أرشيف الأوسمة: محمد فايز حجازي

روحانيات تحلق في سماوات الإبداع: قراءة في (لمح البصر) لسيد الوكيل، بقلم : محمد حجازي

لا أكون مبالغًا لو قلت أن الولوج إلى متاهة كتابة أدب الأحلام شرك عظيم، شرك قد يقع فيه الكاتب، فيهوي به إلى مهاوي السطحية والعبثية وطلاسم الكلم، فيفقد بذلك كثيرًا من صدقه لدى المتلقي، لاسيما إن كان كاتبًا في قامة الأستاذ سيد الوكيل له ما له من تاريخ حافل كأديب وناقد، غير أن الخلاص من هذا الشرك والوصول لمكنونات نفس المتلقي بصدق وحرفية يرفع من شأن الكاتب أضعافًا كثيرة، وهذا لأسباب عدة أسوقها لحضراتكم تباعًا:

أولًا: إن كان الأدب في مجمله وعلى اختلاف قوالبه يخاطب النفس البشرية قلبًا وعقلاً، مشاعر وأفكار، فإن أدب الأحلام بتعقيداته وتأويلاته وكما أنه نابعًا في الأساس من اللاشعور وبواطن العقل المعقدة التي لا يعلمها إلاّ الله، فإنه كذلك يخاطب بشكل أعمق ذات اللاشعور وبواطن النفس لدى المتلقي، في عملية معقدة للغاية تحتاج إلى صدق جارف وحرفية قصوى، وهذا لا يمنع من تدخل العقل في نهاية العملية أي في مرحلة الإفاقة، للتأويل والتأمل والتحليل والوقوف على مدى صدق التجربة.

ثانيًا: في منظوري أن كاتب أدب الأحلام ينبغي له بشكل أو بآخر أن يكون مطلعًا على التأويلات التى ساقها أساطين تأويل الرؤى كابن سيرين والنابلسي وميلنر، لم أقول هذا؟ لأن كثيرًا مما نرى في مناماتنا إنما هى أضغاث أحلام لا معنى لها، ولو نقلت إلى التجربة الأدبية الفنية لسقطت التجربة وأضحت محض هراء لا يصح، وإطلاع الكاتب على تأويل رؤياه ينأى به عن هذا تمامًا، إذ حينها ينتقي بحرفية ما ينقل ولا يخلط بين الغث والثمين، ذلك الخلط الذي قد يقع فيه الكاتب مهما كانت قيمته، وقد قرأت تجارب لكتاب كثر، وعرضتها على التأويل فوجدتها طلاسم لا صدق فيها ولا شعور وإنما هي ملأ لفراغ الأوراق فحسب.

استمر في القراءة روحانيات تحلق في سماوات الإبداع: قراءة في (لمح البصر) لسيد الوكيل، بقلم : محمد حجازي

