، وتعمق المفارقة، لا تراهن على اللغة التي تجرنا عادة لغنائية بلاغية. الصورة فقط تقدم معطياتها، وتعمق الدلالة الكلية في كل لقطة، وتأتي اللغة في خدمتها، كقوله (وأنزلها من فوق هيكل العنف). وكانت البنت المفعمة بالحيوية قد مارست عنفا على العجوز، عندما عبرت عن حيويتها باعتلاء ظهر القرد العجوز إله الحكمة. هنا تظهر بنية المفارقة على نحو عميق يقارب الفلسفة. رجل كهل يستحلب الشباب من فتاة للتعويض النفسي، وهو لا يدري أنها في كل حركة شقاوة وعفرتة، تصفعه بعنف.
لقد مارست البنت شقاوتها الموجعة على الكهل طوال الوقت، وهي ممارسات قد تعكس سلوكا عفويا بريئا، ولكنها تذكره بحضور جسدي فوار لا يكف عن تذكيره بهزائمه، لهذا فإن النهاية تأتي على نحو يعبر عن الهزيمة، بالانسحاب من الحكاية كلها، وترك الفتاة، للشاب الذي كان يجاورهما في الأتوبيس. الشاب الذي كان يناديه (يا حاج) فهو جدير بهذا الدفق الحيوي المشتعل، لفتاة ذات شعر ناري، رأت خصيتي القرد العجوز، ورغبت أن تعتلي ظهره.
إن نهاية القصة، لا تمثل موقفا احتجاجيا، على نحو ما نجد في كثير من القصص التي تنهض بنيتها على المفارقة، ولا تحمل إدانة لأي من طرفي المفارقة، لهذا يتراجع ظل الخطاب المؤدلج إلى أدنى درجة، فيما يتعمق المعنى الإنساني، عندما ينسحب الكهل يحمل هزيمته أمام الزمن. عندئذ. ويتذكر القرد العجوز عجزه، ويرضى، إله الحكمة بأن يقبع بخصيتيه المترهلتين، ليمنح زائرية لمحة من وميض موغل في الماضي. ويحمل فتاة مفعمة بالخصوبة والحيوية على ظهرة.   قالت الفتاة للكهل: قلتَ ستحملني يوما فوق جناحيك ثم تطير لتريني الدنيا..
 فقال بكل الصدق والإصرار ..- سأفعل يوما .. وعليك تحديد الوقت)

لايقع بهاء السيد في فخ النمط، ويرسم لنا صورة لـ (عجوز متصابي) يبتز فتاة فائرة، ليغازل شهوات قديمة في خصيتيه 

والواقع، أن الكهل كان يعرف هذا منذ البداية 

قصة "ليلة من ألف وخمسمائة ليلة" – السيد نجم


ليلة من ألف وخمسمائة ليلة

قصة لـ: السيد نجم



“الإنتظار يقتلني والصبر”تمتمت بهذه الكلمات، وهي تنظر شفتيها أمام المرآة المكسورة.
الجميع لابد أن يعرف.. الحقيقة تفضح نفسها دائمًا كجنين يكبر بين أحشاء أنثى، كرائحة العفن تزداد رويداً ولكنها تأتى فى النهاية.
والكل عند باب الدار جلوس.. سيدات يتلفحن بالسواد، رجال كبار، صبية صغار.. وشيوخ فى إنتظار قصة اليوم. لكل  يوم قصة، وحتى الآن ألف وخمسمائة قصة،  ما زالت السيدة تقص، وما زالوا ينتظرون.
هناك عند مدخل الدار حيث يجلسون فى شكل الدائرة وفى مركزها تمامًا تقف هي، يبدأون بالسؤال:”أين عنتر يا صابرة؟”
ويتابعون بالحاح:”الحقيقة يا زوجته الحبيبة.. نريد الحقيقة”
وتدور حول نفسها دورة ودورة ثانية ثم ترميهم ببسمة واثقة.. تقول:”صلوا على النبى””اللهم صلى عليه”
“لحد الأمس كان العقاب الحبس، حبسوه المجرمين فى الزنزانة وحده.. فكر عنتر.. وفكر.. وفى فترة قضاء الحاجة فى الصباح التالى بإشارة كان تم الإتفاق مع ثلاثة من إخوانه. والصبح طلع ودخل اليهودى الأصفر يرمي بشىء من فتات أكل الكلاب، من خلفه إندار وركل أحدهما برجل والآخر بكف.. سقطا.. ماتا ومعاً ومن ضربة واحدة”
“الله أكبر”، “ربنا يقويه”، “وبعدين”
“خطف المفاتيح وفتح الزنزانات كلها، وفتح العنبر وتسلل من السور، وكل من يقابلهم يقتلوه.. بالعصا والبندق، بالكف وبكل ما وجدوه.
“عددهم.. عددهم كام يكون؟”
“تقولوا كام.. هه.. أربعون!”
“يا سلام”.. “يا عينى”.. “قلبنا معاه”..
“مش كفاية.. هو قال لي مش كفاية”
“يعنى إيه؟!”
“نروح نقابله فى الجبال، على الرمال.. فى قلب التيه التايهه فى عينه.. على الطريق الطويل نروح له.. المهم نبدأ اليوم.. لا ..الليلة، لا، الآن.. قبل ما يزهق، قبل ما الصفرة تسرق النور من عينيه وتصفر الأشياء، كل الأشياء”
مر أمامهم أحدهم، كان ضابطاً بالقوات المسلحة، رتبه كبيرة.. إبتسم لها.. زمت شفتيها.
