أرشيف التصنيف: ذاكرة السينما

شهادة، الروائي : حسين منصور

شهادة

         إذا كانت الشهادة تبدأ بأشهد فأنا أشهد أنى أحب بلادى؛ وأكره أعداء بلادى، وأعداء البراءة فيها؛ فأنا ولدت فى جو مشحون بالحماسيات  والشجون_  في مارس 1966 _ فمن حرب 56 إلى حرب اليمن، إلى حرب يونيو 67 إلى حرب أكتوبر73، ساد ذلك الشارع، وطابور المدرسة (الله أكبر فوق كيد المعتدى) والكتاب المدرسى (دع سمائى فسمائى محرقة) والراديو وحكايات المهجرين من مدن القنال، وتحذيرات الأهل من التقاط أية لعبة من الأرض؛ فقد تكون مفخخة، ألقاها اليهود أمام مدارس الصغار، تلك هى أيام النوافذ الزرقاء فى المستشفيات ، وفى المدارس ، كنا نراها فى العمارات، أما فى البيوت فلم نكن نملك غير زجاجة لامبة الجاز، ومرآة دولاب زواج أمى التى أسودت بفعل الزمن، فأنا فقير وابن لفقيرين، وأب لفقيرين فى منوف مدينة الموالد، ومقصد المنشدين وبلد السمر فى الأجران وعلى أبواب الدور تحت عامود النور الوحيد، هكذا مرت الطفولة، سنوات وسنوات ولا جديد غير ذاكرة تكتنز الحدث لوقته، وتتشرب الطقس لحين الحاجة إليه.

        أنا الآن طالب أزهرى أحفظ وأحفظ ، يلح على الشعر ساعة، ويراودنى الزجل غير مرة ، وتبقى القصة هاجسي الأكبر ، والأب الذى سمع مسلسل قاهر الظلام فى الراديو يريد لابنه أن يكون شيخاً  مثل الشيخ طه أو أكبر.

       فى الجامعة أنهيت أول قصة حقيقية. لى  “برودة بركان” بين معارض الدم والموت، “معرض صابرة وشاتيلا” و معرض “أفغانستان” وبين جماعات ، وجماعات ، تظاهرات ، وخطب ، واعتصامات فى المدينة الجامعية لم يكن لى منها نصيب غير المشاهدة والترقب والتحليل البطئ واستعمال ذاكرة القاص الاسترجاعية  ؛ فأرى التناقض ، فمن يقف ضد القتل فى فلسطين ولبنان، وأفغانستان يعارض دراسة الجمال والفكر فى ندوة حول “كليوباترا فى خيال الشعراء”  فلم يكن التعاطف مع قتلى المسلمين هو المرجو ولكن كان الغرض هو الاستحواذ  على عواطف الشباب وتوجيهها إلى جانب واحد هو فكرة الجهاد.

إن الجمال يُحٓس ولا يلمس  ،ولا يستطيع أحد أن يحد جوانبه، أو يضع تعريفاً جامعاً له فأنا لم أشعر بالجمال فى كتب الأزهر ولغتها النمطية وبذلت جهداً كى أتخلص من رتابتها فى قصصى، ووجدت الجمال فى القرآن الكريم وفى قصص يحيى حقى “البوسطجى”، و “قنديل أم هاشم”، وعند محفوظ فى “الحرافيش”، وعند ماركيث فى “مئة عام من العزلة” وعند يوسف إدريس فى  “بيت من لحم” و”لغة الآى آى” وجدته فى نبوءة لوركا بموته على أبواب قرطبة (قرطبة، وحيدة وبعيدة) (الموت يرقبنى من أبراج قرطبة) ووجدته فى سطر واحد  أحفظه “لميجل إرناندث” (اسمى طين، على الرغم من أنهم يدعوننى ميجيل).

         كنت مجنداً وقت احتلال صدام العراق للكويت، وكنت أود كأى شخص حالم أن أكون هناك، أن أرى الحرب رأى العين، أن أمنع إن استطعت موت برئ، كنت أعلم علم يقين أنها مرحلة فارقة فى تاريخ أمتنا ، وعندنا انتهت مدة تجنيدى كتبت رواية “ثم” متخيلا أنماط من شاركوا فى تلك الحرب الفجيعة من منتفع، ومكره، من يتحرك تحت وهم الجهاد الدينى ب (فقاتلوا التى تبغى) تلك هزيمة تخصنى رغم عدم مشاركتى فيها، أما الهزيمة الجمعية فكانت فى يونيو 1967.

