كل المقالات بواسطة thewriter1811

كاتب..أحب الكتب.

الرخيص الغالي – قصة لـ “محمد عبد الحليم عبد الله”

قبل أن تشرق الشمس في ذلك اليوم ويطير الندى عن تراب الطريق كان هناك رجل يشق طريقه بين المزارع على ظهر حمار آملاً أن يصل إلى “المركز” قبل أن يفوت الأوان.

وكان الرجل طويلاً نحيلاً، يركب حماراً قصير القامة، ويرتدي جلباباً من الصوف قد انقضت أيام عزّه وولّت سنوات مجده، لوّحته الشمس من على الكتفيْن، فاتخذ النسيج لوناً آخر، وتكاد رجلاه تلمسان الأرض لطول ساقيه وقصر قامة الدابة. وفي نعله البالي عدةُ رقع، وفي يده عصا من الخيزران تُشبه عصا “المايسترو” كان يضرب بها عنق الدابة من آن لآن كلما أفاق من الأفكار.

وهناك موسيقا بدائية تنبعث من حقول الذرة كلما شخلل النسيم بالورق يتخللها وقع الحوافر على الأرض أو شقشقة عصفور يفر من من شجرة إلى شجرة، لكن هذه السيمفونية الصباحية لم تكن قادرة على أن تسحب هذا الراكب من غمار أفكاره، لأنه كان مشغولاً بما هو بعيد عن الأنغام والوجدان والقلب والحب.

كان مشغولاً بحسْبة، فهو يجمع ويطرح ويُوازن بين الأرقام، ويعدُّ مطالب زوجته التي ودّعته عند الباب وهو ذاهب إلى البندر وطلبت منه أقة من البَلَح الأمهات وعلى وجهها صفرة النفساء.

كان “عم هاشم” يحسب في نفسه قائلاً:

ـ إنه ريال .. نعم ريال، لا بأس به. سأحصل عليه فوراً بعد أن أفرغ من العمل الذي أنا ذاهب من أجله. وقبيل عودتي إلى داري سأملأ هذا المنديل الكبير بخيرات البندر. لقد طلبت زوجتي بلحاً، وطلب أحد الأولاد عجوة، وطلب الثاني جوافة[5] .. على أن اللحم الجَمَلي في هذه المدينة الصغيرة جيد .. جداً .. و ..”.

وبلع ريقه المتحلِّب[6]، وزجر حماره الواني الخطوات حتى لا يفوته الوقت، ثم لسعه بالعصا وحرّك رجليه الطويلتين كما يُحرّكهما الفارس بالمِهماز، ثم عاودته الأفكار. إن “عم هاشم رجل غليظ القلب يُعلِّل دائماً قسوته على الناس بقسوة الناس عليه: “كيف تجني الرمان من شجرة الحنظل؟” هكذا كان يقول.

وكان مُعادياً للأقدار أشدّ العداء، يكاد يلعنها حتى في صلاته .. ويتوهّم أنها نصبت له في كل مرحلة فخاً لا تراه عيناه.

ولما كانت الدنيا تأخذ لون المنظار الذي يُغطِّي عيوننا فقد بدت له خضرة الحقول سوداء، وصفاءُ السماء دُكنةً وغبرة، وتفاعلت نفس “عم هاشم” مع أوهامه فأخذت كل منهما من صاحبتها وأعطت حتى فسد الطعمان. وأصبح المسكين ينظر لمآسي الناس بشماتة وراحة بال كأنما كان يأمل أن تعمّم الأقدار بلواه فلا يبقى في القرية قلب سعيد واحد.

ولما بزغت الشمس كان قد بلغ منتصف المسافة، وبدا الطريق في هذه البقعة موحشاً ضيقاً وحقول الذرة على الصفين كأنها غابات. وكان الراكب مشغولاً بنفس الحسبة غيرَ منتبه لشيء ولو أن الشمس الوليدة على الأفق توقظ الدنيا برفق وتُدفئها بحنان. لكنه أحس كأن الحمار يتملْمل من تحته، وزاد تململه حتى صار ضجراً. وبنظرة إلى الوراء رأى كلباً كبير الجسم هزيلاً كأنه مريض زائغ العينين يُداعب رجلي دابته من خلف. ولم يزد “عم هاشم” على أن زجر الكلب ثم حث حماره على المشي. فوثب الكلب إلى الحقول في صمت غريب، وقطع الراكب بضع مئات من الأمتار ثم رآه مرة أخرى، كان كأنه قد تسلَّح بشيء، والشراسة الحيوانية في عينيه تُنذر بشرٍّ جديد. وقبل أن يرتفع صوت الراكب بكلمة كانت أنياب الكلب قد نشبت في مؤخر رجل الحمار، فتوقف، ونزل صاحبه ليُدافع عنه، فما كان جزاؤه إلا أن أعمل أظافره في جلبابه الصوفي الذي ولّت أيام عزه وانقضت أيام مجده، فحدث فيه من الأمام ـ من حيث لا يستطيع أن يستره ـ قطْعٌ كبير من المتعذر أن يمشي به ـ كضربة القضاء ـ بسرعة لا تدع للبديهة مجالاً.

وقعت هذه الحوادث واختفى المعتدي في حقول الذرة، ولم يحدث أن نبح مرة واحدة إلا بعد أن غاب داخل الحقول. هنالك صدرت منه نبحتان مخنوقتان حزينتان كأنهما تأبينُ ميت، خشخشت بعدهما الحقول، وغرّد في إثرهما عصفور، وتعالى بعد ذلك في الفضاء أنين ساقية.

ووقف “عم هاشم” حائراً، مختل التوازن فأخرج منديله الكبير الذي كان يأمل أن يعود به مليئاً بخيرات المدينة وحوّله ضمادة لجرح الدابة، ثم ألقى نظرة على جلبابه الوحيد، وقَدَّر التلف الذي أصابه، وانبرى يُعاتب الأقدار.

ولم يكن هناك مجال للرجوع لأن المسافة الباقية أقل بكثير من تلك التي قطعها .. خير له أن يذهب حتى لا يخسر كل شيء .. على أن إصلاح الجلباب ضرورة أخرى تُحتِّم عليه المسير في طريقه، ثم عاد يحسب قائلاً:

“إنه ريال على كل حال .. سيخف نزف الدم شيئاً فشيئاً. وسيُصلح الجلبابَ بعدة قروش. والباقي أستطيع أن أحقق به معظم الطلبات”.

والمهمة التي كان ذاهباً في سبيلها مهمة غير مشروعة، لكن ..

إن مشروعية الأعمال وعدم مشروعيتها تختلف في ميزان الناس، وإذا اختل ميزاننا مرّة بعد مرّة، تحتَّم علينا أن نقضي مدّة معقولة حتى يعود إليه ضبطه، وحتى نُغَيِّر بأيدينا من جديد “صنجاته”[7] القديمة، لذلك فإن الذين يهبطون المنحدر قلما يتوقفون إلا إذا وصلوا إلى الحضيض. وكان “عم هاشم” يسب الطرفين معاً، والحمار يعرج. كان يسب الذين سيمدُّ إليهم يده بالمساعدة والذين سيمدُّ إليهم يده بالأذى. وأخرج من جيبه سيجاراً ليشعلها، وبعد أن وضعها في فمه تذكَّر أنه نسي الكبريت، فتنهد في صمت، ثم عاد لأفكاره قائلاً:

“هناك في السلسلة حلقة مفقودة، فقد كان هناك شبه مودّة بين الدائن والمدين وانقطعت فجأة، وتكلَّم الناس كما هي عادة الناس، وعلّقوا على الموضوع، لكن .. أنا أُرجِّح أن الدائن على حق. لست على علم بتفاصيل الحوادث، ولكنها كلمة، سأقولها كما هي العادة أمام القضاء، ثم أخرج ..”.

وكان قد دخل البندر في هذه الوهلة. وكانت الحياة قد دبَّت في الشارع الرئيسي، وبدت أقفاص البلح الأمّهات مرصوصة كأن فيها كهرماناً[8]، وأفخاذ اللحم على واجهة المحال تُنبِّه شهيةَ المعدة، وهناك أشياء أخرى لا قِبل له بشرائها.

وعرَّج أولاً ـ وقبل كل شيء ـ على دكان خياط، فلفّق جلبابه، ثم اتجه إلى المحكمة، وقابله الدائن، وشدَّ على يده، وبرقت عيناه بمعنى الوفاء بالوعد، ومرّت عليه المرأة المدينة ..

كانت في خريف عمرها، تتعثّر في جلباب قروي طويل، داست عتبةَ المحكمة للمرة الأولى، فدمعت عيناها لحيفِ الزمن وقلة الرجاء وكثرة العيال. وألقت نظرة خاطفة فارغة من كل أمل على وجه الرجلين، الدائن منهما والشاهد، ثم خطت إلى الداخل يتبعها غلام في العاشرة من عمره، على وجهه ملامح أمه، وفي عينيه انكسار اليتامى.

وكانت المرأة ذات وسامة، تدرك الأبصار حين تقع عليها أن الدنيا جارت عليها فجأة، وأنها تُجاهد. ولم يكن في وجهها بادرة واحدة من بوادر الاستسلام، نعم إنك قد ترى على وجهها ذلاً، ولكنه في إطار من الصبر، وتحت ظل رجاء كبير في قوة مبهمة، لكنها عظيمة.

وبدت على وجه الدائن إمارات الغيظ، وطوّح[9] عصاه ذاتَ المقبض والحِلية، وسار في كلِّ اتجاه يُضيِّع الوقت. وجلس “عم هاشم” في فناء المحكمة يستعيد ما سمعه من الناس.

إن هذا الذي جاء يشهد معه ضدّ هذه المرأة بأنها مدينة بعشرة جنيهات أرملةٌ لفلاح مسكين دهمه الموت فترك أربعة من الأولاد أكبرهم في سن العاشرة. ودخل الدائن في ثياب الملائكة في هذه الدار بعد وفاة صاحبها، وفجأة أراد أن يلبس ملابس الشياطين، وبخلت عليه المرأة بما اشتهاه، فانقطعت العلاقة، لكنه عاد إليهم في ثياب الملائكة مرة أخرى، ثم ما لبث أن ظهرت خبيئة نفسه، فلقي من الفقيرة الحرة التي “تجوع ولا تأكل بثدييها”[10] ما اعتبره مهيناً للكرامة، فقام النزاع ووصل بهما الأمر إلى حد أن أوقفها أمام القضاء.

ولأول مرة في تاريخ “ذمة عم هاشم” شعر بقشعريرة تسري في كيانه لما ارتفع صوت الحاجب منادياً عليه، لكأنَّ صحوةً غير منتظرة دبَّت في ضميره .. والأرملة الفقيرة جالسة وفي عينيها شجاعة ودموع ..

وكان القاضي جديداً على المحكمة، كان شديد الهيبة، شهيّ السُمْرة، يمسح شاربه الأسود المائل إلى الغزارة، وينظر بعينين ثابتتين. ولمّا مثل أمامه “عم هاشم” حملق فيه طويلاً كأنه يلتمس في ملامحه رجلاً كان يعرفه. ثم طلب بصوت هادئ النبرات القسم المعروف:

“والله العظيم أقول الحق”.

وأقسمه الشاهد، ثم بحث عن ريقه فلم يجده. وأشعة قوية من عينين سمراوين تنبعث باستمرار. والسكون مخيم كأنما هبط الظلام .. إلا من سعلة لرجل كهْل كانت أشبه بلفظ الأنفاس.

ولم يتكلم “عم هاشم” فوراً، واستمر برهة أخرى لأن نباح كلب غضبان تعالى خلف النافذة آتياً من الحقول. وكان النباح حاداً أول الأمر، ثم استحال بعد قليل إلى عواء، كأنه نواح، وجعل يقترب شيئاً فشيئاً حتى بدا التأذِّي على وجه القاضي، واستحث الشاهد على أن يتكلّم.

كان “عم هاشم” في انتباه من يستمع صوت النذير .. خُيِّل إليه أن الحيوان الذي اعترض طريق مجيئه قد تعقّبه، وربض له تحت الشباك. ونظر الشاهد إلى الأمام فرأى العينين السوداوين لا تزالان متربّصتين له. ونَدَتْ من خلفه تنهدة عميقة خرجت من صدر مهموم .. لم يسع الشاهد إلا أن يقول الحق.

ولم يكن هذا الحق في صف الدائن، بل كان في صف الأرملة، ولمّا خرج المتخاصمون كانت المرأة تدعو “لعم هاشم”، وكان الدائن يُعيِّره بتاريخ ذمّته ـ باختصار ـ بماضيه المجيد. لكن الرجل لم يُعلِّق بكلمة ..

وفي طريق العودة بدا كهرمان البلح الأمهات يخطف البصر، وعناقيد الحيّاني[11] تُحيِّر الألباب، واللحم الجملي السمين يُثير جنون المعدة. لكن صوت الضمير كان لا يزال عالياً فلوى وجهَه عن كل ذلك بشيء من الاشمئزاز، وتذكّر الأرملة التي رضيت بذل الحاجة ومرارة العوز، ولم ترض أن تبيع الغالي.

وتمتم الشاهد: صحيح .. آه .. يجب ألاّ نبيع الغالي رخيصاً، هيه .. وكل الذين هانوا في حياتهم باعوا الغالي رخيصاً أول الأمر.

وسكت. سرح ذهنه يجمع الشواهد على هذه القضية. فتذكّر زكية بنت عبد الموجود التي باعت الغالي رخيصاً لأحد الناس في ليلة ظلماء فعاشت بقية عمرها ذليلة. وتذكّر فاطمة بنت عبد الخالق التي تركت أولادها بعد وفاة زوجها صغاراً كأنهم أفراخ دجاجة وتزوّجت رجلاً جديداً. ومرّت الأعوام وكبر الأطفال، وشاخ الشباب، وأصبحوا يمقتونها لأنها لم تحبهم في ضعفهم، فمَصْمَصَ شفتيه ..

ثم ذكر رجلاُ آخر ظل يتصعلك لأحد الأغنياء، ويسير وراءه تابعاً ذليلاً من أجل تفاهات، وبعد حين من الزمن خلعه الغني كالشيء البالي، بعد أن كان يتبعه مثل ظله.

ومصمص بشفتيه مرة أخرى. وفطن إلى أنه على ظهر الحمار وهو يعرج به، والطريق ضيق، وحقول الذرة على الصفين، فقال في نفسه:

“مِن طويلٍ[12] وأنا أبيع الغالي رخيصاً، فلماذا؟”

وتحت شجرة وحيدة رأى امرأة تستريح، كانت تمسح عرقها بطرف طَرْحَتِها[13] لأنها قطعت المسافة ماشية، وكانت هي المدينة التي رآها منذ ساعة وبجانبها ولدها، وقد جلس وفي إحدى يديه خبز وفي اليد الأخرى خيارة يأكل فيها.

وسمعها تدعو له وهو مار عليها، فرفع وجهه إلى السماء طالباً من الله أن يستجيب. وتصالح مع الأقدار. وحول البقعة التي هاجمه فيها الكلب أثناء ذهابه رآه واقفاً مرة أخرى. ولم يكن على الطريق بل كان عند مدخل الحقل وقد بدا نصفه الأمامي فحسب. وكان فاغراً فاه يلهث بعنف، وعيناه الزائغتان خاليتان من كل مدلول. وتأهّب الراكب للدفاع عن نفسه لكن الحيوان لم يُغادر مكانه. وبعد أن قطع “عم هاشم” بضع مئات من الأمتار رأى الكلب يدخل إلى الحقول. ولمّا غاب عبرها سمعه ينبح .. مرّة أو مرتين عاد بعدها إلى الصمت أشد عمقاً وسكوناً.

وعند باب الدار رأى طفلين ينتظران. وكانت يد أبيهما فارغة مما طلبا، فرقصت على وجهيهما خيبة الأمل. لكنه قال لهما: “إن أحد اللصوص هجم عليه أثناء الطريق وسلبه كل شيء”.

