أرشيف الأوسمة: هالة البدري

(شهادة فى الكتابة) : الأستاذة هالة البدري

التحولات

هالة البدري

حين أتأمل ما كتبت، وما مر بحياتى حتى الآن أجد أن أعمالى تشبه أسلوب حياتى إلى حد كبير، وأن وراء كل عمل قصة تحول قصرى بالحديد والنار، تحول بقرار أتخذته بوعى شديد، ربما بقلب بارد أيضاً وبدون تردد .

وإذا ما أخذت خطوة الأى الوراء لكى أتأمل معكم بحياد ما فعلته بحياتى وبالكتابة فلابد وأن أعترف لكم بأنى لا أعرف مصدر تلك القوة الداخلية التى ترفض بعد تأمل طويل وصامت إلى اتخاذ تلك القرارات التى أراها الآن مرعبة، وان كانت ضرورية، والتى صدرت عنى فى لحظات فارقة لتعيد تشكيل حياتى، والكتابة معاً،

وسأبدأ معكم بتأمل التحول الأول :

كنت قد نشأت فى أسرة مثقفة واعية تقدم لأبناءها الفرصة لممارسة رياضة يومية، وتتيح لهم التعامل مع عناصر الثقافة المتنوعة، وقد التحقت بعد عدة تجارب لرياضات مختلفة بفريق سباحة، وحصلت على بطولة الجمهورية وبعض البطولات الدولية، وأتاح لى البرنامج التثقيفي الأسرى التعرف على الأدب والعلم والفلسفة والدين والتاريخ، وحين لاحظوا ولعى بالقراءة حفزونى على الإشتراك فى مكتبة المدرسة والنادى، وهكذا سار الخطاف الرياضى والثقافى فى حياتى فى نمو مطرد معاً، وكنت قد بدأت أحلم بالكتابة؛ فكتبت الشعر والخواطر فى الثانية عشرة من عمرى، ورحت أهيئ نفسى بوعى شديد لأن أكون كاتبة حتى جأت لحظة التحول مع دخولى الجامعة إذا اشتركت فى عامى الأول فى إصدار مجلة الكلية، وجاء بعض الصحفيين لينقلوا أحداث الحركة الطلابية عام 1972 فأخذونى معهم إلى مجلة روزاليوسف .

وتعارضت الكتابة للمرة الأولى مع بطولات السباحة التى كانت تقتضى تدريباً يوميا لست ساعات وتصل إلى تسع أثناء الاستعداد للسباقات، وكان علىّ أن أتخذ القرار، ولم أكن أكملت الثامنة عشرة من عمري بعد، وقررت الاعتزال دون لحظة تفكير واحده حتى أعمل فى روزاليوسف، ناقشتنى أسرتى، وطالبونى بمراجعة القرار لأن مستقبلى الرياضى مفتوح لحصد ثمار تعب السنوات الطويلة؛ فأعطيت ظهرى للأمر كله، ولم أشاهد سباقأ واحدا إلا بعد سنوات طويلة فبكيت .

عملت بالصحافة، وأنا أرعى امتلاك أدوات الكتابة كل يوم، وصدقت أن كل ما أكتبه قادر على تحقيق حلمى بأن أكون كاتبة للأدب و للمسرح على وجه الخصوص، لأننى تعلمت من درس البطولة الرياضية أن الأحلام تتحقق بجهد صاحبها، فقد أخضعت نفسى لنظام قراءة صارم يجعلنى أقف على قاعدة معرفة صلبة للتراث و الأدب العربى والعالمى .

فلما تخرجت من كلية التجارة جاءنى أبى بفرصة عمل فى فرع شركة أجنبية تعطى مرتباً يصل إلى تسعين جنيها عام 1975، وكان مرتب خريج الجامعة يبلغ سبعة عشرة حنيها لا غير، وتعطينى مجلة روزاليوسف عشرحنيهات، قررت الإستمرار في روزاليوسف، وفضلت الجنيهات السبع (بعد الخصم) .

وحين جاء رجل يطلبنى للزواج وسط حماس الأسرة الشديد له، وحاولت الإفلات فلم أفلح، وشرحت له أن الكتابة هى كل حياتى، وأننى لن أعمل إلا فى الصحافة، وسأكتب فى الأدب ماأشاء بحرية شديدة دون تدخل منه سألنى : إذا تعارضت الكتابة مع مصلحة الأسرة هل تختارى الكتابة ؟ قلت أنا فرد فى هذه الأسرة ومصلحتى هى فى الكتابة الحرة؛ فكيف تتعارض مصلحة الأسرة مع مصلحة أحد أفرادها ؟ مصلحة الأسرة تتطوع حسب ظروف أفرادها، سأختار الكتابة لأنها مصلحة الأسرة.

وافق على الزواج منى وأشهد أنه رعى حريتى وساندنى، وكنت أنا من يتردد أحياناً، وأغلب القرارات التى تفيد راحة باقى أفراد الأسرة حتى لو جاءت على حساب الكتابة، وأقول بلا تردد أن حريتى قد نقصت كثيرا حين غاب عن الحياة، وحين أسأل نفسى الآن هل كنت سأقبل الزواج منه
إذا لم يقبل بحريتىٍ المطلقة فى العمل والكتابة ؟ أقول لم أكن لأقبل.

كنت فى الثامنة عشرة ، عملت بالصحافة، وانتقلت للعمل كمراسلة صحفية لروزاليوسف فى بغداد فور تخرجى لكى ألحق به،ورحت أنشر القصص القصيرة، وأخطط لثلاث مشروعات روائية، الأول كان بعنوان “سفينة النساء”، وموضوعه الحب، وقد استبعدته لأننى لا أريد أن أكتب عن الرجل بإعتباره هدفا مثل أجيال من الكاتبات سبقتنى، الثانى بعنوان “ألوان الطيف السبعة”، وكان موضوعه جماعة المغتربين المصريين فى العراق، وبدأت بالفعل فى كتابة الرواية، ووضعت على الطريقة المحفوظية ملفات لشخصياتها، وبعد أن قطعت شوطا لا بأس به قررت التوقف، كنت قد لاحظت بمناقشتى لزميلى وأستاذى فى الصحافة فتحى خليل أن نظرتى لهؤلاء المغتربين والسياسين منهم بصفه خاصة هى نظرة شديدة الإدانة، وسألت نفسى إن كان الابتعاد عن بغداد واكتساب خبرات فى الحياة يجعلنى أغير رأيى فيما أرى وما أكتب، واخترت أن أؤجل كتابة العمل وعدت إلى مشروعى الثالث لاأبدأبه، وكان فريق للسباحة أولاً: لأننى أعرف هذا العالم، ولا أحتاج للكثير من البحث حتى أقدم أبطاله، وثانياً: لأنه لم يسبق أن قدم مجتمع الرياضة فى الرواية العربية رغم أن احسان عبد القدوس كتب عن مجتمع الأندية لكنه اكتفى بعالمهم الإجتماعى ولم يقترب من الملاعب..

وكان هذا هو التحول الثانى :

وجاءت الرواية رواية عن النمو بصبيه يتحسسون الحياة بوجل للتعرف على  العالم وسواء تم هذا بوعى أو بدون وعى فقد تسربت قضية الحرية لتحتل الرواية، وتكشف النقاب عن جماعة تعيش فى مصر فى الفترة من منتصف الستينات حتى عام1973، ونتسأل عن معنى البطولة والولاء لقائد نجح أن بسير بها إلى هدفها لكنه سرق روحها حين كبلها.

