أرشيف الأوسمة: مصطفى يونس

كشوفات مصطفى يونس

كشوفات مصطفى يونس


” الحقيقة “


 
رأيتني سائراً في طريق بلا معالم.. لا أشجار … ولا مباني…. ولا شيء تسترشد به العين على طول الدرب. كل المحيط ضبابي، هلامي، بلا حدود أو كيان. الأفق أيضا لم يكن نفس الأفق. كان صاخباً، مفعماً بدخان ازرق كثيف لا يكف عن الحركة والتموج.
توقفت بعد سير طويل اثر شعوري بتمكن التعب منى، ووجدتني أهمس للنفس يائساً بأنه لا فائدة ترجى من الاستمرار؛ فإذا بصوتٍ يأتي من أعماق المجهول متسائلاً …
– أتظن هذا حقاً؟
تأملتُ ما تحت قدمي في إحباط وقلت ….
– قد تعب القلب، وكل الجسد …
وركلتُ ما حسبته حجراً صغيراً على الأرض سائماً …
– لا حقيقة، ولا معنى لأي شيء …. لا فائدة !
قال مشجعاً…
– ها قد عرفتَ حقيقةً ما.
فكرت للحظة،وقلت..
– ربما!..
قال …
– وأكثر ما ستعرف كلما مضى بك المسير.

استمر في القراءة كشوفات مصطفى يونس

وجه من زمن قديم – قصة لـ “مصطفى يونس”


وما هي الا شهور حتى تفارق “عالية” أيضا البيت كعروس بمساعدة اخوتها إلى حيث يقيم زوجها في بلد قريب، وسرع من اتمام زواجها حرص أمها على اتمامه..
– أريدها أن تبتعد عن تخت النغج ونار الجاموسة التي لا تنطفئ؟
وتمر السنون على وقع ما يدور في المنزل الصغير ،ولا تهدأ معارك “عنابة” مع “أم عالية”، وكثيرا ما شنفت آذان حارتنا معزوفات ردحهما المتبادل، ولكن رويدا رويدا يدب الوهن في عروق المرأة القوية، وينطفئ بصرها إلا من ضوء طفيف يتيح لها أن ترى اشباح البشر والأشياء، وتفرض في المقابل عنابة سطوتها على بيت صار لها وحدها واولادها السبعة بعد أن فارقه اخوة زوجها إلى غير رجعة بعد أن اسس كل منهما أسرة في مكان بعيد..فقط بقي لـ “أم عالية” – التي لم أعرف لها اسما سوى هذا طوال حياتي – شباك غرفتها المطل على الحارة تراقب منه الاشباح المارة ..
هاهم أبناء “عنابة” يستوطنون الارصفة حول البيت حيث كان يبيت أباهم وأخواه، والحكايات المخادعة تتكرر معتمرة وجوها جديدة.

“قدري الشواف” – قصة لـ مصطفى يونس

البدايات لا تنبئ أبدا
بالنهايات، ولا دليل في شروق الشمس من الشرق في صباح اليوم على حتمية غروبها غربا
في نهاية اليوم، وليس بالضرورة أن ينتهي اجتماع السحب في السماء بنزول المطر،
وحياتي أكبر دليل على كل هذا..

من كان يتصور بأن أتنقل في حياتي من مكان إلى مكان بعيدا عن الحارة – حيث نشأتي الأولى – حتى ينتهي بي المطاف أن أتناول فنجان قهوتي في تلك الشرفة الجميلة المطلة على تلك المساحة الخضراء الواسعة، التي لم أكن أتخيل يوما أن أقضي أيام شيخوختي قبالتها..

لعلها نادرة صارت تلك اللحظات التي تحضرني فيها ذكريات زمن الطفولة البعيد. تفنى الذاكرة فيما يبدو مع تقدم السن، أو ربما ضجيج الحياة صار لا يفسح مجالاً للحظات الصفاء التي يستلزمها اجترار الذكريات.

أيا كان الأمر، فدون
مقدمات يلح على ذهني منذ الصباح اسم استدعى معه كل روائح الزمن القديم..

 “قدري الشواف”..

ربما استدعى الاسم إلى ذهني مقابلتي بالصدفة لأحد أبناء أخيه منذ ايام في مصلحة الجوازات بينما أعد العدة
للسفر للعمرة.

 لقاء سريع، عرفت منه خلاله بأنه يعد نفسه للسفرلبلد أوربي لزيارة أحد أبنائه، كان الرجل يقاربني في السن تقريبا، ولكن كان لم يزل
في ملامحه شيئا من وجهه الشاب، جعلني أتعرفه فور لقائي به. لعله تذكرني بصعوبة، أوكان تعجله الخلاص مما أتى لأجله، جعل لقاءنا ينتهي سريعا، لكنه على العموم كان لقاء أسعدني بحق، ولعل جل ما كان سبب سعادتي هو انتعاش مفاجئ اعترى ذاكرتي على أثرها استدعت معه أشياء كثيرة من الزمن القديم، كنت قد ظننتها ذهبت عني إلى الأبد.
أسماء وشخوص وأحداث عادت لتشعرني بمدى غنى الطريق الذي أشرفت على بلوغ نهايته، وكان “قدري الشواف” من أبرز تلك الوجوه.