وأراهما آثار المعركة. فلما اعترض ابنه الصغير سائلاً:

ـ ولماذا يا أبي يشتغل بعض الناس لصوصاً؟

حمله إلى الداخل ومشى يُقبِّله، واحتفظ لنفسه بالجواب

حزن وسرور – قصة لـ “نجيب محفوظ”

كانت أسرة هانئة البال , يرعاها فتى في الخامسة والثلاثين , وتتعهدها بالعناية والتدبير أم حنون , وتعيش في كنفها أخت في مراقي الشباب الأولى . لم تكن من الثروة فى شيء , فمرتب الفتى لا يجاوز الخمسة عشر جنيهًا وهو كل مالها . ولا كانت غفل الزمان عنها , فقد فقدت راعيها الأول الأب والابن فى المراحل الأولى من التعليم الثانوي وأخته في مدارج الطفولة , فلاقت متاعب شديدة من الحاجة

والضنك قبل أن بلغت بر الاستقرار والأمان . إنها كانت تعودت الشدة والبؤس على عهد الكفاح الذي أعقب وفاة الأب , فانتقلت بتوظيف الابن إلى حال من يسر لم تكن – على بساطتها – تحلم بمثلها , وصارت أسرة هانئة البال , ودام لها هذا الحال خمسة عشر عامًا , حتى آذنت مظاهرها بما هي مقبلة عليه حتما من التغيير والتطور وفق ما تقتضيه طبائع الأشياء وسنن الحياة . ففتاها بلغ حدًا من العزوبة

لا يجوز أن يتعداه , واحسان أوفت على العشرين , فبات زواجها ينتظر اليوم أوغدًا , وبدت الأم في شيخوختها تحت الخطو فى مفترق الطرق .حقًا إن كل شيء ينذر بالتغيير وغدا تنقسم هذه الخلية الواحدة فتصير خليتين ,وتأخذ كلتاهما نصيبها المستقل من الحياة والنمو المتكاثر . وجاء الغد ولكن بما لم يكن فى حسبان . فقدت هذه الأسرة الشاخصة إلي الأفق بعين الرجاء عاهلها الأوحد … ذهب الرجل بأسرع مما يخطر على بال فى عزة الشباب وعنفوانه .فما كان إلا أن وجد دملا فى ساقه اليسرى , وأهمله أيامًا فبرر وغلظ ثم عالجه

بإبرة محماة ففتحه , ولكنه لم يوله ما هو أهل له من العناية والتنظيف , فورم مرة أخرى وامتد ورمه شيئًا فشيئًا , وسرى الألم فى الساق كلها , فمضى يتصبر على أمل أن تزول تلك الأعراض وحدها , حتى أقعده الألم عن الحركة , واستدعى عند ذلك الطبيب فأشار فى الحال ببتر الساق … وحمل إلى المستشفى وأجريت العملية فانتهت بغير سلامة , وأسلم الروح ومضى بصحته ورجولته ونفعه . وأوشكت الأم العجوز أن تجن . كانت تطمع أن يواريها فى التراب بعد عمر طويل ,فوارته فى التراب هى بعد عمر قصير . وكانت ترجو أن تودعه وهو سعيد بأسرته الجديدة , فودعها وقد تركها للوحدة والقنوط .أما إحسان , فكانت أشقى أخت وأشقى فتاة , فقدت – أو هكذا خالت – الأمل الحاضر والأمل المتخايل فى غضون المستقبل . وترك الرجل معاشًا جنيهين وربع جنيه , ولكنه أورثهما مدخره مائة وخمسين جنيهًا التي كان أعدها لنفقات زواج إحسان وزواجه هو فيما بعد . ولبست الأسرة الحداد وباتت في حزن أليم . إلا أن الله

الذي لا يرد قضاؤه خففه باللطف والرحمة . فقد كان لاحسان عمة عاقر على جانب من الثروة فآوت الشابة وأمها , وكانت إحسان فتاة عليلة وقعت منذ الصغر فريسة لمرض عصبي طال أمده فاستفحل بالإهمال – إذ كان أخوها كأمه ضعيف ثقة بالطب – وكانت إلى هذا حولاء , فاختفى حسنها وراء إهاب شاحب وجسم هزيل وحول ذميم . وربما أدرك الناظر إليها أن سبابها غير عاطل من جمال , ولكنه جمال مختنق تأبى عليه آثار العلة والحول أن يترعرع ويزدهر , فجسمها لطيف التكوين , إلا أنه ذابل , ووجهها مستدير حسن القسمات , إلا أنه مصفر عليل , وعيناها صافيتان واسعتان , ولكن قبحهما الحول وأخفى نظرتهما الحنون . ثم جاء موت أخيها علة فانهارت قواها وغلبها الحزن , فازدادت ضعفًا على ضعف وشحوبًا على شحوب , وأوفت من مرضها على نهاية خطيرة . ذاك كانت حالها حين فتحت لها صدرها عمتها , ثم أخذ كل شىء يتغير من بعد ذلك , بدأ هذا التغير فى الأشهر الأولى التى أعقبت الوفاة , ثم صار طابع الحياة

الجديدة وأملها المرموق و ووجدت الفتاة عناية لم تكن تجدها من قبل , فأقبل آليها يدعون ويقولون لأمها (( ربنا يفرحك بإحسان )) , وغمروها بالعطف والحب والدعاء , ومنحتها أمها جامع قلبها وكان لها نصفه أو أقل قليلا . أما الذى فازت به حقًا , وكان فوزها به عظيمًا , لأنه بعثها بعثًا جديدًا , فهو قلب عمتها , تلك المرأة الطيبة المحبة التى تتفجر نفسها رحمة وحنانًا , أحبتها كما كانت تحبها , وأحبتها كما كانت تحب أخاها , وأحبتها كما كانت تود وتتمنى أن تحب أمثالها من الذرية التى حرمتها ,فمن آى هذا الحب أن قبلتها يومًا وقالت لها :

– لا تستسلمي للحزن رحمة بنفسك ورحمة بأمك المحزونة وقالت لها مرة أخرى

وقد آلمها ما تراه فى وجهها من الشحوب والذبول .- لا يرتاح لى بال إذا تركت هذا المرض يعتصر شبابك الغض … ومضت بها إلى الطبيب , وتفحصها الرجل بعناية ووصف لها حقنًا ونصحها بتبديل الهواء , فأحضرت المرأة الحقن , ثم شدوا الرحال جميعًا إلى بلبيس – بلدة العمة – وهناك بين أحضان الريف الحنون وهدوئه الشامل فى الهواء النقي والشمس الصاحية سارع إليها البرء ومشى فى أعصابها الشفاء , فانتهت النوبات التى كانت تعتريها , ونجت مما كان يشقى حياتها من القلق والمخاوف , وسرعان ما امتلأ جسمها الهزيل واعتدل قدها وجرى فى وجهها ماء الشباب ورونق الصبا وجاذبية الأنوثة . وسرت العمة بما رأت , وكأنها بستانى يجنى ما غرست يداه لأول مرة  وأطعمها هذا الظفر بالمزيد , فحدثت نفسها : (( آه لو يذهب الحول … فأى عينين تكونان ! )) ولكن ما الذى يمنع هذه الأمنية من أن تتحقق … لقد سمعت أ، من أطباء العيون من يعالج الحول ويرد البصر سالمًا . ولم يقعدها التردد فقفلت هى وأسرتها الجديدة إلى القاهرة وقصدت إلى كبير أطباء العيون فأملها خيرًا وأجرى العملية فنجحت نجاحًا باهرًا فاق كل تقدير . واستوت عينان فطرتا على الميل والانحراف , وأخلى الحول مكانه لحور فاتن , ونظرة حلوة تقطر ملاحة , ونظرت إحسان فى المرآة فرأت وجهًا جميل  لا عهد لها به , يحسد على حبته الطبيعة من –الحسن والجمال , فانبهرت الفتاة , واستخفها السرور , وتناست أحزان الماضى وهمومه , وتفتح صدرها للحياة كما تتفتح الزهرة عانقها أول شعاع لشمس الربيع ,وابتاعت لها عمتها أبهى حلل فتبدت فى ثوبها الأسود النفيس فى بهاء العاج ورونقه , وأبرزتها من خدرها فقدمتها إلى أبها الاستقبال فى بيوت المعارف والجيران , وكانت تقول لها وهى ترمقها بعين الحب والإعجاب :

– لكم يشرح صدرى ويسر قلبى إذا جاءنا العريس المدخر غدًا … !

ولم يتثاقل هذا الغد ولا تأخر العريس طويلا , فجاء يطلب يدها البضة , ولما علمت الأم سر فؤادها المكلوم ,ودارت دمعة ترقرقت فى عينيها حين ذكرت ما ادخره الفقيد من مال لهذا الزواج ولزواجه هو أيضًا وباتت إحسان تلك الليلة فى سرور عظيم بل كانت أسعد لياليها وعندما رنق النوم بجفنيها فى ساعة متأخرة , رأت فيما يرى النائم حلمًا مؤثرُا و رأت أنها عادت إلى الشقة التى كانوا يقيمون بها قبل وفاة شقيقها , وأنها فى حجرته بالذات وعلى فراشه , ورأت فى وسط الحجرة نعشًا ملفوفًا فى الحرير الأبيض , يجلس على رأسه شيخ

كبير فى عباءة سوداء وعمامة بيضاء , وكانت تبكى وتكابد ضيقًا يكاد أن ينشق به صدرها , وكأنما الشيخ رق لها فوجه إليها الخطاب متسائلا :

– لماذا تبكين ؟

فقالت وقد أثر فيها عطفه فانهالت مدامعها :

– أخى … انى أبكى أخى …

فأومأ الشيخ إلى النعش وقال بهدوء :

– انه يرقد ها هنا

فحنت رأسها حتى تساقط الدمع على حجرها وقالت بصوت تخنقه العبرات :

– أعلم ذلك وا أسفاه

فسألها مبتسمًا :

– أتحبين أن يعود إليك ؟

فنظرت إليه بعينين لا تصدقان وقد كفت عن البكاء وتساءلت :

– أتستطيع ذلك حقًا ؟

– نعم بغير شك

فقالت بلهفة ورجاء :

– رد إليه الحياة … أعده إلينا

ولم تتمالك نفسها , فنهضت قائمة يلعب بفؤادها الأمل ؛ فقال الشيخ بهدوئه الذى لا يفارقه :

– ليس الأمر باليسر الذى تتصورين , فلابد من ثمن يؤدى

– أى ثمن … وهل يغلو ثمن لقاء أن يعود أخى ؟!

فهز الرجل رأسه المعمم وقال :

– إذا رد إلى الحياة وهذا على هين , فستردين أنت إلى حالتك الأولى , يعاودك المرض ويعتريك الذبول والاصفرار والحول , ولا يلبث حتى يسترد ماله فتفقدي خطيبك !

علاها وجوم , وشعرت بثقل الكابوس على صدرها , وشح جبينها عرقًا وزاغ

بصرها . فابتسم الشيخ وسألها كالمتهكم :

– – إيه … هل أعيده إليك حقًا ؟

رباه … ماذا تقول ؟ هل يمكن أن تنكص عن الجواب ؟

قالت وهى تزفر :

– نعم أعده

وتغير وجه الرجل , فلاح فى محياه الجد والاهتمام , ووثب قائمًا , ثم تحول إلى النعش يفك أربطته ويرفع غطاءه دون تردد وألقت الفتاة ببصرها إلى النعش لتستقبل العائد العزيز … ولكن اشتدت وطأة الكابوس وثقله , ورأت نفسها تتغير فى لمح البصر فترد إلى حالتها  لأولى , فاستردت صورتها العليلة وبشرتها الشاحبة وعينيها القبيحتين , وغابت كل المسرات : فلا نضارة ولا شباب ولا مال ولا زواج

وشعرت بإعياء وخور فلم تعد قدماها بقادرتين على أن تحملاها , فسقطت جاثية على ركبتيها , وعيناها لا تتحولان عن النعش … ثم غلبها البكاء , واستيقظت عند ذاك , فرفعت رأسها عن الوسادة , وتحسست يداها وجهها والفراش , لتتأكد من أنها يقظة , وأن ما كانت تكابده حلمًا من الأحلام , وكان قلبها يدق بعنف اضطرب معه ما فوق القلب من قميصها الأبيض , ثم أسلمت مرة أخرى إلى الوسادة وهى تتنهد تنهدًا عميقًا , وما لبثت أن أجهشت فى البكاء , ول لأنها مسخت فردت إلى حالتها الأولى , ولكن لأنها ذكرت أخاها الراحل , فثارت كوامن أشجانها .

وادي القلوب المحطمة – قصة لـ”يوسف السباعي”

