الأستاذ: ملف خاص عن نجيب محفوظ

 

 

 

ملف متنوع عن الأستاذ يتضمن نماذج من قصصه القصيرة، وقراءات في أعماله القصصية. حواراته ورسائله   

 

 

” الطاحونة” – قصة قصيرة 

 

 

كانوا ثلاثة قيل انهم خرجوا الى الدنيا فى يوم واحد . و حديث الأعمار يبوح بأسراره فى حارتنا عند الحوار بين الأمهات حتى بلغوا السادسة . عند ذاك حجزت البنت لتصبح خفية وراء الجدران و استمر الصديقان فى اللعب و التذكر . أما رزق فيتذكرها كلما احتاجوا الى ثالث فى لعبة من الألعاب ، و أما عبده فحتما منذ تلك المبكرة كان يشعر بها حبيبة للقلب على نحو ما . و منذ تلك السن المبكرة أيضا أدرك أن عليه أن ينتظر عشر سنوات قبل أن يحقق أمله المشروع .


و كان عبده من الذين يملكون ، أما رزق فممن لا يملكون . و تزاملا فى الكتاب كما تزاملا فى اللعب . و انقطع رزق عن التعليم بحكم فقره و واصله عبده حتى نال الابتدائية . و منذ ذلك الزمن البعيد و رزق يتشكل فى وجدان عبده مثالا فائقا فى القوة و الجرأه و المهارة فاحترمة و اعجب به و تبعة رغم فارق الغنى و الفقر .
و لما مات والد عبده حل الفتى محل أبيه فى مطحن البن الذي ورثه . و كان الأب قد دربه ، كما أن العمال القدامى أخلصوا له أيما إخلاص ، و لكنه سرعان ما ضم صديقه رز الى المطحن كمعاون له ، و كان كل ما حصله كل منهما فى التعليم كافيا له فى عمله ، و تجلت ألمعيه رزق فى متابعة العمل من شرائه كـ (بن)
أخضر الى تحميصه و طحنه و تعبئته و توزيعه . و قال لأسرته مفسرا قراره بتعيين رزق :
أنا لا أجد الطمأنينة الا معه .
ذلك حق . لم يتخل عن خدمته قط . يدفع أى أذى الصبيه . يسارع الى نجدته كلما احتاج الى نجدة . يسعفه بالرأى و المشورة . و لما ضمه الى المحل قال له :
كن فى العمل ما كنته فى الحارة ، عينى و أذن و يدى ..
و فى وقت قصير استحق أن يلقب بالوكيل . انه الرقيب بين العمال الدائب على رعاية الطاحونه ، و أنشط من قام بتوزيع البن فى الدكاكين و المقاهى . يا له من طاقة لا تخمد . و أصبح هو لا يدرى كبيرة أو صغيرة من محلة الا عن طريقة . بالمقارنه أصبح هو لا شىء و الآخر كل شىء .
و كان ارتياحه لذلك أضعاف ضيقه به لما طبع عليه من كسل و حب الحياة اليسيرة و الميل الى الاستمتاع بالسهر كل ليلة فى المقهى أو الغرزة . و كان العملاء يقصدون رزق لعقد الصفقات و كأنه مالك كل شىء . و لاحظ خال عبده ذلك و هو فى غاية من الاستياء و لكن الشاب قال له :
– بكلمة واحده منى يتغير كل شىء ، أريد أن تجرى الأمور على ما تجرى عليه ، و أنا يا خالي أحب المال و لا أحب العمل ، و رزق أمين ، و هو هدية ربنا الى ..
و مضت الأمور فى طريقها المرسوم حتى قال عبده لرزق يوما :
– آن لى أن أفكر بالزواج قبل أن يسرقنا الوقت .
و لم يبد على رزق أنه فوجىء و سأله :
– هل فاتحت أحدا فى الموضوع ؟
– انت أول واحد أفاتحه فيما يهمني ..
– أحسنت ، فالطريق المعتاد الى الزواج هو أردأ الطرق ، فدعنى اتحرى بأسلوبى الخاص و الله يهدينا سواء السبيل ..
هكذا سلمه شئون قلبه ضمن اختصاصاته ن و لم يكن هو رأى ظريفة طيلة السنين الا مرات معدودة ن و لكنه لم يحب من جنس النساء سواها ، غير أنه قال كالمعترض :
أسرتها طيبه و حسنة السمعة و لا حاجة بنا الى التحريات .
هذا كلام الناس الطيبين و لكننا لن نخسر بالسؤال شيئا ..
و انتظر عبده و هو يزداد قلقا و توترا ، و يتساءل فى حنق : 
متى تنتهي تلك التحريات المشئومة . و التقت عيناه بعيني صاحبه اذ هما فى المقهى فقرأ فيهما ما أثار خواطره و سأله :
ماذا وراءك ؟
فقال بحزن شديد :
ليس خيرا 
فهتف : 
يا خبر أسود ،ماذا قلت ؟
هى الحقيقة للأسف ..
لكن ظريفة ملاك .
إنها ليست ملاكا 
فغمغم بعد تردد :
أنا أريد البنت :
فقال الآخر بادى الامتعاض :
انت حر .
و انطوى على نفسه يفكر و يفكر . و يتردد بين الإقدام و الإحجام ، و ضاعف من تعاسته أن رزق اعتكف فى بيته لمرض طارىء . و ذات أصيل و هو منفرد بنفسه فى المطحن ترامت الى أذنه زغرودة . و جاءه عامل ليخبره بأن رزق كتب على ظريفة فى حفل خاص و نفر من أهله .
و ثار عبده ثورة جعلته يبدو بين عماله كالمجنون حقيقة لا مجازاً 
و زاره قريب لرزق يحمل اليه اعتذره و قوله انه فعل ما فعل لينقذه من شر كبير كان حتما سيقع فيه . و ضاعف الاعتذار من جنونه و أعلن طرده من المطحن و توعده بشر من ذلك .
و لكن الذى حدث غير ذلك . و قال لى شيخ الحاره – و هو راوي قصة عبده و رزق و ظريفة- ان عبده عاد مع الأيام الى رشده . و غرق فى عمله لا يدرى ماذا يفعل فاقتنع بأنه لا غنى عن رزق . و عفا عنه و أعاده الى مركزه السابق .
و الأعجب من ذلك كله أنه فاجأنا ذات يوم بالزواج من أم ظريفة ! 

 

 

تحت المظلة

IMG_٢٠١٨٠٧٢٠_١٣١٦٠٤[1]

IMG_٢٠١٨٠٧٢٠_١٣١٧٢٧[1]

IMG_٢٠١٨٠٧٢٠_١٣١٧٥٣[1]

IMG_٢٠١٨٠٧٢٠_١٣١٨٣٩[1]

 

 

زعبلاوي

عندما فاز “نجيب محفوظ” بجائزة نوبل للآداب عام 1988 كنت ذاك الشاب اليافع الذي يتحسس خطواته الأولى في عالم السرد ببعض قصص قصيرة كتب لها بعض القبول، وكانت قراءاتي في الأدب قد أخذت في التخصص واللهاث خلف كل ما هو جديد، فتصادف حصولي على مختارات روايات الهلال بعنوان “أهل الهوى” بنماذج قصصية بمناسبة فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، ولما كنت أفتقر إلى قراءة أغلب مجموعات نجيب محفوظ القصصية، لتركيزي كغيري على رواياته الفارقة التي استحوذت على لبي في بدايات قراءتي للأدب.. وإذا بقصة “زعبلاوي” تأخذ من نفسي مأخذ الإعجاب والانبهار، لأجد نفسي أعبر عن إعجابي بها بكتابة خاطرة انفعالية في ما يقارب الصفحة بخط يدي، وعندما عرضت تلك القراءة على زملاء ندوة الاثنين التي كنت ارتادها بقصر ثقافة الحرية منذ منتصف الثمانينات، إذ بي أفاجأ برد أنها نبتة لرؤية نقدية، وسؤال ربما كان هزليا وجه إليَّ: “هل تريد أن تتحوَّل إلى ناقد؟.. سوف يفسد النقد كتاباتك القصصية!!”