أشار لها بالرغبة فى حديث، قامت ودخلت حجرتها، أجلسته على المقعد الوثير الخشبي. حاول الرجل أن يبتسم، حاولت أن تبدو طبيعية.
أراد أن يقولها.. أقسمت عليه بشرب الشاى، شرب الشاى ومن معه.
أراد أن يقولها.. أقسمت عليه يسمع قصة زوجها عنتر، يسمعها كما سمعها الجيران.
أراد أن يقولها.. منعته حتى فترة قصيرة. غابت لحين، وعادت بأجمل وأجدد ما عندها من ملابس، وأكدت على أحمر الشفاه الكريزى.
أشارت إلى شغتيها.. “عنتر يحبه غامق”
أراد أن يقول لها.. جلست وقالت له:”بل أقولها أنا”
دهش الضابط ومن معه!
“بل أقولها أنا.. مات عنتر.. أليس كذلك؟”
“ليس تماما ولكنه ما زال مفقودًاً.. منذ الأربع سنوات، لذا سنعامله معاملة الشهيد”
“إذن.. ما زال تائها، ما زال تائها.. ما زال؟”
الرجللوى شفتيه!عنتر فى الجبل.. أليس كذلك، عنتر فى الصحراء.. ثم صاحت وعلا صوتها..
إندفع الجميع ودخلوا الحجرة حتى ضاقت بهم..
قالت لهم ها هو الضابط الكبير يقول تائه، عنتر فى الجبل، تائه.. نروح نقابله فى الجبال.. على الرمال.. فى قلب التيه التايه من عينيه على الطريق الطويل..نروح له..                                              المهم نبدأ.. اليوم.. لا .. الآن.
*******
(نشرت بمجلة روزا اليوسف الاثنين 9ابريل 1973م- العدد 2239)
(نشرت القصة مع مصادفة ان تقرر من مدير التحرير  الفنان”حسن فؤاد” اعداد ماكيت جديد للمجلة.. بحيث تكون القصة المنشورة بمنتصف المجلة مع رسمة من فنانى المؤسسة.. هنا الفنان “مأمون”)
=مرفق صورة للقصة المنشورة بالمجلة.
تعريف بالكاتب
السيد نجم
من مواليد القاهرة عام 1948م.تعلم في مدارسها، ثم تخرج كلية الطب البيطري.         
وفى عام 1958م كانت محاولته الأولى  في كتابة أبيات شعرية، مترعة بالحماس الوطني، ومتأثرة بالظرف السياسي بعد عدوان 1956 ،  وقام بإرسال إحدى قصائدة إلى الرئيس جمال عبد الناصرـ الذي رد على رسالته، وقد أرفق بالرسالة صورة شخصية موقعا عليها بنفسه.
يقول  في شهادته (وأنا في الخامسة عشرة حدثت واقعة لا تنسى، مررت أمام محل كتب ل”الدار القومية للنشر”بشارع الآلفى، إحدى الدور التى تم دمجها لتتشكل هيئة الكتاب فيما بعد، سألت المسئول: “أنا أكتب الشعر وأريد النشر عندكم”، فما كان من الرجل إلا أن فتح درج مكتبه الصغير وسحب رزمة من الورق المكتوب بطريقة (البالوظة) وهى تحمل عناوين : كيف تكتب الشعر.. القصة.. المسرحية؟!
 خلال السبعينيات تردد على مقهى “عرابى” و”ريش” للجلوس إلى نجيب محفوظ مع الناقد “عبدالرحمن أبوعوف” الذى قرأ أول قصة له وعمل على نشرها في مجلة روزا اليوسف، وكانت قصة (ليلة من ألف وخمسمائة ليلة).
التحق بالقوات المسلحة مجندا  عام 1971م ، وعاش تجربة الإعداد لحرب أكتوبر حتى تحقق الانتصار. وقد رصد تلك المرحلة فى عدد من القصص، مع تجربة حرب اكتوبر73 فنشرت في “أوراق مقاتل قديم” ورواية “السمان يهاجر شرقا” حول بطولات حصار حصن كبريت.
بعد انتهاء تجنيده، عمل طبيبا بيطريا في مجزر القاهرة، كما التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس لدراسة الفلسفة
.. وبدأت المرحلة الأكثر فاعلية في حياته، من خلال نشاطه الأدبي باتحاد رعاية نشء وشباب العمال. كما أسهم في تكوين وتأسيس جماعة نصوص90 الأدبية مع عدد من الأدباء منهم: (
امين ريان- رمضان بسطويسى- مصطفى الضبع- مجدى توفيق- سيد الوكيل- سعيد عبدالفتاح- ربيع الصبروت).
ومن خلال نصوص 90 نشر أول رواياته “أيام يوسف المنسى”.
أكب على العمل الأدبي، مبدعا وناقدا حتى بلغت أعماله عشر روايات، وست مجموعات قصصية، و6 كتب فى تنظير أدب الحرب وأدب المقاومة، باﻹضافة إلى أكثر من عشرين كتابا فى أدب الطفل.
كما كتب بعض الأعمال الدرامية للإذاعة منها: “مسلسل “ساعة الصفر” الذي أذيع في إبريل 2003م.. ويذاع سنويا) – وسهرة اذاعية “نور الظلام”- تمثيلية بإذاعة الإسكندرية كتبها “منير عتيبة”عن مجموعة “أوراق مقاتل قديم” في أكتوبر 2002م.