أجل ! ما من زواج تم فى وادى القلوب المحطمة  إلا وأعقبته كارثة تورث النفوس حسرة ولوعة.
جمعتنى وإياه على الشاطىء ربوة عالية كستها الخضرة ، وظللتها شجرة هرمة كأنها والزمن صنوان ، وكان الوقت قبيل الأصيل وقد أشرفنا من مجلسنا على مغرب الشمس وقد أخذت تهبط فى الأفق حتى غمرتها مياه النهر فبدت كأنها جمرة متأججة توشك أن تخبو .. وبدت من خلفنا الكروم الممتدة فى الوادى الخصب تتخللها أشجار البرتقال والليمون وقد حملت إلينا النسمات شذى عطر يفوح أزهارها البيضاء .
نظرت إلى الرجل وقد اتكأ بظهره على مقعده وأخذ يهز ساقيه هزات منتظمة ، وأطلق بصره فى الأفق البعيد ، وشاعت فى وجهه علامات الغبطة والزهو وقال مستضحكا :
قلت لك إن هذا كان اسمه حتى صادفتها .. فمسه ومسنى منها سحر  ..فأصبح اسمه بعد ذلك ” وادى القلوب السعيدة ” .. وأصبحت أنا رجلا سعيدا .
منذ بضع سنين كان هذا الوادى خراباً بلقعاً .. وكنت أعمل بالتدريس فى إحدى مدارس المدينة وكانت هى طالبة فى هذه المدرسة . ورغم أن نوع جمالها قد جعلنى أميزها عن غيرها من الفتيات ، إلا أننى لم ألق إليها فى بادى الأمر كثير اهتمام …. أولا ، لأن الظروف المحيطة بى وقتذاك كانت تجعلنى شديد الزهد فى أن أخوض معارك غرام … شديد الرغبة فى أن أقى قلبى مزالق الهوى ومهاوى الحب … وثانيا ، لاننى حتى لو فشلت فى وقاية نفسى معارك الغرام – فلا أقل من أن أنأى بها عن الجو المدرسى فلا أجعلها تشتبك مع طالبة هى فى منزلة ابنتى أو هذا هو المفروض . وهكذا لم أحاول قط أن أظهر لها اهتماما خاصاً .. وإن كنت لم أستطع أن أمنع نفسى من الضيق لغيبتها إذا غابت .. أو السرور بوجودها إذا ما حضرت فقد كانت تلك إحساسات خفية فى داخل نفسى لا أستطيع الوصول أو التحكم فيها .. على أية حال لقد اعتبرتها مجرد شعور ” استلطاف ” لا يستدعى مني كثير انزعاج أو تفكير .
ولكن المسألة بدأت تتطور .. وبدأ ينشأ بيننا ذلك الود الصامت .. والصداقة التى نحس بها فى الصدور ، ولا تفصح عنها إلا نظرة أو بسمة تسرى بين الطرفين مسرى الكهرباء .
وفى ذات يوم كنت أشرح أحد دروس الجغرافيا . فذكرت فيما ذكرت هذه المنطقة وقلت لهن على سبيل التسلية إننى أعرف أن هذا الوادى يطلقون عليه اسم ” وادى القلوب المحطمة ” وأثار الاسم ضحكهن ولم يخل الأمر من أن يعلقن عليه ببعض النكات والتعليقات .
وفى نفس اليوم التقيت بالفتاة خارج المدرسة وكانت المرة الأولى التى ألتقى بها على حدة فتصافحنا .. واحسست بمتعة شديدة عندما شعرت بها تسير بجوارى جنباً إلى جنب وكان حديثنا لا يمكن أن يخرج عن المحيط الدراسى حتى سمعتها تسألنى ضاحكة … هل رأيت وادى القلوب المحطمة ؟
فهززت رأسى بالإيجاب . فعادت تسأل :
– هل تعرف لمً أطلقوا عليه هذا الاسم ؟
– إن لذلك قصة . – قصة حب ؟
وترددت برهة قبل أن أجيب . لو قلنا قصة بغض فقد يكون التعبير أصح .. هل تودين سماعها ؟
– ذلك يتوقف على خاتمتها .. أن كانت محزنة فإنى زاهدة فى سماعها .. لأنى أحس بشىء من السعادة .. لا أود أن أفقده .
– إذا كان الأمر كذلك فلا داعى لقصها .
وكان فى صوتى رنة حزن جعلتها تعود فتطالبنى بقصها وتصر على ذلك وكنا قد وصلنا إلى الحدائق العامة فدلفنا إليها وانتحينا ركناً هادئاً وبدأت أقص عليها القصة قائلا :
– إنها لعنة قديمة أطلقتها عجوز هندية فأصابت المكان وظلت به حتى يومنا هذا ، ولقد قالوا إن سبب اللعنة هو أن العجوز كانت لها ابنة تعمل خادمة عند سيد الوادى ، وكانت الفتاه أشبه بزهرة متفتحة أو عصفور مترنم يشع السحر من عينيها ويفيض الشهد من فيها … لاترى إلا مرحة ضاحكة جمة النشاط مجدة دؤوباً لا تكاد تشرق الشمس إلا وهى تسحب البقرة لتحلبها .. وتظل طيلة يومها فى عمل مستمر لا تهدأ ولا تستقر .. فكانت محل رضاء السيد الكهل وامرأته .. وموضع عطفهما … حتى كان ذات يوم ذهب الرضاء أن وتطاير العطف ، وحل محلهما غضب شديد على الفتاة .
لقد أحب ابنهما الفتاة … ابنهما الذى سيصبح سيد الوادى ، والذى سيرث تلك الأملاك الواسعة ، قد أحب الخادمة ! … ولو حدث هذا الأمر فى وقتنا هذا لما كان بالشىء المستغرب ، ولما نظرنا إليه نظرتنا إلى شىء يستحيل وقوعه ، أو إلى جريمة تستحق العقاب .. لأن الحب أمر ليس للأنسان فيه قدرة الاختيار بل هو مقود مساق .. وما كان الفتى والأمر كذلك ليلام على وقوعه فى حب الفتاة ولكن السيد والسيدة هالهما الأمر ،وثارت ثائرتهما عندما أنبأهما بعزمه على الزواج من الفتاة … وصمما على أن يطرداها شر طردة وأن يبعداها عن الوادى ويوقعا بها أقصى العقاب فقد اعتبراها مسئولة عن غواية ابنهما وإيقاعه فى شراكها .
وهجمت السيدة العجوز على الفتاة فى حجرتها فكالت لها الشتائم والسباب وجردتها من ثيابها . ثم أقبل السيد فانهال عليها بسوطه حتى ألهب ظهرها .. وانطلقت الفتاة تعدو من الدار فزعة مرتعدة حتى وصلت الى أمها فسقطت أمامها مغشياً عليها .
وراع الأم ما حل بابنتها ، فرفعت كفيها إلى السماء ودعت الله أن يحطم قلوب أهل الوادى وذريتهم من بعدهم عقب كل زيجة تتم ، وأن يفجع كل زوج فى زوجته وكل زوجة فى زوجها وكل أب وأم فى بنيهما .
وسادت فترة سكون قطعتها الفتاة متسائلة :-
– وهل استجيب الدعاء وحلت اللعنة ؟
– أجل .. فأصابت أول ما أصابت صاحبة اللعنة نفسها .. وكان أول قلب تحطم هو قلبها هى .
– ماذا تعنى … وكيف ؟
– لقد فر الفتى ابن السيد .. وتزوج الفتاة رغم أبيه وأمه .. ولم تمض بضعة أسابيع .. حتى حلت اللعنة وماتت الفتاة بين ذراعى زوجها بعد أن أصيبت بلدغة أفعى.
– وهل استمرت اللعنة ؟
– أجل .. لقد مرت السنون .. وفى أول زواج حدث فى العائلة بعد ذلك أنجب الزوجان طفلا قرت به عيناهما ولكنه لم يكد يبلغ الثالثة حتى سقط من النافذة ودق عنقه وجنت أمه الثكلى . وهكذا استمرت اللعنة تحطم قلوب القوم وتفجع نفوسهم جيلا بعد جيل .. فمرة تفر الزوجة مع عشيق لها .. ومرة يفر الزوج مع خادمته وثالث يلعب الموت دوره فيأخذهما ليترك الآخر كليم القلب مجروح الفؤاد .. أجل ما من زواج تم فى وادى القلوب المحطمة إلا وأعقبته كارثة تورث النفوس حسرة ولوعة ترى هل أحزنتك القصة ؟
– لا أظن .. ولكن قيل لى .. هل ينسب الناس كل تلك الكوارث التى حدثت فى الوادى إلى لعنة العجوز ؟ .
– طبعاً .. ولقد انتهى الأمر بصاحبه الأخير إلى هجره والفرار منه بعد أن تحطم فيه قلبه .. أجل .. لقد تركه لخادمه وأقسم ألا يعود إليه .. وأصبح الآن خادمه سيده .
– ولكن ما هى قصة الكارثة الأخيرة التى حدت بصاحب الوادى إلى هجره ؟
– كغيرها من الكوارث لا تخلف قليلا ولا كثيراً .. لقد أحب الرجل – أو هكذا خيل إليه – فتاه شقراء فاتنة ، وكان يرى فيها ملاكا طاهراً حتى تزوجها .
– يخيل إلى أنك تعرف الرجل جيدا ً
– أجل لقد كنت أقرب الناس إليه .. أقرب مما تتصورين .. فأينما ذهب ذهبت ، وأينما ذهبت ذهب
– .. هل فهمت ؟ !!
ونظرت إلى نظرة طويلة ثم هزت رأسها ببطء وقالت فى صوت خفيض .. أظن أننى فهمت .. قل ماذا حدث لصاحبك بعد أن تزوجها ؟
– حدث أمر فى غاية البساطة .. لقد كان لصاحبى هذا صديق عزيز لديه .. صديق طفولة وزميل صبا .. فدعاه فى ليلة عرسه .. وفى الصباح عندما جلس لتناول الفطور .. لم يجد صاحبه ولم يجد زوجته .. لقد فر الأثنان ؟.
– غير معقول !.
– معقول أو غير معقول .. إن هذا هو ما حدث .. إنها لعنة العجوز قد حطمت قلب صاحبى ..
– ولكن لا أظنك يا سيدى تعتقد أنت الآخر أن لعنة العجوز لها دخل فى الأمر ..زوجة طائشة لا خلاق لها ولا وفاء وصديق أنانى استبدل بالوفاء خديعة وبالأمانة خيانة .. وزوج سليم النية ظن بهما خيراً فلم يعرف خبيئة نفسيهما وحطمت قلبه الواقعة .. ما دخل لعنة العجوز فيما حدث ؟
وأحسست بشىء من الخجل وأصابنى الارتباك وشعرت أنها ترمقنى بنظراتها فلم أنبس ببنت شفة وأردفت هى تقول :
– قل لصاحبك إنه جبان لأنه فر من وطنه خوفا من لعنة العجوز .. وقل له أن يتعلم كيف يختار امرأته وكيف يعطى قلبه لمن تستطيع صيانته .. لا لمن يطربها تحطيمه !.
ونظرت إلى عينيها لأسبر غورها ولأنفذ إلى رأسها ، وقلت كأنما أحدث نفسى .. إن صاحبى لم يعد فى حاجة إلى من يقول له ذلك .. فلقد اختار فعلا .. ويخيل لى أنه لم يخطىء هذه المرة !
– إذا فماذا يبقه بعيداً عن موطنه ؟
– إنه يخشى ألا ترضى أن تعود معه .
– هل سألها ؟ – لا .
– ولم ؟ – إنه يخشى .
– يخشى ! .. ألم أقل لك إنه جبان .. ماذا يخشى من سؤالها .. هبها رفضت فلتذهب إلى حيث ألقت .. لأنها تكون لا تستحق حبه .. ويكون قد أخطا فى الأختيار مرة أخرى .
والتقت عينانا ، فلم أستطع المقاومة ولمحت فيهما انتظاراً ولهفة ، لقد اتهمت صاحبى بالجبن ، وهى لاشك قد عرفت أن صاحبى هذا هو نفسى ، وهى تعيب على أننى لم أسألها .
وأحسست بيدها تضغط على يدى وسمعتها تقول :-
– سأتحدى لعنة العجوز ، إن المسألة لاتحتاج إلا إلى شيئين حب ووفاء ، وساستطيع بهما أن أقهر اللعنة ، وأن اجعل من وادى القلوب المحطمة ، واديا للقلوب السعيدة .
وعدنا سوياً إلى الوادى ، فأصبح يا سيدى كما تراه ، لا يكف طيره عن الترنيم ،ولا زهوره عن الابتسام ، لقد مرت علينا ثلاث سنوات أنجبنا فيها طفلا وطفلة ، وإنى لأحس ، بالقناعة والرضا ، وأحمد الله على نعمته .
ولم يكن يتم قوله حتى رأينا دخاناً يتصاعد فى الهواء من ناحية الدار ، ورأيت وجه الرجل يكفر وبدا فى عينيه ذعر شديد فأصابتنى قشعريرة ، وقفز من مكانه صائحا : ” حريق ” !!
وانطلق يعدو إلى الدار كسهم مارق وأنطلقت أعدو خلفه بكل قواى وتذكرت فى تلك اللحظة لعنة العجوز ولم أشك فى أنها خطرت برأسه ، وأنه قد خشى أن يكون حريق قد شب فى الدار فأصاب زوجته أو ولديه بسوء ، وأنطلق كالمجنون لكى يبعد عنهم ذلك السوء .
وعندما وصلت إلى حديقة الدار كان الرجل قد اندفع إلى الداخل وأخفاه الدخان المتكاثف ، وبعد لحظة رأيت امرأته وولديه يقبلان من خارج الدار وقد روعهم الحريق وأحسست بفرحة شديدة عندما تبينت أنهم بخير ، وأنهم لم يكونوا داخل الدار ، وأخذت أصيح بالرجل لكى أنبئه بسلامتهم حتى يعود إلينا ، ولكنه لم يسمع ، لقد كان يعدو وسط النيران كالمجنون وهو ينادى امرأته وولديه .
وأخيرا خرج الرجل من النار ولكنه لم يكن إلا جسدا أكلته النيران وأحرقه اللهب ، ومات الرجل ، ولم يكن موته هو الذى أوجع قلبى فما حزنت لشخص مات ، إنى أحسد الموتى على موتهم ، لأنى أرى فى موتهم نجاة لهم من حياة كلها تفاهات وسخافات ، ولكن الذى روعنى حقاً ، هو تلك المرأة وولداها ، وقد بد ثلاثتهم كأنهم تماثيل للوعة والأسى .
أجل هذه القلوب الثلاثة البريئة المحطمة ، هى التى حطمتنى وأبكتنى .. هذه المرأة الشجاعة التى ظنت أنها تستطيع أن تقهر القدر بالحب والوفاء ، وقد جزاها القدر شر الجزاء

“قدري الشواف” – قصة لـ مصطفى يونس

البدايات لا تنبئ أبدا
بالنهايات، ولا دليل في شروق الشمس من الشرق في صباح اليوم على حتمية غروبها غربا
في نهاية اليوم، وليس بالضرورة أن ينتهي اجتماع السحب في السماء بنزول المطر،
وحياتي أكبر دليل على كل هذا..

من كان يتصور بأن أتنقل في حياتي من مكان إلى مكان بعيدا عن الحارة – حيث نشأتي الأولى – حتى ينتهي بي المطاف أن أتناول فنجان قهوتي في تلك الشرفة الجميلة المطلة على تلك المساحة الخضراء الواسعة، التي لم أكن أتخيل يوما أن أقضي أيام شيخوختي قبالتها..

لعلها نادرة صارت تلك اللحظات التي تحضرني فيها ذكريات زمن الطفولة البعيد. تفنى الذاكرة فيما يبدو مع تقدم السن، أو ربما ضجيج الحياة صار لا يفسح مجالاً للحظات الصفاء التي يستلزمها اجترار الذكريات.

أيا كان الأمر، فدون
مقدمات يلح على ذهني منذ الصباح اسم استدعى معه كل روائح الزمن القديم..

 “قدري الشواف”..

ربما استدعى الاسم إلى ذهني مقابلتي بالصدفة لأحد أبناء أخيه منذ ايام في مصلحة الجوازات بينما أعد العدة
للسفر للعمرة.

 لقاء سريع، عرفت منه خلاله بأنه يعد نفسه للسفرلبلد أوربي لزيارة أحد أبنائه، كان الرجل يقاربني في السن تقريبا، ولكن كان لم يزل
في ملامحه شيئا من وجهه الشاب، جعلني أتعرفه فور لقائي به. لعله تذكرني بصعوبة، أوكان تعجله الخلاص مما أتى لأجله، جعل لقاءنا ينتهي سريعا، لكنه على العموم كان لقاء أسعدني بحق، ولعل جل ما كان سبب سعادتي هو انتعاش مفاجئ اعترى ذاكرتي على أثرها استدعت معه أشياء كثيرة من الزمن القديم، كنت قد ظننتها ذهبت عني إلى الأبد.
أسماء وشخوص وأحداث عادت لتشعرني بمدى غنى الطريق الذي أشرفت على بلوغ نهايته، وكان “قدري الشواف” من أبرز تلك الوجوه.


لعل ابن أخيه هذا قد نساه أو تناساه، أو ربما كان يجهله برغم صلة الدم، وقد يكون كل ما يعرفه عنه لا يتعدى ما أعرف بالفعل، وكل خبر بعد ذلك يعد دربا من التوقعات والأساطير..

تستدعي الذاكرة بصعوبة ملامح الأستاذ “قدري الشواف”، فلا أتذكر سوى أنه ليس في ملامحه شيء مشوه أو مستفز يعلق بالذاكرة، ولكن لا تخطئ تذكر طلعته الأنيقة قياسا إلى زمنه، واهتمامه بمظهره، كونه منتميا لطبقة المتعلمين القلائل في حارتنا وما يجاورها من أحياء..


كان الابن الثالث في أسرة فقيرة الحال، يعولها أب بائع طرشي أورث صنعته لأغلب أبناءه، غير أن تفوق “قدري” في دراسته كفل له من المعونات الحكومية والمنح ما جعله يسلك طريقا آخر، ولكنه اكتفى بالحصول على الابتدائية، وهو ما أهله ليعمل مدرسا في إحدى المدارس الأهلية القريبة من محل سكنه، وخلال سنوات ابتاع بيتا صغيرا بالحارة قريب لمحل إقامة
عائلته، وافتتح سلسلة زواجات الأسرة حين اقترن بـ “منيرة” بنت “عطوة الفحام” وهي خطوة جعلت أسهم أسرته ترتفع في المنطقة ورقتها قليلا
في السلم الاجتماعي..

لعل حياة الأستاذ “قدري” كانت لتمر بشكل عادي، أو هكذا كانت لتبدو في سنواتها العشرة التالية، منذ استقراره مع عروسه في بيته الصغير، ثم انجابه لثلاثة أبناء نابهين، وعلاقة المودة التي كانت تربطه وعائلته بعائلات أخوته، وأيامه العادية الموزعة بين عمله وبيته وجلساته شبه الإسبوعية على مقهى “الوردة الفينيقية” في الميدان مع ثلة الأصدقاء الذين لم يكن ليتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، ولكن كل شيء تغير فيما بعد..


2

ربما بدأ الأمر في تلك
الليلة التي سمع فيه الناس في حارتنا صوت الصراخ والولولة يتصاعد من نوافذ بيت “شعلان” فتوة الحارة حاملا نبأ وفاته المفاجئ، ودون سابق انذار.