ولم ألق بالا لهذا الكلام الذي مرَّ على خاطري – الشغوف بكتابة القصة القصيرة – مرور الكرام لتقبع تلك الوريقة بين أوراقي المنسية ومسودات كتاباتي للقصة، قرابة الخمسة عشر عامًا، منها عشر لم تمسك أناملي بالقلم لكتابة أي نوع من الأدب أو الإبداع بصفة خاصة، لتلوح تلك الورقة لناظري من بين ركام أوراقي التي كانت شبه غير موجودة على مستوى ذهني وعلى مستوى وجودها المادي، فأقرأها من جديد لأتعجب من ذاتي، ثم أطويها وأدسها بين الورق مرة أخرى لأنشغل بهمِّ عودة قلمي للإبداع من جديد وتحقيق معادلة العودة من بعد جفاف تام لمنابع الكتابة في ذاتي التي ربما فقدت تلك الحساسية – أو هكذا هيء لي – ولاح شبح الإحباط والفشل أمام عيني، برغم رصيدي من القصص القديمة التي يمكن أن تكوِّن مجموعة قصصية فاتتها فرصة النشر الرسمي بفعل فاعل.. ثم أصدرتها بطبعة محدودة تحت عنوان “على حافة الحلم” 2003

حتى لاحت فرصة اشتراكي في المسابقة المركزية لهيئة قصور الثقافة للعام 2007، وكان محورها النقدي كتابة بحث عن القصة القصيرة عند نجيب محفوظ، فقررت المشاركة فيها ببحث يحاول سبر غور المسيرة القصصية لعبقري الرواية العربية، ذلك الجانب المعتم من إبداع محفوظ والذي لم تدركه العديد من الدراسات البحثية وأهملته إلى حد بعيد، معتمدا على بعض التمارين النقدية التي كنت قد بدأت ممارستها بعد عودتي للكتابة الإبداعية بمجموعتين قصصيتين ورواية – حتى هذه الفترة التي بدأت فيها مشروع كتاباتي عن نجيب محفوظ – وخضت هذه المغامرة بحس الممارسة الإبداعية التي مكنتني من التعايش مع النصوص والاقتراب منها حد التوغل والاندماج، لأجد نفسي مرة أخرى وجها لوجه أمام “زعبلاوي” مرة أخرى، ولكن بتقنيات ربما تمرست عليها بمنهجة ما لأسلوبي وأنا أسير مع دفقات تلك الرحلة القصصية المفعمة بالاكتشافات بالنسبة لي على الأقل، متسلحا بعدد لا بأس به من المخزون الثقافي والمعرفي والقرائي، وخبرة كتابة القصة القصيرة، وعدد قليل جدا من المراجع التي أيدت منهجي المتواضع في صياغة هذا البحث، ولأقع في سحر أعمق لـ “زعبلاوي”، ليكون حجر زاوية مهم في مسيرة بحثي عن ذات نجيب محفوظ القصصية التي ضن عليها النقد والمتابعة.. ربما اتساقا مع ميلي الشديد للروحانيات والنموذج الصوفي في الحياة عمومًا، وهو ما لم أنتبه إليه كلية عندما انجذبت لـ “زعبلاوي” وأنا حديث السن والإبداع، ولا أعرف شيئا ملموسا عن تلك الروحانيات..

 وإذ بي أحصل على جائزة قصور الثقافة في النقد، ببحثي “صور من تجليات الحياة” قراءة في الإبداع القصصي لنجيب محفوظ، والذي قدمته كما كتبته بخط يدي، وبلغت مرات إعادة كتابتي له باليد أربع مرات كأي عمل إبداعي أخوض غمار كتابته.. ودون الخوض في معاناة طبع الكتاب وسنواته السبع الضائعة في أروقة السلاسل والهيئات، فقد تحقق حلم مشروعي النقدي الأول عن عملاق السرد العربي قاصًا مجيدًا الذي لا تهتز جباله الشامخة الثابتة في القصة القصيرة كما في الرواية.. من خلال عنوان فارق هو “تجليات سرد الحياة.. قراءة في أدب نجيب محفوظ”، وها أنا أستعد لإصدار الطبعة الثانية له في مطلع العام الجديد بمشيئة الله، وهي طبعة منقحة ومزيدة بما قد يكون فاتني من نقاط وزوايا لم أتمكن من سبر غورها في طبعة الكتاب الأولى.. مبشرة بكتاب آخر جديد قادم لي عن العلاقة بين الفلسفة والتصوف في سرديات نجيب محفوظ..

كم أنا مدين لهذه القصة العبقرية “زعبلاوي” التي تعددت زوايا رؤيتي لها، كي تضع معادلتي الذهبية في رفد إبداعي بجهد نقدي لم يقلل من قيمة ما أكتب بقدر ما ساعدني كثيرا على صقل هذه التجارب القصصية التي لا تزال تعطيني مفاتيح الولوج إلى عالمها السحري، والذي ارتبطت به قلبا وقالبا، والتي لم ولن أتوقف عن خوض غمارها كقاص بدرجة ناقد، أو ناقد بدرجة قاص..

مرسلة من: محمد عطية محمود

قاص وناقد مصري

 

 

حزن وسرور: قصة قصيرة

 

كانت أسرة هانئة البال , يرعاها فتى في الخامسة والثلاثين , وتتعهدها بالعناية والتدبير أم حنون , وتعيش في كنفها أخت في مراقي الشباب الأولى . لم تكن من الثروة فى شيء , فمرتب الفتى لا يجاوز الخمسة عشر جنيهًا وهو كل مالها . ولا كانت غفل الزمان عنها , فقد فقدت راعيها الأول الأب والابن فى المراحل الأولى من التعليم الثانوي وأخته في مدارج الطفولة , فلاقت متاعب شديدة من الحاجة

والضنك قبل أن بلغت بر الاستقرار والأمان . إنها كانت تعودت الشدة والبؤس على عهد الكفاح الذي أعقب وفاة الأب , فانتقلت بتوظيف الابن إلى حال من يسر لم تكن – على بساطتها – تحلم بمثلها , وصارت أسرة هانئة البال , ودام لها هذا الحال خمسة عشر عامًا , حتى آذنت مظاهرها بما هي مقبلة عليه حتما من التغيير والتطور وفق ما تقتضيه طبائع الأشياء وسنن الحياة . ففتاها بلغ حدًا من العزوبة

لا يجوز أن يتعداه , واحسان أوفت على العشرين , فبات زواجها ينتظر اليوم أوغدًا , وبدت الأم في شيخوختها تحت الخطو فى مفترق الطرق .حقًا إن كل شيء ينذر بالتغيير وغدا تنقسم هذه الخلية الواحدة فتصير خليتين ,وتأخذ كلتاهما نصيبها المستقل من الحياة والنمو المتكاثر . وجاء الغد ولكن بما لم يكن فى حسبان . فقدت هذه الأسرة الشاخصة إلي الأفق بعين الرجاء عاهلها الأوحد … ذهب الرجل بأسرع مما يخطر على بال فى عزة الشباب وعنفوانه .فما كان إلا أن وجد دملا فى ساقه اليسرى , وأهمله أيامًا فبرر وغلظ ثم عالجه