لعل ابن أخيه هذا قد نساه أو تناساه، أو ربما كان يجهله برغم صلة الدم، وقد يكون كل ما يعرفه عنه لا يتعدى ما أعرف بالفعل، وكل خبر بعد ذلك يعد دربا من التوقعات والأساطير..

تستدعي الذاكرة بصعوبة ملامح الأستاذ “قدري الشواف”، فلا أتذكر سوى أنه ليس في ملامحه شيء مشوه أو مستفز يعلق بالذاكرة، ولكن لا تخطئ تذكر طلعته الأنيقة قياسا إلى زمنه، واهتمامه بمظهره، كونه منتميا لطبقة المتعلمين القلائل في حارتنا وما يجاورها من أحياء..


كان الابن الثالث في أسرة فقيرة الحال، يعولها أب بائع طرشي أورث صنعته لأغلب أبناءه، غير أن تفوق “قدري” في دراسته كفل له من المعونات الحكومية والمنح ما جعله يسلك طريقا آخر، ولكنه اكتفى بالحصول على الابتدائية، وهو ما أهله ليعمل مدرسا في إحدى المدارس الأهلية القريبة من محل سكنه، وخلال سنوات ابتاع بيتا صغيرا بالحارة قريب لمحل إقامة
عائلته، وافتتح سلسلة زواجات الأسرة حين اقترن بـ “منيرة” بنت “عطوة الفحام” وهي خطوة جعلت أسهم أسرته ترتفع في المنطقة ورقتها قليلا
في السلم الاجتماعي..

لعل حياة الأستاذ “قدري” كانت لتمر بشكل عادي، أو هكذا كانت لتبدو في سنواتها العشرة التالية، منذ استقراره مع عروسه في بيته الصغير، ثم انجابه لثلاثة أبناء نابهين، وعلاقة المودة التي كانت تربطه وعائلته بعائلات أخوته، وأيامه العادية الموزعة بين عمله وبيته وجلساته شبه الإسبوعية على مقهى “الوردة الفينيقية” في الميدان مع ثلة الأصدقاء الذين لم يكن ليتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، ولكن كل شيء تغير فيما بعد..


2

ربما بدأ الأمر في تلك
الليلة التي سمع فيه الناس في حارتنا صوت الصراخ والولولة يتصاعد من نوافذ بيت “شعلان” فتوة الحارة حاملا نبأ وفاته المفاجئ، ودون سابق انذار.

أعقب تلك الليلة ثلاث ليال صامتة كئيبة، غلقت فيها الدكاكين والبيوت، واعترى سكانها التوجس متغلبا على الحزن لوفاة فتوتهم، واحتل صوان عزاء الفقيد صدر الحارة مستقبلا المعزين من سكان الأحياء المجاورة وعصابات فتواتهم.

كان أعداء “شعلان” المتربصين أكثر من محبيه، وأغلب زيارات العزاء تلك كان لا تخلو في باطنها من غرض استطلاع ما تمضي إليه الأمور في حارتنا بعد سقوط فتوتها القوي، والاحاطة باسم خليفته المنتظر، ومدى استعداده لاحترام معاهدات الصداقة والسلام التي أبرمها سابقه أو تسخير الحارة ورجالها في استكمال معاركه مع أعداءه..

كانت تسري في العزاء همسات ببعض الأسماء التي سمحت لطموحها أن يتمدد في اتجه احتلال مكان “شعلان”، وبدأت الأصوات تعلو بها رويدا رويدا حتى ليلة العزاء الثالثة والأخيرة، حين انبرى “صابر العتماني” شيخ الزاوية بخطبة عصماء في حضور”غالي النطع” فتوة الحبانية عن فضل الصبر على المصائب، وما تركه “شعلان” من سيرة طيبة وأعمال خيرة كان أولها الدفاع عن حارتنا ضد أعدائها حتى أنه أبى أن يترك مهمته دون أن يسلمها إلى من يأتمنه على استقرارالحارة وأمنها، وهو ما جعله يزور الشيخ “صابرالعتماني” في منامه ويؤمنه على اعلام أهل الحارة بأنه لا يأمن عليهم من بعده إلا بأن يضعهم وأهليهم وأموالهم تحت حماية فتوة الحبانية.

لم ينتهي الشيخ من خطبته، فقد غطى على صوته، وصمت صوان العزاء تكبير وتهليل رجال “غالي النطع” ومن ورائهم أغلب رجال الحارة ممن رأوا في رؤيا “العتماني” سبيلا للخلاص من قلقهم وترقبهم على مستقبل حارة تنقصها يد فتوة قوي يحميها من أطماع الفتوات والعصابات، بينما اكتفت الأقلية بصمت المندهش وهي تشاهد فتوة الحبانية وهو يخرج من الصوان محمولا على الأكتاف من صوان عزاء “شعلان” الذي تحول بلحظات لصوان فرح لمبايعة “النطع”.