أعقب تلك الليلة ثلاث ليال صامتة كئيبة، غلقت فيها الدكاكين والبيوت، واعترى سكانها التوجس متغلبا على الحزن لوفاة فتوتهم، واحتل صوان عزاء الفقيد صدر الحارة مستقبلا المعزين من سكان الأحياء المجاورة وعصابات فتواتهم.

كان أعداء “شعلان” المتربصين أكثر من محبيه، وأغلب زيارات العزاء تلك كان لا تخلو في باطنها من غرض استطلاع ما تمضي إليه الأمور في حارتنا بعد سقوط فتوتها القوي، والاحاطة باسم خليفته المنتظر، ومدى استعداده لاحترام معاهدات الصداقة والسلام التي أبرمها سابقه أو تسخير الحارة ورجالها في استكمال معاركه مع أعداءه..

كانت تسري في العزاء همسات ببعض الأسماء التي سمحت لطموحها أن يتمدد في اتجه احتلال مكان “شعلان”، وبدأت الأصوات تعلو بها رويدا رويدا حتى ليلة العزاء الثالثة والأخيرة، حين انبرى “صابر العتماني” شيخ الزاوية بخطبة عصماء في حضور”غالي النطع” فتوة الحبانية عن فضل الصبر على المصائب، وما تركه “شعلان” من سيرة طيبة وأعمال خيرة كان أولها الدفاع عن حارتنا ضد أعدائها حتى أنه أبى أن يترك مهمته دون أن يسلمها إلى من يأتمنه على استقرارالحارة وأمنها، وهو ما جعله يزور الشيخ “صابرالعتماني” في منامه ويؤمنه على اعلام أهل الحارة بأنه لا يأمن عليهم من بعده إلا بأن يضعهم وأهليهم وأموالهم تحت حماية فتوة الحبانية.

لم ينتهي الشيخ من خطبته، فقد غطى على صوته، وصمت صوان العزاء تكبير وتهليل رجال “غالي النطع” ومن ورائهم أغلب رجال الحارة ممن رأوا في رؤيا “العتماني” سبيلا للخلاص من قلقهم وترقبهم على مستقبل حارة تنقصها يد فتوة قوي يحميها من أطماع الفتوات والعصابات، بينما اكتفت الأقلية بصمت المندهش وهي تشاهد فتوة الحبانية وهو يخرج من الصوان محمولا على الأكتاف من صوان عزاء “شعلان” الذي تحول بلحظات لصوان فرح لمبايعة “النطع”.


3

في اليوم التالي حملت نسمات العصر الهادئة نبأ مجاهرة الأستاذ “قدري” بالمعارضة والسخرية مما حدث في عزاء فتوتنا المتوفي، ورفضه مبايعة الفتوة الجديد الذي أتى بناء على رؤيا وصفها بأنها مشكوك فيها وتحتمل الكذب أكثر مما تنبئ بالصدق في فحواها..

“لم نعرف في سيرة”شعلان” ما يجعله وليا من الأولياء، ولا عالما من العلماء حتى نلتزم حتى لو من باب الحياء بوصيته المشكوك في صدقها أصلا”

بل لقد ذهب الأمر إلى
شخص الشيخ “العتماني”..

“”العتماني” ضرير، ولم ير “شعلان” في حياته حتى يتعرف عليه في
منامه.. ومنذ متى كان لـ “العتماني” كرامات الصالحين؟!”

 كان “قدري الشواف” رافضا، وبشكل قاطع، لان نولي أمرنا من لم نعرف بناء على رؤية في منام أحدنا..

 بدأ الأمر بهمس انساب في جنبات الحارة يتهم الأستاذ بالخروج عن جماعة المسلمين، ثم سرعان ما تعالت الأصوات، وكان أغلب أصحابها
من العربجية وأصحاب المهن الذين تجمعهم ليالي الأنس في مقهى الحارة الوحيد، تسخرمنه وترميه صراحة بالجنون والكفر لطعنه – من وجهة نظرهم – في حقيقة البشائر الإلهية في رؤى الصالحين.

– كثيرا ما خاطب الله أنبيائه في منامهم وأمرهم، وأبو الأنبياء رأى أنه يذبح ابنه فامتثل للرؤيا، فكيف لا نطيع ونمتثل؟

– الأستاذ بيته مليء بكتب الأجانب الكفرة.
– بل لعله جاسوس مندس وذنب من أذناب الانجليز المحتلين!

– كيف نسمح أنيكون بيننا كافر كهذا؟!

بل ووصل الأمر ببعض السفهاء – في الأيام التالية – ان يسلط عليه أطفال الحارة ليزفوه بالأغاني والتهليل في ذهابه وايابه.. وبقي هو مصمما على رأيه دون أن يمالئ أو يوارب.

 من ناحية الفتوة الجديد فلا أذكر أنه قد احتك به. أظن أنه كان يكن له نوعا ما من الاحترام، كان يسمع ما يدور في الحارة ويكتفي بالصمت الراضي، بعضهم كان يتقرب له بسب الأستاذ في حضرته ويصيح غاضبا أو مصطنعا الغضب..

– كيف يطعن في أحقيتك بزعامة الحارة وأنت خيرالفتوات وأحقهم بها.

لكن الغضب الموالي للفتوة الجديد لم يقتصر على الكلمات وقتا طويلا. جائت تلك الليلة التي كان “زينهم الدرزي” – وكان من أشقياء الحارة – يجلس مع بعض صحبه الذين نجحوا فيما بينهم في جمع ثمن زجاجتي “براندي” اشتروهما من “البار”الجديد الذي افتتح حديثا تحت المبنى الزجاجي الضخم في الميدان مع نصف كيلو من الترمس وبعض الخيار واتجهوا لتجمعهم السهرة ببيت “زينهم” القريب من بيت الأستاذ، ويبدو أن الحديث المخمور اتجه نحو موقف الأستاذ من رؤيا “العتماني”..

– هذا الأستاذ مجنون.

– انها المدارس والكتب التي تفسد عقول هؤلاء وتجعل إيمانهم يتآكل حتى يكفروا بالخالق تماما وينكرون كرامات الأولياء والصالحين.

وارتفعت نبرة الحديث ومعها موجة غاضبة في العيون التي كساها “البراندي” بلون الدم، وصارت الكلمات تتشابك لتنسج نهاية دموية خطتها العقول المخمورة؛ فلم تنته الليلة إلا ومعها حياة الأستاذ وأسرته الذين كانوا يغطون في نوم عميق حين ارتفعت حولهم ألسنة الحريق التي فشل كل جهد في مكافحتها؛ فلم تترك شيئا أو أحدا في البيت إلا كتلة متفحمة دون معالم.

4


تغيرت معالم الحارة بعد ذلك بفترة وجيزة، فمنزل زينهم الهارب من أيدي الشرطة تحول لشونة غلال يمتلكها الشيخ “العتماني” ويديرها ابنه “صالح”، أما فتوتنا “النطع”، فقد حد انشاء نقطة الشرطة في الميدان من سلطته في حارتنا وما حولها؛ واضطر تحت انحسار وتضاؤل حصيلة الاتاوات إلى الاتجاه لتجارة الحشيش.
أنا أيضا تركت الحارة بمجرد تعييني بوظيفة مفتش للري في إحدى قرى الصعيد ولكنني لم أزل أزور حارتنا كلما استطعت للاطمئنان على الأهل والصحبة وإن كان على فترات متباعدة، وكلما مررت بالأطلال المحترقة يعتصرني الألم لمصيره البائس الحزين. شيء ما بداخلي كان يستغرب موقفه كلما تذكرته. 

بعين القلب يجمعني به اللقاء في المنام، فأراه في مقام الشهداء، وأسأله، فيجيبني راضيا..

– لم أكن تقيا ومستقيما كما ينبغي، ولربما لولا كلمة حق صبرت عليها، ولم أحد، ما وصلت مقامي الذي ترى. ….

الكشوفات – الكشف الأول “غروب”

كان مشهداً رائعاً للغروب. وكانت السماء مصطبغة بلون نحاسي رائق لا يفتأ يزداد شحوباً وقتامة، وأريج الزهور يسبح حولنا في تيارات من النسيم بارد عليل مع نغمات حزينة من ” كمان ” بعيد مجهول، أنغام بدت وكأنها تأتى من أعماق الغيب الغامض.
في بعض لحظات كان المكان يبدو لأنظارنا كقطعة من الجنة، وكنا نحن كأهلها سعادة وارتياحاً، وقد ألقى كل منا بجميع ما يعج به عقله من أفكار وذكريات لتسبح حوله في دعة وصمت طويل، لم يقطعه سوى بعض تنهدات غامضة، ربما لذكرى عزيزة تمر بالخاطر أو إشراقه وجه حبيب من صفحات التاريخ المنسي.
وأخيراً ينتهي العزف الغيبي تاركاً مساحات لا متناهية من السكون والشجن، ويغرق الأفق في ظلام سرمدي دامس، فيقول احدنا وهو يمسح صفحة السماء بنظرة ذابلة..

“حتى الفردوس لا يخلو من الظلام والشجن.”
تمر فترة من الصمت الثقيل قبل أن يشير أخر إلي نجم بعيد…

“الظلام أيضا لا يخلو من بريق نجم ما…”

أوراق ميتة- قصة لـ “مصطفى يونس”

1

لا شيء يبدو كما كان أبدا..

أقف على قمة جبل الولع، والدنيا كلها خلف ظهري، كأنني في الجنة أو أحلى. لكل ثمرة أقطفها طعم مختلف ينافس سواها في الطعم واللذة، وأنا أتنقل بين الثمار في شغف محموم لا يشبع، تحفني روائح العطر الدافئ. جسدي يغمره العرق، فلا أبالي، والشبق يسلب روحي. آهاتها الخافتة تجلد تشوقي؛ لا أملك سوى أن أنغرس في تربة الجنة كجذع مجنون يتلوى، أستسلم لعنف الانتفاضات، وأعاني انفجارات من البلور تفور من خاصرتي جاذبة معها أجزاء من روحي، وفجأة تغيم الدنيا في عيني، تنام بداخلي البراكين، فأنهار إلى جانب عريها الفاتن.

 من بين الغيمات أتأملها، صار شعرها الأسود الممزوج بالحمرة متناثراً على جبينها، وتغيرت ملامحها تحت سيول الكحل وألوان الشفاه التي كانت تشعل غاباتي بهما منذ دقائق، صدرها البض يعلو ويهبط في عنف، ولكن لا صوت لأنفاسها. لأول مرة لا أراها جميلة، وكما يغادر البريق لوحة تفاحة مقضومة، يخبو بهائها في عيني، فيعتريني العجب من نفسي للحظات..

  • لا تستسلم للنوم. قد يأتي بأي لحظة.

ها هو أيضا صوتها يتغير في أذني، يغادره ذلك الرنين اللذيذ. ألتفت إليها دون أن أجد في نفسي الرغبة للرد أو حتى تعليق ساخر، وأقوم لأرتدي ملابسي في صمت. لعل كلينا لم يجد ما يقال. انطفأ كل ما تبقى من وهج، وربما للأبد..

2

علاقتي التي بدأت أولى جولاتها بـ “منى” زوجة “علي العدوي” انتهت بمجرد بدايتها. لم أجد لديها ما أصبو إليه. نعم، تخيلت أنني قد أجد فيها ذلك البرق. الصاعقة التي تضرب حياتي الراكدة.

للحظة ظننت أن امرأة جميلة شهية كـ”منى” يمكن أن تكسر ملل دورات التروس، ولم لا؟ لديها كل ما افتقدته زوجتي برغم سنهما المتقارب، ونفس عدد الأبناء، لكنها كانت تحتفظ بقدر كاف من الأنوثة والأناقة والدلع الكفيل بإسعاد رجل، وهو ما افتقدته مع زوجتي بشدة، حتى صار البيت وعملي بالهيئة كوجهان لعملة واحدة. كلاهما يفتقد البريق والحماس. صارت العلاقة الزوجية “الموسمية” كتوقيع الأوراق، لا يشوبها شيءٌ من فنون اللذة التي تكسب للحياة طعمها البض الصابح، و برغم هذا، ما زلت أحتفظ لـ”تحية” بأشياء كثيرة بداخلي بعد هذا العمر المترع بالأزمات التي عبرناها معا،ً برغم أن أزمات مماثلة كانت كفيلة بهدم أي حياة.

قد يكون هذا جنوناً، هذه الأشياء ربما كانت سبباً رئيسياً في انهيار علاقتي بـ”منى” قبل أن تبدأ بداية حقيقية، ناهيك عن علاقة قديمة تربطني بزوجها “علي”، لكن – ولا أكذب على نفسي- بالأساس لم تكن “منى” ذلك النوع الذي يلائم مثلي. برغم كل شيء. رقصها الكفيل بتحريك الجبال، نعومتها، ومعرفتها بكل الفنون التي تسعد الرجل، لكني لامست شيئاً ما. لم تكن مستمتعة معي بالكامل. كأن ثمة شيءٍ جمد بداخلها في لحظة ما، ربما كانت صورة زوجها “علي العدوي” قد طافت بمخيلتها، فجمدت بداخلها كل شيء. برغم أنك منذ النظرة الأولى ستعرف أن “منى” ليست من النوع الذي يمكن أن يصبر على طعام واحد كل هذه السنوات. لابد أنني لم أكن مغامرتها الأولى، والحقيقة لم يكن هذا أيضا يشغلني كثيراً، ففي النهاية انقطع الاتصال بيننا، وكأنه اتفاق غير معلن بانتهاء علاقتنا، وللأبد. عدت لرتابة حياتي، وبداخلي شبه يقين بأن شيئاً لن يتغير. ستظل العجلة تدور على حالها حتى ينتهي عمري دون أن أعيش حياة حقيقية.

يا الله! كم سئمت توقيع الأوراق!

“تحية” لمست التغيرات والضيق الذي صار يحكم كل شيءٍ أفعله أو أقوله، وحاولت لمرات أن تستفهم مني، ولكن كل محاولتها للكلام فشلت. كنت أصدها وأغلق كل باب للكلام..

 -ماذا بي؟!ماذا بي؟! هل أبدو لك مجنوناً؟

 في ليلة ما حاولت بطريقة أخرى، بعد نوم الأولاد تركتني في الشرفة، وتسللت إلى حجرة النوم، فارتدت قميصا مغريا ووضعت الألوان التي كانت قد نسيتها أو تناستها لسنوات، لكن مضت الليلة الجميلة دون أن تترك بداخلي أثراً حقيقياً. ليلة واحدة كانت كإلقاء حصاة في بحيرة راكدة كبير من السنوات الغابرة

 يا الله! سأجن! لا يمكن أن أنتهي هكذا!

ليالٍ مرت، وأنا أتساءل، وأفكر في طرق جديدة لاستعادة هذا الحماس القديم، ذلك البريق في عينيَّ الذي لم تعد تنطق به المرايا، لكن الأيام تمضي على وتيرتها وايقاعها، لا شيء يتغير فعلا!

3

حاولت كل شيء، غيرت المقهى الذي كنت أرتاده، تعرفت بأصحاب جدد، وصرت أشاركهم كل شيء يفعلونه حتى تدخين الحشيش والسهرات المعبقة بالدخان والنكات، لكنني كنت أعود منها دوماً أكثر تململا وقنوطا على نفسي وحياتي، فقررت الاقلاع مرة أخرى عن كل هذا. عرفت أنني سأخسر صحتي رويداً رويداً دون فائدة تذكر.

“تحية” كانت تراقب عودتي متأخراً في كل ليلة والهالات السوداء تحيط عيني في صمت وصبر، كأنها تعرف أنها مجرد موجة ثورة وتغيير طارئة، سأعبرها طالت أم قصرت، وأعود بالنهاية لحياتي معها ومع الأولاد.