حيت أتأمل الآن هذا القرار الصارم بالتوقف عن كتابة رواية الاغتراب، وعدم الرجوع إليها مطلفاً طوال ربع قرن أحتار فى نتائجه لأننى حين عدت إليها وكتبتها حزنت بشدة على تركى لها وعدم تدوين ماكنت أدونه من ملاحظات بدت ساخنة وطازجة فى فترة من أخصب فترات العراق، لكنى فى ذات الوقت أكتشفت أننى قد غيرت نظرتى بالفعل لتلك الجماعات السياسية التى كانت تتحرك أمامى، ورحمت الكثير من الشخصيات التى تعاليت عليها فى حينها لأننى لم أر إلا الصغائر الإنسانية، ونسيت فى غمار ضيقى منها أنها جماعات تناضل من أجل الحرية، وتدفع ثمن ثمرها على الأنظمة بالتشرد، والنفى، والفقر، والرقت من الأعمال، وغيرها من أثمان التى كنت أعرفها نظرياً فحسب مع قلة خبرتى وصغر سنى، نعم أطتنى الحياة و السنوات الماضية نظرة أعمق أرى بها الضعف الأنسانى بعين رحيمة، ومنحتنى الفرصة لتقدير هؤلاء البشر، وتقديم حركتهم بشكل أعمق، وإذا قدر لهذه الرواية أن تصدر (تحت الطبع) سأكون مدينه لقرارى الصارم بالتوقف عن كتابتها فى ذلك الزمن بخروجها على ما هى عليه الآن.

بعد ست سنوان من العمل مراسلة صحفية فى بغداد قررنا العودة إلى القاهرة عام 1980 ليدخل ابنى المدرسة ووقفت حائرة، أريد أن أذهب إلى بيروت لرصد تجربة المقاومة، والدخول فى معترك الصراعات العربية، مؤمنه تماماً بأننى يأخسر كثيراً إذا لم أعش هذه التجربة مع المقاومة الفلسطينية، والعمل فى صحفها ليس من أجل الصحافة، ولكن من أجل تكوينى كاكاتبة عربية، ووقفت حائرة بين زوجى الذى وافق على سفرى وحيدة إلى بيروت، وعودته وابنى إلى مصر، لكننى أتخذت قرارى بالعوده معهم، وظل هذا التحول يؤرقنى مدي الحياة لأنه طبع حياتى ببصمة التوازن ولم أستطع الإفلات من الحياة تحت وطأة غزل حبل التوازن إلا بصعوبة، وبقرارات صارمه أيضاً.

كان هذا هو التحول الثالث:

حين عدت إلى القاهرة لاحظت فى قريتى  تحول المجتمع والإنتاج من النظام الزراعى التعاونى إلى الصناعى التجارى؛ فرصدتها وعشت سنة كاملة فى القرية، وكتبت مسودة عمل بعنوان “بيضة من خشب”، ثم جاء قرارى الحاسم بعدم النشر، وعمل بحث طويل عن الفلاح المصري وتاريخه القديم والمعاصر..

 ليكون التحول الرابع:

إذا كانت الرواية التى قرأتها طموحة وكاتبها ضعيف، واستمر عملى على هذه الرواية عشر سنوات كاملة دونت خلالها عدة أفكار لمشاريع روائية، وضعتها فى ملف وأغلقته، وكتبت قصصا قصيرة، وأصدرت مجموعتى الأولى “رقصة الشمس والغيم”، وثم “أجنحة الحصان”، والتى كتبتها وأنا غاضبة أحاول أن أفهم بالكتابة لماذا يقبل الإنان بالهزيمة؟، وهل ينهزم دون أن يقطع نصف الطريق إلى السقوط؟، وقد تركتنى هذه المجموعة وأنا أسأل نفسى عن الوسيلة التى تمكننى من قلب الإنسان الذى خاطبته بعنف؛ فقررت أن أجعله يستمتع وأن أتسلل إليه بأفكارى بهدوء، ساعتها حلت كل المشاكل الفنية التى صادفتنى، وأنا أخطط لمشروع رواية، وبدأت فى الكتابة التى استغرقت ثلاث سنوات آخرى وكونت قاموساً خاصاً بالأرض استخدمته فى الصياغة النهائية فى محاولة للإقتراب من الفلاح الذى أحببته، وفتنت بعشقه للحياة، ومحاولاته لغزل الفرح بأبسط الخيوط، وقدمت بانوراما عن الحياة فى قرية مصرية فى الفترة من الحرب العالمية الأولى وحتى أزمة مارس 1954م.

الآن وأنا أتأمل قرارى بعدم نشر روايتى “بيضة من خشب”، والتى أفرخت ـ معذرة ـ روايتين هما “منهى” ، و”ليس الآن”، ورواية ثالثة لم أنته منها بعد، أجد أننى لم أكن مخطئة فى قرارى رغم أننى دفعت ثمنه أربعة عشر سنة من العمل المضنى، بل على العكس فلم تكن “منتهى” هى رحلة بحث عن الفلاح المصري، بل كانت رحلة نمو لأدواتى كان لابد منه حتى أستطيع أن أكتب رواية تقدم نقلة نوعية مختلفة عما قدمته فى روايتى الأولى “السباحة فى قمقم”.

توقفت كثيراً وأنا أسأل نفسى عن المرحلة التالية لهذا المجتمع، ماهو المسار الذى اختاره لكى يُعبَّر عنه، لم أجد مفراً من أن أختار الصراع العربى الإسرائيلى موضعاً للجزء الثانى من”منتهى”، والذى كتبته كرواية متصلة منفصلة يمكن قراءتها دون قراءة الجزء الأول، واخترت بطلى ضابطاً فى القوات المسلحة، وهو ما استدعى العودة إلى البحث لكى أتعرف على عالمة العسكرى، فلم تعطنى الحياة فرصة الإشتراك فى الجندية، أو حتى الإحتكاك بها، وظهرت الرواية بعد أربع سنوات بعنوان “ليس الآن”.

كانت قد تراكمت مادة واسعة للجزء الثالث لكننى بعد ثمانية عشر سنه من العمل كانت قد تاقت نفسى لأكتب رواية تدور أحداثها فى المدينة فى الزمن الراهن؛ فتلركت مشروعى، وانتقلت إليها، وكتبت رواية عن التحقق فى الحياة، عن الصراع الذى يعيشه المثقف بين رغبات وامكانيات تحقيقها..

وكان هذا التحول الخامس :

وكنت إذا كتبت قصة قصيرة أكتب مسوداتها الأولى، وأتركها خوفا من أن تخرجنى من العالم الذى يستغرقنى، وبعد انتهاء الكتابة فى “امرأة ما” قررت أن أتفرغ لهذه القصص، ,أعدت كتابتها وأصدرت مجموعة قصصية بعنوان”قصر النملة”، ثم دخلت بجهد ثقيل فى معركة مع نفسى لكتابة سيرة ذاتية موضوعها الموت، ولم أستطع أن أنشرها..

وكان هذا التحول السادس :

وحتى أستطيع التحدث عن هذا القرار الصارم بعد النشر والإنتقال إلى كتابة روايتى”أيام منسية من دفتر بغداد” اعتماداً على مخطوطى الأول الذى كتبته فى العراق عام 1977، وأنا فى الثانية والعشرين من عمري، لابد أن أحكى لكم قصة الصراع المستمر بينى وبين الرقيب الداخلى لعله يلقى الضوء على هذة التحولات.

أعترف أن المسكوت عنه فى الحياة، ما نتواطأ على اعقاله، ونتعامل معه باعتباره غير موجود، هو أحد المناطق التى أهوى اللعب فى مضمارها سواء أكان المسكوت عنه خارجيا فى حركة المجتمع أو داخليا فى الذات نفسها، فهو منطقة غنية جديرة بمتابعة الخيوط والفرص فى الأعماق حتى لو عجزت اللغة لطول ما عانت من قلة الاستخدام للعبير عن هذا المختفى.