بإبرة محماة ففتحه , ولكنه لم يوله ما هو أهل له من العناية والتنظيف , فورم مرة أخرى وامتد ورمه شيئًا فشيئًا , وسرى الألم فى الساق كلها , فمضى يتصبر على أمل أن تزول تلك الأعراض وحدها , حتى أقعده الألم عن الحركة , واستدعى عند ذلك الطبيب فأشار فى الحال ببتر الساق … وحمل إلى المستشفى وأجريت العملية فانتهت بغير سلامة , وأسلم الروح ومضى بصحته ورجولته ونفعه . وأوشكت الأم العجوز أن تجن . كانت تطمع أن يواريها فى التراب بعد عمر طويل ,فوارته فى التراب هى بعد عمر قصير . وكانت ترجو أن تودعه وهو سعيد بأسرته الجديدة , فودعها وقد تركها للوحدة والقنوط .أما إحسان , فكانت أشقى أخت وأشقى فتاة , فقدت – أو هكذا خالت – الأمل الحاضر والأمل المتخايل فى غضون المستقبل . وترك الرجل معاشًا جنيهين وربع جنيه , ولكنه أورثهما مدخره مائة وخمسين جنيهًا التي كان أعدها لنفقات زواج إحسان وزواجه هو فيما بعد . ولبست الأسرة الحداد وباتت في حزن أليم . إلا أن الله

الذي لا يرد قضاؤه خففه باللطف والرحمة . فقد كان لاحسان عمة عاقر على جانب من الثروة فآوت الشابة وأمها , وكانت إحسان فتاة عليلة وقعت منذ الصغر فريسة لمرض عصبي طال أمده فاستفحل بالإهمال – إذ كان أخوها كأمه ضعيف ثقة بالطب – وكانت إلى هذا حولاء , فاختفى حسنها وراء إهاب شاحب وجسم هزيل وحول ذميم . وربما أدرك الناظر إليها أن سبابها غير عاطل من جمال , ولكنه جمال مختنق تأبى عليه آثار العلة والحول أن يترعرع ويزدهر , فجسمها لطيف التكوين , إلا أنه ذابل , ووجهها مستدير حسن القسمات , إلا أنه مصفر عليل , وعيناها صافيتان واسعتان , ولكن قبحهما الحول وأخفى نظرتهما الحنون . ثم جاء موت أخيها علة فانهارت قواها وغلبها الحزن , فازدادت ضعفًا على ضعف وشحوبًا على شحوب , وأوفت من مرضها على نهاية خطيرة . ذاك كانت حالها حين فتحت لها صدرها عمتها , ثم أخذ كل شىء يتغير من بعد ذلك , بدأ هذا التغير فى الأشهر الأولى التى أعقبت الوفاة , ثم صار طابع الحياة

الجديدة وأملها المرموق و ووجدت الفتاة عناية لم تكن تجدها من قبل , فأقبل آليها يدعون ويقولون لأمها (( ربنا يفرحك بإحسان )) , وغمروها بالعطف والحب والدعاء , ومنحتها أمها جامع قلبها وكان لها نصفه أو أقل قليلا . أما الذى فازت به حقًا , وكان فوزها به عظيمًا , لأنه بعثها بعثًا جديدًا , فهو قلب عمتها , تلك المرأة الطيبة المحبة التى تتفجر نفسها رحمة وحنانًا , أحبتها كما كانت تحبها , وأحبتها كما كانت تحب أخاها , وأحبتها كما كانت تود وتتمنى أن تحب أمثالها من الذرية التى حرمتها ,فمن آى هذا الحب أن قبلتها يومًا وقالت لها :

– لا تستسلمي للحزن رحمة بنفسك ورحمة بأمك المحزونة وقالت لها مرة أخرى

وقد آلمها ما تراه فى وجهها من الشحوب والذبول .- لا يرتاح لى بال إذا تركت هذا المرض يعتصر شبابك الغض … ومضت بها إلى الطبيب , وتفحصها الرجل بعناية ووصف لها حقنًا ونصحها بتبديل الهواء , فأحضرت المرأة الحقن , ثم شدوا الرحال جميعًا إلى بلبيس – بلدة العمة – وهناك بين أحضان الريف الحنون وهدوئه الشامل فى الهواء النقي والشمس الصاحية سارع إليها البرء ومشى فى أعصابها الشفاء , فانتهت النوبات التى كانت تعتريها , ونجت مما كان يشقى حياتها من القلق والمخاوف , وسرعان ما امتلأ جسمها الهزيل واعتدل قدها وجرى فى وجهها ماء الشباب ورونق الصبا وجاذبية الأنوثة . وسرت العمة بما رأت , وكأنها بستانى يجنى ما غرست يداه لأول مرة  وأطعمها هذا الظفر بالمزيد , فحدثت نفسها : (( آه لو يذهب الحول … فأى عينين تكونان ! )) ولكن ما الذى يمنع هذه الأمنية من أن تتحقق … لقد سمعت أ، من أطباء العيون من يعالج الحول ويرد البصر سالمًا . ولم يقعدها التردد فقفلت هى وأسرتها الجديدة إلى القاهرة وقصدت إلى كبير أطباء العيون فأملها خيرًا وأجرى العملية فنجحت نجاحًا باهرًا فاق كل تقدير . واستوت عينان فطرتا على الميل والانحراف , وأخلى الحول مكانه لحور فاتن , ونظرة حلوة تقطر ملاحة , ونظرت إحسان فى المرآة فرأت وجهًا جميل  لا عهد لها به , يحسد على حبته الطبيعة من –الحسن والجمال , فانبهرت الفتاة , واستخفها السرور , وتناست أحزان الماضى وهمومه , وتفتح صدرها للحياة كما تتفتح الزهرة عانقها أول شعاع لشمس الربيع ,وابتاعت لها عمتها أبهى حلل فتبدت فى ثوبها الأسود النفيس فى بهاء العاج ورونقه , وأبرزتها من خدرها فقدمتها إلى أبها الاستقبال فى بيوت المعارف والجيران , وكانت تقول لها وهى ترمقها بعين الحب والإعجاب :

– لكم يشرح صدرى ويسر قلبى إذا جاءنا العريس المدخر غدًا … !

ولم يتثاقل هذا الغد ولا تأخر العريس طويلا , فجاء يطلب يدها البضة , ولما علمت الأم سر فؤادها المكلوم ,ودارت دمعة ترقرقت فى عينيها حين ذكرت ما ادخره الفقيد من مال لهذا الزواج ولزواجه هو أيضًا وباتت إحسان تلك الليلة فى سرور عظيم بل كانت أسعد لياليها وعندما رنق النوم بجفنيها فى ساعة متأخرة , رأت فيما يرى النائم حلمًا مؤثرُا و رأت أنها عادت إلى الشقة التى كانوا يقيمون بها قبل وفاة شقيقها , وأنها فى حجرته بالذات وعلى فراشه , ورأت فى وسط الحجرة نعشًا ملفوفًا فى الحرير الأبيض , يجلس على رأسه شيخ

كبير فى عباءة سوداء وعمامة بيضاء , وكانت تبكى وتكابد ضيقًا يكاد أن ينشق به صدرها , وكأنما الشيخ رق لها فوجه إليها الخطاب متسائلا :

– لماذا تبكين ؟

فقالت وقد أثر فيها عطفه فانهالت مدامعها :

– أخى … انى أبكى أخى …

فأومأ الشيخ إلى النعش وقال بهدوء :

– انه يرقد ها هنا

فحنت رأسها حتى تساقط الدمع على حجرها وقالت بصوت تخنقه العبرات :

– أعلم ذلك وا أسفاه

فسألها مبتسمًا :

– أتحبين أن يعود إليك ؟

فنظرت إليه بعينين لا تصدقان وقد كفت عن البكاء وتساءلت :

– أتستطيع ذلك حقًا ؟

– نعم بغير شك

فقالت بلهفة ورجاء :

– رد إليه الحياة … أعده إلينا

ولم تتمالك نفسها , فنهضت قائمة يلعب بفؤادها الأمل ؛ فقال الشيخ بهدوئه الذى لا يفارقه :

– ليس الأمر باليسر الذى تتصورين , فلابد من ثمن يؤدى

– أى ثمن … وهل يغلو ثمن لقاء أن يعود أخى ؟!