(#تجديد_الخطاب_القصصي)#محمد_فايز_حجازي

لا أعتقد أن أحدًا من كتاب القصة المعاصرين معروف أو مؤثر أدبيًا، في غير نطاق أسرته -أحيانا- وبعض من أصدقائه المقربين -الكتاب أيضًا- الذين يجلسون في صحبته حول المائدة المستديرة، مجتمعين في هذه الندوة أول تلك! وهذا يحيلنا مباشرةً إلي السؤال الذي طالما رددناه منذ عقود –كتابًا ونقادًا- ونردده إلي الآن، ذلك السؤال الذي طالما أرق مضاجعنا، ولم يجد إجابة مقنعة وشافية، أو بالأحرى إجابة جريئة، نواجه بها أنفسنا بلا خجل أو مواربة، ألا وهو: هل إنتهي زمن القصة التي تقزمت واضمحلت أمام مارد الرواية؟ وإن كانت الشواهد تشير إلي هذا التراجع الشديد للقصة، فما هي الأسباب؟ أحاول في السطور التالية الإجابة علي هذا السؤال -من منظوري الذي قد يحتمل الصواب أو الخطأ بطبيعة الحال- ربما تغضب إجابتي البعض من أنصاف الكتاب ومدعي الأدب، ولكني لا أظنها ستفعل مع أولئك الموهوبين -وهم كثر- الذين يكتبون بصدق وإحساس، بغية الوصول إلى القاريء المتلقي، الذي أراه مغلوبًا علي أمره، ولا أحد آخر سواه، ولست أهدف من سطوري هذه سوى محاولة أراها صادقة، لإعادة القصة لمكانتها التي تستحقها ومسارها الذي حادت عنه لعقود، وهي القالب الأدبي الذي مازلت أراه -نظريًا إلي الآن- أسرع أنماط الأدب تأثيرًا علي القاريء وجدانيًا ونفسيًا. وحتي نتفهم معًا الأهمية القصوى للإجابة الدقيقة علي هذا السؤال، يتعين علينا أولًا أن نجيب علي سؤال آخر أسهل منه، هو لماذا نكتب؟ وما فائدة ما نكتب لنا ولغيرنا من متلقي كلماتنا؟ وهنا أقول أن الأدب الحقيقي بلا شك بالنسبة لكاتبه متعة في ذاتها لا تدانيها متعة أخرى من متع الحياة، وهي كذلك بكل تأكيد بالنسبة لقارئه، الذي يجب أن يكون مشاركًا بدوره في العمل الأدبي بالبحث والتأمل. وبالإضافة إلي ذلك وكما ذكر شيخ النقاد الدكتور محمد مندور بأن الأدب “شق للحجب ومحو للطلاء حتى تتكشف الإنسانية علي حقيقتها” وعليه فإن هدف الكاتب الحقيقي بالأساس هو تهذيب وجدان القاريء وتشكيل وعيه بلا مباشرةً، وبلا وعظ أو خطب، تمامًا كما يقول الكاتب الألماني العظيم إريك ماريا ريماك “أنا لا أريد أن أقنع القاريء بشيء ولا أن ألزمه بموقف ما، ولا أن أعظه، أنا فقط أصف ما يؤثر فيَ وما يحركني”. إذن فهم وضبط آداء فن القصة من قبل كُتّابها، حتي يحدث التلاقي المرجو مع جموع القراء والمثقفين، لهو أمر بالغ الأهمية، وهي -القصة- أسرع وسيلة أدبية، ينقل بها الكاتب أفكاره وأحاسيسه بلا مباشرة، يشكل بها الوعي ويهذب بها الوجدان، لا سيما في ظل عصر تتسابق فيه شتي وسائل التواصل الإجتماعي لنفس الهدف ولأهداف أخري، وإن كان من قبل فيالق من الحمقي والجاهلين، كما ذكر السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو. وعليه فإن إجابة سؤالنا الأول حول حاضر القصة ومستقبلها، هو أمر حتمي إن أردنا تأثيرًا حقيقيًا صادقًا وسريعًا علي وعي مجتمعاتنا. لا سيما في ظروف بلادنا العربية التي نعلمها جميعًا، وحتي تتضح الأمور ، فإن كلامي ليس موجهًا لأولئك الذين يتخذون أبراجًا عاجيًا يكتبون فيها، لا يعرفهم أحد ولا يتأثر بهرائهم أحد ولن يذكرهم أحد. آسف أن أقول أن ما يحدث في الوسط الأدبي (أقول الأدبي وليس الثقافي فليس منهم -إلا من رحم ربي- يعرف الرمز الكيميائي للماء الذي يشربه، ولا معني إجهاد المادة وانفعالها، فالأدب قصة والثقافة العامة قصة مختلفة تمام الإختلاف، ولكننا نري بعضهم يتمسح في الثقافة بقوله الوسط الأدبي والثقافي!)، علي أي حال فإن ما يحدث في الوسط الأدبي، وفي مجال القصة تحديدًا، لهو عين الهراء، محاولات ساذجة ومراهقة أحيانًا، وطلاسمية عقيمة لا هدف لها أحيانًا أخري، صرفت القاريء الذي لا حيلة له، إلي فنون أدبية أخري، أراها -في منظوري- أقل بهاءًا وأهمية في زمننا هذا. ولهذا أسباب أسوقها كالأتي أولًا: إعتقاد البعض -خطًأ- بأن القصة هي أسهل أنماط الأدب، ذلك لأنها أقصرها سردًا، وأكثرها تركيزًا وكثافًة، مما جعل بعضهم يستمريء الصياغة والحكي الذي لا تأثير له بسرد مواقف حياتية، لا أثر نفسي لها، ولا تهم القاريء في شيء، ربما أيضًا بلغة رديئة لا حس فيها، متجاهلين مقومات وأسس كتابة