منطقة تحتاج فى الغالب إلى نحت لغوى خاص ليعبر عما تفاجئه بالضوء، والمسكوت عنه الحافز الأول لظهور الرقيب الداخلى، ولقد عانيت من هذا الرقيب كتابتى لروايتى ليس الآن بسبب موضعها الشائك : ضابط لا يقبل بتوقف الحرب مع إسرائيل، لقد سألت نفسي وأنا ابدأها ماذا سأفعل مع الاف المحاذير التى يلقها هذا الرقيب أمامى وأنا أفكر؟، أعترف أننى أحببت بطفولة شديدة أن سأزيحه من طريقى، لأن الكتابة هى فعل الحرية الوحيد الذى أمارسه، كيف أحدد حريتى بيدى ؟، لكن مواجهه المؤسسة العسكرية المصرية بالنقد أمر لا يمكن التعامل معه بهذه البساطة، القلق يفاجئنى وأنا أقود السيارة، والحراره والضجر يذهبان بأعصابى فأكاد أجن لأن لا شئ يقهره، ولا حتى ضغطى على البنزين، وارتطامى بخط السير، أختار إذن أسوأ الأوقات للإنفراد، وأكثرها ضعفاً، وحين أكون بعيدة عن الورقة والقلم لأنهما كانا السلام الوحيد الذى حاربته به، واستطعت بعد جهد إقناع نفسى بأننى قهرته، ورضيت عما كتبت لكنى أحياناً أسأل نفسى هل حقاً أزحته ؟ أم أننى أسكنته الأعماق، فراح يعيد ترتيب الأشياء قبل أن تصل إلى الوعى ؟ سؤال لا أهرب من الإجابة عليه خاصة وأننى لا أؤمن بالحلول الوسط ولا أنصاف الأشياء.

لم أسمع أى اعتراض من أى جهه رقابية على الرواية بعد صدورها، وطبعت فى مطابع الدوله فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأعيدت طباعتها مرة ثانية فى مشروع مكتبة الأسرة أيضا كاملة، لكن ناقدا واحدا من الذين كتبوا عنها لم يأت إلى ذكر أزمة هذا الضابط مع المؤسسة العسكرية، وتناولها من جوانب آخرى تماماً، لقد عمل الرقيب الداخلى مع الناقد أكثر بكثير مما فعل معى.

هكذا وصلت إلى رواية “إمرأة .. ما”، وأنا أشعر براحة وثقة تدفعنى لكتابة ما شئت واخترت موضوعاً شائكا عن امكانية التحقق، واخترت الحب بين المرأة والرجل روحا وجسدا متسلحة بإيمان حقيقى فى امكانية الدخول إليه، والتعبيرعنه حتى أصل لما أريد وراح الغزل يتحول إلى نسيج متماسك بعدما يزيد على ثلاث سنوات، وكدت أكتب كلماته، ولكن أحداث “الوليمة” فاجأتنى ذات صباح فأضطرب الغزل فى يدى، ورحت أتأمل مزيد من الأسئلة الصعبه عن المناخ الذى يعيش فيه الكاتب وتأثيرة على كتاباته، وبعد حوار طويل مع نفسى انتهى بهدوء إلى دخول هذه الأسئلة جسم الرواية التى كنت أصغيها فى ذات اللحظة، وأن تكون اجابتى كما قال بطلها عمر مأمون الكاتب الروائى: أراهن على حضارة السبعة ألاف عام، وأقرر أن أنشر روايتى كما هى تخزنى الشكوك : هل تقبل دار نشر الآن ما أكتب ؟.

أجيب بروح مرحة تتفاءل بالمستقبل حتى لو لم أجد فى مصر سأجد فى بيروت أو فى المغرب، ستقبع فى الأدراج إلى أن يحين نشرها، ولن أغير منهجى لأخضع للظلام .

نشرت رواية “امرأة .. ما” أول دار نشر عرضتها عليها وهى دار الهلال، وقرأتها مطبوعة بتأن فوجدت أن كل محاولاتى للفكاك من الرقيب انتهت بانتصار ما .. له، لأننى رواغت كثيراً فى الكتابة، ولم أسم الأشياء بأسمائها أبداً، تأملت هذا باسمة، وقبلت أن يستمر اللعب بيننا، لكن ما فاجأنى حقيقة هو الفارق الشاسع بين موقف القارئ العادى من الرواية، وموقف القارئ المثقف إذ أخبرنى عدد كبير من المثقفين، والكتاب بصفه خاصة بخشيتهم من خلط الأوراق بينى وبين بطلة الروزاية التى تعيش حياة مزدوجة بين الزوج والحبيب، وقال لى كل منهم على حدة إنه يفهم دوافعى لكتابتها، لكنه يخشى من ودمواقف الآخرين، فى حين لم يسأل القارئ العادى أى أسئلة من هذا النوع، ولم ينشغل إلا بما أردت قوله بالفعل، وما مسّ حياته.

فأحتفى بها احتفاء خاصا ومازال يدهشنى حتى الآن، ذلك أننى فتحت جرحا كان يبدو لى متقيحا؛ فإذا به يكشف عن خلل يكاد يودى بالحياة نفسها.. (غرغرينا).

وتصورت أننى قطعت شوطا بعيدا فى الكتابة بحرية، تلك الحرية التى لا أتصور كتابة حقيقية بدونها، ولا كاتباً عظيماً يتردد فى ولوج دربها، حتى قررت أن أكتب رواية سيرة ذاتية تعتمد على لحظة انسانية بالغة الصعوبة، الإنسان فى مواجهة موت أقرب الناس إليه، تصوت أننى بما أمتلكه من أدوات فى رحلتى قادرة على الدخول إلى الموضوع بثقة، ورحت أعيش مقاومة الإنهيار بالكتابة؛ فلما انتهيت منها اكتشفت أننى لم أستطع بلا أقنعة أن أكتب مشهداً حميماً واحداً، على عكس ما حدث فى كتابة “امرأة .. ما”، ورغم أننى أعلم صعوبة أدب الإعتراف لأننا لم نُدَّرب عليه، وقامت الحضارة الغربية على فكرة التطهر المسيحية بالأعتراف إلا أننى لم أجد هذا عذرا مناسباً لأن تكون الرواية ناقصة من وجهة نظري كناقد أول لعملى، واتخذت قرارا بعدم نشرها حتى أصل لحل اهذه المعضلة إما بالشجاعة، وكتابة هذا الشأن، وإعطاء التجربة نفسها لأشخاص متخيلين، وفتح باب الحرية أمام الخيال لكى يقوم بفعله على راحته.

لهذا حين قررت أن أكتب روايتى”أيام منسية من دفتر بغداد”، وكان الإغراء كبيراً لأن أكتب شهادة أو سيرة ذاتية استبعدت الفكرة على الفور، وأعطيت احدى بطلات العمل تجربتى وخبرتى عن بغداد لكننى لم أعطها ذاتى، وبنيت شخصيات وهمية تحمل عبء الرواية عن كاهلى، حتى أتمتع بالحرية التى لا أدرى عملا أدبياً أو فنياً بدونها.

أما كيف أختار شخصياتى فهو موضوع تنفتح أمامه كل الطرق؛ أحيانا من الخيال الكامل أبدأ من فكرة وأظل أركبها حتى تتحول إلى لحم ودم وأحياناًمن صنعة أراها فى احد الأشخاص فأخذها، وأنسج حولها شخصيتى وأحيانا من حدث أو من فعل يقوم به شخص لا أعرفه أمامى أو يحكى لى عنه أما الأشخاص الذين أحببتهم ورغبت فى الكتابة عنهم؛ فقد عجزت إلى حد كبير عن تقديمهم فى كل عمل فنى وأجلت هذا حتى تزداد خبرتى بهذا الفن ، وأظن أننى فى المرحلة القادمة من حياتى سأقدم بعضهم.

أما كيف ألتقط الفكرة، ففى كل مرة كان المصدر مختلفاً، بدءا من شخصية تستهوينى؛ فأقرر الكتابة عنها دون أن أعرف إلى أين أو موضوع غامض أحوم حولة حتى أمسك طرف الخيط، أو حادث معين يستفزنى، لكننى لا أبدأ بالكتابة إلا بعد استفزاز طويل، وحالة عاطفية تتملكنى نحو عالم أريد أن أعرفه فأبدأ المناوشات معه.

وفى بعض الأحيان تتولد فكلاة من داخل عما أكتبه بالفعل ؛ فأصدقها وأمشى وراءها، حتى أنهيها، كما حدث مع عملى الأخير الذى هيمن على عفلى ةانتزعنى من وسط الإعداد لروايبة أخرى.

أتصور أن الرواية أو القصة هى التى تختار  شكلها ولم يحدث غير مرة واحدة فى كتابة “امرأة .. ما” أن وصلتى إلى الشكل على الفور؛ ففى كل مرة كنت أقوم بالعديد من التجارب حتى أقرر شكل البناء الفنى.