 وحدث ما تنبأت به، سرعان ما تخلص جسدي من أثر المكيفات، وعدت لسيرتي الأولى، فلا أشرب، ولا أسهر. عدت أيضا لشلتي القديمة في المقهى القديم، وفي طريقي للبحث استعدت هويتي القديمة عدت لأرتب مكتبتي العامرة، وأزلت التراب عن رفوفها وكتبها، وساعدتني في ذلك “تحية” والأولاد بمنتهى الأريحية التي يمكن أن تصفها بالفرح أيضاً. كانو مستمتعين تماماً، وعيونهم تقع لأول مرة على كنوزي القديمة التي كانت قد اختبأت لسنين في صناديق الكارتون تحت فراشي. وأخيرا وقع في يدي كتاب، تحت غلافه وجدت توقيعه وكلمات التهنئة الرقيقة في عيد ميلادي. كان قد اعتاد طوال سنوات أن يهديني كتابا كهذا في كل عيد ميلاد لي. حمل الاسم والتوقيع إليَّ طوفاناً من ذكريات صحبتنا القديمة. لامست في حروف اسمه ذلك الحنين لسعادتي التي مضت. ظللت طوال تلك الليلة أفكر، وأستعيد تلك الذكريات التي جمعتنا سوياً..

يا الله! أين مضى ذلك العمر الأخضر تاركا في دمي هذه الأعواد اليابسات؟

4

 في الصباح التالي استيقظت مبكراً، وفي عروقي همة غير مألوفة. اتجهت لمحطة القطار. ثلاث ساعات وأرجع إلى البلدة حيث تركته، ومعه سنين سعادتي وبريق عينيَّ. اتصلت من المحطة بالهيئة وطلبت إجازة قصيرة، وبرغم تبرم المدير، لكني كنت أعرف بأن رصيد إجازاتي كبير، ويسمح بإجازة أكبر، ولهذا لم يستطع الرفض.

كنت أتحرك بهمة صبي في مقتبل عمره. لحقت بالقطار في آخر لحظة. كان بداخلي إيمانٌ مبهمٌ بأن إجازة قصيرة كهذه بصحبته كفيلة بضخ الدم من جديد في عروق حياتي الجامدة. ثلاث ساعات امضيتها في القطار مع ذكريات عمرنا الشاب الرائع. اتجهت بعدها لمنزله مباشرة. فتح لي الباب طفل صغير، ما ان رآني حتى دخل مهرولاً لمناداته، وما ان رآني حتى طفرت الدموع من عينيه فرحا وهو يضم جسدي المنهك

– يخرب بيت أبوك، كم ليلة مضت، ووجهك الحزين يطارد أحلامي! واحشني يا ابن الكلب.

تزوج، وأنجب، وربى كرشا وترهلات لا بأس بها، ولكن لا شيء تغير فيه حقيقة. لازال على عهده القديم. يبدو أصغر مني برغم انه لا يفرق بينا ميلادينا سوى شهر واحد.

بعد الغداء أخذتنا أحاديث الذكريات، وأخبار البلدة، ومن عاش ومن مات، حتى جاء اسمها في معرض حديثنا، فبادرته بالسؤال عنها..

  • عبير!

تأمل وجهي للحظة في دهشة ثم أغرق في الضحك

  • –         والله لا زلت على ضلالك القديم!

كانت “عبير” هي الحب الأول، حب سنوات المراهقة الأولى. ركن ركين في القلب، قد تنساه، لكنه موجود دوماً في انتظار أن تفتح بابه، فيغرقك بالعبق والحنين. حب لم يفقد من قيمته شيئا، ولا يخفت بريقه مهما مضت به السنوات، وعلاه تراب الذكريات. أتى في صمت، ومضى في صمت دون حتى أن أعبر عنه أو أبث سره في أذن صاحبته. هو فقط من كل العالم كان يعرف بهذا الحب المكتوم الذي لم تعرف به حتى هي.

ضايقتني رنة السخرية في صوته لكنني تجاهلتها، كان يعتريني الفضول للمزيد من أخبارها، وفي ذهني خاطر جنوني. تركته يستطرد..

نعم، تزوجت، ومات زوجها دون إنجاب أولاد. صارت أرملة وحيدة. مات كل أهلها تاركين اياها في بيت طويل عريض..

  • هل من الممكن أن تساعدني لكي أراها ولو حتى من بعيد؟

تفرس في وجهي مستنكرا..

  • جننت أنت! أفق يا “كمال”. أنت رجل متزوج وكبير، مغامرات الصبيان لم تعد تصلح لنا.

 وكأنه قرأ خواطري المجنونة، لكنني حاولت طمأنته

  • –         سأطلبها للزواج يا أخي. أنا حر! فلا تحرم ما أحل الله.

تحول استنكاره إلى غضب وحنق..

  • تطلب من للزواج؟! عبير! والله أنت مجنون.

 برغم ما اعتراني من حرج لكنني لم أستسلم له

  • ولمَ لا؟! أنا رجل مقتدر، وأستطيع اعالة بيتين، ولو لم ترد ترك البلدة والسفر معي إلى القاهرة، لن تكون هناك مشكلة أيضا!

مط شفتيه وهو تهدئة نفسه..

  • يا “كمال”! أنت لا تعرف شيئا، انظر إلى نفسك، لقد كبرت، وتغيرت، وصرت موظفا وأبا. لم تعد كما كنت.
  • –          ماذا تقصد؟
  • –         ألم يخطر لك أن تكون قد تغيرت هي أيضا؟

مال علي وعيناه تلتهم وجهي..

  • –         معك 100 جنيه في جيبك؟

في البداية لم أفهم، لكنني سرعان ما استوعبت الموقف من كلامه بعد ذلك، عبير لم تعد عبير.. البلدة لم تعد البلدة.. حتى هو لم يعد هو، فكما تنازلت البلدة عن أرضها الزراعية لصالح بيوت السمنت والطوب الأحمر وأطباق الدش فوق أسطحها، تنازلت عبير عن شرفها لمرات لصالح الفائض من جيوب العائدين من بلاد البترول، ينثرونه تحت قدميها وفوق جسدها. هو أيضا تغير، صار يعيش من بيع الحشيش والحبوب لأبنائهم.

تشوهت اللوحة القديمة في عيني. عرفت أن كل شيء مات، ولا سبيل للبحث عن الحياة حتى في جذوري. ركبت القطار، وعدت للقاهرة، أمشي في شوارعها، وأنا أطالع وجوه الماضين فيها بنظرة جديدة.

لم يكن وجهي هو الوحيد الفاقد للحياة كما كان يهيأ لي حين أراه في المرآة. كل الوجوه كانت ميتة بطريقة ما.

 الموت حل في الجذور هناك منذ البداية، ودون أن نشعر به.. أخيراً توصلت للحقيقة. كلنا أوراق ماتت لجذع ميت وجذور ماتت من زمن!

السؤال – قصة لـ “مصطفى يونس”

ليلة باردة، ولكن القلوب ملؤها الدفء، تهيم بالقرب والتسبيح. كان القمر في السماء يقاتل بين أمواج من غيوم لا تنتهي، كذلك النور في صدري كان يقاتل.

كنا متحلقين حول النار، وقلوبنا متوجهة قبلة شيخنا، وكان صامتاً مطرقاً يتمتم بالتسبيح، وعيناه لا تفارق لسان اللهب المتراقص.
انطلق أحدثنا سناً وأحدثنا لحاقاً بالطريق وسأل..
 – يا سيدنا! شهور مرت والدروب تحملنا إلى الدروب. تركنا الوطن والديار والأحباب، وما عرفنا أبداً إلى أين!
انفجر السؤال في الوجوه؛ فاهتز لسان اللهب مع رعشة عودة القلوب لمقام الحيرة بعد حال الطمأنينة واليقين…

حقاً، إلى أين؟
بعضنا تبع في طاعةٍ سنيناً، تناسى فيها السؤال حتى نسيه..
طافت عينا الشيخ في عيوننا في لوم وعتاب حنونين؛ فطفت بالخواطر على الفور الإجابات التي عرفنا منذ القدم وأنسانا الشيطان إياها للحظات..
“المعشوق وطن العاشق”

 “خاب في العشق من سأل رفاق درب العشق: إلى أين؟”

“الغاية معروفة والمعشوق مقصد كل مسلك ومنتهى كل طريق..”
وقبض حفنةً من الرمال وذراها في وجه صاحب السؤال؛ فاختفى كأن لم يكن؛ فعرفناه، واستعذنا باسم الله الأعظم
قال معاتبا..
– مازلتم تقتربون، ومازال يغريكم بالظلام المطمور في قصعة نور السؤال المكذوب كما أغرى أباكم من قبل بالخلود والتفاحة. فلذنا بصمت الخاطئين.

الكشوفات – الكشف الثاني والثلاثون ” المجهول ” – مصطفى يونس

خيل لي يوماً أن أحدهم قائم على قمة تل مرتفع ينادى فى الناس حتى تجمهروا عند السفح بالعشرات، وإذا بصوت يسأله …
– هل أتى ؟
أجاب الرجل أن : لا …
– ربما أتى بعد مائة عام …. عودوا بعد مائة عام .
ويتفرق الجمع وعلى وجوههم خيبة يمازجها زهر الأمل الذابل .

وتمر الأعوام المائة …
فيعود الناس ليجتمعوا عند التل بالمئات ، وقد تغيرت أشكالهم وهيئاتهم ، ويسألون الرجل القائم على القمة ….
– هل أتى ؟
ويجيب الرجل أن : لا ……
ربما بعد ألف عام . عودوا بعد ألف عام

وتمر الأعوام الألف ..
يعود الناس ليجتمعون عند السفح بالآلاف ، وقد بدا عليهم الكثير من التحول والتبدل فى الأشكال والأحوال ، ولكنهم لا يجدون صاحب القمة ، فتتفشى بينهم الأسئلة حتى ينادى فيهم بأنه قد مات عشرات السنين ، فما يكون منهم إلا إن يتخيروا أخر من بينهم ، فيتسلق إلي القمة التل ، ويتطلع إلي الأفق حوله وسط ترقب الجميع ، ويسأل سائل …..
– هل أتى ؟
فيجيب الرجل أن : لا …….
-ربما بعد مائة عام أخري . لتعودوا بعد مائة عام
ويتفرق الجمع، وعلى الوجوه خيبة تمتزج بأمل أزلي ……

لماذا نكتب؟- مصطفى يونس

لماذا نكتب؟

هذه الصنعة لا تدر مالا ولا تصنع في بلادنا مستقبلا..فقط تخيل أن يستوقفك كمينا أمنيا ما في أي من شوارع مصر، ويسألك عن مهنتك، فترد بتلك العفوية التي لا تحتاج منك إلى أي تفكير
– كاتب..
والآن هل يمكنك تخيل ردة فعل الضابط وأمناء الشرطة والجنود من حوله..
حسنا دعنا هنا نترك لخيالك العنان..
لدي احساس لازمني منذ فترة طويلة..منذ دخولي إلى الوسط الأدبي من بابه الخلفي (أنت كصعيدي ليس له اختلاط ولا علاقات بالنوادي الأدبية ولا لك معارف ولا علاقات ولا سكن أو عمل بالقاهرة لا يمكنك أبدا سوى أن تدخل من الباب الخلفي أو بالاصح أن تلازم ذلك الباب الخلفي دون دخول فعلي أو صدى يصنعه دخولك) ذلك الاحساس صنعه اختلاطي بقليل من الكتاب المحترمين والمراقبة عن كثب لصفحات التواص الاجتماعي الخاصة بهم والمجموعات الأدبية على الفيس بوك..
حسنا سأكتب لك إحساسي بلا مواربة..نحن هناك..في مكان ما..كهف ما بعيد..نكتب وننقد وننشر ونمزق بعضنا بعضا ونقيم علاقات ومعارف وقراءات..ولكن يبدو أنه ليس لكل ذلك أثرا حقيقيا..أثرا تلمسه في الشارع..على المقاهي.. بين الناس..
الحقيقة – من وجهة – نظري – نحن لا نصنع تاريخا..
الناس في بلدي لا يدركون شيئا عن زمن الرواية..
لا يعرفون شيئا عن صراع القصة القصيرة من أجل البقاء..
لا يأبهون لموقف الكتاب من أدب “أحمد مراد” أو كتاباتنا حول هل “أنتيخريستوس” رواية فعلا طبقا لقواعد الرواية الفنية..
تلك الاشكاليات وغيرها مما يؤرق الوسط الأدبي وتمتلئ به مقالاتنا وصراعاتنا وصفحات مجموعاتنا الأدبية بعيدة كل البعد عن رجل الشارع..عن ذلك الذي نستهدفه بكل ما نكتب

و الآن دعك من وجهة نظري المتشائمة، بل ويمكنك تجاهلها تماما..
ودعنا نعود للسؤال..

لماذا نكتب من الأساس؟
نحن – يا صديقي – برغم ما أسلفت – نكتب لأننا نحب ألا تموت الحكايات معنا، وتزول بزوالنا. نحن نكتب لنترك أثرا على وجه هذه الأرض يقول بأننا يوما ما كنا هنا..
نحن نكتب لأن شيئا ما يجب أن يتم، وهذا الشيء من الواضح أنه لا يتم إلا بوجودنا، وبتلك الكلمات التي نكتبها..

البكاء لعيون “كريستينا” – قصة: مصطفى يونس

“مقتبسة عن واقعة حقيقية”

اهداء
لروح “كريستينا”..

“ايرينا بلينكينا”

بطرسبورج

كان صباحا باردا، وكانت سماء “سان بطرسبورج” معتمة بالغيوم و بلا شمس تقريبا، وكان الطريق من تلك الضاحية البعيدة على أطراف المدينة  وحتى وسط المدينة مغطى تماما بالثلوج بطريقة تنبئ بعدم نجاح كل محاولات السكان وجرافات البلدية لتنحيتها ، ولكن ذلك لم يثن “ايرينا بلينكينا” عن تلك الزيارة التي كانت قد عزمت على القيام بها منذ عدة أيام،

استمر في القراءة البكاء لعيون “كريستينا” – قصة: مصطفى يونس

“سِفر الفقراء” – قصة لـ “مصطفى يونس”

1

عدت من أورشليم إلى بلدتي لا شيء أحمله بين يدي سوى الخيبة. فشلت تماماً فيما كنت آمل فيه، وتوارى حلمي إلى الأبد.
فبالرغم من نسبي النقي إلى آل هارون الذين اختصوا بالكهانة وحفظي للتوراة وحسن سيرتي وعلمي بالدين الذي حصلته على مدى سنوات، غير أن كل هذا لم يشفع لي لأحقق حلمي. حتى نقاء الدم والسلالة لم يعن شيئاً البتة.

 لا شيء يمكن أن يجعل مني أنا – ابن الصياد الفقير- كاهناً أو حتى خادماً أو تلميذاً في أروقة الهيكل. وكل ما ادخرت قبل سنوات لتلك الرحلة نحو حلمي أيضاً كان قد تبدد..
كان لابد أن أعود لبلدتي، وأبدأ من جديد متناسياً كل شيء ..
استغرق ذلك وقتاً لا بأس به، لكنني في النهاية نجحت أن أدفع نفسي للمضي قُدماً بالرغم خيبة أملي.

 اشتغلت بالصيد، وساعدني في ذلك القارب الصغير الذي ورثته عن أبي، وما هي الا سنوات حتى كان لي دارا وزوجة طيبة وحياة مستقرة.
ولكن الأمر كان مسألة وقتٍ حتى يدق الألم والحزن بابي، ويمزق قلبي من جديد. لقد ولدت طفلتي الأولى بقدمين كسيحتين.
طفلتي..
صغيرتي الجميلة ذات ملامح الملائكة، التي لا تخطئ طهارتها وبراءتها عين. أي طعنةٍ تمزق كبدي كلما نظرت في عينيها الحزينتين وهي تتابع لهو من هم في سنها.
الحقيقة أنني لم أدخر جهداً وحاولت لسنوات وبشتى الطرق أن أستجلب لها الشفاء، ولكن كل ما انتهيت له بأن الأمر يحتاج لمعجزة.
وكانت المعجزة.. يوحنا!