القصة، فلا يجد المتلقي فيه إلا الأدب -إن صح القول- في أبشع صوره. ومع شديد الأسف، فقد يجد أولئك الكتاب مجالًا لاستعراض ترهاتهم الفنية، نتيجة علاقاتهم أو مناصبهم إن كانوا رجالًا، أو ملابسهم التي تكشف أكثر مما تستر إن كانوا نساءًا، فتفسح لهم الندوات وتجهز لهم المناقشات المعدة مسبقًا، ويلاقوا من المجاملات ما يجعلهم يستمرون في كتاباتهم القميئة، هذا بالطبع تشغيبًا فجًا علي القاريء، وتشويهًا قبيحًا للفن نفسه. ذكر لي كثير من باعة الكتب، ومديري دور النشر، أن القراء كثيرًا ما كانوا يطلبون قراءة مجموعات قصصية، ربما لأن القصة تقرأ في وقت أقل، وهذا ما يناسب إيقاع العصر، غير أنهم سرعان ما عدلوا عن فكرتهم لما لاقوا ما لاقوا من مدعي الأدب، فتابوا وأنابوا وعادوا إلي كلاسيكيات القصة لتشيكوف وإدريس وكارلو كاسولا ويحي حقي، ويشهد سور الأزبكية ومواقع التواصل علي ما أقول. قبل أن نذكر السبب الثاني وهو السبب الأهم، أتسائل لماذا تعيش كلاسيكيات القصة بيننا إلي الآن؟ برغم إختلاف الزمن ومتغيرات الحياة، وستظل خالدة خلود البناء الموسيقي للأطلال رائعة السنباطي، والنهر الخالد لعبد الوهاب، والإجابة هي البساطة والصدق، والعمق النفسي والإنساني لكتاباتهم التي مست دواخل النفس فلامست أحاسيسها. البساطة والصدق هما أساس خلود كل فن، وأنا هنا بكل تأكيد لا أنادي بتجاهل القضايا العصرية ومستجدات الحياة وما استحدث من وسائل أثرت علي العقول والنفوس، ولكني أقول أن السبب الثاني الرئيس في انصراف المتلقي عن قراءة القصة، هو اللغة شديدة الرمزية التي قد تصل إلي حد الطلاسم أحيانًا، وقد قرأت نصوصًا لكتاب كبار أتحداهم أنهم قد وعوا أو فهموا ما يكتبون، وكل هذا تحت مظلة التجديد والسياق التاريخي لفن القصة، والسريالية والتجريد في القصة، ألا تستحون من أنفسكم! أتذكر أحد أصدقائي في أثناء دراستنا في الكلية، وقد كان يقول أنه شاعر عامية مطبوع، وكان يكتب بطريقة عجيبة، قال لي سرها في إحدي جلساتنا، هو لا يفعل شيء سوي أنه يجمع الكلمات من الجرائد والمجلات ليأتي بتراكيب تبدو فخمة ولها وقعها الفلسفي الشديد وهو في النهاية، لا يفهم أو يقصد ما قد يفهمه أحد، كتب ذات مرة قصيدة بعنوان شيزوفرينيا كان يقول في مطلعها “شيزوفرينيا في عالم عاش علي حد الوهم، ورطوبة الحلم المتسرب جوة قلوبنا، برد وزيف، تخاريف” هذا طبعًا تحت مظلة التجريد والهلام الفسيح الذي يتحدثون عنه. أولئك الكتاب مستمرون، هذا بفضل الشللية التى عليها الوسط الأدبي، فتجد الدكتور فلان يكتب نصًا فارغًا ليشيد به صديقه الأستاذ علان، هذا حتي يأتي دور الأستاذ علان فيشيد بعبقريته الدكتور فلان، وهم في غيهم يلعبون، لا يعرفك أحد ولن يعرفك أحد ولن تؤثر بكلمة في مخلوق، مهما ظهرت في برامج ومهما أفردت لك الصحف والمجلات، ولكنك وغيرك شغبت علي القاريء، وشتت انتباهه وصرفته وكرهته في فن القصة. أكتب باللغة التي تحلو لك بالبلاغة التي تراها بأسلوبك المناسب، ولكن أكتب شيئًا له هدف، صادق، مؤثر، مفهوم، يعيش في العقول والقلوب، كما عاشت كلمات غيرك من السابقين وحتي من المعاصرين، الذين يكتبون في مجالات أخري (سنتحدث تفصيلًا عنهم). حزنت كثيرًا عندما توفي الأستاذ محمد حافظ رجب، لم أجد أحدًا علي الإطلاق من المثقفين -لا أقول الأدباء- يعرفه أو قد سمع به من الأساس، وقد سألت عشرات ممن قرأوا لمئات الكُتّاب المصريين والعالميين، والتهموا أطنان الكتب. ومحمد حافظ رجب (2021 – 1935) لمن مازال لا يعرفه، كان يطلق عليه رائد التجديد في القصة القصيرة، سيرياليته وتجريده وما إلي هذا من المسميات العقيمة، لم تفد المجتمع ولم تؤثر علي مخلوق من المثقفين، في حين عاشت كلمات إدريس ومحفوظ وخالد توفيق (كل بطريقته) وغيرهم الكثير والكثير. أخيرًا أنا لست ضد محاولات التجديد المحسوبة، فالقاص السوري (زكريا تامر) فعلها ببراعة وبنجاح تام. أعلم يقيناً أن الخوض في هذا الأمر ليس من السهولة بمكان، ولذا فسأرجأ باقي الحديث إلي مقالات آخرى، أتحدث فيها عن وسائل الإعلام والنقاد والخطوات التي أراها لو اُتخذت من قبل كبار الكتاب والنقاد، لصار للقصة شأن آخر فكتابها الحقيقيين البارعين ما أكثرهم.