أما الأسلوب فأعتقد أن كل عمل له أسلوبه أيضأ؛ فالحديث عن قرية وسط دلتا النيل فى بداية القرن يحتاج إلى لغة تختلف كثيراً بخشونتها عن شاعرية اللغة فى رواية عن الحب، واللغة المحددة فى رواية عن الحبيبين، واللغة التقريرية فى رواية عن الغليان السياسى.

التحولات إذن رسمت خريطة الطريق، لكن ما ذكرته منها لم تكن كل التحولات، فقد لعب الرقيب الداخلى معى لعبته فى تحديد الآختيار.

عودة إلى الفهرس

التحـولات (شهادة في الكتابة) هالة البدري

شهادة أدبية

2 تعليق مرسلة بواسطة fawest في 3:53:00 م

مؤتمر أدباء مصر دورة 2008

حين أتأمل ما كتبت، وما مر بحياتي حتي الآن أجد أن أعمالي تشبه أسلوب حياتي إلي حد كبير، وأن وراء كل عمل قصة تحول قصري بالحديد والنار، تحول بقرار اتخذته بوعي شديد، ربما بقلب بارد أيضاً وبدون تردد .وإذا ما أخذت خطوة إلي الوراء لكي أتأمل معكم بحياد ما فعلته بحياتي وبالكتابة فلابد أن أعترف لكم بأني لا أعرف مصدر تلك القوة الداخلية التي ترفض بعد تأمل طويل وصامت إلي اتخاذ تلك القرارات التي أراها الآن مرعبة، وإن كانت ضرورية، والتي صدرت عني في لحظات فارقة لتعيد تشكيل حياتي، والكتابة معاًوسأبدأ معكم بتأمل التحول الأولكنت قد نشأت في أسرة مثقفة واعية تقدم لأبنائها الفرصة لممارسة رياضة يومية، وتتيح لهم التعامل مع عناصر الثقافة المتنوعة، وقد التحقت بعد عدة تجارب لرياضات مختلفة بفريق سباحة، وحصلت علي بطولة الجمهورية وبعض البطولات الدولية، وأتاح لي البرنامج التثقيفي الأسري التعرف علي الأدب والعلم والفلسفة والدين والتاريخ، وحين لاحظوا ولعي بالقراءة حفزوني علي الاشتراك في مكتبة المدرسة والنادي، وهكذا سار الخطاف الرياضي والثقافي في حياتي في نمو مطرد معاً، وكنت قد بدأت أحلم بالكتابة؛ فكتبت الشعر والخواطر في الثانية عشرة من عمري، ورحت أهيئ نفسي بوعي شديد لأن أكون كاتبة حتي جاءت لحظة التحول مع دخولي الجامعة إذ اشتركت في عامي الأول في إصدار مجلة الكلية، وجاء بعض الصحفيين لينقلوا أحداث الحركة الطلابية عام 1972 فأخذوني معهم إلي مجلة روزاليوسف.وتعارضت الكتابة للمرة الأولي مع بطولات السباحة التي كانت تقتضي تدريباً يوميا لست ساعات وتصل إلي تسع أثناء الاستعداد للسباقات، وكان علي أن أتخذ القرار، ولم أكن أكملت الثامنة عشرة من عمري بعد، وقررت الاعتزال دون لحظة تفكير واحدة حتي أعمل في روزاليوسف، ناقشتني أسرتي، وطالبوني بمراجعة القرار لأن مستقبلي الرياضي مفتوح لحصد ثمار تعب السنوات الطويلة؛ فأعطيت ظهري للأمر كله، ولم أشاهد سباقأ واحدا إلا بعد سنوات طويلة فبكيت .عملت بالصحافة، وأنا أرعي امتلاك أدوات الكتابة كل يوم، وصدقت أن كل ما أكتبه قادر علي تحقيق حلمي بأن أكون كاتبة للأدب و للمسرح علي وجه الخصوص، لأنني تعلمت من درس البطولة الرياضية أن الأحلام تتحقق بجهد صاحبها، فقد أخضعت نفسي لنظام قراءة صارم يجعلني أقف علي قاعدة معرفة صلبة للتراث و الأدب العربي والعالمي .فلما تخرجت في كلية التجارة جاءني أبي بفرصة عمل في فرع شركة أجنبية تعطي مرتباً يصل إلي تسعين جنيها عام 1975، وكان مرتب خريج الجامعة يبلغ سبعة عشر جنيها لا غير، وتعطيني مجلة روزاليوسف عشرة جنيهات، قررت الاستمرار في روزاليوسف، وفضلت الجنيهات السبع (بعد الخصم) .وحين جاء رجل يطلبني للزواج وسط حماس الأسرة الشديد له، وحاولت الإفلات فلم أفلح، وشرحت له أن الكتابة هي كل حياتي، وأنني لن أعمل إلا في الصحافة، وسأكتب في الأدب ما أشاء بحرية شديدة دون تدخل منه سألني : إذا تعارضت الكتابة مع مصلحة الأسرة هل تختارين الكتابة ؟.قلت أنا فرد في هذه الأسرة ومصلحتي هي في الكتابة الحرة؛ فكيف تتعارض مصلحة الأسرة مع مصلحة أحد أفرادها ؟ مصلحة الأسرة تتطوع حسب ظروف أفرادها، سأختار الكتابة لأنها مصلحة الأسرة.وافق علي الزواج مني وأشهد أنه رعي حريتي وساندني، وكنت أنا من يتردد أحياناً، وأغلب القرارات التي تفيد راحة باقي أفراد الأسرة حتي لو جاءت علي حساب الكتابة، وأقول بلا تردد أن حريتي قد نقصت كثيرا حين غاب عن الحياة، وحين أسأل نفسي الآن هل كنت سأقبل الزواج منه إذا لم يقبل بحريتي المطلقة في العمل والكتابة ؟ أقول لم أكن لأقبل.كنت في الثامنة عشرة، عملت بالصحافة، وانتقلت للعمل كمراسلة صحفية لروزاليوسف في بغداد فور تخرجي لكي ألحق به، ورحت أنشر القصص القصيرة، وأخطط لثلاثة مشروعات روائية، الأول كان بعنوان “سفينة النساء”، وموضوعه الحب، وقد استبعدته لأنني لا أريد أن أكتب عن الرجل باعتباره هدفا مثل أجيال من الكاتبات سبقتني، الثاني بعنوان “ألوان الطيف السبعة”، وكان موضوعه جماعة المغتربين المصريين في العراق، وبدأت بالفعل في كتابة الرواية، ووضعت علي الطريقة المحفوظية ملفات لشخصياتها، وبعد أن قطعت شوطا لا بأس به قررت التوقف، كنت قد لاحظت بمناقشتي لزميلي وأستاذي في الصحافة فتحي خليل أن نظرتي لهؤلاء المغتربين والسياسيين منهم بصفة خاصة هي نظرة شديدة الإدانة، وسألت نفسي إن كان الابتعاد عن بغداد واكتساب خبرات في الحياة يجعلني أغير رأيي فيما أري وما أكتب، واخترت أن أؤجل كتابة العمل وعدت إلي مشروعي الثالث لأبدأ به، وكان فريق للسباحة؛ أولاً: لأنني أعرف هذا العالم، ولا أحتاج للكثير من البحث حتي أقدم أبطاله، وثانياً: لأنه لم يسبق أن قدم مجتمع الرياضة في الرواية العربية رغم أن إحسان عبد القدوس كتب عن مجتمع الأندية لكنه اكتفي بعالمهم الاجتماعي ولم يقترب من الملاعب..وكان هذا هو التحول الثانيوجاءت الرواية رواية عن النمو بصبية يتحسسون الحياة بوجل للتعرف علي العالم، وسواء تم هذا بوعي أو بدون وعي فقد تسربت قضية الحرية لتحتل الرواية، وتكشف النقاب عن جماعة تعيش في مصر في الفترة من منتصف الستينات حتي عام 1973، ونتساءل عن معني البطولة والولاء لقائد نجح أن يسير بها إلي هدفها لكنه سرق روحها حين كبلها.