2

في الليلة التي وصلت فيها إلى شاطئ طبرية حاملاً ابنتي بين يدي أملاً في شفائها. كان خبر مقتل المعمدان وقبلة “سالومي” لشفتيه الميتتين يملأ الدنيا ضجيجاً وحزناً وألماً.
والآن أي معجزةٍ تُرجى وقد قُتل المعمدان؟!
الزمن يضن على الفقراء بكل شيءٍ سوى الحزن والألم..
عدتُ إلى بلدتي مرةً أخرى وفي حلقي مرارةً أقسى من تلك التي كانت في عودتي الأولى. كنت هذه المرة حاملاً بين يديَّ فلذة كبدي التي توارى عنها أملي وأملها في الشفاء..

3

ولما بلغني خبره؛ طرتُ فرحاً. قلبي حدثني أنه الأمل الوحيد الباقي لطفلتي الحبيبة، وهرولت أنهب الطريق نهباً نحو “الناصرة” بحثاً عنه، ولكنني حين وصلتُ عرفت بأنه خرج منها.

لم أقطع الأمل. لقد كان من المستحيل أن أتصور العودة لبيتي خاوي الوفاض بعد كل تلك الأمنيات الدامعة التي ودعتني في عيون زوجتي وابنتي الصغيرة؛ لذا لم ينثن لي عزمٌ، وتبعت أثره من قريةٍ إلى قريةٍ أتصيد أخباره.

حظي لم يكن جيدا بما يكفي لألحق به، ولكن في كل مكان كانت تتوارد إلىَّ القصص. هنا أحيا ميتاً، وهنا شفا مفلوجاً، وهنا أخرج من أحدهم سبعين روحا شريرةً. كلما سمعت زاد جدي وحماستي في تتبعه، حتى أتيت أورشليم، و قيل لي أنه نزل بها، بل سمعت عن أنه دخل وطرد الباعة من الهيكل ووبخ الكهنة.

في الحقيقة لقد توجستُ من كل ذلك خيفة، الكهنة لن يصمتوا على انتهاك قداستهم ونفوذهم على هذا النحو. كدتُ شبح النهاية يحيط بالمعلم الصالح صاحب المعجزات.
أُشهد الرب أنني لم أجلس للحظةٍ منذ وطأتُ بقدمي أرض أورشليم حتى توصلت لمكان مكوثه. كان يجب أن أحذره، بل لعله إذا وافق أن يصاحبني عائدا ليبارك ابنتي، ويشفيها ويكون في ذلك نجاةً لكليهما.
وعلى بابه قابلني تلميذ له يدعى “يهوذا”، لم أسترح أبدا له، وعاملني بجفاءٍ واضح.

قال لي بأنه نائم، كان يصلي طوال الليل، بل إنه نهرني حين ألححت في طلب مقابلته.

أهكذا يعامل الفقراء من أمثالي ببابك أيها المعلم الصالح؟!
أيطردوننا هكذا كأننا ذباب؟!
طفقت عائداً، ودموعي تتحجر في عينيَّ. لا أمل في مقابلته. لقد كنت مستعداً لأسكب كل دموع عيني بين يديه حتى الدم، وأن أصير عبداً ذليلاً وتابعاً مطيعاً طوال عمري لو أنه فقط منح ابنتي الشفاء، ولكن ها هي رحلتي تنتهي دون فائدة، وأعود لابنتي الحبيبة منكسراً من جديد. انكسر أملي وأمل أهل بيتي. 
طوال الطريق خارجاً من أورشليم القاسية كنتُ أبكي بصوت عالٍ كالأطفال، وأستجدي العابرين، ولكن أحدا لم يبال بي، ويرحم مرض صغيرتي الحبيبة أو حتى يوافق أن يتوسط لي لأمثل بين يديه.
تركتني أورشليم لأعود لابنتي بلا شيء سوى الخيبة..
خرجت منها أسير مشتت العقل، مصدوماً، شارداً، والحزن يعتصر كل خلجةٍ في نفسي.
وما هي إلا أيام حتى وصلني الخبر، ولم أكن قد وصلت لبلدتي بعد.
صلب أهل أورشليم الرجل الصالح بوشاية من تلميذه الخبيث.أطرقت في حزنٍ، وتركت الدموع تتساقط تحت قدمي في صمت.

ها هي أورشليم مرة أخرى تجهز على كل أمل..
أما ابنتي، فمازالت مريضة، ومازالت تأمل في معجزة..

“الرجل البدين..” – قصة لـ “مصطفى يونس”

يطالعني كل صباح ذلك الشخص البدين الذي يكبرني بسنوات، وأنا أمشط شعري أو أصلح هندامي استعداداً للخروج لعملي، يبتسم كأنه يعرفني، ويلوح بتحية الصباح..
وفي كل مرة أردها بملامح عابسة وحاجبين معقودين مستغربا ذلك التباسط الغير معهود من شخص لا توجد بيني وبينه سابق معرفة أو اختلاط. إنه لا يقتحم فقط مرآتي، بل ولاحظت مؤخراً، حين دققت، أنه يقتحم انعكاس صورتي في عيون الناس.
هذا الصباح خطر في بالي أن أعرج على محل للملابس.. 
اقترب مني البائع باسما.. 
–  سيدي! لا أحسب أنك ستجد مقاسك في هذا الركن بالذات.
اجتاحني غضب عارم للهجته المطعمة بالسخرية، وهممت أن أصيح في وجهه لاعناً سماجة شخصه وقلة ذوقه، غير أن التفاتة مني لعينيه جعلتني ألوذ بالصمت، كان ذلك الرجل البدين الذي يكبرني بسنوات هناك. كان مقتحماً صورتي، ويقبع في سواد عين البائع بدلاً مني.

الأستاذ: ملف خاص عن نجيب محفوظ

 

 

 

ملف متنوع عن الأستاذ يتضمن نماذج من قصصه القصيرة، وقراءات في أعماله القصصية. حواراته ورسائله   

 

 

” الطاحونة” – قصة قصيرة 

 

 

كانوا ثلاثة قيل انهم خرجوا الى الدنيا فى يوم واحد . و حديث الأعمار يبوح بأسراره فى حارتنا عند الحوار بين الأمهات حتى بلغوا السادسة . عند ذاك حجزت البنت لتصبح خفية وراء الجدران و استمر الصديقان فى اللعب و التذكر . أما رزق فيتذكرها كلما احتاجوا الى ثالث فى لعبة من الألعاب ، و أما عبده فحتما منذ تلك المبكرة كان يشعر بها حبيبة للقلب على نحو ما . و منذ تلك السن المبكرة أيضا أدرك أن عليه أن ينتظر عشر سنوات قبل أن يحقق أمله المشروع .

استمر في القراءة الأستاذ: ملف خاص عن نجيب محفوظ

قصة “حارتنا” – مصطفى يونس

أهل حارتنا طيبون، متدينون بالفطرة، أو هكذا كان لسان حالنا، حتى لاح الاختبار الحقيقي لكل ما توهمناه عن أنفسنا متمثلا في العمارة الضخمة في الميدان.

انتصبت من العدم كوحش مبهرج ضخم بواجهة زجاجية عملاقة، وتحتها افتتح بار صغير تعلو بابه لافتة مضيئة بألوان راقصة.

في البداية دارت سيرة البار والعمارة الفارهة على استحياء بين أهل الحارة ما بين الاستنكار والفضول. في المقهى حيث يجتمع الجميع حمل “عابد النوري” مدرس الالزامي بالمدرسة الأميرية لواء المعارضة..

مثل هذا المبنى لا يحمل لحارتنا سوى القلاقل والفتن، وهذا البار سيكون منبعا لآثام لم نعرفها من قبل ستهدد سلام حياتنا.

فضحك “عطا الشياح”..

“يا أستاذ “عابد”! أنت أول المتعلمين في حارتنا الجاهلة، فكيف تعادي التطور؟!”

بينما صاح “نعيم” السمسار..

“مبنى كهذا سيحمل لحارتنا الخير، وأول الغيث أنه سيرفع قيمة كل متر في محيطه وذلك أول الغيث.”

 ثم بدأت الأخبار تتواتر حول البار الذي أصبح، خلال وقت قصير، قبلة القاصي والداني من أولاد الذوات من مختلف أنحاء المدينة الكبيرة، بدأنا نلاحظ تراص أنواع مختلفة من السيارات الفارهة التي لم نعرفها من قبل ولم نكن نعلم بوجود مثلها في مدينتنا الفقيرة. في البداية بدا وكأن في الأمر سراً لافتاً، غير أنه سرعان ما اتضح للعيان حين قال به “عمران العايق”..

“البار يبيع المخدرات بأسعار رخيصة وليس فقط الخمور.”

وكان “عمران العايق” عربجي فظ من أهل حارتنا لجأ إليه أصحاب البار في قضاء حاجاتهم، قبل أن يلبسوه زيا نظيفا يتناقض مع خلقته الغليظة الملامح، ويستعينوا به لتنظيم وقوف السيارات في الجراج الخاص بالمبنى الضخم، كما استعانوا بسواه من أهل حارتنا في أماكن مختلفة خاصة بشئون العمارة بعد ذلك؛ ومن هنا انتشرت معلومات جديدة عن المبنى الغامض.

فالبار إلى جانب نشاطه المشبوه، يعد واجهة بسيطة لما يجري حقيقةً في الأدوار العليا من أنشطة أكثر رواجاً تتستر بالواجهة الزجاجية البراقة، حيث تغدق الأموال على طاولات القمار وتحت أقدام الجميلات في غرفها المغلقة، بل وانتشرت أخبار شتى تناقلتها الألسن كالأساطير وأسماء وزراء ورجال أعمال وملايين وصفقات ضخمة من المستحيل التحقق من صحتها، ولكنها جعلت من المبنى قلعة حقيقية تسمو بقامتها فوق القوانين، كانت كفيلة أيضاً بمداعبة أحلام البعض..

على العموم، فقد نشأت في وقت قصير بين أهل حارتنا أنواع جديدة من المهن التي لم نكن نعرفها من قبل، وأغلبها مرتبط بالمبنى وما يدور فيه أو من حوله، وكلها – في الغالب – كانت مربحة لأصحابها، وكفلت لأحوالهم – التي نعرفها جيدا- انتعاشاً لا يخفى على متابع. وبدأت حارتنا ببطء تسفر عن وجه مرفه نوعاً لمعيشة أهلها، بان جلياً في ملبسهم وما يفوح منها من روائح وعطور؛ بدا لنا بأن نبوءة “نعيم” تتحقق بالفعل، لم تلق تحذيرات العقلاء بخطورة ما يجري بين جدران المبنى الجديد أي استجابة تذكر؛ فسكتت ويأس أصحابها، وكان يبدو لنا أن هذا سيدوم إلى الأبد..

ومرت الأيام على أهل حارتنا كحلم سعيد يعدهم ويعد أبنائهم بالمزيد من الثراء وطيب العيش، حتى جاء اليوم الذي استيقظنا فيه على خبر مقتل “عطا الشياح” واختفاء ابنه “سراج” الطالب بكلية العلوم. كان وقع الصدمة على الجميع عظيماً كالصاعقة. دارت قصص عدة سمعناها عن كونها جريمة معتادة، ضلعاها الإدمان والسرقة، غير أن جهوداً مجهولة سارعت لوأد التحقيق في بدايته وحفظ القضية في أدراج النيابة بعد قيدها ضد مجهول، وكان واضحاً للعيان أن هناك من لم يرد – وبأي ثمن – أن يأتي ذكر المبنى وما يدور حوله في التحقيق.

ما لم يكن لنا في حسبان أن مقتل “عطا” كان فاتحةً لنوع جديد من الجرائم لم تعهدها حارتنا من قبل على مدار كل ما مر بها من عصور.

  على المقهى الذي صار يضج بالغرباء، سمعت شيخ الزاوية الضرير يقول..
” لا تشتعل قناديل القديسين إلا في قلب العتمة، أما الشموع الذابلة فتنطفئ مع أول هبة للنسيم.”
و كثيرا ما لفت نظري وهو يبتسم للأطفال الذاهبين إلى الكُتاب خائفين من تمايل السكارى في الطرقات.

قصة "كن..كان" – يحيى حقي

قصة “كن..كان” – يحيى حقي

 
 

 

 

 

خرج حسين من الجو المكتوم المفعم بالأدخنة والضجيج, وانطلق إلى الطريق. فوقه سماء القاهرة تكاد الروح ترشفها من فرح صفائها. تناثرت فيها نجوم لامعة وأخرى خابية, لا يكاد النظر يستوعبها في مواقعها, حتى تجد الأذن أن هذه النجوم المبعثرة مختلفات الألوان ينظمها نغم حلو جميل. لكل لون منها نصيب في إيقاعه, ولكنه نغم خاف تشعر به الأذن ولا تتبيّنهُ, كأنما هي أيضًا عين ترى ولا تسمع. وبدأ حسين سيره إلى “شبرا”? وهو حين يشعر بالليل يحجبه عن الأنظار, يلذ له أن يحتضن أفكاره ويختلي بها, فيسرح ذهنه, وتعود إليه ذكريات قديمة. عيناه تتكلمان تارة بالسرور وتارة بالحزن. ويهتز رأسه مرة بالعجب ومرة بالحسرة. وقد يتمتم باسمًا. (…) 

آه إنه الليلة آسف على حياته, نادم من جديد. أما يأتي اليوم الذي يتاح له فيه أن ينسى كيف ألقى بنفسه في مدرسة المعلمين وهو كاره لها? وكيف نكص عن الزواج بجارته آمال! تلك الفتاة التي خلبت لبه وسحرته, ورضي بالزواج من إحسان. خشي الأولى لأنها مستبدة لعوب فاتنة, وقنع بالثانية لا عن حب, بل قيامًا بواجب, فهي ابنة عمه. اطمأن لها لأنها ربة بيت, هادئة, معتكفة, فماذا فعلت بنفسك يا حسين? أدرت ظهرك للنشوة والمتعة, واللذة المتجددة, والحياة المليئة بالعواطف, وآثرت حياة راكدة كالمستنقع. سرعان ما مل إحسان, وسرعان ما انقلبت هذه الفتاة الممشوقة القد إلى امرأة بدينة خشنة اليدين. لم يرها مرة تستقبله عند عودته وقد سرحت شعرها أو اعتنت بزينتها. تبدو له الآن حياته سلسلة من أخطاء وسوء حظ. إن كان في الحياة مهنة يمقتها أشد المشقت فهي مهنة التدريس. هو عامل فرض عليه أن يبني الأساس ولا يتعداه, ثم يجيء آخرون يتممون البناء ويتمتعون به. أي لذة في عمل لا تتجسم أمامك نتائجه, فتمنح النفس جزاءها من الرضا والغبطة!? 

ما فائدة التوفر على تعهد فرخ الطيور وتغذيته, حتى إذا نما ريشه أفلت من يدك وطار? العالم كله يتحرك إلى الأمام, والمدرس ثابت في مكانه! وإن تلفّتَ فإلى الماضي يتلفت. ما فائدة تعليم هؤلاء الصبية, وهو واثق بعجزه عن إسعادهم? فالحياة مليئة بالشراك والمصائد, محفوفة بالمظالم والآلام والأحزان. سيخوضون غمار معركة من أشد المعارك تطاحنًا وهَولاً, على حين أنه لم يسلحهم إلاّ بقشور من العلوم النظرية. وشقشقة لسان إن لم تكن تضر فهي لا تنفع. كم كان يود أن يكون محاميًا. إنه يحس في نفسه المقدرة على الفهم واستخلاص المبادئ وسلامة المنطق. – وهذه مواهب لا تفيده في صناعة التعليم. ولكنها خليقة بأن تتقدم به إلى الصفوف الأولى, لو أنه مارس المحاماة. ودّ حسين لو أنه استطاع أن يدافع يومًا عن مظلوم, أو يرد حقًّا إلى صاحبه, ولكنه عاجز. فمما يكرب نفسه أنه يرى المظالم تتزايد أمامه وتتلاحق, ولا أمل له في أن يرى نهايتها, أو يرى عالمًا تسوده العدالة. هذا تفسير ما في نظرته من حزن عميق مختلط بغيظ مكتوم. ماذا يفعل? إنه يقف طول النهار ينبح أمام تلاميذ كالقرود يلهون ويعبثون, حتى يجف حلقه ويضطرب قلبه. هل نسي أن الطبيب قال له إن قلبك ضعيف يُخشى عليه من كثرة الإجهاد? 