3

في اليوم التالي حملت نسمات العصر الهادئة نبأ مجاهرة الأستاذ “قدري” بالمعارضة والسخرية مما حدث في عزاء فتوتنا المتوفي، ورفضه مبايعة الفتوة الجديد الذي أتى بناء على رؤيا وصفها بأنها مشكوك فيها وتحتمل الكذب أكثر مما تنبئ بالصدق في فحواها..

“لم نعرف في سيرة”شعلان” ما يجعله وليا من الأولياء، ولا عالما من العلماء حتى نلتزم حتى لو من باب الحياء بوصيته المشكوك في صدقها أصلا”

بل لقد ذهب الأمر إلى
شخص الشيخ “العتماني”..

“”العتماني” ضرير، ولم ير “شعلان” في حياته حتى يتعرف عليه في
منامه.. ومنذ متى كان لـ “العتماني” كرامات الصالحين؟!”

 كان “قدري الشواف” رافضا، وبشكل قاطع، لان نولي أمرنا من لم نعرف بناء على رؤية في منام أحدنا..

 بدأ الأمر بهمس انساب في جنبات الحارة يتهم الأستاذ بالخروج عن جماعة المسلمين، ثم سرعان ما تعالت الأصوات، وكان أغلب أصحابها
من العربجية وأصحاب المهن الذين تجمعهم ليالي الأنس في مقهى الحارة الوحيد، تسخرمنه وترميه صراحة بالجنون والكفر لطعنه – من وجهة نظرهم – في حقيقة البشائر الإلهية في رؤى الصالحين.

– كثيرا ما خاطب الله أنبيائه في منامهم وأمرهم، وأبو الأنبياء رأى أنه يذبح ابنه فامتثل للرؤيا، فكيف لا نطيع ونمتثل؟

– الأستاذ بيته مليء بكتب الأجانب الكفرة.
– بل لعله جاسوس مندس وذنب من أذناب الانجليز المحتلين!

– كيف نسمح أنيكون بيننا كافر كهذا؟!

بل ووصل الأمر ببعض السفهاء – في الأيام التالية – ان يسلط عليه أطفال الحارة ليزفوه بالأغاني والتهليل في ذهابه وايابه.. وبقي هو مصمما على رأيه دون أن يمالئ أو يوارب.

 من ناحية الفتوة الجديد فلا أذكر أنه قد احتك به. أظن أنه كان يكن له نوعا ما من الاحترام، كان يسمع ما يدور في الحارة ويكتفي بالصمت الراضي، بعضهم كان يتقرب له بسب الأستاذ في حضرته ويصيح غاضبا أو مصطنعا الغضب..

– كيف يطعن في أحقيتك بزعامة الحارة وأنت خيرالفتوات وأحقهم بها.

لكن الغضب الموالي للفتوة الجديد لم يقتصر على الكلمات وقتا طويلا. جائت تلك الليلة التي كان “زينهم الدرزي” – وكان من أشقياء الحارة – يجلس مع بعض صحبه الذين نجحوا فيما بينهم في جمع ثمن زجاجتي “براندي” اشتروهما من “البار”الجديد الذي افتتح حديثا تحت المبنى الزجاجي الضخم في الميدان مع نصف كيلو من الترمس وبعض الخيار واتجهوا لتجمعهم السهرة ببيت “زينهم” القريب من بيت الأستاذ، ويبدو أن الحديث المخمور اتجه نحو موقف الأستاذ من رؤيا “العتماني”..

– هذا الأستاذ مجنون.

– انها المدارس والكتب التي تفسد عقول هؤلاء وتجعل إيمانهم يتآكل حتى يكفروا بالخالق تماما وينكرون كرامات الأولياء والصالحين.

وارتفعت نبرة الحديث ومعها موجة غاضبة في العيون التي كساها “البراندي” بلون الدم، وصارت الكلمات تتشابك لتنسج نهاية دموية خطتها العقول المخمورة؛ فلم تنته الليلة إلا ومعها حياة الأستاذ وأسرته الذين كانوا يغطون في نوم عميق حين ارتفعت حولهم ألسنة الحريق التي فشل كل جهد في مكافحتها؛ فلم تترك شيئا أو أحدا في البيت إلا كتلة متفحمة دون معالم.

4


تغيرت معالم الحارة بعد ذلك بفترة وجيزة، فمنزل زينهم الهارب من أيدي الشرطة تحول لشونة غلال يمتلكها الشيخ “العتماني” ويديرها ابنه “صالح”، أما فتوتنا “النطع”، فقد حد انشاء نقطة الشرطة في الميدان من سلطته في حارتنا وما حولها؛ واضطر تحت انحسار وتضاؤل حصيلة الاتاوات إلى الاتجاه لتجارة الحشيش.
أنا أيضا تركت الحارة بمجرد تعييني بوظيفة مفتش للري في إحدى قرى الصعيد ولكنني لم أزل أزور حارتنا كلما استطعت للاطمئنان على الأهل والصحبة وإن كان على فترات متباعدة، وكلما مررت بالأطلال المحترقة يعتصرني الألم لمصيره البائس الحزين. شيء ما بداخلي كان يستغرب موقفه كلما تذكرته. 