شارك مع مجموعة من الأدباء المهتمين بالثقافة الرقمية (  أحمد فضل شبلول- محمد سناجلة- منير عتيبة – حسام عبدالقادر) في تأسيس أول اتحاد ثقافي على الشبكة العنكبوتية، وهو اتحاد كتاب الانترنت العرب (عام2005م). وعبر عن اهتمامه بالثقافة الرقمية فكتب العديد من الدراسات في هذا المجال، وقد صدرت في ثلاثة كتب (“الثقافة والإبداع الرقمي.. قضايا ومفاهيم”- “النشر الالكتروني والإبداع الرقمي”- “النشر الالكتروني.. تقنية جديدة وآفاق جديدة”.

قصة "الحاوي" – خيري عبد الجواد

الحاوي
قصة: خيري عبد الجواد
لأن الجوع كافر” فقد مضغنا العلقم وكان حلوَ الطعم فأكلنا حتى نزفت أحشاؤنا ديدانا زرقاء.
ولأن الفقر نعمة كما قال أولو الأمر منا، فقد حمدنا الله كثيرًا، وقبَّلنا أكفَّنا عرفانًا، ولأن المرض يُذهب السيئات، فقد طلبنا المزيد حتى نضمن الجنة.
ولأن الصبر مفتاح الفرج، فقد صبرنا ورفعنا أكفنا بالدعاء عسى أن يستجيب الله فيأخذ كل منا مفتاحه بعد طول صبر.
ولأن حضارتنا تمتد في أغوار الزمن سبعة آلاف عام فقد جرينا خلف الأهرامات، فحملناها على أكتافنا فضحك العالم، وهذا بالطبع جعلنا سعداء لإعجاب العالم بحضارتنا.
ونحن بالطبع نعرف قيمة حورس فقد بعناه بجنيهات كثيرة وسكتت بطوننا.
(1)
عندما دخل الحاوي قريتنا لأول مرة، والتفَّ حوله الناس، قال لنا: أستطيع أن أُخرج لكم من البيضة بقرة “عُشر”.
قلنا: وهل تستطيع أن تخرج لنا خبزا فنحن جوعى.
قال: أستطيع أن أجعلكم أغنياء.
فصفقنا له كثيرًا، وانتظرنا خروج البقرة من البيضة، وانتظرنا أن تمتلئ بطوننا ولكننا نمنا ونحن نصفق وننتظر، وعندما صحونا نظرنا لأنفسنا واندهشنا، فقد وجدنا أننا عرايا، ومشى الحاوي.
(2)
قلنا: إذا جاء مرة ثانية فلن نجعله يخرج من قريتنا حيا، وسنأخذ البيضة تتمخض بقرة وخبزًا. لكن جاء الحاوي يحمل عصا في يده.
قال: أستطيع تحويل التراب إلى ذهب بهذه العصا.
تجمَّعنا حوله، قلنا: لنرى كيف تستطيع التراب ذهبًا.
قال: فلتصفقوا لي كثيرا وتباركوني وتصمتوا، فأنا أستطيع تحويل التراب ذهبا.
قلنا: لنصمت، فالصمت من ذهب، وهذه حكمة بليغة نعرفها جيدا.
وصفقنا له، وباركناه، وقلنا نشتري بالذهب قصورًا، ونشتري ملابس جديدة، تذكرنا أننا جوعى فقلنا نشتري خبزا، وانتظرنا ونحن ننظر في التراب الذي سيكون ذهبا، ولكننا نمنا، وعندما صحونا، نظر كلٌّ منا إلى الآخرين، ولم نجد أذرعنا فقد أخذها الحاوي وهرب.
(3)
ولأننا أصبحنا بلا أذرع فقد أقسمنا إذا جاء الحاوي أن نقطع ذراعيه وقدميه أيضا، ولكن جاء الحاوي يحمل زجاجة.
قلنا: سوف نقتلك أيها الحاوي.
قال: لن تستطيعوا أيها الناس الطيبون، فأنا أحمل لكم إكسير الحياة.
قلنا: وما إكسير الحياة يا حاوي!!
قال: لن تموتوا أبدا ستكونوا خالدين.
قلنا: ولكننا جوعى.
قال: لن تحسوا بالجوع.
فتجمعنا حوله وصفقنا له، وباركناه، وقلنا لن نجوع بعد الآن، ولن نموت، سنكون خالدين، وانتظرنا أن يخرج إكسير الحياة، ولكننا نمنا، وعندما صحونا أصبحنا بلا سيقان، فقد أخذها الحاوي وهرب.
(4)
قلنا: أصبحنا عرايا، فقدنا أذرعنا، هرب الحاوي بسيقاننا، ونحن جوعى، ماذا تبقى لنا!!
نظرنا إلى أنفسنا فوجدنا أن عقولنا مازالت تعمل في رؤوسنا، نسي أن يأخذها الحاوي، قلنا لن يجيء بعد اليوم، لأنه نسي عقولنا، سوف يخاف أن نبطش به.
في اليوم التالي جاء الحاوي يحمل آلة عجيبة بين يديه، قال: إنها سحرية.
قلنا: وما هي؟
قال: يستطيع كل منكم أن يرى نفسه فيها.
رأينا أُناسًا يتحركون، كانت الرؤوس منكسة، وسمعنا أُناسًا يتكلمون.
قلنا: إنك حقًا ساحر أيها الحاوي، وكنا نريد قتلك.
قال: ما جئتُ بهذه الهدية إلا لأنكم طيبون.
فلنا فلندعُ له على حُسن ظنه بنا، ونشكر الله على نعمته التي اختصنا بنا دون القرى، ولكننا جوعى بطوننا خاوية، أمعاؤنا كادت تذوب.
قال: ستنسون كل هذا الآن، لن تحسوا بالجوع، سيبني كل منكم قصرًا، وستخرج بقرة من البيضة، سيتحول التراب إلى ذهب، فقط اجلسوا لتشاهدوا.