وعندئذ تريث حسين في سيره, ووضع يده على مكان قلبه وتأوه… إنه يحس كأن إبرة تغرز فيه… لقد ساءت حالته الليلة. إنه الإجهاد الذي يخشاه.. فمتى تأتي الإجازة? متى? 

كان قد ترك الطريق الرئيسي وانعرج إلى درب ضيق ينتهي بالمزارع. سكون شامل ومنازل نائمة. 

حدثته نفسه: 

– لو أستطيع أن أرتد القهقري عشر سنوات. عشر سنوات وحسب, ولو ضحيت من أجل ذلك بعشر سنوات مثلها من مستقبل عمري. سنة بسنة. 

لم يكد يسير بضع خطوات بعد هذا الخاطر, حتى خيل إليه أنه يسمع زحيرًا شديدًا يتلاحق من ورائه. هل يجري في إثره أحد? أجهد أذنيه فلم يسمع وقع أقدام. ومع ذلك استمر هذا الزحير يسرع إليه ويدنو منه. طمأن نفسه يقول لها: لعله وهم وخيال. فالليل عالم مجهول مليء بأصوات غريبة لانتبينها, ثم سار قليلاً فإذا يد تلمس كتفه, والزحير يكاد يشق صماخ أذنيه. سمع حسين وقرأ أن شعر الرأس يقف عند الذعر, ولم يكن يصدق, في تلك اللحظة أحس كأن يدًا قاسية جمعت شعره في قبضتها وشدته شدًّا قويًّا يكاد يتمزق منه جلد رأسه. وشعر حسين بأن اليد التي وقعت على كتفه لوح من الثلج. فقد جمد لها قلبه, وإن يكن جبينه قد التهب لها وتصبب عرقًا. 

التفت حسين مذعورًا, فوجد وراءه رجلاً نحيفًا هو إلى القصر أدنى منه إلى الطول. يرتدي ثوبًا أسود كثياب التشريفات, من طراز يرجع إلى عهد غابر, ذَكَّر حسينًا بصورة قديمة لأحد جدوده.. والغريب أن هذا الثوب كان فضفاضًا كأنما فصل لرجل أطول منه وأشد امتلاء; فقد رأى حسين أمامه رقبة نحيلة تائهة في ياقة مُنشّاةٍ واسعة… يريد ذقنه أن يعتمد على حافتها فيشنقها فرط ارتفاعها… لم ير له يدين, وخيل إليه أن الكمّين فارغان, ليس فيهما ذراعان. حدق بنظره في تقاطيع هذا الغريب. ورأى – أو خيل إليه أنه رأى – وجهًا إنسانيًّا ذا عينين وأنف وأذنين… ولكن عجبًا لماذا لا تستقر نظرته على هذا الوجه? لم تنطبع له صورة في ذهنه, كأنما وجهه هُوّةٌ لولبية, أو سراديب ملتوية أو صورة فوتوغرافية مهزوزة. 

أشاح حسين بوجهه من الرعب, ومن تلك الرائحة المنتنة القاسية التي غمرت وجهه من فم هذا الغريب. وحين بدأ الرجل يكلّمهُ, إذا بصوتهِ صوتُ طفل وديع, وإذا بهذا الصوتِ الحنون وحده يراخي قبضة اليد التي كانت تجذب شعره فيعود إلى رقاده. وخامر قلبه شيء من الطمأنينة لم يدرِ سببها. قال له الرجل: 

– لا مؤاخذة ياسي حسين… خشيت أن تغير فكرك قبل أن أستطيع اللحاق بك. كنت مشغولاً جدًّا في قصر العيني وفي مستشفى الحميات.. فأنا – كما ترى – مجهد حقًّا ولي عمل شاق لا ينتهي. سمعتك تتبرع بعشر سنوات من عمرك لقاء أن تعود القهقرى عشر سنوات مثلها, وأنا في ضيق- علم الله – ومحتاج أشد الاحتياج إلى يوم, فكيف بعشر سنوات مرة واحدة. 

– لا شك في أنك سعيد في حياتك. فلم أر قبلك أحدًا يتعلق بالدنيا تعلقك بها.. – لا. لا. لا أريدها لنفسي, بل لغيري.. دعني أتذكر. نعم عندي أب قارب الرحيل, وقد قدر له أن يرى ابنه الوحيد الشاب يموت قبله. سأعطي الابن شيئًا من هبتك حتى أجنب أباه تجرع غصة الألم. وهذا الشاب لو انتقل عن هذه الدنيا لحرم أولاده من ميراث جدهم. سأعطيه سنة حتى ينتهي أجل أبيه. وهذا الفتى أحب فتاة غاية الحب, سيموت قبل الزفاف – وليس أشهي على من أن أمتعه بها ولو شهرًا واحدًا. فها أنت ذا ترى أن هبتك السخية تكفي لبعض هذه الأعمال الخيرية. لهذا أسرعت إليك. 

خفّت الأبخرة المنتنة شيئًا فشيئًا, واستطاع حسين أن يقارب وجه هذا الغريب, بل بلغ به الاطمئنان أن ضحك في وجهه وقال: 

– مهلاً! مهلاً! هذه هبة كما قلت, ولكنها – يا عزيزي الأستاذ – ليست بدون مقابل… فهل أنت قادر على أن تردني القهقري عشر سنوات? 

انتبه حسين إلى أن جوا من الطيب والرائحة الزكية تسطع من مخاطبه, وتمني لو استطاع أن يقترب منه أو يضع ذراعه في ذراعه. 

أجابه الرجل وهو يبتسم: 

– ألم تقرأ في القرآن الكريم ادعوني أستجب لكم ? إنني عبد من عباد الله لا أعلم أن أحدًا قد كلف بمهمة شاقة كمهمتي… وأنا مقبل على أدائها بإخلاص وبكل قوتي.. حرصًا على رضا مولاي… وإني, لحسن الظن بكرمه ومَنّه, لم ألتمس منه طلبًا من قبل, فلا أظن أنه يخيب رجائي لو سألته هذه المرة. كن واثقًا بأنني أحقق لك ما ترجوه… 

ودّ حسين لو أنه تردد قليلاً, أو سأله مهلة ليفكر من جديد, ولكنه خجل من رقة محدثه, فوجد نفسه يقول له وهو ذاهل.. 

– لا مانع عندي… 

– يا لك من سخي شجاع… 

وعندئذ أخرج حسين ساعته ونظر إليها فأوقفه الرجل قائلاً: 

– لا. لا. إنني لا أعرف حساب زمنكم هذا… 

ثم التفت إلى السماء ونظر إلى النجوم وقال: 

– سيكون بدء تنفيذ اتفاقنا في تمام منتصف الليل. 

قال له حسين: 

– اتفقنا… 

أجابه الرجل: 

– هذا القول لا يكفيني… إنني أريد منك أن تهبني السنوات العشر بالصيغة الشرعية. فقل معي: 

“أهبك عشر سنوات من عمري طائعًا مختارًا, وأنا في تمام عقلي وإرادتي, على أن أعود القهقرى عشر سنوات مثلها”. 

 

 

كرر حسين وراءه الصيغة كلمة كلمة… فإذا بالرجل يربت كتفه ويقول: 

– إنك أكبر المحسنين لو علمت. وليس أحد أولى منك بأن يقام له تمثال. 

ثم ابتعد عنه, يتحرك جسده, ولا يرى حسين على أي قدمين يسير. 

واستمرحسين في طريقه وهو ثمل لا يدري هل يغتبط بفعلته أم يندم عليها. همس لنفسه يقول: “إنك أسعد إنسان على وجه الأرض! ستقوم برحلة لم تتسنّ لأحدٍ من قبلك”. 

وفجأة وقف حائرًا وقال: 

– ولكني نسيت أن أسأله: هل سأعود القهقرى عشر سنوات محتفظًا بما فيّ من تجارب وأفكار ومن خبرة ومزاج?… ليتني أدخلت هذا الشرط في اتفاقنا! 

عشر سنوات إلى الوراء! سيغير حياته كلها… سينعم بما حرم نفسه منه… سيتجنب كل أخطائه. تألق وجهه وأسرعت خطواته, وأحس أن نشوة غريبة تهز عِطْفَيْه.. فإذا به يقف من جديد وقد ساوره شيء من القلق: 

– ليتني سألته كم يبقي لي من العمر بعد تبرعي بعشر سنوات? 

كان قد وصل إلى داره وفتح باب الشقة, فإذا رائحة المرحاض تزكم أنفه مختلطة بعفونة قشور البصل المتخلف في صفيحة القمامة. 

اعتاد حسين, إذا عاد في مثل هذه الساعة, أن يجد شيئًا من الطعام على المائدة فيتناوله باردًا وهو صامت, وزوجته نائمة لا تتحرك… ولكنه في هذه المرة لم يكد يدخل حتى سمع صوت إحسان تنادي: 

– من? حسين? 

وقامت إليه محمرة العينين, مشعثة الشعر تقول: 

– عجبًا! ما كدت تدخل حتى طار النوم من عيني وانتبهت مذعورة لا أدري ماذا بي. 

جلست معه على المائدة وسخنت له طعامًا, وحدثته عن بعض توافه يومها, ومع ذلك كان كلامها ينزل بردًا وسلامًا على قلبه. هي زوجه, وليس في حياتها أحد سواه. حبيسة داره, حياتها كلها وقف عليه وعلى أولاده. كثيرًا ما اشتكت وثارت وضجت, ولكنه لم يسمعها تؤلمه بكلمة تجرح قلبه. حنّ لها حسين وضاحكها, بل عرض عليها أن يسهرا معًا ويتسليا بلعب الكونكان, وهي لعبة الورق الوحيدة التي استطاع أن يعلمها لإحسان. 

واستمر اللعب زمنًا طويلاً, وتناول حسين ورقة يربح بها الدور, فرفع يده مسرورًا يقول: 

– كُنْ… 

ولكنه لم يستطع أن يتمها “كونكان”! كان الليل قد انتصف… … … 

 

***

 

 

دخل عليه وكيل المكتب يقول: 

– السمسار منتظر يريد أجره. 

أطرق حسين برأسه ذليلاً. لقد انحدرت به الحال إلى أن أطلق بعض السماسرة يتصيدون له الزبائن من على القهاوي. لم يبلغ إيراده في هذا الشهر عشرين جنيهًا, وإنه والله ليخشى أن يعود إلى داره, فقد طالبته آمال بثوب جديد لا يقدر عليه. من كان يظن أن فتنة هذه الفتاة ستزول سريعًا? عاشرها وتمتع بقربها, ولكنه يشعر بأنه ظل طول عمره غريبًا عنها. لا يدري ما يجول برأسها. يريد أن يخضعها فلا تخضع, ويأمرها فتنفلت منه طليقة. ثم كم تؤذيه ويؤذيها بهذه الكلمات القاسية الجارحة التي يتبادلانها كثيرًا. ثم – وهنا العجب – يضُمُّهما الفراش فينسيان كل شيء في ضمة الجسد للجسد. وتعود العداوة والبغضاء في الصباح. طبيعة حيوانية يتعامي الإنسان عنها ويتعالى, وهو عاجز في قبضتها, غريق, في أحضانها: ترى أين إحسان الآن? ألم يكن أولى بها – وهي ابنة عمه – من زوجها العامي الذي لا يحسن معاملتها? ألم تكن راحته وسعادته في الزواج منها? ولكنه تكبر وخان, وجرى إلى آمال كالأحمق… 

وسار حسين على مهل إلى داره… المحاماة? هي مهنة مليئة بالكذب والخداع. كم يتألم ضميره وهو يصرخ أمام القاضي بكلام يعلم من قرارة نفسه أنه كذب وتلفيق. كل ذلك لقاء دراهم معدودة لا تسمن ولا تغني من جوع. 

آه! آه! إنه أضاع حياته. وما فائدة جهاده في المحاماة والناس كالوحوش الضارية والذئاب المفترسة? إن اكتسى وجه الظالم بغلالة سوداء بغيضة, فما أجدر المظلوم الأنوف بأن يرفع رأسه ويتجلى وجهه أبيض وضيئًا. ولكن حسين يتطلع إلى وجوه زبائنه فلا يتبين الظالم من المظلوم. كل منهم تنطوي نفسه على الغلّ والحقد. لا يكتفي الظالم بجبروته, بل يهبط به جبنه إلى الدس والكيد والتلفيق… وعمي المظلوم عن نبل المطالبة بحقّه وثوابها, وامتلأت نفسه سما. لا يرضيها استرداد الحق بل الانتقام بأي ثمن من الخصم – ولو ظلما! كم كان يود أن لو اشتغل بالتعليم, لتكون براءة الطفولة الساذجة هي مادة عمله, وليساهم في بناء جيل صالح ينشأ على الأخلاق الفاضلة, تبدأ به مصر حياة جديدة. وهل هناك أنبل من وقفة المعلم أمام صف من الصبيان, يتطلعون بعيونهم المتعطشة إلى كل حركة تصدر منه وكل كلمة تخرج من فمه? هذا هو البناء الذي يرضي النفس. وأي مهنة أخرى تهيئ لصاحبها مثل هذه المتعة الروحية? أما الآن فإنه يجاهد في المحاماة جهادًا زائفًا مضيعًا. أحقًا أنه يعمل لرد الحقوق إلى أصحابها? إن صح هذا – وهو غير صحيح – فما فائدة تعمير البناء والأساس فاسد مختل? إنه يحس في نفسه القدرة على الصبر والتؤدة والتبسيط. وهذه صفات تؤخره في المحاماة, ولكنها خليقة بأن تدفع به إلى الصفوف الأولى لو أنه مارس التعليم. 

قابلته آمال غاضبة تقول: 

– لا أراك إلاّ والليل متقدم… وما أظنك غبت في هذا المكتب المبارك وهو أفرغ من فؤاد أم موسى… أكبر الظن أنك كنت مع صحبة السوء في لهو وعبث. 

– كيف أرضيك يا آمال? ألاّ ترينني متعبًا? 

وضع حسين يده على قلبه وتنهد. 

– إن الأزواج ليرجعون إلى البيت فيحدثون أزواجهم ويلاطفونهن ويتسلون معهن… 

– وماذا تريدين? 

لوت خرطومها وتركته. 

سار وراءها ذليلاً يقول: 

– آمال! تعالي. تعالى نلعب الكونكان معًا, فأنا مهموم أريد أن أتسلى… 

بلغ من ضعفه بين يديها أنه لا يجسر على أن يمن عليها بما يفعله لإرضائها, فكل خدمة منه لها يصورها خدمة منها له. 

واستمر اللعب زمنًا, وتناول حسين ورقة يربح بها الدور, فرفع يده بها مسرورًا يقول: 

– كُن… 

ولكنه لم يستطع أن يتمها “كونكان”. 

انشق الجدار وخرج إليه منه رجل غريب, ولكنه ليس بالغريب عنه. هو أقرب إلى القصر منه إلى الطول. مال بوجهه الزكي الرائحة على حسين يقول: 

– ياسي حسين! هل أنت ذاكر? لقد نفذت عهدي من الاتفاق. أليس كذلك? 

ابتسم له حسين ابتسامة ملؤها الاطمئنان والود والإخاء وقال: 

– تمم حديثك ولا تخف عني شيئًا. أكاد أفهم الآن كل ما كان غامضًا عليّ… 

– نسيت أن أخبرك في ساعة اتفاقنا أنه لم يكن لك عندئذ من بقية العمر أكثر من تلك السنوات العشر التي تبرعت بها.. 

فهل أنت مستعد? 

أسبل حسين جفنيه, وخفق قلبه, ومال عليه وجه سمح منزعج بقول: 

– حسين! حسين! ما بك? 

– من أنت? 