فهز الرجل رأسه المعمم وقال :

– إذا رد إلى الحياة وهذا على هين , فستردين أنت إلى حالتك الأولى , يعاودك المرض ويعتريك الذبول والاصفرار والحول , ولا يلبث حتى يسترد ماله فتفقدي خطيبك !

علاها وجوم , وشعرت بثقل الكابوس على صدرها , وشح جبينها عرقًا وزاغ

بصرها . فابتسم الشيخ وسألها كالمتهكم :

– – إيه … هل أعيده إليك حقًا ؟

رباه … ماذا تقول ؟ هل يمكن أن تنكص عن الجواب ؟

قالت وهى تزفر :

– نعم أعده

وتغير وجه الرجل , فلاح فى محياه الجد والاهتمام , ووثب قائمًا , ثم تحول إلى النعش يفك أربطته ويرفع غطاءه دون تردد وألقت الفتاة ببصرها إلى النعش لتستقبل العائد العزيز … ولكن اشتدت وطأة الكابوس وثقله , ورأت نفسها تتغير فى لمح البصر فترد إلى حالتها  لأولى , فاستردت صورتها العليلة وبشرتها الشاحبة وعينيها القبيحتين , وغابت كل المسرات : فلا نضارة ولا شباب ولا مال ولا زواج

وشعرت بإعياء وخور فلم تعد قدماها بقادرتين على أن تحملاها , فسقطت جاثية على ركبتيها , وعيناها لا تتحولان عن النعش … ثم غلبها البكاء , واستيقظت عند ذاك , فرفعت رأسها عن الوسادة , وتحسست يداها وجهها والفراش , لتتأكد من أنها يقظة , وأن ما كانت تكابده حلمًا من الأحلام , وكان قلبها يدق بعنف اضطرب معه ما فوق القلب من قميصها الأبيض , ثم أسلمت مرة أخرى إلى الوسادة وهى تتنهد تنهدًا عميقًا , وما لبثت أن أجهشت فى البكاء , ول لأنها مسخت فردت إلى حالتها الأولى , ولكن لأنها ذكرت أخاها الراحل , فثارت كوامن أشجانها .

 

 

فرصة العمر: قصة قصيرة

علي شاطئ البحر صادفتها تجلس تحت الشمسية وهي تراقب حفيدها الذي يبني قصوراً من الرمال، سلمت عليها بحرارة وجلست الي جانبها، عجوزين هادئين تحت مظلة الشيب، وفجأة ضحكت ضحكة رنانة وقالت لي : لا معني للحياء في مثل عمرنا، فدعني أقص عليك قصة قديمة، وقصت قصتها لي وأنا اتابعها بذهول ودهشة حتي النهاية، وعند ذاك قلت لنفسي : لقد أفلتت فرصة العمر يا للخسارة .

من”أصداء السيرة الذاتية” 

 

 

قراءة في قصة (الخوف )  من مجموعة قصص ( فتوة العطوف)

: ســـيد الوكيــــــل

 

الحكاية تبدأ من حارة (الفرغانة) وهي منطقة وسطى تقع بين حارتي: الحلوجي و دعبس.

الفرغانة!! هل يوحي اسم الحارة، بالخلاء الذي تبدأ منه و تنتهي إليه حكايات فتوات الحرافيش؟

 الفتوات الجدد يبدءون بانتصار على الفتوة القديم في الخلاء، وينتهون بانكسار على يد فتوة جديد في الخلاء أيضًا. ترى إلى أي معنى عبثي تأخذنا دلالة الخلاء بين الميلاد والموت عند نجيب محفوظ؟ وعليه، فهل حارة الفرغانة مجرد مكان فحسب، أم نشعر فيها بعمق الزمان، وبداية التكوين؟

 كان (جعران) هو فتوة حارة الحلوجي، وكان (الأعور) هو فتوة حارة دعبس، فيما كانت الفرغانة بلا فتوة، لهذا عانت الفرغانة وسكانها من صراعات (جعران، والأعور) لفرض سيطرتهما على الفرغانة الخالية من السلطة فيما هي تنعم بالجمال البري ممثلاً في نعيمة، وكانت مسرحًا لمعاركهما، والضحايا دائمًا هم سكان الفرغانة، حتى ظهرت (نعيمة) بائعة الكبدة، فأصبحت موضوعًا لصراعهما. نعيمة.. صبية جميلة ريانة القوام، فأثارت شهوة كل من جعران والأعور. لجمال نعيمة سلطة تثير غرائز الجسد، لكن جعران والأعور يدركان ألا سبيل إلى امتلاك الجمال بالعنف والقوة، فراحا يخطبان ودها ويتناوبان حمايتها من مشاكسات أهل الحارة، ويتوددان إلى أبيها الكفيف المغلوب على أمرة. وخلال هذه الفترة القصيرة نعمت حارة الفرغانة بالسلام ورعاية كل من جعران والأعور  كرامة لعيون نعيمة. لكن هذا لم يدم طويلاً، إذ تقدم كل من: جعران والأعور، بطلب الزواج من نعيمة، فوقع الأب، ووقعت الحارة كلها في حيص بيص، لأن الرد بالموافقة على طلب واحد منهما، يعني رفض الآخر، الذي سوف يجعل من أهل الفرغانة هدفًا مباشرًا لغاراته.

في هذه الأثناء يظهر ضابط البوليس الشاب. وعد أهل الفرغانة أن يخلصهم من الفتوات إلى الأبد. لكن تاريخ أهل الحارة مع الخوف، جعلهم حذرين، متوجسين، فوقفوا يشاهدون الضابط الشاب وهو يصرع الفتوات واحدًا بعد الآخر، بلا حماس، ولا انحياز لأي من الطرفين، إنه ميراث الخوف.

 سيطر الضابط ليس على الفرغانة فحسب، بل على كل الأراضي المجاورة، حتى بلغت خلاء شبرا. إنه -مرة أخرى- انتصار سلطة شابة منظمة وممنهجة، على سلطة تقليدية، عشوائية، نبتت باللانتخاب الطبيعي، ثم شاخت بطغيان الزمن. فبدأ سكان الفرغانة يشعرون بالامتنان للضابط الشاب الذي خلصهم من الخوف. لكن الخوف هو قدر سكان الفرغانة.

 في خلاء شبرا، رأى الناس الضابط الشاب يختلي بنعيمة الجميلة. كانت قد وقعت في غرامه، كأي امرأة تبهرها القوة ويثيرها الشباب، حتى عندما اكتشفت استغلاله لجسدها، لم تتمكن من الخلاص منه. عانت نعيمة قهرًا مضاعفًا، بين ابتزاز الضابط لها، وغمزات وتلسينات أهل الفرغانة عليها. هنا ينبثق معنى جديد لسلطة قديمة، سلطة القيم والتقاليد الاجتماعية التي لم يجرؤ الفتوات أنفسهم على المساس بها، بل تظاهروا بحمايتها، وعقاب كل من يتجرأ بالخروج عليها، فحتى الفتوات يعرفون أن الخروج على قيم الجماعة الشعبية، يعني الخروج من الجماعة الشعبية نفسها. ففي رواية الحرافيش، بدأت نهاية الفتوة (حسونة السبع) عندما اخترق قوانين الجماعة الشعبية. 