قلنا: لنكن عبادا شاكرين فقد أنعم الله علينا.
وعوَّض صبرنا خيرا بهذا الرجل الصالح.
في الصباح، نظرنا فلم نجد الحاوي، ونظرنا فلم نجد آلاته السحرية، عندئذ شعرنا أننا جوعى لأننا لم نكن قد نمنا بعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة الحاوي – المجموعة القصصية حكايات الديب رماح – الطبعة الأولى 1987م -الطبعة الثانية 1995م – مركز الحضارة العربية.
قراءة نقدية، بقلم أحمد جاد الكريم
يقول الكاتب إدوارد الخراط “إن القصة القصيرة لم تعد اليوم، بعد تطورها الطويل المتقلب المراحل، صيغة مُقفلة نهائية، بل هي على وجه الدقة صيغة مفتوحة، ولعلها لم تكن في يومٍ من الأيام نتاجًا محددًا سلفًا لوصفة موضوعة ومقننة سلفًا”؛ فالفن القصصي تقلب عبر مراحل عدة حتى صار من الفنون التي يظل نضوجها دوما في استمرار ولا تصل لمرحلة الاحتراق، وهي فنٌ يتجدد من رماد الفنون الأخرى لتستعيد حيويتها مرة أخرى عبر جسور التلاقي والتلاقح التي تمتد بلا نهاية ولا انقطاع. ولعل ظهورَ المجموعة القصصية “حكايات الديب رماح” في الثمانينات من القرن الفائت للكاتب الراحل خيري عبد الجواد خيرُ تعبير عن بزوع فن القصة القصيرة في حُلة جديدة كساها الكاتب من خلال مقارباته للحكاية الشعبية والاحتكاك بالتراث الشعبي بصورتيه الشفاهية والكتابية، فطوَّع ما نتج من نبعه الثر، وأفاد منه على مستوى الشكل والمضمون، واستطاع أن يُخلِّق قصصًا ذات طبيعة خاصة تضرب بجذورها في عمق البيئة المصرية لتحقق فرادة وتمايزًا بعيدا عن أنماط القص التقليدية.
في قصة الحاويلخيري عبد الجواد ثاني قصص المجموعةنرى أنفسنا أمام نموذجين في المجتمع للشخص المخادع الذي يظل يمني الناس بالأماني والمواعيد المرجأة، ونموذج آخر للعقل الجمعي الذي يبحث عن المخلص والمحقق للآمال، والمصدق لكل ما يقال.
الحاوي هنا معادل موضوعي للأوهام التي يتعلق بها الناس ويظلون على أمل التحقق في يوم ما، ذلك الزعيم الملهم الذي تنعقد عليه طموحات الكسالى، هو نفسه الشكل الحداثي والمتطور للفتوة العادل في أعمال نجيب محفوظ (الحرافيش وأولاد حارتنا على سبيل المثال ) الذي ينتظره الحرافيش والغلابة ومكسورو الخاطر ليملأ لهم الحارة  – وهم جالسون واضعين أكفهم على أصداغهم – عدلا بعدما ضجت من الجور والظلم.
تظل الحاجة للطعام، وإسكات البطون الجوعى هي المطلب الأساسي والرئيس لدى الناس في القصة؛ إذ تأتي المطالب الأخرى في مرتبة تالية، فتتكرر لازمة “ولكننا جوعى”، “نحن جوعى” كثيرًا، فتفتح طاقة الاحتيال أكثر لدى الحاوي لينفُذ منها إلى رغبات أخرى يحاول أن يقنعهم كذبا أنها أهم من الطعام، مرة بتحويل التراب ذهبًا، ومرة بإكسير الحياة الذي يضمن الخلود لهم، ومرة بالآلة السحرية قائلا لهم:”لن تحسوا بالجوع، سيبني كل منكم قصرًا، وستخرج بقرة من البيضة، سيتحول التراب إلى ذهب، فقط اجلسوا لتشاهدوا” فتحقيق تلك الرغبات وإشباعها سوف يجلب لهم الطعام وكل ما يريدون، وفي كل مرة يمنيهم الحاوي بأمنية جديدة،لكن عندما يعض الجوع بطونهم يعودون إلى المطالبة مرة أخرى، ثم يستمر السلب من قبل الحاوي حتىيتناسوا ما قد سلبهم من قبل، وكأن الحاوي هو الزمن الذي يسرق عمر الإنسان وشبابه، ولا يضيف له إلا الوعود بغد أفضل أما على مستوى الحقيقة فما يقوم إلا بالسلب والأخذ.
في النهاية يسرق الحاوي لحظات الراحة / النوم التي من خلاله يخلد الإنسان إلى النسيان بعض الوقت، ويتناسى كل مشكلاته ومطالبه، ثم تأتي النهاية التي تؤكد ديمومة عودة الحاوي، ومن ثم عودة الوعود مرة أخرى والسلب مرات، والانتظار من قبل الناس.
تعريف بالكاتب: إعداد احمد جاد الكريم
كانت حياة خيري عبد الجواد حلما قصيرا، شهابا بزغ في السماء ثم لم يلبث أن انطفأ، عاش عمرا قصيرا فقد ولد  في 24 يوليو 1960م بحي بولاق الدكرور بالقاهرة وتوفي في يناير 2008م.