حيت أتأمل الآن هذا القرار الصارم بالتوقف عن كتابة رواية الاغتراب، وعدم الرجوع إليها مطلقاً طوال ربع قرن أحتار في نتائجه لأنني حين عدت إليها وكتبتها حزنت بشدة علي تركي لها وعدم تدوين ما كنت أدونه من ملاحظات بدت ساخنة وطازجة في فترة من أخصب فترات العراق، لكني في ذات الوقت اكتشفت أنني قد غيرت نظرتي بالفعل لتلك الجماعات السياسية التي كانت تتحرك أمامي، ورحمت الكثير من الشخصيات التي تعاليت عليها في حينها لأنني لم أر إلا الصغائر الإنسانية، ونسيت في غمار ضيقي منها أنها جماعات تناضل من أجل الحرية، وتدفع ثمن تمردها علي الأنظمة بالتشرد، والنفي، والفقر، والرفت من الأعمال، وغيرها من أثمان كنت أعرفها نظرياً فحسب مع قلة خبرتي وصغر سني، نعم أعطتني الحياة و السنوات الماضية نظرة أعمق أري بها الضعف الإنساني بعين رحيمة، ومنحتني الفرصة لتقدير هؤلاء البشر، وتقديم حركتهم بشكل أعمق، وإذا قدر لهذه الرواية أن تصدر (تحت الطبع) سأكون مدينة لقراري الصارم بالتوقف عن كتابتها في ذلك الزمن بخروجها علي ما هي عليه الآن.بعد ست سنوان من العمل مراسلة صحفية في بغداد قررنا العودة إلي القاهرة عام 1980 ليدخل ابني المدرسة ووقفت حائرة، أريد أن أذهب إلي بيروت لرصد تجربة المقاومة، والدخول في معترك الصراعات العربية، مؤمنة تماماً بأنني سأخسر كثيراً إذا لم أعش هذه التجربة مع المقاومة الفلسطينية، والعمل في صحفها ليس من أجل الصحافة، ولكن من أجل تكويني ككاتبة عربية، ووقفت حائرة بين زوجي الذي وافق علي سفري وحيدة إلي بيروت، وعودته وابني إلي مصر، لكنني اتخذت قراري بالعودة معهما، وظل هذا التحول يؤرقني مدي الحياة لأنه طبع حياتي ببصمة التوازن ولم أستطع الإفلات من الحياة تحت وطأة غزل حبل التوازن إلا بصعوبة، وبقرارات صارمة أيضاً.كان هذا هو التحول الثالثحين عدت إلي القاهرة لاحظت في قريتي تحول المجتمع والإنتاج من النظام الزراعي التعاوني إلي الصناعي التجاري؛ فرصدتها وعشت سنة كاملة في القرية، وكتبت مسودة عمل بعنوان “بيضة من خشب”، ثم جاء قراري الحاسم بعدم النشر، وعمل بحث طويل عن الفلاح المصري وتاريخه القديم والمعاصر..ليكون التحول الرابعإذا كانت الرواية التي قرأتها طموحة وكاتبها ضعيف، واستمر عملي علي هذه الرواية عشر سنوات كاملة دونت خلالها عدة أفكار لمشاريع روائية، وضعتها في ملف وأغلقته، وكتبت قصصا قصيرة، وأصدرت مجموعتي الأولي “رقصة الشمس والغيم”، ثم “أجنحة الحصان”، والتي كتبتها وأنا غاضبة أحاول أن أفهم بالكتابة لماذا يقبل الإنسان بالهزيمة؟، وهل ينهزم دون أن يقطع نصف الطريق إلي السقوط؟، وقد تركتني هذه المجموعة وأنا أسأل نفسي عن الوسيلة التي تمكنني من قلب الإنسان الذي خاطبته بعنف؛ فقررت أن أجعله يستمتع وأن أتسلل إليه بأفكاري بهدوء، ساعتها حلت كل المشاكل الفنية التي صادفتني، وأنا أخطط لمشروع رواية، وبدأت في الكتابة التي استغرقت ثلاث سنوات أخري وكونت قاموساً خاصاً بالأرض استخدمته في الصياغة النهائية في محاولة للاقتراب من الفلاح الذي أحببته، وفتنت بعشقه للحياة، ومحاولاته لغزل الفرح بأبسط الخيوط، وقدمت بانوراما عن الحياة في قرية مصرية في الفترة من الحرب العالمية الأولي وحتي أزمة مارس 1954 .الآن وأنا أتأمل قراري بعدم نشر روايتي “بيضة من خشب”، والتي أفرخت ـ معذرة ـ روايتين هما “منتهي”، و”ليس الآن”، ورواية ثالثة لم أنته منها بعد، أجد أنني لم أكن مخطئة في قراري رغم أنني دفعت ثمنه أربع عشرة سنة من العمل المضني، بل علي العكس فلم تكن “منتهي” هي رحلة بحث عن الفلاح المصري، بل كانت رحلة نمو لأدواتي كان لابد منه حتي أستطيع أن أكتب رواية تقدم نقلة نوعية مختلفة عما قدمته في روايتي الأولي “السباحة في قمقم”.توقفت كثيراً وأنا أسأل نفسي عن المرحلة التالية لهذا المجتمع، ما هو المسار الذي اختاره لكي يعبَّر عنه، لم أجد مفراً من أن أختار الصراع العربي الإسرائيلي موضعاً للجزء الثاني من”منتهي”، والذي كتبته كرواية متصلة منفصلة يمكن قراءتها دون قراءة الجزء الأول، واخترت بطلي ضابطاً في القوات المسلحة، وهو ما استدعي العودة إلي البحث لكي أتعرف علي عالمه العسكري، فلم تعطني الحياة فرصة الاشتراك في الجندية، أو حتي الاحتكاك بها، وظهرت الرواية بعد أربع سنوات بعنوان “ليس الآن”.كانت قد تراكمت مادة واسعة للجزء الثالث لكنني بعد ثماني عشرة سنة من العمل كانت قد تاقت نفسي لأكتب رواية تدور أحداثها في المدينة في الزمن الراهن؛ فتركت مشروعي، وانتقلت إليها، وكتبت رواية عن التحقق في الحياة، عن الصراع الذي يعيشه المثقف بين رغبات وإمكانيات تحقيقها..وكان هذا التحول الخامسوكنت إذا كتبت قصة قصيرة أكتب مسوداتها الأولي، وأتركها خوفا من أن تخرجني من العالم الذي يستغرقني، وبعد انتهاء الكتابة في “امرأة ما” قررت أن أتفرغ لهذه القصص، أعدت كتابتها وأصدرت مجموعة قصصية بعنوان “قصر النملة”، ثم دخلت بجهد ثقيل في معركة مع نفسي لكتابة سيرة ذاتية موضوعها الموت، ولم أستطع أن أنشرها..وكان هذا التحول السادسوحتي أستطيع التحدث عن هذا القرار الصارم بعدم النشر والانتقال إلي كتابة روايتي”أيام منسية من دفتر بغداد” اعتماداً علي مخطوطي الأول الذي كتبته في العراق عام 1977، وأنا في الثانية والعشرين من عمري، لابد أن أحكي لكم قصة الصراع المستمر بيني وبين الرقيب الداخلي لعله يلقي الضوء علي هذه التحولات.أعترف أن المسكوت عنه في الحياة، ما نتواطأ علي إغفاله، ونتعامل معه باعتباره غير موجود، هو أحد المناطق التي أهوي اللعب في مضمارها سواء أكان المسكوت عنه خارجيا في حركة المجتمع أو داخليا في الذات نفسها، فهو منطقة غنية جديرة بمتابعة الخيوط والغوص في الأعماق حتي لو عجزت اللغة لطول ما عانت من قلة الاستخدام للعبير عن هذا المختفي.منطقة تحتاج في الغالب إلي نحت لغوي خاص ليعبر عما تفاجئه بالضوء، والمسكوت عنه الحافز الأول لظهور الرقيب الداخلي، ولقد عانيت من هذا الرقيب أثناء كتابتي لروايتي ليس الآن بسبب موضعها الشائك : ضابط لا يقبل بتوقف الحرب مع إسرائيل، لقد سألت نفسي وأنا أبدأها ماذا سأفعل مع آلاف المحاذير التي يلقيها هذا الرقيب أمامي وأنا أفكر؟، أعترف أنني أحببت بطفولة شديدة أن أزيحه من طريقي، لأن الكتابة هي فعل الحرية الوحيد الذي أمارسه، كيف أحدد حريتي بيدي ؟