بعين القلب يجمعني به اللقاء في المنام، فأراه في مقام الشهداء، وأسأله، فيجيبني راضيا..

– لم أكن تقيا ومستقيما كما ينبغي، ولربما لولا كلمة حق صبرت عليها، ولم أحد، ما وصلت مقامي الذي ترى. ….

الكشوفات – الكشف الأول “غروب”

كان مشهداً رائعاً للغروب. وكانت السماء مصطبغة بلون نحاسي رائق لا يفتأ يزداد شحوباً وقتامة، وأريج الزهور يسبح حولنا في تيارات من النسيم بارد عليل مع نغمات حزينة من ” كمان ” بعيد مجهول، أنغام بدت وكأنها تأتى من أعماق الغيب الغامض.
في بعض لحظات كان المكان يبدو لأنظارنا كقطعة من الجنة، وكنا نحن كأهلها سعادة وارتياحاً، وقد ألقى كل منا بجميع ما يعج به عقله من أفكار وذكريات لتسبح حوله في دعة وصمت طويل، لم يقطعه سوى بعض تنهدات غامضة، ربما لذكرى عزيزة تمر بالخاطر أو إشراقه وجه حبيب من صفحات التاريخ المنسي.
وأخيراً ينتهي العزف الغيبي تاركاً مساحات لا متناهية من السكون والشجن، ويغرق الأفق في ظلام سرمدي دامس، فيقول احدنا وهو يمسح صفحة السماء بنظرة ذابلة..

“حتى الفردوس لا يخلو من الظلام والشجن.”
تمر فترة من الصمت الثقيل قبل أن يشير أخر إلي نجم بعيد…

“الظلام أيضا لا يخلو من بريق نجم ما…”

أوراق ميتة- قصة لـ “مصطفى يونس”

1

لا شيء يبدو كما كان أبدا..

أقف على قمة جبل الولع، والدنيا كلها خلف ظهري، كأنني في الجنة أو أحلى. لكل ثمرة أقطفها طعم مختلف ينافس سواها في الطعم واللذة، وأنا أتنقل بين الثمار في شغف محموم لا يشبع، تحفني روائح العطر الدافئ. جسدي يغمره العرق، فلا أبالي، والشبق يسلب روحي. آهاتها الخافتة تجلد تشوقي؛ لا أملك سوى أن أنغرس في تربة الجنة كجذع مجنون يتلوى، أستسلم لعنف الانتفاضات، وأعاني انفجارات من البلور تفور من خاصرتي جاذبة معها أجزاء من روحي، وفجأة تغيم الدنيا في عيني، تنام بداخلي البراكين، فأنهار إلى جانب عريها الفاتن.

 من بين الغيمات أتأملها، صار شعرها الأسود الممزوج بالحمرة متناثراً على جبينها، وتغيرت ملامحها تحت سيول الكحل وألوان الشفاه التي كانت تشعل غاباتي بهما منذ دقائق، صدرها البض يعلو ويهبط في عنف، ولكن لا صوت لأنفاسها. لأول مرة لا أراها جميلة، وكما يغادر البريق لوحة تفاحة مقضومة، يخبو بهائها في عيني، فيعتريني العجب من نفسي للحظات..

  • لا تستسلم للنوم. قد يأتي بأي لحظة.

ها هو أيضا صوتها يتغير في أذني، يغادره ذلك الرنين اللذيذ. ألتفت إليها دون أن أجد في نفسي الرغبة للرد أو حتى تعليق ساخر، وأقوم لأرتدي ملابسي في صمت. لعل كلينا لم يجد ما يقال. انطفأ كل ما تبقى من وهج، وربما للأبد..

2

علاقتي التي بدأت أولى جولاتها بـ “منى” زوجة “علي العدوي” انتهت بمجرد بدايتها. لم أجد لديها ما أصبو إليه. نعم، تخيلت أنني قد أجد فيها ذلك البرق. الصاعقة التي تضرب حياتي الراكدة.

للحظة ظننت أن امرأة جميلة شهية كـ”منى” يمكن أن تكسر ملل دورات التروس، ولم لا؟ لديها كل ما افتقدته زوجتي برغم سنهما المتقارب، ونفس عدد الأبناء، لكنها كانت تحتفظ بقدر كاف من الأنوثة والأناقة والدلع الكفيل بإسعاد رجل، وهو ما افتقدته مع زوجتي بشدة، حتى صار البيت وعملي بالهيئة كوجهان لعملة واحدة. كلاهما يفتقد البريق والحماس. صارت العلاقة الزوجية “الموسمية” كتوقيع الأوراق، لا يشوبها شيءٌ من فنون اللذة التي تكسب للحياة طعمها البض الصابح، و برغم هذا، ما زلت أحتفظ لـ”تحية” بأشياء كثيرة بداخلي بعد هذا العمر المترع بالأزمات التي عبرناها معا،ً برغم أن أزمات مماثلة كانت كفيلة بهدم أي حياة.