يقول الكاتب سيد الوكيل عنه في مقال له بعنوان “خيري عبد الجواد أيقونة الثمانينات” في مجلة الثقافة الجديدة “يعد الروائي خيري عبد الجواد، من أبرز المعاصرين، الذين يتجهون إلى بناء الحكاية الشعبية في رواياتهم، والحقيقة، أنه وضع مشروعه – كله – في هذا السياق حتى تميز به، كما أن الماضي يشكل ملمحا مهما في كتابات عبد الجواد”
وللحي الذي نشأ فيه كبير أثرٌ في كتاباته، فمعظم أعماله تدور في هذا الحي خاصة روايتيه “كيد النسا” “والتوهمات” وهما أقرب إلى السيرة الذاتية والروائية للكاتب، يقول الكاتب شوقي عبد الحميد في مقدمة كتاب” نزهة المشتاق في حدائق بولاق” وهذا آخر كتاب صدر لخيري عبد الجواد وقد نُشر هذا الكتاب بعد رحيله، “كان لنشأة خيري في حي بولاق الدكرور، كحي عشوائي، أثر كبير في نظرته العمومية”
لفتت كتابات الكاتب نظر النقاد وكبار الكُتاب مبكرا جدا، فقد نشر أول قصة له في مجلة الجديد وهو في سن العشرين، يقول خيري عبد الجواد في الرسالة التي أرسلها لمنتدى السرد بالمغرب: “في بداية السبعينات، كان عندي وقتها عشر سنوات، فقد ولدت في (24/7/1960)، وكانت أول قصة كتبتها آنذاك هي قصة بوليسية  تشبه تماما القصص البوليسية والألغاز التي أدمنت قراءتها في تلك الفترة- وما زلت حتى الآن – لكن البداية الحقيقية جاءت مع نشر أول قصة  قصيرة لي في مجلة الجديدالتي كان يشرف عليها الناقد والمسرحي د. رشاد رشدي، كان ذلك في أكتوبر 1980م، ومنذ ذلك التاريخ وحتي ظهور أول مجموعة قصصية لي وهي ( حكايات الديب رماح ) عام 1987م، كنت قد نشرتُ أكثر من ثلاثين قصة في الصحف والمجلات المصرية والعربية، والغريب أني لم أختر من بين هذه القصص التي نشرتها ما يصلح لأن يكون في مجموعتي الأولى.
وقد كتب عنه الكاتب الراحل إدوارد الخراط دراستين مهمتين عن مجموعته القصصية الأولى “حكايات الديب رماح”، وروايته الأولى  “كتاب التوهمات”، أُلحقت الدراستان مع العملين، الأُولى بعنوان “حكايات شعبية أم قصص تراثية”، والثانية بعنوان “توهمات خيري عبد الجواد، رؤى فيما وراء الواقع مستلهمة من التراث الشعبي”، أيضا كتب عن رواية “كتاب التوهمات”  الدكتور حامد أبو أحمد في ملحق بآخر العمل بعنوان “كتاب التوهمات رواية الموت في أدبنا الحديث” وقد ضمها في كتابه “الواقعية السحرية في الرواية العربية”.
كما كتب عنه كلا من  الكاتب شوقي عبد الحميد في كتابه “القصة في زمن الرواية”، أيضا تناوله بالدراسة الدكتور ربيع مفتاح في كتابه “زمن السرد العربي”، وأيضا كتب الكاتب سعد القرش مقدمة الطبعة الثالثة لرواية “العاشق والمعشوق” متناولا كتاباته وقد عده الأغزر إنتاجًا من بين أبناء جيله رغم قصر عمره، ثم في العام 2007 م تناول أعماله الباحث حسني عبد الستار صبور في رسالته للماجستير تحت عنوان”توظيف التراث في الفن القصصي لخيري عبد الجواد”  في كلية دار العلوم، جامعة المنيا.
وفي عام 2017 م تناولت رسالة ماجستير بكلية الآداب جامعة سوهاج لأحمد جاد الكريم جوانب الواقعية السحرية في كتابات خيري عبد الجواد تحت عنوان “الواقعية السحرية في الأعمال القصصية لخيري عبد الجواد”
كما أن عديدا من الكُتاب والنقاد كتبوا عن أعماله في الصحف المصرية العربية، منها على سبيل المثال مقال “عن عالم خيري عبد الجواد” للكاتب محمد فارس في مجلة الرواية في عددها الثامن عام 2009م، وكتب عنه الدكتور عزازي علي عزازي في مجلة إبداع عام 1995 م في العدد الثامن مقالا بعنوان “عاشق الحكايات وحكاية المعشوقة”، وفي مجلة فصول كتب عنه إدوارد الخراط في العدد الثاني 1995 م دراسة بعنوان “السعي إلى الاتحاد في كتاب العاشق والمعشوق لخيري عبد الجواد”، وكتب  الكاتب منتصر القفاش في مجلة أدب ونقد مقالا بعنوان “قراءة في حكايات الديب رماح لخيري عبد الجواد” في العدد 42، عام 1988، وفي عام 2006 كتب الكاتب سيد الوكيل مقالا في مجلة الثقافة الجديدة بعنوان “خيري عبد الجواد .. أيقونة الثمانينات موضحًا مشروع الكتاب في استلهام الحكاية الشعبية وتوظيفها قصصيا وروائيا.
وعالميًا لفت نظر النقاد الأجانب فقد كتبالكاتب الإسباني  خوان غويستولو مقالا بالفرنسية نشر في مجلة دراسات فلسطينية والتي تصدر من باريس تعليقا على قراءته لفصول رواية العاشق والمعشوق، كان المقال بعنوان ( بورخيس العربي)، وهو يقارن طوال المقال بينه وبين الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس عبر استخدام كل منهمالطرائق المحكي في الليالي العربية.