ومن جديد يعود الخوف لحارة الفرغانة. وقفت الحارة عاجزة عن الدفاع عن قيمها، وبدلًا من مواجهة الضابط، وجهت غضبها نحو نعيمة. لنقرأ هذا الوصف البديع الذي يجسد المعنى المركب لمشاعر نعيمة بالخوف:” وانتبهت نعيمة إلى الصمت الذي يطوقها والازدراء، وجعلت تتودد إلى هذا وذاك لتختبر شكوكها فارتطمت بجدار من الحنق. ولم تخش اعتداء عليها، وفتوة الفتوات قائم بمجلسه أمام النقطة، ولكنها عانت وحدة غريبة. ورفعت رأسها في استكبار ولكن نظرة عينيها العسليتين خلت من الروح كورقة ذابلة. ولأقل احتكاك عابر كانت تنفجر غاضبة وتمسك بالتلابيب. وتسب وتلعن  وتصيح في وجه ضحيتها: أنا أشرف من أمك. وتربع الضابط على الكرسي الخيزران يدخن النارجيلة ويمد ساقيه حتى منتصف الطريق وقد امتلأ جسمه وانتفخ كرشه وتجلت في عينيه نظرة متعالية، ولكن خمد حماسه حتى بدا أن نعيمة نفسها لم توقظ مشاعره، والذين لم ينسوا فضله رغم كل شيء تنهدوا قائلين: المكتوب مكتوب” 

هكذا، تتقلب القصة، بين معاني مختلفة للسلطة، لتؤكد المعنى العميق للخوف الذي يحكم الإنسان. وحيرته، بين آليات الترغيب والترهيب، التي تستخدمها كل السلطات. وتظل الجملة الأخيرة: المكتوب مكتوب. تعكس عجز الإنسان وتسليمه بقدره، وتحيل في نفس الوقت، إلى معنى ميتافيزيقي للسلطة، سنراه في رواية (قلب الليل) أكثر تركيزًا. فالتحرر من الخوف، لا يكون إلا بكسر وهم السلطة بالخروج عليها. كخروج جعفر الراوي على سلطة الجد في قلب الليل، أو خروج الحرافيش بالنبابيت، لمواجهة (حسونة السبع) ورجالة. أما قصة الخوف، فقد اكتفت بالنظر إلى معنى الخوف، وتأمله من زوايا عدة. نظرة مجهرية لفحص وتحليل معنى عميقًا في مسيرة الوجود الإنساني على الأرض ومرافقًا للطغيان. لننظر كيف ذبل شباب وجمال نعيمة تحت سطوة الخوف الذي يحاصرها في عيون سكان الفرغانة، كيف للجمال أن يحيا تحت الخوف!! يقول محفوظ:” لم تعد نعيمة تمكث في العطفة إلا أقصر وقت ممكن ثم تسرح في الأحياء ولا تعود إلا مع الليل. ولأنها دائمًا مكفهرة ومتوثبة للشجار، فقد قست ملامحها وبردت نظرتها وطبعت بطابع الجفاف فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة”.  ولم يكن من قبيل المصادفة أن ينهى محفوظ هذه القصة العجيبة بسطر مستقل عن الصمت كمظهر للخوف، وهو يصور الضابط في مجلس الفتوة، أمام النقطة، بكرشه المنتفخ، على الكرسي الخيزران، يدخن النارجيلة “وفي لحظات الصمت ترتفع قرقرة النارجيلة في العطفة الخابية الضوء كسلسلة من الضحكات الساخرة”. 

كان الخوف يضحك ويعربد بين جوانب الفرغانة.

 

82788198_2549991818446917_5111692259758178304_n

 

حوار – منة الله الأبيض

نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911ـــ 30 أغسطس 2006)

http://gate.ahram.org.eg/News/1514146.aspx

 

 

 

رسائل نجيب محفوظ إلى أدهم رجب

 

الدكتور أدهم رجب من أصدقاء نجيب محفوظ المقربين، أو من بين ( شلة العباسية) التي كانت تضم افرادا من عائلة نويرة، كما كان من بينها شقيق السيدة تحية كاظم زوجة الرئيس جمال عبد الناصر. وجدير بالذكر أن حي العباسية في هذا الوقت تسكنه أغلبية من رجال الجيش المصري،بمختلف مستوياتهم ورتبهم. ومازال أبنائهم وأحفادهم يسكنون العباسية.

أدهم رجب هو طبيب من أسرة ميسورة، ورث دخلا من العقارات يصل إلى 500 جنيه شهريا، وهو ثروة في هذا الوقت في الثلاثينيات.كان مثقفا متعدد المشارب. فتفرغ للثقافة  وكف عن العمل في عيادته الخاصة التي كانت لا تقدم له دخلا كونه يجعل الطب هبة للمحتاجين. ونتيجة لهذا فقد تناقص دخله بمرور الزمن وارتفاع الأسعار. فانتهي إلى أن يصبح أحد الفقراء.   

 * (1)

 

عزيزي أدهم

 

عدو السينما والفن الصحيح، لو كنت في باريس، موطن الفن، بدل لندن، موطن الضباب والدخان لما سخرت في خطاباتك من الأساتذة شكوكو وعلي الكسار والكحلاوي، وهل كان موليير في زمنه إلا واحدا منهم؟ ولكن لا كرامة لنبي في وطنه، وتسألني عن العقاد: قل هو رجز من عمل الشيطان، وهو عضو شيوخ معين وصاحب سيارة وكاتب في أخبار اليوم ب150 جنيهاً في الشهر، وأظن الآن عرفت رأيه في المعاهدة، أما السياسة فأراك من المتفائلين بالمعاهدة بين الاستعمار البريطاني والعرش، فهل يضحى الاستعمار بالاستعمار، أو العرش بالعرش من أجل قوة اسمها الوفد، ونحن نعيش في الظلام، ومستقبلنا مظلم، فلقد مدت الاشتراكية البريطانية يدها لقوى الرجعية في الشرق، كما مد النقراشي يده للسراي، وأمامنا عهد جهاد مر، والسجون تكفي لاستقبال الأحرار.

 

ودمت للمخلص الذي يشوقه أن تعود إلى مصر لنسمر معا ما بين الأوبرا والفيشاوي.

 

المخلص

نجيب محفوظ

كابرا طرف تلحمي فيلم

 

****

 

* (2)

 

 عزيزي أدهم

أخبار الشيوعية غطت عندنا على المعاهدة نفسها، فضلا عن الأدب والسينما، فما ندري إلا والبوليس يطرق على البيوت، ويسوق الشابات والشبان إلى السجون، وكلهم من المثقفين ثقافة عالية، ثم صودرت الجرائد والمجلات التي تدافع عن العدالة الاجتماعية، وعلى رأسها “الوفد المصري”.. الخ، وقيل من ضمن ما قيل الآن أن الدكتور محمد مندور مقبوض عليه، طبعا واسطة بين النحاس باشا وروسيا، وأن الوفد متهم بالشيوعية، وقد جاوز المقبوض عليهم ال،300 ويخيل إليّ أن لهذا القبض صلة بالسياسة الداخلية، ويخيل إليّ أيضا أن مهمة إسماعيل صدقي باشا في الحكم هي القضاء على ما يسمونه باليسارية قبل كل شيء (هذا شيء يسرني لأنني في طريق الرأسمالية) وبعد فقد سرني ما سرك من اجتماع شملك واستقرار حياتك، وإنني لفي انتظار الكثير من كلامك المليان والفارغ والسلام.

المخلص..

 

نجيب محفوظ

طرف استوديو تلحمي مصر!

 

****

 

* (3)

 

عزيزي أدهم

 

مده الله بالتفاؤل والطمأنينة، آمنت بقولك إننا نعيش في دائرتين متناقضتين من تفاؤل وتشاؤم، وأعجبني أنك مغرق الآن في البحث عن الحقيقة، فأعجب الآن لأنني أعاني شبعا من الحقائق وازورارا عنها جميعا.

 

إن حماسي الجنوني للقراءة يفتر، ويكفيني الآن أن أقرأ صفحة لأتأمل بقية الليل فيها، وفي ما تثيره في ذهني من أفكار ومواضيع.