قد يكون هذا جنوناً، هذه الأشياء ربما كانت سبباً رئيسياً في انهيار علاقتي بـ”منى” قبل أن تبدأ بداية حقيقية، ناهيك عن علاقة قديمة تربطني بزوجها “علي”، لكن – ولا أكذب على نفسي- بالأساس لم تكن “منى” ذلك النوع الذي يلائم مثلي. برغم كل شيء. رقصها الكفيل بتحريك الجبال، نعومتها، ومعرفتها بكل الفنون التي تسعد الرجل، لكني لامست شيئاً ما. لم تكن مستمتعة معي بالكامل. كأن ثمة شيءٍ جمد بداخلها في لحظة ما، ربما كانت صورة زوجها “علي العدوي” قد طافت بمخيلتها، فجمدت بداخلها كل شيء. برغم أنك منذ النظرة الأولى ستعرف أن “منى” ليست من النوع الذي يمكن أن يصبر على طعام واحد كل هذه السنوات. لابد أنني لم أكن مغامرتها الأولى، والحقيقة لم يكن هذا أيضا يشغلني كثيراً، ففي النهاية انقطع الاتصال بيننا، وكأنه اتفاق غير معلن بانتهاء علاقتنا، وللأبد. عدت لرتابة حياتي، وبداخلي شبه يقين بأن شيئاً لن يتغير. ستظل العجلة تدور على حالها حتى ينتهي عمري دون أن أعيش حياة حقيقية.

يا الله! كم سئمت توقيع الأوراق!

“تحية” لمست التغيرات والضيق الذي صار يحكم كل شيءٍ أفعله أو أقوله، وحاولت لمرات أن تستفهم مني، ولكن كل محاولتها للكلام فشلت. كنت أصدها وأغلق كل باب للكلام..

 -ماذا بي؟!ماذا بي؟! هل أبدو لك مجنوناً؟

 في ليلة ما حاولت بطريقة أخرى، بعد نوم الأولاد تركتني في الشرفة، وتسللت إلى حجرة النوم، فارتدت قميصا مغريا ووضعت الألوان التي كانت قد نسيتها أو تناستها لسنوات، لكن مضت الليلة الجميلة دون أن تترك بداخلي أثراً حقيقياً. ليلة واحدة كانت كإلقاء حصاة في بحيرة راكدة كبير من السنوات الغابرة

 يا الله! سأجن! لا يمكن أن أنتهي هكذا!

ليالٍ مرت، وأنا أتساءل، وأفكر في طرق جديدة لاستعادة هذا الحماس القديم، ذلك البريق في عينيَّ الذي لم تعد تنطق به المرايا، لكن الأيام تمضي على وتيرتها وايقاعها، لا شيء يتغير فعلا!

3

حاولت كل شيء، غيرت المقهى الذي كنت أرتاده، تعرفت بأصحاب جدد، وصرت أشاركهم كل شيء يفعلونه حتى تدخين الحشيش والسهرات المعبقة بالدخان والنكات، لكنني كنت أعود منها دوماً أكثر تململا وقنوطا على نفسي وحياتي، فقررت الاقلاع مرة أخرى عن كل هذا. عرفت أنني سأخسر صحتي رويداً رويداً دون فائدة تذكر.

“تحية” كانت تراقب عودتي متأخراً في كل ليلة والهالات السوداء تحيط عيني في صمت وصبر، كأنها تعرف أنها مجرد موجة ثورة وتغيير طارئة، سأعبرها طالت أم قصرت، وأعود بالنهاية لحياتي معها ومع الأولاد.

 وحدث ما تنبأت به، سرعان ما تخلص جسدي من أثر المكيفات، وعدت لسيرتي الأولى، فلا أشرب، ولا أسهر. عدت أيضا لشلتي القديمة في المقهى القديم، وفي طريقي للبحث استعدت هويتي القديمة عدت لأرتب مكتبتي العامرة، وأزلت التراب عن رفوفها وكتبها، وساعدتني في ذلك “تحية” والأولاد بمنتهى الأريحية التي يمكن أن تصفها بالفرح أيضاً. كانو مستمتعين تماماً، وعيونهم تقع لأول مرة على كنوزي القديمة التي كانت قد اختبأت لسنين في صناديق الكارتون تحت فراشي. وأخيرا وقع في يدي كتاب، تحت غلافه وجدت توقيعه وكلمات التهنئة الرقيقة في عيد ميلادي. كان قد اعتاد طوال سنوات أن يهديني كتابا كهذا في كل عيد ميلاد لي. حمل الاسم والتوقيع إليَّ طوفاناً من ذكريات صحبتنا القديمة. لامست في حروف اسمه ذلك الحنين لسعادتي التي مضت. ظللت طوال تلك الليلة أفكر، وأستعيد تلك الذكريات التي جمعتنا سوياً..