أعماله:
 يُعد خيري عبد الجواد من أكثر كتَّاب جيله إنتاجًا على رغم عمره القصير ( سبعة وأربعين عاما) ولم يقتصر إبداعه على الرواية والقصة ولكن امتد إلى تحقيق التراث، “وهو الكاتب الوحيد بين أبناء جيله الذي امتلك مشروعا واضحا ومميزا على غرار كبار الأدباء في العالم أمثال محفوظ وماركيز وكونديرا… أصحاب المشاريع الكبرى المميزة؛ فقد أصدر خمس مجموعات القصصية هي:
أربع مجموعات قصصية هي:
1- حكايات الديب رماح 1987
2- حرب أطاليا 1988
3- الفتوح الكبرى ( المعروف بحرب بلاد نمنم) 1997
4-  قرن غزال 2003
5- حارة علي أبو حَمَد  2008
– كما أصدر سبع روايات هي:
1- كتاب التوهمات1992
2- العاشق والمعشوق1995
3- مسالك الأحبة 1997
4- الجني1999
5- يومية هروب 2001
6- كيد النسا 2006
7- سلك شائك 2010
له كتاب في الدراسات الشعبية:
السيرة الشعبية الأصلية “سيرة علي الزيبق المصري، تقديم ودراسة للنص الشعبي الأصلي، صادر عن الهيئة المصرية للكتاب عام 2004.
وصدر له ضمن الأعمال الكاملة في عام 2014 المجلد الثالث ويضم المقالات ودراسات في السيرة والقصص الشعبي.
وقدم لمجموعة من السير الشعبية المهمة، وهي:
1- سيرة علي الزيبق
2- سيرة أبي علي بن سينا وشقيقه أبي الحارث.
3- القصص الشعبي في جزئين الأول ( القصص الأنبيائي) والثاني ( القصص الصوفي )
كما عمل على إخراج  أقدم طبعة من كتاب ألف ليلة “لتظهر في اثني عشر مجلدا عن دار الكتب المصرية.
يقول الكاتب في مقدمته لسيرة علي الزيبق: “حفظ لنا التاريخ ما يزيد على ثلاثين ألف صفحة هي المُدون من القصص الشعبية والسير والملاحم وما طبع من ألف ليلة وليلة، وهي تركة ثمينة توارثناها بعد أن صمدت مئات السنين أمام الحروب الضارية التي شُنت من قبل الأدب الرسمي والثقافة المسيطرة، حتى كان يحرم بيعها في الأسواق”
كما صدر كتاب “نزهة المشتاق في حدائق الأوراق” تقديم شوقي عبد الحميد؛ والكتاب يضم مقالات الكاتب التي كتبها عن الكتب التي قرأها وأيضًا مقدماته لكتب السير الشعبية التي أخرجها للنور وقت عمله في الهيئة العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة ودار الكتب المصرية.

قصة "مايو قبل يوليو" – يوسف القط

قصة “مايو قبل يوليو” – يوسف القط
الإسكندرية
الترام الأزرق الصاعد إلى محطة مصر ، يئن من حمله البشري . كل شيء فيه يشخشخ كأنه يستغيث ، وكانت الساعة تقترب من الثالثة عندما قفز إلى سلم الترام رجل ملتح ، وراح يحشر نفسه في استماتة وهو يصيح :
ـ هو الله..
وما أن أطلقها مدوية حتى سرت غمغمة خاشعة بين الركاب الواقفين حشرا في الممر بين المقاعد ، وفي المؤخرة وعلى مقربة.. نفخ شاب أسمر في ضيق ، وهو يروح على وجهه بجرناله في يده.. ثم قال زاهقا ، وقد سبل عينيه:
ـ مين يصدق أننا في شهر مايو !!
وفي الركن اهتزت امرأة ، وقال شخص سائح في عرقه:
ـ وما بالك بيوليو..
نزعت المرأة ملاءتها السوداء ، وعلقتها على كتفها ، قال الشاب الأسمر كأنه يزفر:
ـ كالعادة ..
استدارت المرأة لتواجه الشاب الواقف وراءها ، وهي تقيسه بعينيها الغارقتين في الكحل .. من شعره المدهون وحذائه اللامع .. وسحب الترام سحبة مفاجئة فتطوح كل الواقفين ، ودخل الشاب في المرأة ، كأنهما التحما .. وزعق الرجل الملتحي :
ـ جهنم وبئس المصير ..
انتفضت المرأة ، وتقلص وجه الشاب غيظا . التفت المرأة برأسها ومصمصت  بشفتيها. عندها التفت الشاب ذي الشعر المدهون إلى الواقف وراءه في حدة :
ـ ما تحاسب يا بني آدم.. إنت أعمى ؟!
فقال الآخر في هدوء :
ـ الله يسامحك.
ـ الله ياخدك .. ثور صحيح..
رفع الآخر صندوق بضاعته من سجائر وحلويات وأمشاط .. بينما اهتزت عضلة وجهه الهضيم :
ـ أما أفندي ما يختشيش ..
ورفع يده ولكمه في صدره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت في جريدة “السفير ” السكندرية ، 2 سبتمبر 1968.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رؤية نقدية
الكاتب الذي أوقعته الهزيمة الفاجعة .
بقلم: سمير الفيل.
تعرض يوسف القط لمحنة هزيمة الوطن في يونيو 1967 ككل أبناء جيله، وتداخل ذلك مع محنته الشخصية حين تعرض لمرض نفسي ، حيث تزايد في داخله الإحساس بالمطاردة ، والشعور بأن هناك قوى غامضة تريد الفتك به ، و تسلط قهرها عليه ، وهو ما انعكس في أغلب نصوصه القصصية التي نشرت طيلة الستينيات ، وفترة بسيطة في بداية السبعينيات من القرن الماضي.