       من غير الطبيعى أن نجد كاتب قصة تخلو كتابته من حديث صريح أو إشارة إلى فقراء بلاده الذى يرصد أشكال فقرهم، وكفاف عيشهم ، ومراوغة السياسيين لهم ؛ فهم فقط وقود الانتخابات البرلمانية التى يلمع فيها نائب قاهرى الهوى وسط حشود المعدمين، الآملين فى لقمة عيش وشربة ماء،وهدمة ،  والمنتفعين  من مقاولات الدعاية وجلب الأصوات ، فمن غير الطبيعى أن ينفصل الأديب عن واقع مجتمعه ، أو أن يغفل عن ما يدور فيه من تغيرات، وخاصة إذا كانت هذه التغيرات تغيرات إلى الأسوأ، حيث يكون المعلم تاجراً، والطبيب سمسار كلى وأكباد، والمدرس يعلم الطفل الوشاية والغش فأنا مازلت تأسرنى حكايات الجنيات وبنات الحور، لدرجة أنى أراها فى ابتسامة طفلى،  أكتب وأنا أشفق على أمى التى تدارى بؤسها منذ ولدتنى وحتى ماتت، وأسمع غناء أبى الذى جاوز الثمانين حين يطلع عليه الفجر سهران يعمل.

         لم أنج مثل الكثيرين  غيرى من أسر الخامس والعشرين من يناير 2011، وأعتبرها من أهم الأحداث التى مرت فى حياتى، وكذلك الثلاثين من يونيو ولكننا درنا بعدها فى دوامة الهكذا واللاهكذا هكذا يكون التدين.. لا، بل هكذا .. ليس هكذا .. بل هكذا يكون التدين. هكذا تكون الوطنية .. لا بل هكذا. لا ليس هكذا ولا هكذا بل هكذا تكون، حالة من الشد والجذب والاستقطاب هنا على كاتب القصة أن يتروى ؛ فلا يسلك سبيل المتهورين المندفعين نحو كتابة سردية غير واعية ، أو طريق الراغبين فى ركوب اللحظة بكتابة لا قيمة لها فنياً؛ فيصبح كمن يمشى فى طابور برامج التوك شو الاستهلاكية البائرة.

            أعترف لكم أنى كاتب بلا تلاميذ.

ففى ظل أزمة القراءة التى نعلمها جميعاً نحن كتاب بلا قراء، سلعة بغير مشترين، إن ما كتبناه لا يقرؤه غير الأصدقاء والمقربين، فأنا كاتب بلا تلاميذ لأن كتابى غير متاح إما بعدم النشر وإما بتخزين ما أصدرناه فى مخازن هيئة قصور الثقافة  ، وأنا هنا أشير وسبق أن طالبت بعرض كتب النشر الإقليمى على الناس ليتعرف وليطلع عليها القراء ولا مجيب. لى مجموعتان مطبوعتان فى فرع ثقافة المنوفية هل يعرف أحد عنها شيئاً؟ وغيرى كثيرون.

         إن تجربة موت المقربين هى أقسى تجربة مرت فى حياتى، موت أمى، وموت أبى : كنز الحكايا والمواويل، وأخيراً موت “شريف رزق” الذى يكفيه أنه مات صادقاً مصدقاً لما كان يكتب، ولكن الراحلين، أخذوا قدراً من إحساسى بالحياة وورثونى شعوراً بخطر يهدد حياتى نفسها، وحياة أطفالى ويدفعنى إلى أن أبدأ فى كتابة رواية هى مسامرة للموت حتى يرحل ظله الأسود عنى.

(ياسيدى الموت هل صدقت قصة الطائر الذى حط على حديد النافذة؟ هل جاءت مبكرةً؟ يا سيدى إنها محض ثرثرة ، إنها قصة عن رجل مريض بائس، سأمزقها يا سيدى، أعدك سأمزقها ولن أحكيها لأحد مرة أخرى، والله سأمزقها .. هه .. لا تسودى أيتها الريشة البيضاء التى فى ذيل الطائر الذى حط على حديد النافذة)

       وأخيراً أشهدكم أنى أحب القصة القصيرة قدر محبتى للحياة، وأنى تراودنى فكرة قصة ما زلت لا أعرف كيف أكتبها، وهل  ستعجب القراء  قصتى، وأشهدكم أنى بسيط أغنى فى قصصى نشيد حزن دفين، وأروى قصصاً من ديوان أهلى، وأنى أتوه فى الحلم، ولا أصل لمقصدى؛ فأسرع إلى الاستيقاظ؛ لأعيش كذب الواقع، وأعيش زمانى واهماً بمنطق حكيم حكماء الشعب سيدنا جحا.

                                                     حسين منصور

                                      مؤتمر إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافى

عودة مواطن إلى بر مصر. بقلم: سارة قويسي.

“هدفي الأساسي أن أعمل فيلما تتلقاه كل العيون، خصوصا عين ابن بلدي. لذلك يتهموني بأنني أصنع أفلاما (خواجاتية) وشكلية. وحقيقة الأمر، هو أن عيوننا لم تتعود بعد أن تكون الكاميرا هناك، لأنهم يريدونها في مكانه الدائم. وعندما غيرت قليلا مكان الكاميرا، قالوا: هناك نوع من الغربة بالنسبة للعين. إيماني كبير بأن عين المتفرج ستعتاد على هذه اللغة السينمائية، وباالتالي سيصبح الأمر طبيعيا”.