يا الله! أين مضى ذلك العمر الأخضر تاركا في دمي هذه الأعواد اليابسات؟

4

 في الصباح التالي استيقظت مبكراً، وفي عروقي همة غير مألوفة. اتجهت لمحطة القطار. ثلاث ساعات وأرجع إلى البلدة حيث تركته، ومعه سنين سعادتي وبريق عينيَّ. اتصلت من المحطة بالهيئة وطلبت إجازة قصيرة، وبرغم تبرم المدير، لكني كنت أعرف بأن رصيد إجازاتي كبير، ويسمح بإجازة أكبر، ولهذا لم يستطع الرفض.

كنت أتحرك بهمة صبي في مقتبل عمره. لحقت بالقطار في آخر لحظة. كان بداخلي إيمانٌ مبهمٌ بأن إجازة قصيرة كهذه بصحبته كفيلة بضخ الدم من جديد في عروق حياتي الجامدة. ثلاث ساعات امضيتها في القطار مع ذكريات عمرنا الشاب الرائع. اتجهت بعدها لمنزله مباشرة. فتح لي الباب طفل صغير، ما ان رآني حتى دخل مهرولاً لمناداته، وما ان رآني حتى طفرت الدموع من عينيه فرحا وهو يضم جسدي المنهك

– يخرب بيت أبوك، كم ليلة مضت، ووجهك الحزين يطارد أحلامي! واحشني يا ابن الكلب.

تزوج، وأنجب، وربى كرشا وترهلات لا بأس بها، ولكن لا شيء تغير فيه حقيقة. لازال على عهده القديم. يبدو أصغر مني برغم انه لا يفرق بينا ميلادينا سوى شهر واحد.

بعد الغداء أخذتنا أحاديث الذكريات، وأخبار البلدة، ومن عاش ومن مات، حتى جاء اسمها في معرض حديثنا، فبادرته بالسؤال عنها..

  • عبير!

تأمل وجهي للحظة في دهشة ثم أغرق في الضحك

  • –         والله لا زلت على ضلالك القديم!

كانت “عبير” هي الحب الأول، حب سنوات المراهقة الأولى. ركن ركين في القلب، قد تنساه، لكنه موجود دوماً في انتظار أن تفتح بابه، فيغرقك بالعبق والحنين. حب لم يفقد من قيمته شيئا، ولا يخفت بريقه مهما مضت به السنوات، وعلاه تراب الذكريات. أتى في صمت، ومضى في صمت دون حتى أن أعبر عنه أو أبث سره في أذن صاحبته. هو فقط من كل العالم كان يعرف بهذا الحب المكتوم الذي لم تعرف به حتى هي.

ضايقتني رنة السخرية في صوته لكنني تجاهلتها، كان يعتريني الفضول للمزيد من أخبارها، وفي ذهني خاطر جنوني. تركته يستطرد..

نعم، تزوجت، ومات زوجها دون إنجاب أولاد. صارت أرملة وحيدة. مات كل أهلها تاركين اياها في بيت طويل عريض..

  • هل من الممكن أن تساعدني لكي أراها ولو حتى من بعيد؟

تفرس في وجهي مستنكرا..

  • جننت أنت! أفق يا “كمال”. أنت رجل متزوج وكبير، مغامرات الصبيان لم تعد تصلح لنا.

 وكأنه قرأ خواطري المجنونة، لكنني حاولت طمأنته

  • –         سأطلبها للزواج يا أخي. أنا حر! فلا تحرم ما أحل الله.

تحول استنكاره إلى غضب وحنق..

  • تطلب من للزواج؟! عبير! والله أنت مجنون.

 برغم ما اعتراني من حرج لكنني لم أستسلم له

  • ولمَ لا؟! أنا رجل مقتدر، وأستطيع اعالة بيتين، ولو لم ترد ترك البلدة والسفر معي إلى القاهرة، لن تكون هناك مشكلة أيضا!

مط شفتيه وهو تهدئة نفسه..

  • يا “كمال”! أنت لا تعرف شيئا، انظر إلى نفسك، لقد كبرت، وتغيرت، وصرت موظفا وأبا. لم تعد كما كنت.
  • –          ماذا تقصد؟
  • –         ألم يخطر لك أن تكون قد تغيرت هي أيضا؟

مال علي وعيناه تلتهم وجهي..

  • –         معك 100 جنيه في جيبك؟

في البداية لم أفهم، لكنني سرعان ما استوعبت الموقف من كلامه بعد ذلك، عبير لم تعد عبير.. البلدة لم تعد البلدة.. حتى هو لم يعد هو، فكما تنازلت البلدة عن أرضها الزراعية لصالح بيوت السمنت والطوب الأحمر وأطباق الدش فوق أسطحها، تنازلت عبير عن شرفها لمرات لصالح الفائض من جيوب العائدين من بلاد البترول، ينثرونه تحت قدميها وفوق جسدها. هو أيضا تغير، صار يعيش من بيع الحشيش والحبوب لأبنائهم.

تشوهت اللوحة القديمة في عيني. عرفت أن كل شيء مات، ولا سبيل للبحث عن الحياة حتى في جذوري. ركبت القطار، وعدت للقاهرة، أمشي في شوارعها، وأنا أطالع وجوه الماضين فيها بنظرة جديدة.