بعدها توقف تماما عن الكتابة ، فكان يحمل حقيبته السوداء ويجوب المدينة ـ مدينة دمياط ـ قد يجلس لتصفح كتاب قديم يضعه بعناية في حقيبته المهترئة ، ثم يصعد لشقة في الدور الرابع ، تطل بفسحة على ازرقاق السماء  ، حجرة فقيرة ، لا يوجد بها أثاث سوى سرير واحد ، والسطح الذي تتناثر في أرضيته زجاجات الكينا. لم يكن قد تزوج وبقى وحيدا ، منكسرا.
يوسف القط تميز بمتانة السرد، وسطوع الدلالة ، فأغلب نصوصه تتضمن مشاهد منتزعة من قلب الحياة غير أنها مضمخة  بعذابات إنسانية لا نهائية.
في نصه القصصي ” مايو قبل يوليو” ، تجري الأحداث المتلاحقة داخل الترام الأزرق بمدينة الإسكندرية ، والترام كمكان يحمل سمتين: فهو مكان مغلق بشكل نسبي ، ومفتوح ايضا بشكل ما. إنه يتحرك حاملا بشرا، لكل منهم أوهامه وأحلامه وقناعاته.
 وهو مكان متحرك ، فهناك حركة دائبة لا تنقطع وبالتالي يحدث تغيير في المواقف ، منها على سبيل المثال : ظهور واختفاء الشخصيات ، وهناك إحساس عام بالنفور بين الركاب .
عدسة الكاتب تصطاد التناقضات وتجسمها بشيء من الوعي وتمام اليقظة ، الساعة تقترب من الثالثة ـ أي قرب العصر حيث تهدأ درجة الحرارة نسبيا ـ  ويقفز إلى الترام أشخاص ويهبط آخرون .
هناك شيخ ملتح يحشر نفسه بين الناس وهو يطلق صرخة مدوية يطلب المدد من الله، وهناك أيضا شاب أسمر يشعر بقيظ الصيف ، وتهتز امرأة ثم تنزع الملاءة السوداء وتعلقها على كتفها . بارتجاج حركة المترو يتطوح الواقفون وتنتفض المرأة غضبا فيما يتهم الشاب الأسمر شخص آخر بالعماء. يرفع البائع المتجول صندوقه ، ويلكم الآخر في صدره .
المشهد يظهر ذلك القدر من العبث الذي يسود العلاقات بين الناس ، ويعبر في نفس الوقت عن الرغبات المكبوتة ، وربما يشير من طرف خفي إلى ذلك الصرح الذي هوى فأبان وجه البلاد بدون تجميل أو رتوش.
يوسف القط الذي وجد ميتا في حديقة عامة بعد نوبات من الانسحاب من الواقع كان وجها أدبيا معروفا في تلك الفترة. وقد قابلت عبدالرحمن الأبنودي سنة 1969 بشقته في الدور الاخير بعمارة باب اللوق ، فكان أول من سألني عنه هو يوسف القط.
 كان معروفا بكتابة نصوص تجريبية. يجلس أغلب الوقت في معرض موبليات صديقه مصطفى الأسمر، أو محل حلاقة صديقه الشاعر محمد النبوي سلامة ـ صاحب أغنية عبداللطيف التلباني ” خد الجميل يا قصب ” ـ صدر في حياته كتاب” 9 قصص” ورفض حضور المناقشة وفضل الجلوس على المقهى، وكنت مكلفا بإحضاره المناقشة التي تمت على بعض أمتار من المقهى الذي جلس فيه..
بعد موته بسنوات أصدر الشاعر محمد علوش كتاب” تحت السقف” يضم 17 نصا قصصيا هي فقط القصص التي وجدت في حجرة الكاتب بعد رحيله.
رحم الله القاص المجدد يوسف القط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعريف بالكاتب : إعداد سمير الفيل
على الأرجح ولد يوسف القط ببورسعيد .
ـ  عمل بقنا ثم أتى دمياط ، واستقر بها حيث التحق بوظيفة في قلم الأرشيف بمديرية الصحة .
ـ نشر أعماله في عدة صحف ومجلات ، منها: جاليري 68، سنابل، العمال، المساء ، الرواد ،  أخبار دمياط ، وغيرها.
ـ وقد مات أواخر ديسمبر 1985 . حيث أن حفل تأبينه في ذكرى الأربعين عقد بنادي الأدب بدمياط بقصر ثقافة دمياط ، مساء الخميس الموافق 23 يناير 1986. بحضور أدباء من خارج المحافظة : احمد حميدة من الإسكندرية، إسماعيل بكر من بني سويف ، فردوس ندا من الإسماعيلية .
ـ تضمن كتاب ” القصة القصيرة في دمياط” قصتين له ، هما: قصة 1 ، قصة 2 ، إصدارات الرواد، العدد 25 ، يناير 1990.
ـ نشرت ” أخبار الأدب ” في محور : دمياط مدينة الفن والتجارة قصة” الألف والهمزة ، العدد 267، 23 أغسطس 1998.
ـ نشرت مجلة” رواد” قصة” الثعبان والصرصار” في عدد خاص بالقصة القصيرة ، ديسمبر 1983 .
ـ قدم له نادي المسرح عرضا دراميا بعنوان” إطار الليل” ، إعداد: سمير الفيل، إخراج: هاشم المياح، دراما تعبيرية: هشام عز الدين. في المنصورة، نوفمبر 1999. ونشر النص بمجلة ” آفاق المسرح ” ، العدد 15 ، مارس 2000. حصل العرض على المركز الأول على مستوى الإقليم الثقافي بحضور الناقد السينمائي علي أبوشادي .