(محمد خان، مخرج على الطريق).

ذات مساء اقترح صديق عليَّ أن أشاهد فيلم (عودة مواطن) لمحمد خان كنوع من التغيير في ما أشاهده في الفترة الأخيرة، ومحاولة لرؤية جذور واقعنا من منظور قديم نسبيا. ربما نجد سبيلًا لحل كل تلك المعضلات التي نمر بها. وقد كان الفيلم اجتماعيا واقعيا من الطراز الأول، يحكي حياة مواطن مصري عادي أجبرته الظروف على أن يغترب عن بلده في نهاية السبعينيات، من أجل الرزق، ولقمة العيش، والزواج… وحين عاد في منتصف الثمانينيات يصدم من كل شيء، فكيف تغير المجتمع في تلك السنوات؟ وكيف تعايش شاكر –البطل- مع هذا الواقع؟!

شاكر يملك من الأخوة عددا لا بأس به بالنسبة للأسرة المتوسطة الحال، التي تعيش في منزلها الخاص، في ضاحية حلوان. له خال هزمته الحياة، وعدد من الأخوة، ورغم تخليه عن دوره في فترة سفره للخليج، يسعى بعودته أن يعوض إخوته عن السنوات الماضية، وأن يقوم بدور الأخ الأكبر الذي يلوذون إليه في محنتهم، وهنا تبدأ تفاصيل الحكاية.

يبدأ الفيلم بمشهد عودة شاكر إلى مصر وحيدا لا ينتظره أحد في المطار، ويذهب إلى أخوته ليسعدهم بحضوره.

تحتفل فوزية، الأخت الكبرى، بعودته، ونفهم مبدئيا أنها قد فاتها قطار الزواج أثناء اهتمامها بإخوتها، ثم تتصاعد الأحداث ونجدها تتقبل مساعدة من مال أخيها، وكأنها تأخد (نصيبها) عوضا عن خدمتها لإخوتهم في غيابه. ورغم أن مقدمات الشخصية قد توحي بعكس ذلك، نجد فوزية تستقل وتبدأ في ممارسة حياتها بصورة مختلفة.

ونجوى، الأخت الصغرى، التي تنسجم مع واقعها الاجتماعي وتتفاعل معه وتعيشه بكل تفاصيله المرهقة ببشاشة مدهشة. فهي الفتاة خريجة الجامعة التي تعمل مضيفة في أحد الفنادق، وترفض تدخل من حولها في خصوصياتها، وتحب زميلها في العمل، وتبني معه عش الزوجية وتختار الشقة دون أن تبلغ أحدا.

وإبراهيم، شقيقهم الأوسط، الذي يعيش حالة من الإحباط والاكتئاب، وعند تخرجه من الجامعة جلس في المنزل لا يفعل أي شيء سوى انتظار خطاب القوى العاملة، وتسيطر عليه المخدرات حتى يكاد أن يفقد حياته لولا تدخل خاله في الوقت المناسب، ومحاولة أخيه شاكر انتشاله من براثن الإدمان، ليعود منتظرًا أن يضع أحدهم نهاية لمعاناته.

أما مهدي، شقيقهم الأصغر، الذي يربي الحمام، ولكنه في حقيقة الأمر ينتمي لتنظيم سري، ويشبه خاله الذي أضاع شبابه على العمل السياسي ولم يتزوج.

في هذا الفيلم يوجه الراحل محمد خان النقد الدائم لسلبية شخوص الفيلم، رغم أنه يرى شخصياته من منظور أخر، فهو يقول: “إن شخصياتي نبيلة وتريد تحطيم القيود التي تكبلها في حياتها اليومية.. حتى الموظف الذي أصوره في أفلامي موظف ثائر على وضعه ويسعى للخروج من حالة الركود التي يعيشها”. فهل كانت الشخصيات ضحية للتغيرات التي جرت في المجتمع المصري بعد الانفتاح الاقتصادي؟ ربما!.. ولكن سنحاول أن نجيب على هذا التساؤل الذي طرحناه.

سلبية الشخصيات تجرفهم في تيار المجتمع وتجعلهم رغمًا عن اختلافهم إلى حد كبير جزءًا منه، ففوزية تقرر أن تتحرر فجأة من كل شيء وتبدأ مشروعا لبيع الحلويات، فهل كانت راضية عن حياتها السابقة، أم أن بذور ذلك كانت موجودة لديها منذ البداية وكانت تنتظر اللحظة المناسبة؟

ونجوى المتمردة بطبعها المتأقلمة مع وضعها داخل المجتمع، والمهم أن تنجز أهدافها، وهذا عكس إبراهيم الأخ الخاضع الخانع لكل شيء يسير حيثما يدفعه التيار، تارة هو شاب مدمن لا يقوى على فراق المخدرات، وتارة هو جالس في البلكونة يتأمل السماء في شرود، أو يلعب الشطرنج. أما مهدي الصغير فقد يكون الاستثناء فيهم، لكن ما هو مصيره؟ هل نتخيله الآن يعيش مهزوما كخاله؟