لم يكن وجهي هو الوحيد الفاقد للحياة كما كان يهيأ لي حين أراه في المرآة. كل الوجوه كانت ميتة بطريقة ما.

 الموت حل في الجذور هناك منذ البداية، ودون أن نشعر به.. أخيراً توصلت للحقيقة. كلنا أوراق ماتت لجذع ميت وجذور ماتت من زمن!

السؤال – قصة لـ “مصطفى يونس”

ليلة باردة، ولكن القلوب ملؤها الدفء، تهيم بالقرب والتسبيح. كان القمر في السماء يقاتل بين أمواج من غيوم لا تنتهي، كذلك النور في صدري كان يقاتل.

كنا متحلقين حول النار، وقلوبنا متوجهة قبلة شيخنا، وكان صامتاً مطرقاً يتمتم بالتسبيح، وعيناه لا تفارق لسان اللهب المتراقص.
انطلق أحدثنا سناً وأحدثنا لحاقاً بالطريق وسأل..
 – يا سيدنا! شهور مرت والدروب تحملنا إلى الدروب. تركنا الوطن والديار والأحباب، وما عرفنا أبداً إلى أين!
انفجر السؤال في الوجوه؛ فاهتز لسان اللهب مع رعشة عودة القلوب لمقام الحيرة بعد حال الطمأنينة واليقين…

حقاً، إلى أين؟
بعضنا تبع في طاعةٍ سنيناً، تناسى فيها السؤال حتى نسيه..
طافت عينا الشيخ في عيوننا في لوم وعتاب حنونين؛ فطفت بالخواطر على الفور الإجابات التي عرفنا منذ القدم وأنسانا الشيطان إياها للحظات..
“المعشوق وطن العاشق”

 “خاب في العشق من سأل رفاق درب العشق: إلى أين؟”

“الغاية معروفة والمعشوق مقصد كل مسلك ومنتهى كل طريق..”
وقبض حفنةً من الرمال وذراها في وجه صاحب السؤال؛ فاختفى كأن لم يكن؛ فعرفناه، واستعذنا باسم الله الأعظم
قال معاتبا..
– مازلتم تقتربون، ومازال يغريكم بالظلام المطمور في قصعة نور السؤال المكذوب كما أغرى أباكم من قبل بالخلود والتفاحة. فلذنا بصمت الخاطئين.

البكاء لعيون “كريستينا” – قصة: مصطفى يونس

“مقتبسة عن واقعة حقيقية”

اهداء
لروح “كريستينا”..

“ايرينا بلينكينا”

بطرسبورج

كان صباحا باردا، وكانت سماء “سان بطرسبورج” معتمة بالغيوم و بلا شمس تقريبا، وكان الطريق من تلك الضاحية البعيدة على أطراف المدينة  وحتى وسط المدينة مغطى تماما بالثلوج بطريقة تنبئ بعدم نجاح كل محاولات السكان وجرافات البلدية لتنحيتها ، ولكن ذلك لم يثن “ايرينا بلينكينا” عن تلك الزيارة التي كانت قد عزمت على القيام بها منذ عدة أيام،

استمر في القراءة البكاء لعيون “كريستينا” – قصة: مصطفى يونس

“الرجل البدين..” – قصة لـ “مصطفى يونس”

يطالعني كل صباح ذلك الشخص البدين الذي يكبرني بسنوات، وأنا أمشط شعري أو أصلح هندامي استعداداً للخروج لعملي، يبتسم كأنه يعرفني، ويلوح بتحية الصباح..
وفي كل مرة أردها بملامح عابسة وحاجبين معقودين مستغربا ذلك التباسط الغير معهود من شخص لا توجد بيني وبينه سابق معرفة أو اختلاط. إنه لا يقتحم فقط مرآتي، بل ولاحظت مؤخراً، حين دققت، أنه يقتحم انعكاس صورتي في عيون الناس.
هذا الصباح خطر في بالي أن أعرج على محل للملابس.. 
اقترب مني البائع باسما.. 
–  سيدي! لا أحسب أنك ستجد مقاسك في هذا الركن بالذات.
اجتاحني غضب عارم للهجته المطعمة بالسخرية، وهممت أن أصيح في وجهه لاعناً سماجة شخصه وقلة ذوقه، غير أن التفاتة مني لعينيه جعلتني ألوذ بالصمت، كان ذلك الرجل البدين الذي يكبرني بسنوات هناك. كان مقتحماً صورتي، ويقبع في سواد عين البائع بدلاً مني.

قصة “حارتنا” – مصطفى يونس

أهل حارتنا طيبون، متدينون بالفطرة، أو هكذا كان لسان حالنا، حتى لاح الاختبار الحقيقي لكل ما توهمناه عن أنفسنا متمثلا في العمارة الضخمة في الميدان.

انتصبت من العدم كوحش مبهرج ضخم بواجهة زجاجية عملاقة، وتحتها افتتح بار صغير تعلو بابه لافتة مضيئة بألوان راقصة.