30Rasha Abada, Osama Amin and 28 others25 comments2 sharesLikeComment

حدث في الميدان..قصة:محمد فايز حجازي

- إلي أين ! (سألته الزوجة بينما هي جالسة في صالة بيتهما القديم، تُعمل إبرة الخياطة في مهارة، تعالج بها ثقوب ورتوق بعض الملابس القديمة).
  • أخي في صحبة صديق قديم، ينتظراني تحت القلعة في ميدان صلاح الدين، عند النافورة هناك. (أجاب الزوج وهو يهم واقفًا بعد أن انتهي من ربط حذائه الأسود اللامع).
  • خذه هو أيضًا معك. يلعب في جواركم بدراجته (استعطفته الزوجة).
  • لا.
  • لماذا؟
  • لأنه فاشل، عديم الفائدة، (أجاب الزوج بانفعال). ثم صمت برهة وقال : لا يذاكر.
  • لا يذاكر! لقد ذاكر طوال اليوم. (احتجت الزوجة). في ركن منزو من الصالة، استفاق من غفوته صبي في الرابعة عشر من عمره، نحيلًا،قصير شعر الرأس، يرتدي بنطالًا رياضيًا أحمرا، وقميصًا قطنيًا أبيضا، وينتعل صندلًا جلديًا بنيا. يجلس علي كرسي خشبي صغير، ينظر خلسة جهة أبيه وأمه، ويضع علي ركبتيه كتابًا مغلقًا، كتب علي غلافه “قواعد النحو للمبتدئين”.
  • حسنًا، (قالها الزوج مخاطبًا الطفل في قسوة، ورافعًا رأسه في صرامة) إعرب هذه الجملة “أنا مقصر في أداء واجباتي”.

نهض الطفل بطريقة آلية كما يفعل في المدرسة، وقال بلا تفكير:

  • أنا، ضمير متكلم مبني علي الضم في محل رفع مبتدأ، مُقصر (قالها الطفل متتعتًا ومرتبكًا، ثم صمت ولم يزد حرفًا).

أومأ الزوج برأسه ساخرًا وقال:

  • هذا يعني أنك سترسب في امتحان الملحق أيضًا.
  • هو يعرف لكنه يرتبك لأنه يخاف منك. (قالتها الأم مدافعًة عن صغيرها).
  • سأخرجه من المدرسة (قالها الزوج ثم كررها مشجعًا نفسه)، يقينًا سوف أخرجه من المدرسة، فليكن.. (ثم صمت برهة وقال)، فليكن صبي ميكانيكي.

حتي هو نفسه لم يدر علي وجه التحديد، لماذا اختار هذه الصنعة، وفي الغالب لم يفكر فيها أبدًا.