 وشاكر الذي يهرب من المواجهات، فهو رغم دراسته للقانون يخاف من دخول قسم الشرطة، ويتجنب لقاء خاله المعتقل السابق، نجده بحث عن حياة جديدة بالاغتراب ولو كان ثمن تلك الغربة هو أن لا يعرف نفسه داخل أسرته ومجتمعه، وقد ظن أن المال سيحل كل المشاكل، لكن الأمور لا تسير على هواه، وحلم العائلة يتفتت من بين يديه. هل تعلم شاكر الدرس؟…

 مشهد النهاية يحمل تفسيرات عديدة! لكن محمد خان سعى لتحليل طبقات المجتمع وخاصة الطبقة المتوسطة التي تكاد أن تختفي بطريقة مختلفة، وهي وإشراك المتفرج في ذلك، فهو يريد أن تأتي الإيجابية من المتفرج بعد لوم سلبية شخصيات الفيلم التي هي جزء من الواقع الفعلي لحياة المصريين.

ولكن تلك الإيجابية لا تنقي المعاناة، فمازالت المعاناة تعصر تلك الطبقة وتنقلها كل يوم من حال إلى حال، في ظل أوضاع اقتصادية مرعبة. ولكن رغم ذلك يقول خان: “عامة أنا لا أفكر في المتفرج، هل الرسام يفكر فيمن ستعجبهم لوحته؟”.

تمثال من البرونز.. عندما لا نجد أنفسنا.

قراءة نقدية لمحمد عبد القادر التوني في مجموعة قصص ( تمثال من البرونز )                                                         للقاص / صلاح عطية

في علاقة ترابطية بين المكان والإنسان يبحر بنا القاص / صلاح عطية ، في مجموعته ” تمثال من البرونز ” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ( سلسلة ابداعات قصصية ) 2019 م ، ليثبت لنا مدى تأثير المكان على سلوك  الإنسان  من خلال ارتباطه به وما اكتسبه من عادات وتقاليد وأخلاقيات تعزز لديه الانتماء والولاء لهذا المكان ؛ بداية من البيت الذي نسكنه إلى الشوارع والأحياء والميادين … إلخ ، ويلفت نظرنا ونظر القائمين على التخطيط العمراني أننا أمام مشكلة لا ندرك أبعادها ؛ فالتطور مطلوب والتغيير مطلوب ؛ ولكن شريطة ألا يكون تقليداً أعمى نفقد معه ملامح هويتنا المصرية التي هي مصدر الإعزاز والتقدير والولاء والانتماء ،

استمر في القراءة تمثال من البرونز.. عندما لا نجد أنفسنا.

العقد الفريد. قصة: محمد فيض خالد

                        العقد الفريد

                                        يكتبها : محد فيض خالد

بَاتَ اخشى ما أخشاه؛ وطأة أصَابعها القَاسية، تَغرزها في جِلدي، تُمرِّرها بغلظةٍ حَول رقبتي المُلتهبة، اشعر بانسحابِ روحي لحظتئذ،تَهرس اللَّوزتين هَرسا مُؤلِما تَحتَ شَلالِ الزّيت الغامق ، تُغرِقُ في هَوجٍ كُلّ شيءٍ حتّى ملابسي، يَتسرَّبُ فوقَ جلدي خيط بارد ، يَتَشبّعُ بهِ جسدي الذي انتَفضَ تَحتَ نيّر الحُمى يَصطلي لهيبها، لم تُفلِح تَوسلاتي ولم تشفع أنّاتي، تُمرّر “الجدّة” يدها في سكونٍ ولذة ، وكأنّها تَعزِفُ لحنا

استمر في القراءة العقد الفريد. قصة: محمد فيض خالد

مفتاح الحياة. بقلم: باسمة غنيم

*

كلنا نحترق

ويزيد توهجنا إذا ما حَبِلنا بنارِ الشّوق

وصرخنا مدد مدد

إننا لا أحد

في رحلتنا الأبدية حين الصعود للحب

والكره

والوحدة

والغضب

لنرجسية أحرفنا

واختبائنا في عباءة الخوف

وكهفنا الذي يتنفسنا

كما الماء البارد في جوفنا

#باسمة_غنيم

هكذا سأبدأ  .. بعضٍ من الأبيات الشعرية التي كتبتها والتي تعبر عن وضعنا جميعاً في حالتنا النفسية بلحظةٍ ما ..

عاكست الرياح معظمنا وكثيراً في هذه الحياة ولكننا نستمر بإرادة وثقة أن القادم سيكون أفضل ..

نميل للعتمة في معظم حياتنا حين نحتاج للجوء للأمان من ضوضاء النهار ونختار وحدتنا التي تبعث للروح طمأنينة ولو مؤقتة .. لا نعلم أننا نغطيها بوشاح يبعد عنا الأذى وصوت الأنانية العمياء !