، لكن مواجهه المؤسسة العسكرية المصرية بالنقد أمر لا يمكن التعامل معه بهذه البساطة، القلق يفاجئني وأنا أقود السيارة، والحرارة والضجر يذهبان بأعصابي فأكاد أجن لأن لا شيء يقهره، ولا حتي ضغطي علي البنزين، وارتطامي بخط السير، أختار إذن أسوأ الأوقات للانفراد، وأكثرها ضعفاً، وحين أكون بعيدة عن الورقة والقلم لأنهما كانا السلاح الوحيد الذي حاربته به، واستطعت بعد جهد إقناع نفسي بأنني قهرته، ورضيت عما كتبت لكني أحياناً أسأل نفسي هل حقاً أزحته ؟ أم أنني أسكنته الأعماق، فراح يعيد ترتيب الأشياء قبل أن تصل إلي الوعي ؟ سؤال لا أهرب من الإجابة عليه خاصة وأنني لا أؤمن بالحلول الوسط ولا أنصاف الأشياء.لم أسمع أي اعتراض من أي جهه رقابية علي الرواية بعد صدورها، وطبعت في مطابع الدولة في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأعيدت طباعتها مرة ثانية في مشروع مكتبة الأسرة أيضا كاملة، لكن ناقدا واحدا من الذين كتبوا عنها لم يأت إلي ذكر أزمة هذا الضابط مع المؤسسة العسكرية، وتناولها من جوانب أخري تماماً، لقد عمل الرقيب الداخلي مع الناقد أكثر بكثير مما فعل معي.هكذا وصلت إلي رواية “امرأة .. ما”، وأنا أشعر براحة وثقة تدفعني لكتابة ما شئت واخترت موضوعاً شائكا عن إمكانية التحقق، واخترت الحب بين المرأة والرجل روحا وجسدا متسلحة بإيمان حقيقي في إمكانية الدخول إليه، والتعبير عنه حتي أصل لما أريد، وراح الغزل يتحول إلي نسيج متماسك بعدما يزيد علي ثلاث سنوات، وكدت أكتب كلماته، ولكن أحداث “الوليمة” فاجأتني ذات صباح فاضطرب الغزل في يدي، ورحت أتأمل مزيدا من الأسئلة الصعبة عن المناخ الذي يعيش فيه الكاتب وتأثيره علي كتاباته، وبعد حوار طويل مع نفسي انتهي بهدوء إلي دخول هذه الأسئلة جسم الرواية التي كنت أصوغها في ذات اللحظة، وأن تكون إجابتي كما قال بطلها عمر مأمون الكاتب الروائي: أراهن علي حضارة السبعة آلاف عام، وأقرر أن أنشر روايتي كما هي تخزني الشكوك : هل تقبل دار نشر الآن ما أكتب ؟.أجيب بروح مرحة تتفاءل بالمستقبل حتي لو لم أجد في مصر سأجد في بيروت أو في المغرب، ستقبع في الأدراج إلي أن يحين نشرها، ولن أغير منهجي لأخضع للظلام .نشرت رواية “امرأة .. ما” أول دار نشر عرضتها عليها وهي دار الهلال، وقرأتها مطبوعة بتأن فوجدت أن كل محاولاتي للفكاك من الرقيب انتهت بانتصار ما .. له، لأنني راوغت كثيراً في الكتابة، ولم أسم الأشياء بأسمائها أبداً، تأملت هذا باسمة، وقبلت أن يستمر اللعب بيننا، لكن ما فاجأني حقيقة هو الفارق الشاسع بين موقف القارئ العادي من الرواية، وموقف القارئ المثقف إذ أخبرني عدد كبير من المثقفين، والكتاب بصفة خاصة بخشيتهم من خلط الأوراق بيني وبين بطلة الرواية التي تعيش حياة مزدوجة بين الزوج والحبيب، وقال لي كل منهم علي حدة إنه يفهم دوافعي لكتابتها، لكنه يخشي من مواقف الآخرين، في حين لم يسأل القارئ العادي أي أسئلة من هذا النوع، ولم ينشغل إلا بما أردت قوله بالفعل، وما مسّ حياته، فاحتفي بها احتفاء خاصا ومازال يدهشني حتي الآن، ذلك أنني فتحت جرحا كان يبدو لي متقيحا؛ فإذا به يكشف عن خلل يكاد يودي بالحياة نفسها.. (غرغرينا).وتصورت أنني قطعت شوطا بعيدا في الكتابة بحرية، تلك الحرية التي لا أتصور كتابة حقيقية بدونها، ولا كاتباً عظيماً يتردد في ولوج دربها، حتي قررت أن أكتب رواية سيرة ذاتية تعتمد علي لحظة إنسانية بالغة الصعوبة، الإنسان في مواجهة موت أقرب الناس إليه، تصورت أنني بما أمتلكه من أدوات في رحلتي قادرة علي الدخول إلي الموضوع بثقة، ورحت أعيش مقاومة الانهيار بالكتابة؛ فلما انتهيت منها اكتشفت أنني لم أستطع بلا أقنعة أن أكتب مشهداً حميماً واحداً، علي عكس ما حدث في كتابة “امرأة .. ما”، ورغم أنني أعلم صعوبة أدب الاعتراف لأننا لم نَّدرب عليه، وقامت الحضارة الغربية علي فكرة التطهر المسيحية بالاعتراف إلا أنني لم أجد هذا عذرا مناسباً لأن تكون الرواية ناقصة من وجهة نظري كناقد أول لعملي، واتخذت قرارا بعدم نشرها حتي أصل لحل لهذه المعضلة إما بالشجاعة، وكتابة هذا الشأن، وإعطاء التجربة نفسها لأشخاص متخيلين، وفتح باب الحرية أمام الخيال لكي يقوم بفعله علي راحته.لهذا حين قررت أن أكتب روايتي”أيام منسية من دفتر بغداد”، وكان الإغراء كبيراً لأن أكتب شهادة أو سيرة ذاتية استبعدت الفكرة علي الفور، وأعطيت إحدي بطلات العمل تجربتي وخبرتي عن بغداد لكنني لم أعطها ذاتي، وبنيت شخصيات وهمية تحمل عبء الرواية عن كاهلي، حتي أتمتع بالحرية التي لا أري عملا أدبياً أو فنياً بدونها.أما كيف أختار شخصياتي فهو موضوع تنفتح أمامه كل الطرق؛ أحيانا من الخيال الكامل، أبدأ من فكرة وأظل أركبها حتي تتحول إلي لحم ودم، وأحياناً من صنعة أراها في أحد الأشخاص فآخذها، وأنسج حولها شخصيتي، وأحيانا من حدث أو من فعل يقوم به شخص لا أعرفه أمامي أو يحكي لي عنه. أما الأشخاص الذين أحببتهم ورغبت في الكتابة عنهم؛ فقد عجزت إلي حد كبير عن تقديمهم في كل عمل فني وأجلت هذا حتي تزداد خبرتي بهذا الفن، وأظن أنني في المرحلة القادمة من حياتي سأقدم بعضهم.أما كيف ألتقط الفكرة، ففي كل مرة كان المصدر مختلفاً، بدءا من شخصية تستهويني؛ فأقرر الكتابة عنها دون أن أعرف إلي أين، أو موضوع غامض أحوم حوله حتي أمسك طرف الخيط، أو حادث معين يستفزني، لكنني لا أبدأ بالكتابة إلا بعد استفزاز طويل، وحالة عاطفية تتملكني نحو عالم أريد أن أعرفه فأبدأ المناوشات معه.وفي بعض الأحيان تتولد فكرة من داخل عمل أكتبه بالفعل ؛ فأصدقها وأمشي وراءها، حتي أنهيها، كما حدث مع عملي الأخير الذي هيمن علي عقلي وانتزعني من وسط الإعداد لرواية أخري.أتصور أن الرواية أو القصة هي التي تختار شكلها ولم يحدث غير مرة واحدة في كتابة “امرأة .. ما” أن وصلت إلي الشكل علي الفور؛ ففي كل مرة كنت أقوم بالعديد من التجارب حتي أقرر شكل البناء الفني.أما الأسلوب فأعتقد أن كل عمل له أسلوبه أيضا؛ فالحديث عن قرية وسط دلتا النيل في بداية القرن يحتاج إلي لغة تختلف كثيراً بخشونتها عن شاعرية اللغة في رواية عن الحب، واللغة المحددة في رواية عن الحبيبين، واللغة التقريرية في رواية عن الغليان السياسي.التحولات إذن رسمت خريطة الطريق، لكن ما ذكرته منها لم تكن كل التحولات، فقد لعب الرقيب الداخلي معي لعبته في تحديد الاختيار.