 

كان في الماضي يعذبني الطموح إلى معرفة الأشياء جميعا، أما الآن فحسبي فكرة أو خاطرة لأعيش فيها، كيفما أشاء وظمئي للفن شديد، أريد أن أفنى في سماع الموسيقى وتأمل الصور الخالدة وقد خرجت إلى المكاتب لأبتاع ما يلزمني منها فصدني غلو ثمنها، لم أتصوره من قبل، حتى إني وجدت مجموعة لبيكاسو ثمنها 4 جنيهات، وعموما فإنني أفضل الحياة التي يحياها الناس وإلا لسمعت عن زواجي في الخطاب القادم. وفي الختام تقبل أزكى التحيات.

 

المخلص نجيب محفوظ

شركة أفلام الشرق الأدنى

 

م ألم تنجب أطفالا؟

ألم تلتقط لهم صورا فوتوغرافية فنية؟

 

*****

 

(4)

 

عزيزي أدهم

 

عن أخبار الكنانة لا تسل، جمود سياسي، وضيق شامل، وأقلية في أفراح متواصلة، وشيوعية تطل برأسها في حذر، وطوائف تهدد وتنذر، وحسبك أن تعلم أني أكتب لك هذا الكتاب وضباط البوليس معتصمون بحديقة الأزبكية، والبلد معتبرة في حالة طوارئ، وتسلم الجيش زمام المحافظة على الأمن حتى تحل المشكلة، ومن ذلك تجدني في خوف على ثروتي، لأنني أحتفظ بها عادة في جيبي إذا لم تكن نسيت.

 

والأدب أخباره أحسن وقد اشتركت في مسابقة القصة بالمجمع اللغوي وأعلم أنك ستغضب لهذا الخبر، ولكنني كنت في حاجة ماسة للنقود، فقدمت “القاهرة الجديدة” و”خان الخليلي” و”زقاق المدق” ومنحني المجمع 150 جنيها مصريا، كانت عزائي على التقارير الجاهلة التي قرأتها عن القصص. والحق أنه لولا العقاد سئل عن القصاصين الثلاثة الأول فقال الحكيم وتيمور والعبد لله، وسألوا بيرم فوضعني في الأول، وكانت النتيجة أن توفيق الحكيم كتب مقالة في أخبار اليوم يهاجم القصة وما يسمونه أدب الحياة ويقول: إنه فن نسوان وأن الأدب الحقيقي هو الفكر، ومن ساعتها وكل أصدقائي ينادونني قائلين “يا مرة” وإني في انتظار رؤيتك على أشواق.

المخلص نجيب محفوظ

 

*****

 

(5)

 

عزيزي أدهم

 

أيقنت وأنا أنتظر ردك أنك شغلت بالتحصيل فسررت رغم شوقي لقراءة نفحات من يراعك، وجاءني الرد متأخرا فصدق ظني وثبت لي منه أنك صرت كثير العلم قليل الأدب. وحمدت الله على أن بقي للسانك طوله المعهود، متعنا الله بحلاوة مرارته. أما لجنة السيناريو التي تهزأ به فقد انفضت لأن فؤاد نويرة سيسافر قريبا إلى أمريكا في بعثة للخدمة الاجتماعية، ولأن صلاح أبو سيف يجعلني مستشارا له في كتابة السيناريو الذي يتفق على إخراجه وهو شاب موهوب وممتاز واسع الثقافة ولا يبعد أن يكون مناط الأمل في السينما المصرية وهو إلى ذلك لا يخرج في السنة أكثر من فيلمين لحرصه على الإتقان، فلا يمكن والحال كذلك أن يغير على وقتي ومن ذلك ترى أني محق إذا طلبت إليك أن تخفف من حدة لسانك يا حضرة العلامة(…) أما عن المعاهدة فكان الإنجليز يسعون في ما مضى للاتفاق مع النحاس وهم اليوم يؤدون الاتفاق مع الملك والفائدة متبادلة، فهم سيفوزون بحماية موقّع عليها وهو سيفوز بالحكم والأمن وهذا ما يظنه، وقد ثبت مما نشر أخيرا أن أمين عثمان كلف بعرض مشروع المعاهدة على النحاس فرفضه وقال له: أنا لا أفرط في السودان من أجل الوزارة، القصة التي أكتبها الآن لك أفضل في السيناريو بتاعها وحين تقرأها في 1948 ستذكر كيف أخذت الموضوع أو نصفه منك.

 

تحيات الأشواق الحارة

نجيب محفوظ

 

****

 

* (6)

 

عزيزي أدهم..

 

تحيات وأشواق لا حصر لها، وبعد فقد انتظرت كتابك بصبر نافد ولم أشأ أن ألحقه بجواب من عندي آخر لما قدرته من مشغوليات بالامتحان والعمل، كان الله في عونك.

 

وقرأت رأيك في “الفورسيت ساجا” ولا أخفي عليك أني كنت أنتظر حماسا أكثر وكأنك مغرم بالمقارنات وكثيرا ما تذهب آثار روائع ضحية لها، والواقع أن السيطرة على شخوص تعيش في أجيال أمر في الفن القصصي عسير شاق يحتاج لقدرة خارقة، بيد أنك زدت شوقي لجين كرستوف فاللهم هبني الوقت والمال، ومن جانب آخر يحثني الدكتور أنيس منير على قراءة همنجواي وغيره من المحدثين حتى بت في حيرة من أمر القراءة وكأني سأضع نفسي في النهاية بالقول السائر: “الناس فريقان، فريق يكتب ولا يقرأ، وفريق يقرأ ولا يكتب” ولا أخفي عليك أني بحاجة إلى التجارب وأني أشعر بالاختناق بين ميدان فاروق والأزهار.

 

وقد عرفت هذا الصيف أديبا شابا موهوبا ولطيفا معا ولهذا الأديب عوامة نقضي فيها نصف الليل ما بين “…”.

 

وانقلب أخوك شيئا آخر مدة الإجازة فقط طبعا، بل علمني البوكر سامحه الله فغدوت مقامرا وليس بيني وبين دكتور الأمراض التناسلية إلا خطوة، فانظر كيف يتدهور الأديب على آخر الزمن؟ وقد وفيت أخبار السياسة حقها لعنها الله، وكلامك فيها يقع من نفسي موقع الحق والهوى معا، وفي هذه اللحظة التي أكاتبك فيها يعثرون على القنابل في القاهرة كالتراب خصوصا بعد حادث سينما مترو، بل تصور أنه انفجرت منذ أسبوعين قنبلة في شارعنا وعلى بعد 20 مترا من بيتنا وكان من نتائج ذلك أن بطلت حفظ “…” في البيت استعدادا للتفتيش فليعش الملك المفرقع الأول.

 

المخلص: نجيب محفوظ

 

******

 

(7)

 

عزيزي أدهم الساذج..

 

تحيتي إليك في وحشتك الإسكندرانية التي أعتقد أنها وحشة “محلية” تقتصر على بيئتك لأن الإسكندرية سوق أدب كبيرة وهل أنسى أن مكاتبها طلبت رادوبيس مثنى وثلاث، ولكنك وقعت في جماعة متخصصة يصدق عليها المستعان على ما يصفون، ألم أقل لك شد الرحال إلى مصر وادخلها آمنا ولك فيها متاع إلى الأبد؟ لقد أنشأنا ندوة أدبية في قهوة عرابي تجتمع كل جمعة وتحتفل بأدباء لجنة النشر الجامعيين وغيرهم من أدباء الشباب ثم تدور المناقشات وتقرأ المؤلفات حتى لقد فات مأمون وهددنا أكثر من مرة بالضرب والطرد.