نبتعد .. نقترب .. نترك .. نتلاقى .. ونهجر ..

عمياء هي الإنسانية التي لا ترى سوى نفسها ولا تعيش إلا في أزمة مخاوفها ومرضها وحزنها .. 

“أوليس يجب علينا أن نكون هكذا “

فكر بنفسك حين تأخذها برفق للوجع

فكر بنفسك ولا تجرحها من العابرين على قلبك

فكر بنفسك ودللها مثل طفلةٍ تهوى اقتناء لعبتها

خذها لأبعد غيمةٍ في السماء وعانقها

اطرق باب حديقتها بوردِ روحك

سَمِّها كأسَكَ ذا المذاق اللاذع

واشرب برويّةٍ منه

اشرب حتى ثَمالةِ أنانيتك

وقل نَخب نفسي

التي أهوى ..

#باسمة_غنيم

سأقول لكم شيئاً صغيراً عن نفس

أنا إنسانة بسيطة جداً، أحب الحياة ويملأني الكثير من السلام في داخلي وكما قال لي أصدقائي ” ‍أنتِ إنسانة شفافة جداً تجرحك وردة ” لهذا أعيش حياتي للآن كطفلة فيها من البراءة ما يملأ العالم على الرغم من الألم والأذى الذي أتلقاه كثيراً ممن هم حولي والذي أعتبرهم في غالب الأوقات المقربين جداً !! 

نحن يا سادتي غرباء عن أنفسنا وقليل منا من يواجه نفسه بصراحة ، نحمل عقدنا من طفولتنا ونكورها بداخلنا حتى تصبح في غالب الوقت وحش يفترسنا نحن ..

فلماذا كل هذا ؟ لماذا النزاع والصراع والكراهية ؟ إن الله محبة فلماذا نملاً الدنيا بشرورنا ..  وإن الحياة والله قصيرة لنقضيها بهذا كله والذي لا يجلب علينا سوى دمار النفس قبل كل شيء .

نعم لسنا كاملين ولن نكون كلنا لنا أخطاءنا وعثراتنا ولكن لنا قلب نستطيع ملئه بالحب والعطاء بعيداً عن الأنانية التي تلغي الآخر .. أنا شاكرة جداً أنني عشْت لحظات فرح لن أنساها مع أصدقائي الذي أعتز بهم والذين يعدون على أصابع اليد .. شاكرة لله هذا العطاء وهذا الحب الذي عوضني في وقتٍ قليل فيه من الفرح الكثير . 

أنا الباسمة

المتوجسة من النور

أحبسني في سلالٍ أحيكها بتعاليم الطريق

أحيل أيامي لآهاتٍ من حرير

وأجعل من شياطيني تعويذة

أنا مفاتيح شموسها

وأنا رياحها

وطيرها

ونذور خلاصي

#باسمة_غنيم

شاعرة من الأردن

هشام السحار: نماذج من الدراما.. الإذاعية، والمسرحية

بين البنفسج واليمام. قراءة في قصص حسين دعسة. بقلم منير عتيبة.