التسميات: شهادات

مؤتمر أدباء مصر، دورة 2008م بمرسى مطروح

رئيس المؤتمر: خيري شلبي

أمين عام المؤتمر: سيد الوكيل

هالة البدري إيقاع هاديء وتجربة ثرية (ملف خاص) إعداد: مرفت يس

مقدمة الملف كتبها د. مصطفى الضبع

مدونة هالة البدري السردية

مقالات متنوعة عن أعمال الكاتبة والروائية هالة البدري

فارس خضر

هالة البدري على أجنحة الحصان ” بداية الخروج من أدب الهوانم “

خيري عبدالجواد

هالة البدري: بين أجنحة الحصان وأجنحة الواقعية المحلقة

د. أماني فؤاد

السرد النفسي ــ الشاعري في “امرأة ما”…لهالة البدري

حسين سرمك حسن

هالة البدري : “خيتينيا” الخراب

د.سيد محمد السيد

هالة البدري”أجنحة الحلم المنكسر

د.مصطفى الضبع

“ليس الآن” مستقبل بلا تاريخ ولابطولة ..هو الانفتاح

ملف القصص

ولادة وحلابة

سيجا

أجنحة الحصان

نخيل الخمر الصحراوي

خيتنيا

قصص قصيرة للكاتبة: هالة البدري

مدونة هالة البدري السردية

د.مصطفى الضبع

هالة البدري4
الكاتبة هالة البدري

نهاية الثمانينيات تعرفت على الراحل كمال عبد الحليم، ترددت عليه في دار الغد، وقتها كان مهتما بنشر الإبداع الجديد، معظم كتب الإبداع التي كانت ترد إليه كان يمنحني فرصة قراءتها لإبداء الرأي في النشر، اكتشفت لاحقا إنه كان يمنح الكتاب نفسه للأستاذ عبد المنعم سعودي، وشرح لي الأمر ببساطة بقوله: أنا اعتبركم لجنة قراءة تجمع بين جيلين بينهما ثلاثة عقود من الزمن.

استمر في القراءة مدونة هالة البدري السردية

السرد النفسي ــ الشاعري في “امرأة ما”…لهالة البدري

د. أماني فؤاد

  إنطلاقا من أن كل علاقة حب هي بصمة فردية خاصة للغاية ، يبلورها سياقها المباشر، ومعطياتها التي ينتجها تفاعل طبيعة الشخصية ، مع البيئة الحاضنة ، والطبقة التي تنتمي إليها النماذج البشرية امرأة أورجلا ، ومجموعة القيم والعادات والتقاليد التي تحكم ثقافة المجتمع وموروثاته ، تنقب الروائية “هالة البدري” عن تلك العلاقات المتفردة ، وترصد خصوصية كل حالة علي حده في كل نص إبداعي تكتبه.

هالة البدري4

استمر في القراءة السرد النفسي ــ الشاعري في “امرأة ما”…لهالة البدري

“ليس الآن” مستقبل بلا تاريخ ولابطولة ..هو الانفتاح

                                                د. مصطفى الضبع

في روايتها “ليس الآن” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تسعى هالة البدري أن تقدم عالما للغربة الجديدة عالم وضعت بذوره من قبل في روايتها السابقة “منتهى” ولكنها تجعله في “ليس الآن” ينهض متخلفا ممثلا للوطن في تدرجه عبر الزمن، فرواية القرية بوصفها تمثل الأساس الذي تنبني عليه نهضة المدنية والحضارة فإنها دائما تأتي على نحو من الأنحاء رامزة للوطن جميعه وقادرة على أن تمثله في مرحلة من مراحله فالقرية إذن تفضي إلى المدينة وقليلا أو نادرا ما يحدث العكس.

استمر في القراءة “ليس الآن” مستقبل بلا تاريخ ولابطولة ..هو الانفتاح

هالة البدري”أجنحة الحلم المنكسر

د.سيد محمد السيد:

رابط القصة

أجنحة الحصان

في قصتها “أجنحة الحصان” من مجموعتها التي تحمل هذا الاسم – مختارات فصول الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1992م – تقدم “هالة البدري” المصري القروي الجنوبي “أبو شريف” وامرأته في العراق بعد أن توفر لهما ألف دينار، الرجل يرغب في شراء حصان، بينما تحرضه المرأة على شراء بقرة، هذا هو المحتوى الحكائي للقصة، وطوال الزمن الحاضر في الحكاية يحاول كل منهما تبرير رغبته.

استمر في القراءة هالة البدري”أجنحة الحلم المنكسر

هالة البدري : “خيتينيا” الخراب

حسن سرمك حسن

تحليل قصة “خيتينيا” لـ “هاله البدري”

رابط القصة

قصة : “خيتينيا”

قصر النملة

قصة “خيتينيا” هي آخر قصة قصيرة من مجموعة “قصر النملة” للقاصة والروائية “هالة البدري” – الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2007- وهي من النصوص التي تنبغي مراجعتها والوقوف عندها طويلا وعميقا . إنها نص مقاوم من نوع جديد لم يُطرق من قبل حسب اطلاعي وملاحقتي للنصوص السردية التي كتبت في السنوات الأخيرة التي شهدت صعودا مخيفا للمد االمتخلف في الحياة العربية الاجتماعية ، حيث نلاحظ وبكل أسى وقلق ، بل حتى بخوف أن حركة الحياة تتراجع ، وأن الجمال في ما حولنا ينحسر ويضمر ويموت ، وأن مخالب القبح الباشطة صارت تمزق جسد الجمال الهش بطبيعته ، وكأن هؤلاء المتخلفين يريدون تبليغنا رسالة من شقين : إن القبح أكثر جسارة من الجمال أولا ، وأن علينا ، إذا أردنا أن نتمتع بالجمال أن نهرب به ونستتر تحت أثقل الأستار ، لأنه سيكون من الآن فصاعدا جريمة تدان بأحكام قد تصل حد الموت . سيكون حالنا مثل حال “ونستون سميث” بطل رواية “1984” لجورج أورويل الذي إذا أراد أن يقبل حبيبته عليه أن يقطع الفيافي ليظفر بفسحة منعزلة لا تراقب .. ومع ذلك كان معاونو “الأخ الكبير” – ديكتاتور أوقيانيا – يصوّرونه. لقد قدّم أورويل بطله كإنسان أخير وبلغة نيتشوية فريدة . ومن منظور آخر يمكننا أن ننظر إلى بطلي قصة هالة هذه كرمز للإنسان الأخير الباحث عن قيم الجمال والحب والنماء .

استمر في القراءة هالة البدري : “خيتينيا” الخراب

هالة البدري: بين أجنحة الحصان وأجنحة الواقعية المحلقة

خيري عبدالجواد

كثيرا ما يندهش كتاب القصة القصيرة، والمهتمون بها من النقاد والقراء من تلك القدرة المتجددة والحية التي يبتعثها أي نص جاد وطموح يحول الإضافة الكيفية في هذا الفن الجميل.