  • تعال إلي هنا يا حسن (قالت الأم في حنان)، سوف تذاكر يا حبيبي أليس كذلك؟ (واصلت وهي تضمه إلي حضنها) ولسوف ….
  • يشعل غضبي هذا الغبي. (قاطع الزوج كلامها)، ثم كرر جملته مستمتعًا، وكأن الغضب يوسع شرايينه ويجعله يتنفس بشكل مريح، ويخلصه بشكل لطيف من ملل ما بعد الظهيرة.
  • سأذاكر . (تمتم الولد في ذل وبصوت يكاد لا يسمع، باحثًا عن الحماية في حضن أمه).
  • لا تذاكر (لوح الزوج بيده).. لا تذاكر أبدًا.. لا فائدة مرجوة منك.
  • بل سيذاكر. (قالت الأم وهي تمسح علي شعر الصبي، محتضنًة رأسه تحت إبطها)… أما أنت فاعف عنه. (قالتها موجهًة كلامها للزوج)، ثم حولت كلامها للصبي قائلًة علي حين غرة، (حسن يا حبيبي، خذ دراجتك وانتظر عند باب المنزل، أبوك سوف يأخذك معه إلي الميدان كي تلعب في جواره. لم يفهم الولد ما حدث، كيف أنهت أمه تلك المشاحنة، بهذه السرعة وعلي هذا النحو الاستبدادي، لكنه رغم ذلك هرول خارجًا إلي الشرفة، وبقطعة قماش قديمة أزاح الغبار عن دراجته، ثم طبع قبلة علي وجه أمه المعشوق، وخرج مسرعًا إلي باب المنزل، دون أن يلتفت إلي أباه، الذي بدا متحيرًا وهو يتوجه بدوره إلي الباب، دون أن ينبس ببنت شفة
    لزوجته، بينما استمرت هي في رتق ثقوب الملابس القديمة. كان الولد قد رسب في امتحان آخر العام، في السنة الثالثة الإعدادية، في مادة اللغة العربية، وهو في الصيف يستعد لامتحان الملحق، وقد حرمه أبوه حتي ظهور نتيجة امتحان الملحق، من اللعب بالدراجة، أو النزول إلي الحارة لرؤية أحد من أصدقائه، وها هو الآن يتشبث بالفرصة واقفًا منتظرًا أباه عند الباب، ينظر إلي الأرض في ترقب. عبر الأب بجواره مُتصلبًا، أما وجهه الذي تفحصه الولد بنظرة سريعة من الجانب، فقد كان متجهمًا، مرفوعًا ينظر إلي اللاشيء. هكذا تراءي للولد أن أباه لا يلاحظه ولا يعبأ به. الولد الذي كان الخبر المفرح قد أشعل نشاطه، صار الآن حزينًا، يسير بتمهل، شعر بظمأ وأراد أن يشرب، وأراد الذهاب لقضاء حاجته، تمني أن يستدير إلي الخلف، لكنه خاف من توبيخ أبيه له مرة أخري، وهكذا وجب عليه تقبل الموقف في ظل مخاوفه من حدوث ما هو أسوأ، وانتظر ليري ماذا عساه أن يحدث له. كان الطريق من المنزل إلي الميدان يُقطع كاملًا في أربع دقائق، وكانت الحارات المتعرجة التي تفضي إلي الميدان بائسة للغاية، ووضيعة في حالة يرثي لها، بعض النساء والرجال علي عتبات البيوت المتهالكة، يأكلون البطيخ والذرة مرتدين جلاليب صيفية، وبعضهم عاري الأقدام. ألقي الرجل التحية علي معارفه بصوت لطيف، صوت استنتج الولد منه، أن أباه ليس غاضبًا للدرجة التي يظهرها، غير أنه بعد ذلك قطب جبينه مرة أخري في قسوة. كان الرجل يسبق ابنه بعشرين خطوة تقريبًا، وكان الابن يركض خلفه دون أن يركب دراجته التي يشتاق إليها، حتي سحق صندله الجلدي الغبار، وأدرك أباه سريعًا لكنه أبطأ السير قبل أن يصل إليه بعدة خطوات، وانسل بحذر جانبه مثل الكلب، لأنه مازال غير متيقن من أن أباه لن يزجره للخلف، وكان من فرط اضطرابه أثناء سيره يتفحص قدميه، يتفحصهما بانتباه كما لو كان يراهما لأول مرة. علي هذة الحالة، اخترقا الحارات حتي وصلا إلي النافورة في الميدان. النافورة..الميدان، النافورة..الميدان، النافورة..الميدان، تلك الكلمتين اللتين سمعهما كثيرًا في البيت، ولم يحظ برؤيتهما ليلًا قط، دائما ما كان يسأل نفسه كيف تتدفق المياه عبر النافورة في الميدان ليلًا، تخيلها بكل الصور، وهكذا أحاط به مشهد الميدان ليلًا كواقع خفي، فخم ومضيء وصارم ومتعذر بلوغه، لم يكن بامكانه المجيء إلي هنا تحت أي ذريعة أو حجة من الحجج. كان مشهد قلعة صلاح الدين والمساجد القديمة، المحيطة بالميدان من كل جانب متوجهًا، بإضاءات رائعة وخلابة علي الجدران، تمامًا مثل إضاءة الفلاشات أثناء التصوير ليلًا، وكانت المياه تتدفق من النافورة ملونة ومتراقصة في هدوء ساحر. بعد أن وصلا إلي الملتقي، تبادل الأب التحية مع أخيه وصديقهما اللذين قبلا الولد في حنان، ظل الولد يدور بدراجته حول النافورة في فرح وقد اكتسب بعض من ثقة، فأبيه سعيد يضحك مع جالسيه والأمر يسير علي خير وفي هدوء.