بين البنفسج واليمام قضايا الأمّة والإنسان




 
منير عتيبة
يأتي الكاتب الأردني حسين دعسة إلى عالم القصة القصيرة جدًا من أرض القضيّة الفلسطينيّة وقضايا المجتمع الأردنيّ خاصةً والعربيّ عمومًا وقضايا الإنسان أيًّا كانت جنسيّته، هذا على مستوى الموضوعات التي تطرحها قصصه في مجموعته "عن قلب البنفسج.. والوردة الحمراء"، التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة إبداع عربي) 2021م. أمّا على المستوى الفنّي فيمتزج في هذه المجموعة الأديب بالفنان التشكيلي بالإعلامي، وهي المجالات التي خاضَها ومارَسَها وأثبَتَ فيها دعسة حضورًا بالفعل. على مدى أكثر من ثمانين قصة قصيرة جدًا يقدِّم الكاتب رأيه في عدد كبير من الموضوعات التي تمسّ؛ بعضها أو كلّها؛ القارئ. ويمكن تقسيم قصص المجموعة إلى عدد من المتواليات القصصيّة التي تنتسب كلّها لموضوع واحد تتناوله من زوايا مختلفة، وبتحليلات متنوِّعة، وإنْ لم يرتِّبْها الكاتب في مجموعته بهذا الشَّكل، والتَّرتيب قضيّة خلافيّة، فالكاتب فضَّل أنْ يضَعَ قصصه مُتتابعةً دون قصديَّة ترتيب موضوعاتي أو فنّي محدَّد، ربَّما حتى لا يملّ القارئ من الحديث في موضوع واحد على مدار عدد كبير من القصص المُتتابعة. وهناك وجهة نظر أخرى؛ أفضِّلُها شخصيًّا، وهي ترتيب الأعمال ذات الموضوع الواحد أو التقنة المتشابهة لتكون متتابعة تحت يديّ القارئ؛ ممّا يجعله محيطًا بكلِّ ما كُتب عن قضيّةٍ ما في المجموعة. وأهمّ الموضوعات التي تناولتها قصص هذه المجموعة: قصص القضيّة الفلسطينيّة والمقاومة- قصص بدايات التفتُّح والمُراهقة- قصص العشق والهوى- القصص الحلميّة أو الكابوسيّة- القصص السّاخرة من العيوب الشخصيّة أو الاجتماعيّة - قصص عن الطفولة- قصص الحيوانات- قصص فيروس "كورونا". تحتلّ القضيّة الفلسطينيّة الموضوع الرَّئيس في هذه المجموعة، وسنعرض سريًعا لقصتين من القصص التي تناولتها: مفتاح قديم: تبدأ القصة بالرجل المتمسِّك بأرضه وقضيَّته وحق العودة إلى بيته ممثّلًا في مفتاحه الذي يثبِّته على الجدار عامًا بعد آخر، وتنتهي بالجيل الجديد الذي نسي القضيّة في "مول أوف أميركا"، وهي المُفارقة المُؤلمة التي لا يهرب الكاتب من وجودها الواقعي ليدقَّ جرس إنذار انهيار القضيّة إذا نسيها أهلها مع مرور الزَّمن. التراتُب الزَّمني في منتصف القصة كان يحتاج لأنْ يكونَ أسرع ليكونَ أقرب لروح القصّة القصيرة جدًا. بهجة وعرس وطيران: تجمع القصة بأسلوب فنّ الموزاييك بين بهجة الطفولة وبراءتها، وعرس الحرية، ودم الشَّهيد، وطيران الروح إلى الجنّة، وبقاء الأمل ممثلًا في الأم التي تلقِّن طفلها ما قدَّمه الشَّهيد من تضحيات من أجل مستقبل تعود فيه الأرض السليبة. يضعنا الكاتب منذ عنوان المجموعة أمام توقُّعات نفسيّة وفنيّة عديدة، فالتشكيل غالب على كثير من قصص المجموعة، بانتشار اللّون كبطل أساسي في التعبير، وباستخدام أساليب الفنّ التشكيلي في الكتابة مثل التبقيع اللّوني حيث يضع مشاهد متناثرة على القارئ أن يربط بينها ليصل إلى المعنى العام للقصة/ اللوحة، واستخدامه لفن الموزاييك في كتابة العديد من قصص المجموعة كما أشرنا إلى قصة "بهجة وعرس وطيران". واللّون البنفسجي الذي يبدأ به عنوان المجموعة ينتشر في العديد من قصصها سواء في المتن أوالعناوين، وقد تم اختيار هذا اللّون بعناية، فالبنفسجي يمهِّد القارئ لعالم من الهدوء والسلام والراحة النفسيّة، فيجد القارئ العكس؛ عالمًا يموج بقضايا الوطن والإنسان والفنّ، فينتبه ويتحفّز، ويكتشف أنَّ نصيبه من دلالات اللّون البنفسجي هو الاكتئاب الذي يُصاب به مَن يبالغ في استخدام ورؤية هذا اللّون، وربَّما كانت الوردة الحمراء في العنوان وهي الرّامزة إلى الدّم والحياة، إلى العشق والخطر، ربَّما كانت هي التي توازن دلالات العنوان مع محتوى القصّ المقدِّم بالمجموعة، فكأنّه بهذا العنوان يلعب على التناقض اللونيّ، فالقصص تقدِّم عكس ما يشير إليه أحد اللّونين وتتماشى مع إشارات اللّون الآخر. أمّا اليمام المُنتشر أيضًا في قصص كثيرة فهو صوت الحلم، وهو الصوت الضائع، وإذا عرفنا أنَّ اليمام يغادر المكان الذي ترعرع فيه ولا يعود إليه إطلاقًا، لَفهمنا دلالاته لتعميق ما تريد هذه المجموعة أن ترسِّخه في وجدان القارئ من الإحساس بالشّتات والغربة والضّياع، على مستوى قضايا الوطن أو قضايا الإنسان الفرد، كما تجدر الإشارة إلى أنَّ ذَكَر اليمام هو الذي يسجع (السّجع هو صوت اليمام) وليس الأنثى، وهو ما نلاحظ وعي الكاتب به إذْ أنَّ القصة الوحيدة التي جاءت على لسان أنثى بالمجموعة هي القصة الأخيرة، وكأنَّ السارد الذَّكَر تعب من السَّجع، ويسلِّم رايته إلى الأنثى التي لم تتعوَّد أن تسجع، واعتاد المجتمع أن يقمع صوتها حدّ القتل، وهو ما نراه في عديد من القصص. أمّا العطور في هذه المجموعة فهي تحتاج إلى دراسة مستقلّة إذْ استخدمها الكاتب على مستويات شتّى منها الرومانسي الحالم، ومنها الإشاري الرمزي، ومنها تعميق الإحساس بالإنسان ورائحته الخاصة...إلخ. يكتب حسين دعسة القصة القصيرة جدًا بحرفيّة مَن عرف ودرس شروطها جيدًا، لكنَّ الإعلامي فيه لا يختفي تمامًا، حيث يهمّه أن يقول شيئًا من خلال القصة وليس مجرَّد تهويمات، حتى في القصص التي تعتمد تقنية تيّار الوعي، أو القصص الكابوسيّة، تجده يحاول أن يقول أو يشير إلى شيء ما في أعماق النفس الإنسانيّة، ولا يخطئ القارئ وجود الفنّان التشكيلي في المجموعة كما أشرنا من قبل، لكنه لن يخطئ أيضًا وجود الشاعر، فغواية اللغة تأخذ الكاتب أحيانًا من ضرورات القَصّ إلى لذَّة الشِّعر، وربَّما هذا ما على الكاتب أن ينتبه إليه إضافة إلى التفاصيل الزائدة وكثرة عدد الشخصيّات وسرد المشهد اليومي كما هو، واتِّساع المدى الزمني المسرود؛ من الأشياء المهمّة التي تجعل بعض القصص بحاجة إلى إعادة نظر من الكاتب. أعتقد أنَّ ما قدَّمه حسين دعسة في "عن قلب البنفسج.. والوردة الحمراء" إضافة جيِّدة إلى عالم القصة القصيرة جدًا على مستوى الموضوع والتقنية، وهو ما يجعل مَن يرفضون القصة القصيرة جدًا يُعيدون النَّظر برؤية أعمال بهذا الرقيّ مقابل الكثير من الغثاء الذي يُنشر خصوصًا بمواقع التَّواصل الاجتماعي.