 

وسروري بشروعك في الكتابة لا يوصف وموضوعك جليل يتسع فيه المجال وياحبذا هو من موضوع أتوق لمثله لأني كما تعلم أجهل بالريف منك في الأدب، لا مؤاخذة لابد من مزاح ولعله يمكن أن يلهمني شيئا أكتبه عن الفاكهة المحرمة علي، اكتب وتوكل على الله فالأديب الحق في أوله عبارة عن سلة مهملات وإني بالاستقالة فمادمت تتصدى لموضوع اصطلاحي فينبغي أن يكون رائده الأمل لا اليأس أو فما الفائدة من كتابته كتابة الاجتماعيات غير الفن للفن؟

 

أم كلثوم أجهدت نفسها أمس لدرجة الإعجاز أنا الآن أكتب رواية ربما كانت الــ master piece بتاعي وأخشى ألا أكتب مثلها في المستقبل، وأرجو أن تكون أقوى قصة مصرية بغير استثناء وسوف ترى وهي عن المرحوم شكري ابن أختي، أرجو أن تكتب لي على ورق أبيض وبخط واضح وأن تبلغني نشاطك الأدبي أولا بأول، ومني لك القبل.

 

المخلص: نجيب محفوظ

 

********

 

(8)

 

عزيزي أدهم..

 

تحياتي وأشواقي، أرى أنك منشغل بغير شك بمذاكرتك حتى نسيتنا، وإني لمسرور جدا وأرجو أن تتم عملك على أكمل الوجوه، وقد جد جديد رأيت أن أبلغك به لأنه مما يهمك معرفته وإليك هو: استدعاني سكرتير اللجنة الأدبية بالمجمع اللغوي أنا والأستاذ عادل كامل وقال لنا: إن اللجنة قررت تأجيل البت في نتيجة مسابقة القصة وستعلن عنها من جديد وأدلى إلينا بالمعلومات الآتية:

1- قررت اللجنة أولا أن تختار قصتي وقصة عادل لتمنحهما الجائزتين على أن تنظر في جلسة أخرى في الترتيب.

2- في الجلسة الثانية قال العقاد، ولم يكن قرأ قصة عادل، إن قصة عادل شيوعية صريحة، وبعد مداولات تقرر إخراجها ومنحي الجائزة مع ثالث.

3- اعترض العقاد أيضا على قصة الآخر على اعتبار أنها ليست بقصة فنية ولم توافق اللجنة على أن أمنح الجائزة بمفردي، من ذلك ترى أن فن واحد وعدم فن الثاني ضيعا علي الجائزة وعليه ستعاد المسابقة، ثم قال السكرتير إن اللجنة تطلب:

 

أ – من عادل، أن يغير روح الرواية!

ب – مني، أن أصور فلسفة الخيانة في قصتي، أي لا يكفي أن أكتب عن خيانة زوجية من وجهة الرواية السيكولوجية وإنما ينبغي أن أحكم عليها من الوجهة الأخلاقية وليحي يوسف وهبي، وبطبيعة الحال قررت ألا أعود إلى شيء اسمه لجنة أو مسابقة فما رأيك؟ ألست معي بأني ظلمت وبأني أظلم كرامتي أكثر إذا تقدمت مرة أخرى؟

 

هذه هي أخباري وأرجو في الختام أن تبلغني نتفا من عملك لأتابعك ولو على البعد.

وختاما تقبل تحياتي

 

المخلص: نجيب محفوظ

 

*******

 

(9)

 

الناقد الساذج..

 

لب الموضوع، تصورت الملك كما تخيلته: أحمق، طائشا، مستهترا، ولكنه شجاع نبيل لم يوهب الحكمة لكي يحكم ولكنه وجد الشجاعة التي بها يموت وفي الوقت نفسه لم أشوه زعيم الشعب فأجريت على لسانه مثالا من كلام الزعماء المخلصين.

 

كثرة الموتى جعلتك تقارن عملي بيوسف وهبي؟ الموت أو الانتحار ليسا بعيبين في أي عمل فني، فبعض روايات شكسبير يموت فيها سبعة من المنتحرين، إنما العيب الانتحار المفتعل المتكلف، فموت الملك حقيقة تاريخية فما فعلت إلا أن تخيلت حدوثها، انتحار ظاهر طبيعي جدا بل أتحداك أن تتصور له نهاية أخرى وهو مثال الرجل المخلص الذي زل الزلة الكبرى أما رادوبيس فهل كان من الممكن أن تعيش بعد ذلك؟

 

هل من المعقول أن تحب رادوبيس فرعون وتنسى رجالها من أجله؟ يا هوه!! غير معقول، وهذا نقدك الهش الرخو يا ناقد آخر الزمان وإنما مثلك في تعلقك بهذه الهنات مثل إنسان يتقدم إليه آخر حي جميل فيحصر عقله في منديله مثلا وهات يا تقبيح ثم يستنتج في النهاية بكل لباقة أن الرجل قبيح “….” وبعد فمتى نراك؟، أنت وحشتني ولابد من لقاء قريب نشفي فيه لواعج الشوق والسلام.

 

المخلص: نجيب محفوظ

 

*******

 

(9)

 

عزيزي ناقد رادوبيس..

 

سألت نفسي: هل من الضروري أن أجعل من ردك موضعا للنقاش؟ والحق أني لا أتعرض لناقد برد وأن أستفيد من ملاحظات العالمين وأعرض عن سفه الجاهلية دون أن أحرك يدي بدفاع أو أن أضيع وقتي في مهاترة ولكنك صاحب مودة وعهد أو بمعنى آخر لك الشرف أن تكون صديقي وتلميذي فلا يجوز أن تعترض على ملاحظة لك والسلام.

 

وهكذا كان كتابك الأخير نصرا مبينا لي فقد اعترفت بما لرادوبيس من المزايا ولخصت ما تبقى لك من مآخذ عليها فإذا بها لا تجاوز: (أ) كثرة المصادفات (ب) خيانة طاهو، وأحب أن أسالك سؤالا: كيف تتخيل فرعون هذا وقد قال عنه التاريخ إنه حكم عاما وقتل في ثورة شعبية؟ تصورته أنا شابا طائشا ضعيفا شجاعا نبيلا.

 

فهل كنت تريد أن يشاركوا فرعون فراشه؟! ألم تقل إن رادوبيس “متهابة” وهي تستقبل بنامون، إنه يدخل القصر الذي حرم على أستاذه؟ ومع ذلك معلش المرة القادمة سأجعل فرعون ب”…” في “…”!!

 

لي اقتراح يا أدهم: أن تحترف الأدب ولا تحترف الطب فعلى الأقل في ذلك حسم للنزاع وفائدة محققة للطب على الأقل، وبعد فلم تقل كيف نراك ولا متى تأتي؟ وهل تهجر القاهرة إلى الأبد؟ وأرجو في الختام أن تقبل تحياتي الخالصة وبركاتي.

 

المخلص: نجيب محفوظ

 

*******

 

(10)

 

عزيزي أدهم..

 

لماذا لم أكتب لك؟ طبعا كنت حيالك كالماشي على أطراف أصابعه، جنب نائم مجهد يخاف أن يوقظه فلم أكتب لك ولم أفكر فيك حتى لا أشغلك بطريق ما فأستحق لعناتك وإنك لسخي باللعنات وأخيرا كتبت أنت، أهلا وسهلا، ولكنك لم تذكر كلمة واحدة عن الحياة الجديدة وهذا عجيب وكان ينبغي أن تتفضل بكلمة تزكي بها عن عينك وعافيتك وتجود بها على أديب إن لم تدركه أنت وأمثالك أفلس ولم تنفعه صداقة (عبد الحميد جودة) السحار ولا صداقة (علي أحمد) باكثير.