أخبرني أخوك أن ابنك في سنه الصغير هذا، يسمع أغاني الأسطورة محمد عبد الوهاب ويحفظ كلماتها. (قالها الصديق ولم ينتظر ردًا من الأب). حسن.. حسن (واصل مناديًا علي الولد).

  • نعم يا عمي (قالها الولد في أدب بعد أن توقف بدراجته أمامه).
  • علمت أنك من عشاق الموسيقار عبد الوهاب.
  • نعم، جدًا، أحب موسيقاه، أسمعه في الراديو مع أمي.
  • أنت من عشاق الراديو أيضًا!
  • نعم.
  • أي برامج الراديو تحب!
  • غواص في بحر النغم، من تسجيلات الهواة، ما يطلبه المستمعون، تسجيلات من زمن فات، وغيرهم الكثير. (أجاب الولد في ثقة).
  • رائع، أنت ولد موهوب، أنا أيضًا من عشاق عبد الوهاب وأعشق سماع الراديو، ألا أخبرتني عن آخر أغنية سمعتها قبل لقاءنا؟
  • النيل نجاشي.
  • وهل تعلم معني نجاشي!
  • نعم، أي من الحبشة، وقد كتب هذه الكلمات أمير الشعراء شوقي.
  • ممتاز، أنا لا أصدق! كم أنت رائع يا حسن، من الآن نحن أصدقاء، سنتقابل ونتحدث كثيرًا، فليس لدي من الأصدقاء من هم في مثل روعتك (قالها ونظر لصديقيه بابتسامة ذات مغزي)
  • أشكرك يا عمي (قالها الولد بعد برهة صمت، وهز كتفيه في خجل).
  • ابنك ولد لطيف مدرك واعٍ، ويبدو أنه طالب ناجح أيضًا. (قالها الرجل للأب الذي كان شاحب الجبين يتصبب عرقًا).
  • نعم ان ابني هذا ولد مجد، مجتهد. (قالها ونظر إلي ولده في فخر). الآن أسرع يا حبيبي إلي المنزل كي تنام مبكرًا (قالها واحتضنه ثم قبله)، مع السلامة يا حسن (أضاف في حنان). احمر وجه الولد حتي أذنيه، حيا الجميع، ولكنه انحني أولا أمام أبيه، ومضي بدراجته في طريق العودة، طريق الحارات المتعرجة. فكر مليًا، لماذا عاملني أبي هكذا! هو في البيت لا يعاملني هكذا أبدًا، تشعثت الأفكار وتشابكت في رأس الصبي الصغير، توهجت وجنتاه وأذناه، وأخذ يعتصر مقود دراجته بكفيه المبللتين بالعرق. كان سعيدًا، مضطربًا، ومرتبكًا، أخذ يمضي ويمضي في الحارات، ثم نشج باكيًا وركض، في أثناء الركض كان يمسح دموعه التي تسيل علي وجنتيه، كان يمسحها بيد ويمسك الدراجة باليد الأخري.
  • ….واصل الركض
  • واصل الركض باكيا حتى وصل إلى المنزل

«تحقيق سنة 2018» قصة محمد فايز حجازي

     قالت السيدة:

     – هراء، لا أصدق أنه كان مجرماً، ربما لو أخبرتني أن غدًا هو آخر أيام الأرض لصدقتك، ولكن أن يكون مجرماً فهذا ما لا أعقله، لا أستطيع أن أصدق هذا.

    ثم التفتت بوجهها إلى مدخل غرفة الاستقبال، صائحةً بصوت مُتهدج غلبه الانفعال:

     – لينا لينا.

   واستأنفت حديثها مع الصحفي الجالس قبالتها، الذي ظل صامتاً يدخن في عمق قائلةً:

     – إنها تتحدث في الهاتف، بعد أن تنتهي من مكالمتها سوف تطلعك ابنتي لينا على الكثير من المعلومات التي ترغب فيها، وستؤكد لك ما أخبرتك به، أما أنه مجرم، فهذا حقًا….