قراءات في أدب فكري داود ( خلخلة الجذور نموذجا )

رؤية نقدية

 

رؤية نقدية. بقلم: شاهيناز الفقي

رواية (خلخلة الجذور) للكاتب فكري داود، رواية ترصد التحولات الاجتماعية والسياسية في الواقع المصري بداية من الخمسينات ونهاية بفترة السبعينات. وقد حاول الكاتب ونجح في أن يعرض لهذه التحولات وأثرها في القرية المصرية(المجتمع المصري) من خلال كتابة متفردة ونص باذخ من حيث السرد واللغة.
وكمايقول جيرارجينيت”العنوان هو مجموعة من العلامات اللسانية التي توضع على رأس النص لخدمته وجذب القارئ لقراءة النص
وقد حددت المدارس النقدية المختلفة أن للعنوان عدة وظائف منها اللغوية، التأثيرية، الأيديولوجية، الايحائية، حتى أعتبر البعض منهم أنه نص موازي.
خلخلة الجذور” رغم كونه ليس عنوانًا تجاريا لكنه خدم النص بشكل كبير، وله وظيفة في تحديد تيمة العمل الإبداعي، وقد استخدم فيه الكاتب الرمز لما حدث في الواقع المصري من أحداث كان لها تأثير على فئة كبيرة من الشعب المصري التي كان لها جذور قوية، وهنا نجد أن الرمز في العنوان قد أدى دوره في التماهي بين المرجعية لدى الكاتب وبين الايحاء بما حدث في تلك الفترة.
ربما لو بدأنا بكلمة الجذور يكون من السهل الولوج للمعنى الرمزي للعنوان. حيث توحي كلمة الجذور بمجرد سماعها بالقوة والصلابة، العمق والتشعب، الامتداد الزمني. الجذور الراسخة لا تتعمق في الأرض إلا بعد مدة زمنية طويلة، وكلما ازدادت قوة كلما كان من الصعب خلعها.
الخلخلة” كلمة خلخلة في المعجم هي التحريك بشدة، خلخل الشيء أي حركه بشده، خلخل الأرض أي جعلها أقل كثافة صالحة للزراعة.
يكشف العنوان طبيعة النص ويعبر عن مضمون الرواية بشكل كبير.
***************************************