في البداية دارت سيرة البار والعمارة الفارهة على استحياء بين أهل الحارة ما بين الاستنكار والفضول. في المقهى حيث يجتمع الجميع حمل “عابد النوري” مدرس الالزامي بالمدرسة الأميرية لواء المعارضة..

مثل هذا المبنى لا يحمل لحارتنا سوى القلاقل والفتن، وهذا البار سيكون منبعا لآثام لم نعرفها من قبل ستهدد سلام حياتنا.

فضحك “عطا الشياح”..

“يا أستاذ “عابد”! أنت أول المتعلمين في حارتنا الجاهلة، فكيف تعادي التطور؟!”

بينما صاح “نعيم” السمسار..

“مبنى كهذا سيحمل لحارتنا الخير، وأول الغيث أنه سيرفع قيمة كل متر في محيطه وذلك أول الغيث.”

 ثم بدأت الأخبار تتواتر حول البار الذي أصبح، خلال وقت قصير، قبلة القاصي والداني من أولاد الذوات من مختلف أنحاء المدينة الكبيرة، بدأنا نلاحظ تراص أنواع مختلفة من السيارات الفارهة التي لم نعرفها من قبل ولم نكن نعلم بوجود مثلها في مدينتنا الفقيرة. في البداية بدا وكأن في الأمر سراً لافتاً، غير أنه سرعان ما اتضح للعيان حين قال به “عمران العايق”..

“البار يبيع المخدرات بأسعار رخيصة وليس فقط الخمور.”

وكان “عمران العايق” عربجي فظ من أهل حارتنا لجأ إليه أصحاب البار في قضاء حاجاتهم، قبل أن يلبسوه زيا نظيفا يتناقض مع خلقته الغليظة الملامح، ويستعينوا به لتنظيم وقوف السيارات في الجراج الخاص بالمبنى الضخم، كما استعانوا بسواه من أهل حارتنا في أماكن مختلفة خاصة بشئون العمارة بعد ذلك؛ ومن هنا انتشرت معلومات جديدة عن المبنى الغامض.

فالبار إلى جانب نشاطه المشبوه، يعد واجهة بسيطة لما يجري حقيقةً في الأدوار العليا من أنشطة أكثر رواجاً تتستر بالواجهة الزجاجية البراقة، حيث تغدق الأموال على طاولات القمار وتحت أقدام الجميلات في غرفها المغلقة، بل وانتشرت أخبار شتى تناقلتها الألسن كالأساطير وأسماء وزراء ورجال أعمال وملايين وصفقات ضخمة من المستحيل التحقق من صحتها، ولكنها جعلت من المبنى قلعة حقيقية تسمو بقامتها فوق القوانين، كانت كفيلة أيضاً بمداعبة أحلام البعض..

على العموم، فقد نشأت في وقت قصير بين أهل حارتنا أنواع جديدة من المهن التي لم نكن نعرفها من قبل، وأغلبها مرتبط بالمبنى وما يدور فيه أو من حوله، وكلها – في الغالب – كانت مربحة لأصحابها، وكفلت لأحوالهم – التي نعرفها جيدا- انتعاشاً لا يخفى على متابع. وبدأت حارتنا ببطء تسفر عن وجه مرفه نوعاً لمعيشة أهلها، بان جلياً في ملبسهم وما يفوح منها من روائح وعطور؛ بدا لنا بأن نبوءة “نعيم” تتحقق بالفعل، لم تلق تحذيرات العقلاء بخطورة ما يجري بين جدران المبنى الجديد أي استجابة تذكر؛ فسكتت ويأس أصحابها، وكان يبدو لنا أن هذا سيدوم إلى الأبد..

ومرت الأيام على أهل حارتنا كحلم سعيد يعدهم ويعد أبنائهم بالمزيد من الثراء وطيب العيش، حتى جاء اليوم الذي استيقظنا فيه على خبر مقتل “عطا الشياح” واختفاء ابنه “سراج” الطالب بكلية العلوم. كان وقع الصدمة على الجميع عظيماً كالصاعقة. دارت قصص عدة سمعناها عن كونها جريمة معتادة، ضلعاها الإدمان والسرقة، غير أن جهوداً مجهولة سارعت لوأد التحقيق في بدايته وحفظ القضية في أدراج النيابة بعد قيدها ضد مجهول، وكان واضحاً للعيان أن هناك من لم يرد – وبأي ثمن – أن يأتي ذكر المبنى وما يدور حوله في التحقيق.

ما لم يكن لنا في حسبان أن مقتل “عطا” كان فاتحةً لنوع جديد من الجرائم لم تعهدها حارتنا من قبل على مدار كل ما مر بها من عصور.

  على المقهى الذي صار يضج بالغرباء، سمعت شيخ الزاوية الضرير يقول..
” لا تشتعل قناديل القديسين إلا في قلب العتمة، أما الشموع الذابلة فتنطفئ مع أول هبة للنسيم.”
و كثيرا ما لفت نظري وهو يبتسم للأطفال الذاهبين إلى الكُتاب خائفين من تمايل السكارى في الطرقات.