     إن عُمْر ابنتي لينا من عُمْر كريم، ولقد رأيت كيف أن مسكننا مُجاور لمسكنه، بوسعك أن تقول أنهما شبا سوياً تماماً كأخوين، وطبيعي أن يرى كل منهما الآخر  كل يوم، على الأقل من النافذة.

استمر في القراءة «تحقيق سنة 2018» قصة محمد فايز حجازي

عذابات الغرف المغلقة

قصة محمد فايز حجازي

ماذا بك ! ماذا دهاك! لماذا صمتك الغريب والمهزوم هذا! أوقد فقدت عزمك إلى هذا الحد!

     صمت كئيب وبائس ككآبتك وبؤسك، شارد أنت دائما، عشش الحزن في عينيك فأمستا بلا حياة، زائغتين، تائهتين كمن تبحثان عن شيء مفقود.

     صدقني لا وجود لما تبحث عنه، لا وجود لهذا الشيء على الأرض، لا وجود له على الإطلاق.

     ما الذي أتى بك إلى هنا! وما أدراك ما هنا! أتدري أين أنت الآن!

     أين مرحك! انطلاقتك! عزيمتك التي عُرفت بها! إقبالك على الحياة بصدر  عار  كما الأبطال! لطالما كنت نموذجًا وقدوة يُحتذى بها، لمن خلفوك في مدرسة أو جامعة أو مهمة صعبة في عملك.

     أوتذكر إصرارك الدائم على التميُز! تفوقت في دراستك الثانوية تفوقًا تحدث الناس عنه، وكذا الحال في جامعتك أيضًا، تخرجت مهندسًا كفًأ، أسست حياتك وأسرتك بنفسك، عصاميًا أنت ولا ريب عندي في ذلك.

     أوتذكر  بيتك وأولادك! دعني أخبرك بأنهم يشتاقون إليك كثيرًا، ويبكون لأجلك كثيرًا. زوجتك أيضًا برغم كل شيء تشتاق إليك، صدقني أنا أخبرك بالحقائق، الحقائق مجردة ولاشيء سواها.

  أراك تستجيب الآن، أرى عينيك تلمعان عندما حدثتك عنهم، تحدث بالله عليك وابتسم.

     ابتسم كما كنت تفعل دائمًا، أنت تدرك تمامًا ما آلت إليه أمورك، نعم تدركه وتعي جيدًا ماذا يعنيه وجودك منذ ما يقرب من شهرين، في تلك الغرفة المُعتمة والمُخيفة، وتعلم الأسباب يقينًا، سأقولها لك، أو بالأحرى سأُذكرك بها، ولكن لا تغضب.

     سأذكرك بها وكلي مرارة وأسف، أنت تعس، ضعيف، هش، لو تحدث أحدهم أمامك لانكسرت مُجددًا.

     أنت رخو، نعم رخو كقطعة قماش مهترئة ومبتلة لا حاجة لأحد بها، سوي تنظيف مُعدَة أو إماطة أتربة عالقة، على حائط قذر أو منضدة مُتسخة.

     أرجوك لا تغضب من صراحتي هذه، أو فلأقل لك، اغضب، فقد تكون نجاتك في غضبك، تكلم واغضب، لا تهرب وتلوذ بالصمت كما تعودت أن تفعل دائما، أتدري ما الذي أودى بك إلى هنا!

     صمتك من فعل! صمتك الحاني حينما كان يتحتم عليك أن تتحدث بقوة، وابتسامتك الصافية البلهاء عندما كان لابد لك أن تصرخ، عذرًا لكلمة بلهاء، ولكني أعنيها تمامًا.

     إذ ما معنى أن تستسلملقاهريك وسجانيك، ومن وضعوا خناجرهم المسمومة في قلبك، وأتوا بك إلى هنا صاغرًا ضعيفًا مهزومًا! ما معني هذا سوي أنها بلاهة وبلادة أيضًا! نعم أنت بليد المشاعر، تحملت حماقاتهم وابتلعت سخافاتهم جميعًا، جيرانك وأصدقاءك وأقرباءك،خجلك العظيم، وحياؤك الشديد ليسا مبررًا لأن تخضع كل هذا الخضوع.

     أم أن قلبك من الضعف والوهن ما جعلك خاضعًا مستكينًا!