– أنا إحسان! ألا تعرفني? لقد كنت أمامي منذ لحظة سليما معافى. فماذا بك? هل يؤلمك شيء? رد عليّ! أأدعو الطبيب? 

ولكنه كان قد فارق الحياة, وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة. 

ووقفت أمامه إحسان ذاهلة لا تقوي على تفسير ما حدث كيف حدث! 

____________

مؤلفات يحيى حقي القصص 1 الهيئة العامة للكتاب 1990رسوم الكتاب للفنان سيف وانلي تشمل أشجان عضو منتسب عبارة عن سيرة ذاتية – قنديل أم هاشم – السلحفاة تطير – كنا ثلاثة أيتام – كن كان – القديس لا يحار- بيني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

رؤية نقدية للدكتورة: عطيات أبو العينين

“ما معنى هذه الحياة?”. 

ينخر هذا السؤال كالسوس في نفس حسين فرغلي كل ليلة وهو خارج من القهوة بعد أن كوموا مقاعده وأطفأوا أنواره يخف إليه قبل الغروب, فيجد زملاءه المدرسين قد اجتمعوا حول “الطاولة” ويدور اللعب بينهم – لا ينقطع لحظة واحدة – كالمعارك الحربية في غليانها وقعقعتها. يتساقى اللاعبون كؤوسًا مترعة من رحيق الفوز ومرارة الهزيمة, فينهلون من وهمها ويسكرون. حسين لا يلعب بل يكتفي بتتبع الحجارة والزهر بشغف كبير. يلتوي رأسه ذات اليمين وذات اليسار, كعروس ميكانيكية انفلت ضابطها. وهكذا هو أيضًا في الحياة يعيش على هامشها, ويلوذ بالشاطئ خوفًا من تيارها. عواطفه موزعة, تارة مع الغالب, وتارة مع المغلوب. فالمحايد المحروم من لذة المشاركة في الصراع يتسلى بمقدرته على الموازنة بالعدل والقصاص. إذا دار الحديث فعن العمل والوظائف والدرجات, حتى كأنهم الإبل, يجترون بالليل ما أكلوه بالنهار. أيّ عقل شيطاني تفتّقت حيلته عن اختراع هذه “الطاولة”? هي لعبة ساذجة متشابهة متكررة, ومع ذلك لا ينقطع سحرها (…). 

إذا أمعنا التدقيق  في عنوان قصة الأديب يحيي حقي “كن كان” نجد أن هذا الإسم يرمز لأكثر من معني حيث إنه بين الكاف والنون يكمن سر من أسرار الخالق العظيم وهي  قدرة الله ومشيئته وهي ما لا يستطيع الإنسان أمامه عمل أي شيء سوي الامتثال لقدرته لأنه أمر يتعلق بالقدرة الإلهية التي لا تتأتي لغيره عز وجل 

كذلك علي الناحية الأخري نجد أن معني كن كان هو نوع من المقامرة في أوراق اللعب وقد استخدمها الكاتب للإسقاط علي شخصية بطل القصة الذي قامر بعشر سنين من حياته دون أن يعلم هل سيبقي له غيرها أم لا وإن كان هذا التصور لا معقول إلا أنه يرمي به إلي عدم رغبة حسين بطل القصة في البقية الباقية من حياته والتي لا يعرف إن كانت ساعة أو عشر ساعات أو عشر سنوات لأنه ليس له هدف في الحياة 

وتبدأ القصة بسؤال عميق جدا ربما  حير العلماء والفلاسفة وكذلك الأدباء وهو:

ما معني الحياة

إن حسين يرى حياته سلسلة من الأخطاء وسوء الحظ ، ولكنه لم يفكر يوما أن يغير ما لا يعجبه في حياته أو يلفت نظر زوجته إلي المظهر الذي يحبه فيها أو يحب أن تكون عليه كعادة الكثير من الأزواج ليعتبرها زريعة للخيانة أو الزواج بغيرها ،  ويشعر حسين أن قلبه يؤلمه يخبره الطبيب أن قلبه ضعيف يخشي عليه من كثرة الإجهاد ويتمني أن تأتي الأجازة وما الأجازة هنا إلا حيلة للهروب من مهنة يمقتها وزوجة لا يحبها ولكنها فرضت عليه بحكم المجتمع والتقاليد ونجد هنا ثورة داخلية للكاتب قد عبر عنها ليس هنا في قصة كن كان فقط وإنما أيضا في قصة قنديل أم هاشم وزواج إسماعيل من ابنة عمه ونجد أن الكاتب نفسه قد تزوج في أول حياته بابنة عمه فربما يود أن يعبر عن تقاليد وعرف المجتمع في ذلك الوقت وما تفرضه علي أبنائها ربما بأشياء لا يرغبون فيها ولا يتمنونها  ويحاول الكاتب أن يلفت نظر كل زوجة إلي مظهرها الذي تهمله بمحرد أن تتزوج فتصبح غير التي أحبها أو حتى  تزوجها بطريقة تقليدية ولقد جاء علي لسان الكاتب نفسه أنه سرعان ما تغيرت زوجته وأصبحت بدينة مشعثة الشعر يديها خشنة إذن هو يري ويلمس فيها كل ما لا يحب ولا يرغب ، ونجد أنه حينما تزداد حدة ما يشعر به الفرد من اغتراب وانفصال عن نفسه أو مجتمعه أو عالمه الموضوعي فإن حياته النفسية تختل ومعاييره تهتز وتظهر عليه زملة الأعراض المصاحبة للشعور بالاغتراب والتي قد يتمثل بعضها في الشعور بالعزلة والتشيؤ واللا معيارية والعجز واللا معني والتمرد واللا هدف واللامعقول، وليس ضروري أن تظهر كل هذه الأعراض بل يكفي أن تظهر إحداها وهنا نجد أن حسين بطل قصة كن كان ظهرت عليه بعض مظاهر الاغتراب مثل عجزه عن اختيار مهنته وعجزه عن اختيار الفتاة التي أحبها شعوره بأن حياته لم يصبح لها معني شعوره باللا معيارية وعدم الاتزان في مشاعره  شعوره بعدم الثقة في نفسه ويوضح لنا روبنز أن هناك علاقة بين مفهوم الذات والاغتراب عن الذات فالاغتراب عن الذات ينتج عن تضاءل مفهوم الفرد لذاته وأن النمو السوي للفرد يتضمن معرفته بذاته ومن ثم إحساسه بهويته إحساسا قويا ونجد أن تافز وشاختل ومادي وهيلين امتدادا لما بدأته هورني برد الاغتراب إلي الذات وإلي عوامل نفسية تؤدي إلي الشعور بالخزي والإحساس بالدونية تجاه الآخرين والشعور بالانفصال عن الواقع الخارجي وما يستتبعه من تحريف له فنجد حسين يري المظالم تتزايد أمامه وتتلاحق ولا أمل له في أن يري نهايتها أو يرى عالما تسوده العدالة. 

ويشير “ليفكورت” إلي أهمية التفاعل بين الفرد والموقف عند تحديد مفهوم وجهة الضبط ( الداخلي –الخارجي ) بأن هذا المفهوم يمكن أن يفيد في التبؤ بالإنجاز الأكاديمي ويساعد في التنبؤ بالسلوك المعتمد ومفهوم وجهة الضبط يتضح في أن الأفراد ذوو وجهة الضبط الداخلية يعتقدون أن التدعيمات الإيجابية أو السلبية التي تحدث للفرد في حياته أو ما يحدث له من أحداث طيبة أو سيئة يرتبط بالدرجة الأولي بعوامل داخلية أو عوامل تتعلق بشخصية الفرد مثل الذكاء والمهارة والجهد سمات الشخصية المميزة التي تحدث للفرد في حياته أو شخصية مثل الحظ والصدفة وتأثير الآخرين لعوامل غير معروفة فنجد أن حسين بطل القصة من هؤلاء ذوي الضبط الخارجي الذي ينظر إلي فشله أنه نتيجة للظروف وللآخرين أو للحظ أو الصدفة ووجهة الضبط متغير من متغيرات الشخصية تتعلق باعتقاد الفرد بأنه يستطيع التحكم في الأحداث والنتائج في حياة الفرد ( ضبط داخلي ) وفي الجهة المقابلة الاعتقاد بأن الفرد لا يستطيع التحكم في الأحداث والنتائج في حياته ( ضبط خارجي )وهذا المتغير يمثل بعدا هاما في الفروق الفردية في الشخصيات لكل من الطفل والراشد .

إن حسين لم يدرك جمال زوجته وابنة عمه إلا عندما عاشر آمال التي أحبها ووجد نفسه يتمنى ابنة عمه وكذلك المهنة التي كان بنعي حظه أنه لم يمتهنها مهنة المحاماة ولكنه عاد وتمنى المهنة التي ثار وتمرد عيها ولعن حظه من أجلها إذن المشكلة ليست في المهنة أو في الحياة نفسها ولكنها في نظرتنا تجاه هذه الحياة وإيماننا بالله ويقيننا فيه وفي قدرته فبيد كل منا أن يخلق عالما يحبه بالإرادة وبالإيمان وليس بالعجز والاسستسلام وبعض الدراسات تجد أن مفهوم إرادة المعني هو القوة الدافعة التي من خلالها يكون الفرد المعني والهدف من الاستمرار في الحياة ذلك أن غياب إرادة المعني كما يري فرانكل يؤدي إلي الشعور باللا معنى والسأم والملل واللامبالاة واللا هدف وعدم الانتماء وكلها محددات لشعور الفرد بالفراغ الوجودي  فليبحث كل منا داخله ما هي قدراته و ماذا يستطيع أن يفعل ويسلح نفسه بالإيمان وعندما نستطيع أن نقضي على الاغتراب نستطيع أن نقهره ونعود إلي ذواتنا من جديد كان بإمكان حسين أن يكون مدرسا ناجحا ومؤثرا في جيل الأبناء أو أن يكون محاميا ناجحا له هدفه إذا كان يملك أدوات ذلك كما يقول ويربط مادي بين اغتراب الذات بما يسميه بالعصاب الوجودي حيث يري إن العصابي هو شخص منفصل عن التفاعل مع وجوده وعن التفاعل العميق مع الآخرين ولهذا السبب يقول مادي فإن العصابي الوجودي هو شخص مغترب عن نفسه وعن المجتمع وهذا التعريف يستمد خصائصه من الفكر الوجودي عامة ومن التحليل النفسي الوجودي خاصة والذي يري أن العصاب هو أسلوب في الوجود ينتج عن فشل الفرد في تحقيق مطالبه الوجودية في الحياة وعن الاضطراب في الاتصال بالواقع وعن هذا الفشل والاضطراب تنتج أشكال الوجود الفاشل التي تتمثل في الاغتراب عن الذات وعن الآخرين.

 

 

 

يحيى حقي محمد حقي 

 

 

(17 يناير 1905م – 9 ديسمبر 1992م) كاتب وروائي مصري. ولد في القاهرة لأسرة ذات جذور تركية. درس الحقوق وعمل بالمحاماة والسلك الدبلوماسي والعمل الصحفي. يعتبر علامة بارزة في تاريخ الأدب والسينما ويعد من كبار الأدباء المصريين. في مجاله الأدبي نشر أربع مجموعات من القصص القصيرة، ومن أشهر رواياته قنديل أم هاشم، وكتب العديد من المقالات والقصص القصيرة الأخرى.

ولد “يحي حقي” في 17 يناير 1905 في بيت صغير من بيوت وزارة الأوقاف المصرية ب”درب الميضة” ـ الميضأة ـ وراء “المقام الزينبي” في حي السيدة زينب بالقاهرة؛ لأسرة تركية مسلمة متوسطة الحال غنية بثقافتها ومعارفها، هاجرت من (الأناضول) وأقامت حقبة في شبه جزيرة “المورة”، وقد نزح “إبراهيم حقي” (توفي سنة 1890)، أحد أبناء هذه العائلة إلى مصر ـ في أوائل القرن التاسع عشر، قادما من اليونان، ـ وكانت خالته السيدة حفيظة المورالية (خازندارة) بقصور الخديوي إسماعيل ؛ فتمكنت من تعيين قريبها الوافد في خدمة الحكومة، فاشتغل زمناً في دمياط ثم تدرج في الوظائف حتى أصبح مديرًا لمصلحة في بندر المحمودية بالبحيرة ؛ ثم وكيلًا لمديريةالبحيرة ؛ هذا الرجل هو جد يحيى حقي[2]. وقد كون “إبراهيم حقي” أسرة تركية مصرية؛ فأنجب ثلاثة أبناء هم على الترتيب محمد (والد يحيى حقي)، ومحمود طاهر حقي (ولد في دمياط سنة 1884م ،وتوفي في يناير 1965م، وهو الأديب المعروف)، وأخيرًا كامل حقي (توفي في 2 مايو 1972 م).[3]

تزوج محمد إبراهيم حقي ـ والد يحيى والموظف بنظارة الأوقاف ـ من (سيدة هانم حسين) التي تنتمي إلى أب تركي وأم ألبانية، وقد التقت أسرتا “سيدة هانم ” ومحمد حقي في بندر المحمودية بالبحيرة.

الأخوة

أنجب محمد حقي عددًا كبيرًا من الأبناء هم على الترتيب :إبراهيم، إسماعيل، يحيى، زكريا، موسى، فاطمة، حمزة، مريم. وقد توفي حمزة ومريم وهما طفلان، كما توفي عدد آخر من الأطفال قبل أن يبلغوا من العمر شهورًا.

الأخ الأكبر ليحيى هو “إبراهيم حقي” وكان يعمل في الخاصة الملكية ثم انتقل بعد ذلك للعمل في إحدى الشركات التجارية الكبرى (فيلبس). ثاني إخوته (إسماعيل حقي)، قضى زمنًا في التدريس في المعاهد المصرية ثم أحيل إلى المعاش وسافر إلى الرياض ليعمل بجامعة الملك سعود. أما أخوه الذي يصغره وهو الرابع في الترتيب فهو “زكريا حقي” الذي درس الطب وعمل مديرًا بإحدى مصالح وزارة الصحة، ثم “موسى حقي” الذي تخرج في كلية التجارة، ثم حصل على درجة (الماجستير) في السينما وكان يشغل وظيفة كبيرة بإحدى المؤسسات السينمائية.

حياته العملية 

تلقى يحيى حقي تعليمه الأوليَّ في كُتَّاب “السيدة زينب”، وبعد أن انتقلت الأسرة من “السيدة زينب” لتعيش في “حي الخليفة”، التحق سنة 1912 بمدرسة “والدة عباس باشا الأول” الابتدائية بحي “الصليبية” بالقاهرة، وهذه المدرسة تتبع نفس الوقف الذي كان يتبعه (سبيل أم عباس) القائم حتى اليوم بحي “الصليبية”، وهي مدرسة مجانية للفقراء والعامة، وهذه المدرسة هي التي تعلم فيها مصطفى كامل باشا. قضى “يحيى حقي” فيها خمس سنوات، وفي عام 1917 حصل على الشهادة الابتدائية، فالتحق بالمدرسة السيوفية، ثم المدرسة الإلهامية الثانوية بنباقادان، وقد مكث بها سنتين حتى نال شهادة الكفاءة، ثم التحق عام 1920م بالمدرسة “السعيدية”، انتقل بعده إلى المدرسة “الخديوية” التي حصل منها على شهادة (البكالوريا)، ولما كان ترتيبه الأربعين من بين الخمسين الأوائل على مجموع المتقدمين في القطر كله، فقد التحق في أكتوبر 1921م بمدرسة الحقوق السلطانية العليا في جامعة فؤاد الأول، وكانت وقتئذٍ لا تقبل سوى المتفوقين، وتدقق في اختيارهم. وقد رافقه فيها أقران وزملاء مثل: توفيق الحكيم، وحلمي بهجت بدوي، والدكتور عبد الحكيم الرفاعي؛ وقد حصل منها على درجة (الليسانس) في الحقوق عام 1925، وجاء ترتيبه الرابع عشر . 

 

استمر في القراءة قصة "كن..كان" – يحيى حقي