استمر في القراءة هالة البدري: بين أجنحة الحصان وأجنحة الواقعية المحلقة

هالة البدري على أجنحة الحصان ” بداية الخروج من أدب الهوانم “

فارس خضر –

15/11/93

هالة البدري4

كلماتها الذائبة في موسيقى العشق تغوص في الأعماق وتلمس أدق المشاعر الإنسانية، تجلوها وتكتشفها من جديد. لا تبالي بالموروثات والتقاليد القديمة. فهي قادرة على الاقتحام والهدم.. وفي مسرح الهناجر بالأوبرا حيث أقيمت الندوة التي ناقشت “أجنحة الحصان” المجموعة القصصية الأخيرة للأديبة هالة البدري اجتمع النقاد والأدباء في مناقشة عنيفة لم يسلم منها نقادنا الأعزاء من مبدعينا الذين يملكون جيدا وسائل الدفاع عن الإبداع الصادق.

أجنحة الحصان

والعالم القصصي للأديبة هالة البدري مهوش غير متيقن يطرح من الأسئلة أكثر مما يجيب عليها أسئلة تحرك الذهن والوجدان هي نوع من معانقة المستحيل – هكذا يبدأ د.ماهر شفيق فريد أستاذ الأدب الانجليزي بجامعة القاهرة كلامه عن مجموعة أجنحة الحصان للقاصة هالة البدري ويضيف – كما أن الالتحام مع هذه الأسئلة التي يصعب الإجابة عليها يأتي مندمجا مع الذكرى التي لها حضور لا يقل عن حضور اللحظة الراهنة فالحلم عند الأديبة هالة البدري محبط والصراع – في قصصها غالبا ما يكون بين واقع دميم وحلم بعيد لا يتحقق بل أنه يتحول إلى كابوس.

استمر في القراءة هالة البدري على أجنحة الحصان ” بداية الخروج من أدب الهوانم “

قصص قصيرة للكاتبة: هالة البدري

               النوم وسط الذئاب

   نم سنصحو مبكرا في الفجر غدا خميس عمك. قالت جدتي والدموع في عينيها.

قلت: لماذا تبكين؟ ألم يذهب عمي إلي أبي؟

قالت: نعم.

جاء صوت أمي تزعق، سيأتي فقهاء القرية مبكرا، ولن أوقظك.

دفست رأسي تحت اللحاف، وحين أطفأت الضوء، ومضت، تسللت إلى الشباك، وقفزت منه، وسرت بمحاذاة البيوت حتى وصلت إلى سور المقابر، ووقفت بباب أبي، لم أستطع أن أفتحه، والقفل يغلقه بإحكام، جلست على الأرض انتظر. غفوت، وصحوت على صراخ أمي:

ألم أحذرك من الذهاب مرة أخرى إلى المدافن وحدك في الليل، وسط الذئاب؟ تريد أن يأكلك الذئب؟

قلت: أبي لا يخاف من الذئاب وينام هنا.

استمر في القراءة قصص قصيرة للكاتبة: هالة البدري

ولادة وحلابة

قصة للكاتبة : هالة البدري

جلس أبى بجوار الراديو في الصالة، وأمامه ورقة رسم فوقها مربعات، ليتسنى له متابعة مباراة الكرة بين النادي الأهلي ونادى الزمالك. أشارت أمي لي بالصمت حتى لا أشتت انتباهه، عدت من حيث أتيت دون أن أخبرها بما أريد، وصوت كابتن لطيف يصرخ:

يا سلام يا علاء، يا سلام يا حامولي.

جاء أخي أكرم راكضًا، ودخل إلى غرفتنا مباشرة، حاولت أن أسأله عن حمادة وسعيد لم يرد. دلق صندوق اللعب على الأرض، انتشرت المكعبات فى الحجرة، وجلس هو يركب البزل، دون أن يبالي، جاء أبى غاضبًا، وسأله ماذا فعلت بالماعز؟ تعال هنا

استمر في القراءة ولادة وحلابة

سيجا

قصة قصيرة للكاتبة : هالة البدري

كلما صحت الشمس، وسعنا -أصدقائي وأنا من أبناء المغتربين المصريين الذين يعملون في مدينة مصراته الليبية -من دائرة حركتنا حول البيت. وقد تسمح أمي لنا بالذهاب إلى بيت الرمالي صديق أبى، لنلعب مع أولاده. هو ليبي متزوج من مصرية.

للبيت طريقان: الأول نقطع فيه الشارع العمومي إلى وسط المدينة، حيث السوق، ثم ننعطف يساراً في شارع جانبي، لنجد المبنى ضمن بيوت قليلة على حافة العمار. الطريق الثاني مختصر نقطعه خلف بيتنا وسط المزروعات والأراضي الخلاء لنصل خلف المنزل مباشرة. كنا نمر بأحواض القمح في الصيف، والفول الأخضر في الشتاء، ونمر بالمقابر أيضاً. النوارة تملأ الحقول، تنظر إلينا بعيونها السوداء، أخالها تبتسم لي أحيانا، لكن بعض العيدان تحمل قروناً ممتلئة.

قالت أمي: لا تقتربوا من زراعة الناس من دون إذن.

الفول طرى له زغب أبيض ناعم وذو ريق حلو، وإذا أخذنا منه حفنة لن تحدث مشكلة، نقول لأنفسنا من دون كلام. يراودنا الفول كل يوم رغم أن أبى يشترى لنا من السوق كميات كبيرة منه، لا نتذكره ونحن في البيت ونضيق به إذا ما أحضرته أمي لنأكله مع الجبن، لكننا وأثناء اللعب نجده أمامنا، فنقطف عدة قرون ونركض.

استمر في القراءة سيجا

أجنحة الحصان

قصة للكاتبة هالة البدري

أجنحة الحصان

  • لا يخض ولا يحلب.
  • سأشتريه، قلت لك. سأشتريه.

فارق السن الكبير بينهما لم يكن يمنع أن تجادله، ومنذ عرفت أن في البيت ألف دينار كاملة لا ينقصها فلس واحد لم تهدأ، ولم تكف عن الشجار آلاف الأميال تفصل بينها وبين عالمها الذي وُلدت فيه. رحلت وراء حلمها بالأرض والبيت مع زوجها الذي سبقها إلى الحياة بربع قرن. ورغم دقة ملامحها، وسمرة بشرتها، وجفاف لحمها الذي يغطي هيكلا صغيرا نسبيا كإحدى بنات “قنا” إلا أن اللكنة القاهرية في لهجتها تجعل المرء يحتار إلى أي القرى تنتمي. ولأن “أبو شريف” من نفس بلدتها، فقد قبل الأهل أن ترحل معه إلى العراق. ولم تكن في حاجة إلى فتح “خشمها”، لأن الرحيل جاء انقاذا من هم يومي يتفتح كل إشراقة شمس.

جلس ممددا ساقيه، سانداً رأسه إلى الحائط الأسمنتي، ولهيب نيران الصيف يضرب الحجارة في الحديقة، اصطدمت عيناه بخضرة متناثرة تقاوم الصحراء. تنهد.

استمر في القراءة أجنحة الحصان

نخيل الخمر الصحراوي

للكاتبة هالة البدري

من مجموعة قصر النملة

قصر النملة

فتنتها الصحراء شعراً وتصويراً، عشقتها بعين الشعراء العرب، وكاميرات المصورين،  وأفلامهم عنها، لكنها أجلت زيارتها كثيراً خوفاً من أن تصدمها مواجهتها، فضلت أن تحبها في خيالها عن بُعد، على أن تكتشف سرها بنفسها، لكنها هذه المرة، لم تستطع أن تقاوم دعوة صديقها المصور إلى رحلة عبر الصحراء الغربية إلى الوادي الجديد إلى مدينة “موط” حيث البئر المعدني الشهير الذي يشفي الأوجاع المستحيلة، اتفقت مع المصور على أن يقيما معرضاً قائماً على التصوير والشعر معاً، على أن تختار بعض لقطاته لتكتب عنها، أي أن يزاوجا بين اللغة والصورة، فكثيراً ما رسم المصور أغلفة دواوينها، وآن الأوان لكي يعملا معاً على نص واحد.

استمر في القراءة نخيل الخمر الصحراوي