     بئس الرجل أنت.وأرجوك لا تحدثني كثيرًا عمن خانوك ومزقوا أحشاءك ومثلوا بك حيًا، نعم فعلوا، فعلوا ذلك وأكثر، ولا أنكر ذلك البتة، ولكنك في الأخير من أقدمت على الانتحار بمحض إرادتك، ومزقت نياط قلبك واحدًا تلو الآخر.

     كنت تردد دائمًا أن من يحترم نفسه، لابد أن يتعرض للوقاحات وأن تناله الإهانات، أي سخف هذا!

     ومع كل ما لاقيت مما ينوء بحمله الجبال يالعجبفأنت برغم كل هذا مازلت حيًا ترزق، وليس هذا فحسب، ولكنك لم تختل أو تفقد عقلك.

     صدقني أنت لست مُختلًا، وتعي تمامًا ما آلت إليه أمورك وفي أي الأماكن أنت، بل ومازلت قويًا صلبًا ومؤمنًا، أنا متأكد من ذلك تمام التأكد.

أخيرًا دعني أقولها لك مُخلصًا، مازالت الفرصة قائمة أمامك وبقوة، بين يديك لم تضع.

     بين يديك أنت، أنت وحدك ولا أحد غيرك.

     فرصتك الأخيرة، ومازالت نجاتك بإرادتك.

     فقط عليك أن تقرر.. بقوة هذه المرة تقرر.

     أنصت إليَّ جيدًا، سيدخلون عليك الآن ليقتادونك عنوة كما إعتادوا أن يفعلوا معك دائمًا مذ جئت إلى هذا المكان القبيح. سيقتادونك للغرفة المجاورة لعنبرك المشؤوم هذا.

     سيقتادونك لجلسة الكهرباء التي حان موعدها الآن.

     إياك أن تنصاع.. تكلم.. قاوم واعترض.

     إياك أن تستسلم هذه المرة كسابقيهاإياك أن تستسلم

      إياك

     فجميع من يحبونك في انتظارك

     يبكون كثيرًا ويصلون كثيرًا من أجلك

     أخبرني يا صاحقل لي بالله عليكهل تستطيع

الدراجة الحشبية. قصة محمد فايز حجازي

     البيت قديم، مُتهالك، تسرح في جدرانه الشقوق مُكونةً شبكة، كتلك التي تكونها خيوط العنكبوت، مكون من دورين في حارة عتيقة، بيت كتلك البيوت التي بنيت في بدايات القرن المنصرم، مدخله ذو باب خشبي سميك وهائل يعلوه التراب في كل مساحته، عشش بين ألياف خشبه المهترىء وكأنه جزء منه.

     لم تعد مفصلاته التي أكلها الصدأ تدور، فظل على حاله مفتوحًا على مصراعيه، غارزًا في تراب الأرض الذي أحاط دلفتيه فأخفى سنتيمترات كثيرة من قاعيهما، فلا يقوى أحدهم على تحريكه أو تليين مفصلاته، شبابيك البيت من الأرابيسك القديم، طويلة بطول رجل فارع، أشبه بالمشربيات العتيقة التي لم تعد مألوفة في الآونة الحالية.

استمر في القراءة الدراجة الحشبية. قصة محمد فايز حجازي

ملاك القرية. قصة: محمد فايز حجازي

ملاك القرية

     كان الشتاء قد بسط يده تماماً علي أرجاء القرية، وأودع في أجساد أهلها وقلوبهم تكاسلاً وانكماشاً، إذ بعد صلاة العشاء يسود السكون كافة الأنحاء إلا من نقيق الضفادع وصوت صراصير الغيطان، وتخفت الأضواء إلا من بعض الأشعة الواهنة التي تنبعث علي استحياء من المصابيح الصفراء الصغيرة والنادرة المُتدلية من أعلي أبوب البيوت القصيرة والمُتهالكة كهلاك قاطنيها.

     وأهل القرية لا حيلة لهم فلم يعتد أحد منهم مقاومة نداء الفراش بعد صلاة العشاء طوال العام، فكيف في قسوة الشتاء!

     الجميع يغط -كما اعتادوا دائمًا- في سبات عميق، فلا قبل لهم بمقاومة سلاح النوم الفتَاك وكانوا كما سمعوا من آبائهم يرددون، أن النوم سلطان لا يغلبه الجان وأن الدفي عفي، لاسيما أنهم قد أمضوا يومهم في حرث الأرض وسقاية الزرع، ولا يشذ عن تلك الحالة أحد منهم، إلا ذو علة يتلوي، أو صاحب هم يتأوه. 

استمر في القراءة ملاك القرية. قصة: محمد فايز حجازي