ـ قدمت دراسات حول يوسف القط ، قدمها كل من : د. مجدي توفيق ، أنيس البياع، مصطفى كامل سعد، سمير الفيل، محمد علوش ، محمد الزكي ، وآخرين.
ـ نشرت له مجموعة بعنوان ” 9 قصص” ضمن سلسة ” أقلام “، وأشرف على العدد: عاطف فتحي، محمد علوش ، محسن يونس. الكتاب بدون تاريخ إصدار ، ويرجح ان يكون تاريخ النشر سنة 1980.
ـ نشر كتاب ” تحت السقف. عالم يوسف القط القصصي ” إعداد محمد علوش ، سنة 2001. تضمن الكتاب خمس شهادات لكل من: أنيس البياع، سمير الفيل، محسن يونس، محمد النبوي سلامة، مصطفى الأسمر.
ـ  أعد الدكتور هشام مطاوع رسالة دكتوراة خارج مصر موضوعها : ” القصة القصيرة في مصر بعد67 ، وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ” ، ومن ضمن من شملتهم الدراسة  القاص يوسف القط ، ومعه كتاب آخرين من مصر نذكر من بينهم صنع الله إبراهيم.   

قصة "تحت المظلة" – نجيب محفوظ

قصة “تحت المظلة” – نجيب محفوظ
رؤية نقدية:-
لعلنا نلحظ أن العالم المنفتح في القصة، ليس هو عالم الحياة الواقعية المعتاد، وليس هو الواقع المعيش، وإنما هو جماع للواقع كله مكثفًا، ومضغوطا، تبدو فيه الحوادث ليست بذاتها، ولذاتها أتت، وإنما لما تحمله من معان ورائها، هدفها حصر، وترميز الواقع كله، في هذه الحوادث المتفرقة، المتباينة، والتي لا رابط بينها عضوي،  وإنما رابطها المكان، فكأنما الواقع تجمع لحوادث، وأفعال، غير منسجمة معًا. ومن ثم غير معقولة، وأقرب إلى أن تكون حلمًا، أو مسرحا، أو سينما. ليس من وجهة نظر الواقفين تحت المظلة فحسب، وإنما من وجهة عرض الحوادث ذاتها. فاللص يتحول إلي راقص يصفق له الممسكون به، وقد كفوا عن ضربه، وإهانته، بوصفهم يمثلون العدالة التطوعية.
 بينما العدالة الرسمية لا مبالية، وغير فاعلة، تراقب من بعيد دون أن تفعل شيئًا.
 كذلك العربتان اللتان تصادمتا دون ما داع للتصادم، غير السرعة واللهاث المحموم في التسابق، يمثلان العصر الحديث الآلي، وبجوارهما تدخل قافلة من الجمال، تمثل الزمن القديم بعلاقاته القبلّية، لما قبل الحداثة، وكأن الواقع يحتمل الجمع بين المتناقضات دونما مشاكل.
 واقع يعرض المتنافرات فيه، واقع هو خليط من القديم والجديد، ثم يأتي العمال ويبنون مقبرة، وبجوارها سرير، ثم يسحبون جثث ركاب السيارتين المتصادمتين، المحطمتين، المحترقتين، ويضعونهما فوق السرير. فكأن هذا يشير إلي أن الموت العبثي يكرّم في أسرة مريحة، بينما الحب الذي يمثلة المرأة والرجل، يقبر ويدفن داخل المقبرة، ويظل أصحاب المظلة في مكانهم تحت الطوفان، ينظرون إلي هذا كله دون أن يكونوا قادرين علي معرفة إن كان حقيقيًا، أم زائفًا، أو أنه خليط من هذا وذاك..
 لقد بدأت القصة مباشرة بالحدث، لم تقدم له، ولم تمهد، وتواصلت الأحداث فيه بوتيرة متسارعة، قلقة، متسقة، من إيقاع نزول المطر والسحب الداكنة كأنها ليل هابط..
 إن هذا المنحي الرمزي، الحلمي للقصة، واصلة الأديب الكبير(نجيب محفوظ) في أواخر عمره في كتابة أحلام فترة النقاهة، وجعل منه جنسًا أدبيًا. ما يعني أن قصة تحت المظلة، أعتمدت علي حلم الكاتب، أي أن الكاتب حلم بها فعلاً، ثم كتبها بعد تهذيبها وتشذيبها، وأيضًا، وعي الكاتب بالاتجاه الرمزي في الكتابة، حيث نلمح في قصص أخري هذا الوعي الرمزي.
النص النموذج الباهر، لوضوح، هو روايته أولاد حارتنا، حيث جاءت أحداثها رمزًا للعالم الذي قدمته الأديان السماوية، وهذا يجعلنا نقول: إن محفوظًا، لم يكن كاتبًا واقعيًا قحا، يحاكي الواقع كما هو، وإنما كان مزيجًا من الواقعية الرمزية العميقة..
 تحت المظلة، نص استثنائي راق، يشعر معه القارئ، أنه مكتوب الآن، وهنا، بل ودائمًا؛ حيث أننا مازلنا نعيش نفس العالم الذي تختلط فيه طرق الحياة، القديم البائد، والجديد الحداثي، وما بعد الحداثي. المعقول واللامعقول، كأننا لا نعيش عالمًا واقعيًا معقولاً وإنما مسرحًا أو سينما أوحلمًا.. وبعد.. تحياتي للمشروع والقائمين.