 

هل قرأت كلمتي عن سيد قطب؟ الحق أني كتبت كما تفهم عن كيفية الكتابة فيها رسالة موجهة للمؤلف لا نقدا، ولكن صاحب مجلة الرسالة وضعها غير موضعها وفيها بطبيعة الحال ما تفهم لأني لا أكتب في النقد أو لا أنشر نقدا على الأصح ولكنها صدق يا أدهم، وأعتقد أنك لو قرأت الكتاب لأعجبت بذكاء الأستاذ سيد قطب كما أعجب، ففي الكتاب فصل هو أعجوبة حقا وإذا تأيدت المجاملة بالصدق فلا عيب ولن يتغير رأيي في سيد ولو ضربني في المستقبل بعصاه المعروفة فأنا رجل كما تعلم منصف وليس لي أعداء من جنسي.

 

سررت لظفرك بكتاب لتوماس مان وأنا أعلم أن الجبل السحري أحد كتبه الثلاثة المفضلة ولكنه كاتب ألماني لا تنس، أي أنك ستجد ميزته الأولى في العمق والجد لأنهم لا يعرفون الهزار وإني جد لمشوق لرأيك، فاقرأ واصبر فأنت الآن مع رجل قرأت أكثر من مرة أنه أعظم أديب في القرن العشرين وكان من حظي أن قرأت له مجموعة قصص منها أجمل أقصوصة قرأتها في حياتي وهي أقصوصة أو سيمفونية أو سحر ولكني لم أجد مثلها لغيره، فيا بختك ولقد قرأت له أيضا رواية “صاحب السمو” ولم تعجبني وأكثر من نصفها ملك خاص، ولكنه كما قلت وكما قال عنه بعض النقاد رجل ذو روايات ثلاث فاقرأ لي يا عزيزي، أما سَلاَّمة فهو كما يقول بحق أحسن فيلم مصري.

 

لا أكذبك أن الخاتمة التي لفقوها لها لم تعجبني وأن قصور مكة لم تقنعني وهي بقصور بغداد العباسية أشبه ولكنه فيلم إخراجه حي وموضوعه محبوك وتمثيله قوي وأغانيه آه من أغانيه وآه من زكريا، لكن أتعلم أن الإقبال محدود؟ الأغنام تزدحم بالكورسال وكوزمو، نصيب ثومة منها محدود ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

المؤلف: نجيب محفوظ

 

******

 

* (11)

 

أخانا أدهم..

 

ركن المتزوجين وإمام الراغبين وأمان الخائفين. تتحدث عن الطبع والكتب ولا تدري أن وزارة التموين إذا صح ما بلغنا تنوي أن تحدد ما يطبع من أي كتاب بألف نسخة ومعنى هذا باختصار قتل نهضة التأليف والترجمة في مصر واجتثاثها من جذورها، فادع الله ألا ينزل بنا هذا الغضب الذي يذهب بلجنة النشر وغيرها إلى الجحيم، ولجنتنا كما تعلم لا بأس بها وهي تعد لعام 1946 برنامجا دقيقا نرجو أن توفق إلى نشر خير ما عند الجيل الجديد من ثمار كفاها الله شر غباء التموين.

 

والعجيب أن ما قرأته من الأدب الألماني أقنعني حتى الآن بأنه جد أكثر من اللازم وهذا ما يطلبه جمهورهم، حتى أن “مان” اعتذر في مقدمة “صاحب السمو”، لأنها ليست من النوع الجد الذي يحبه الجمهور الألماني، وقد قتلتني لأنها جد أكثر من اللازم فتصور.

 

أهم أخبارنا أن أخاك إسماعيل “استكرد” كاظم في ثلاثة قروش ولا حديث لنا إلا ذلك، كاظم لا ينساها ولا ينام الليل حتى كاد إسماعيل يلين ولكني قلت له بصريح العبارة إنك لم تظفر في حياتك بغير مفخرة واحدة وهي أنك “استكردت” أبو الكاظم فإذا تنازلت عن هذه فماذا يبقى لك؟ وهكذا وضع يده في جيبه مرة أخرى وجن جنون كاظم.

 

وعن حالي أنا الحمد الله ملتزم بالرجيم وهو معقول ولذيذ أيضا وكم أفادني امتناعي عن القهوة والشاي والصحة الجيدة أما البروستاتا “….” فما رأيك في كل هذا يا دكتور أم ليس لك إلا في الأدب والنقد؟!

 

يسرني جدا أن أسمع منك حديثك اللطيف عن الحياة الزوجية، فهذا يدل بصريح العبارة على أنك أنبغ حيوان عرفته الحياة وما كان كذلك الدكتور حسان؟ وبعد أينبغي أن أختم بإزجاء السلام وقد انتهى الفراغ.

 

المخلص: نجيب محفوظ

 

 

***

 

 

 

عزيزى أدهم

تحية وأشواقًا، وتحيات أبوالكاظم أيضًا، ومعذرة عن الاختصار، فأنا مريض وليس هذا الخطاب من خطابات الحديث والأشواق والأدب، ولكنه مجرد استشارة طبية ويا تلحقونا يا ما تلحقوناش. وقد ذهبت لأكثر من طبيب، ولكن رأيت أن أرجع لمرجع عصره، وفريد فنه الدكتور حسان، الأديب الناشئ!!

كشفت على قلبى للخفقان السريع الذى يعتريه فى فترات متقطعة فقيل لى قولان: قال طبيب إنها حالة مجهولة والقلب سليم ولم ينصح بشىء، وقال طبيب ثان، إنها أعصاب القلب، ونصح بعدم تعاطى الشاى والقهوة والتدخين.

«ودع هذه النصيحة، لأنه لن يعمل بها ولا فى حالة السرطان القلبى إن كان هناك سرطان للقلب»، وأشار على بتناول كالسيوم برونات ساندوز.. فما رأيكم؟!

والطبيب الأول لم يعجبه لون وجهى (………)، وأمرنى بتحليل (……..)، ووجدت فى التحليل أنه يمكن رؤية بعض cysts and ova، وقال لى المحلل إنها حالة تقريبًا فى كل الناس وعادية.. فما رأيك؟!

أسرع بالجواب يا دكتور قبل فوات الفرصة.

وتقبل قبلات مُحبك المريض.

نجيب محفوظ

 

 

****

 

عزيزى أدهم

 

أشكرك وأحييك، وأزيدك طمأنينة من ناحيتى وأقول لك إن مصطفى أمين أرسل إلىّ مرة أخرى، لأنضم إلى مجلته فاعتذرت للمرة الثانية، ولك منّى وعد أبدى بألا أكتب إلا ما يرضى عنه ضميرى الفنى وعلى قدر طاقتى.

أما ما سرنى أكثر من أى شىء فهو قدومك الموعود فى أغسطس، وأرجو أن يكون نهائيًا بعد حصولك على درجاتك العلمية المأمولة، وستُتاح لنا فرصة فنرى هشام ونستمع إلى فصاحته التى لا نشك فيها.

والآن دعنى أقدم لك نصيحة وهى أن تبحث عن مؤلفات كاتب اسمه كافكا F.Kafka تشيكى الجنسية، ألمانى الثقافة، توفى منذ أقل من ربع قرن، وأهم مؤلفاته The CastleThe Trial (القلعة، المحاكمة)، وله إلى هذا مجموعة أو أكثر من الأقاصيص، ولن أحدثك عنه، بل سأتركك لروحه تفعل بك ما تشاء، فإما أن تحبه كما أحببته وإما ستعرض عنه قبل أن تقرأ ثلث مؤلفه. وحسبى أن أقول لك إنه نمط قائم بذاته، وقد دلنى عليه هذه الأيام الأستاذ عادل كامل، وأطلعنى على قصتيه المذكورتين، فاندمجت فيهما ولعل استعدادى (…) هو الذى سهل علىّ هضمه، فاقرأه يا أدهم وخبرنى إن أمكن عن رأيك ولا تنس عند قدومك أن تهدى إلى أى مجموعة من أقاصيصه لأنى لم أظفر بها هنا ولأنتظر ولنرى.

وتقبل فى الختام أذكى تحية وأعطر سلام.

المخلص

نجيب محفوظ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أضف تعليق