الاستهلال عند الكاتب كان موفقًا لدرجة كبيرة استطاع من خلاله أن يحفر في ذهن القارئ مجرى لاستقبال ما سيأتي من تدفق سريع للسرد. يقول الكاتب
نهير صغير قد يصبح نهرًا، وأي هلال في السماء صائر إلى بدر لا محالة، ويمكن لأي زلزال أن يحيل شقًا رفيعًا إلى أخدود سحيق، يبتلع الجميع، و.. وامرأة مرتبكة الجذور يمكنها التلاعب بجيش من القلوب..”
يبدأ الكاتب فكري داود الرواية بالحديث عن أحلام، بطلة الرواية وعلاقتها بشريف والشيخ عبد الرحيم.
شريف هو من الجيل الثالث في الرواية، لم يبرز دوره في الصراع إلا بعد الفصل السابع تقريبًا أي بعد حوالي مائة صفحة من الرواية، وقد استخدم الكاتب “المفارقات الزمنية” من حيث الاسترجاع والاستباق بشكل كبير على مدار الرواية.
***                                                  
يحدثنا الكاتب عن أهل القرية وكيف أن صغائر الأمور وحكايا الناحية التي تمس حياتهم اليومية وتتعلق بأحلامهم وهمومهم تأخذ حيزًا كبيرًا من اهتمامهم أكثر من أمور ربما تكون عظيمة ولكنها تصبح حدثًا عابرًا في حال اتصالها بشيء أو شخص يتعلق بداخل الناحية مثل:
غياب بعض أبناء الفلاحين المجندين إثر نكسة 1967
آل أدمون، عائلة إقطاعية تمتلك الأراضي والسرايات، يمارسون العدل والاحسان مع الفلاحين، حتى عندما ضبطت أم أحلام في وضع مريب مع أبو سمرة، تم الاستغناء عنهم في خدمة السرايا عقابًا لهم ولكن.. مع إعطاء أم أحلام مبلغ مالي اتخذت لنفسها به دارًا، ومنح أبو سمرة الجحشة التي دأب على ركوبها لقضاء حاجات السراية.

***                                             

يؤرخ الكاتب بداية أحداث الرواية بصدور قانون الإصلاح الزراعي،

وتحديد الملكية، ليبدأ الصراع بين بهنس ابن الرجل الذي أتى القرية غريبًا ليشتغل بالزراعة حتى أصبح ناظر زراعة ويكون له نصيب في وحدة زراعية من أراضي آل أدمون (الذي وقع تحت طائلة قانون الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية) وبين خاله أمين ابن الحاج إمام الرجل الذي ورث الإمامة أبًا عن جدًا.
الجيل الأول والذي لم يكن له دورًا أساسيا في الرواية بتواري ليحل محله الجيل الثاني. يتوفى الجد ويلحق به والد بهنس والشيخ عبد الرحيم زوج أحلام.
يبدأ الصراع بين بهنس وخاله أمين وقد وصف الكاتب أن الصراع بينهما
كديكي الحلبة“.
***                                                  

أحلام المرأة الجميلة أو كما وصفها الكاتب فكري داود في بداية الرواية بأنها “امرأة الناحية” تُفسخ خطبتها من أمين، ليخلق داخلها نوعًا من المرارة ويرسخ ذلك لعداوة تستمر طوال أحداث الرواية. تقرر أحلام أنها لن تترك بيت أمين حتى تخلعه من جذوره.
يتزوج أمين لينجب “شريف وعادل، ويتزوج بهنس لينجب “قدري وحسام” نلاحظ هنا دلالة الأسماء. فالاسم هو الذي يميز الشخصية ويعطيها البعد الدلالي الخاص بها. استخدم الكاتب أسماء الشخصيات في الرواية وتم توظيفها اعتمادا على مواصفاتها الأخلاقية وأدوارها الاجتماعية. وإن كنت أرى في ذلك كشف مسبق لطبيعة الشخصية وأفعالها مما يتنافى مع الرغبة في ادهاش القارئ والقدرة على خلق نوع من التشويق نحو الشخصية.
يستمر الصراع بين أمين وبهنس ويمتد لشريف وقدري اللذين ورثا الصراع بين العائلتين.
                                            ***                
يعود زايد ابن الشيخ عبد الرحيم وابن زوج أحلام المسن الراحل مع بداية السبعينيات ويبرز دوره في تلك الفترة ليصبح رمز ودلالة على سياسة الانفتاح الاقتصادي والطابع الاستهلاكي الذي اتصفت به، يفتح بوتيكات ليبيع الملابس والأحذية التي يتكالب الناس على اقتنائها مما يدفعهم للاستدانة من زايد ليصبح كبير الدانين في القرية.
يعرض لنا الكاتب تلك الفترة، يصف لنا التحول الذي طال القرية المصرية بعد”البيوت الضيقة، المصاطب الترابية، الطحالب العشوائية، المجاري المائية
أصبح في القرية “المباني الخراسانية، أشجارالفيكس، نخل عقيم الثمر، بوتيكات، كوافير، محل للتصوير
لكن رغم التحول الاقتصادي من الاشتراكية للرأسمالية مع فترة الانفتاح يؤكد الكاتب أن أهل القرية مازال حالهم كما هو “أقدام متسخة، نفوس خالية من الرغبات
أو ربما ازداد حالهم سوءًا مع ظهور “أصحاب الفيز” والتطلع للحياة الاستهلاكية عن طريق السفر للخارج أملا في العودة لبناء بيت أكبر وفي سبيل ذلك يتم بيع الرقع الصغيرة من الأرض التي يمتلكونها، لكن مع الأسف أموال الخارج لا تحقق طموحهم ويرجعون فقط ” بهلاهيل رخيصة
                                           ***
اللغة جزلة قد تبدو في بعض الأحيان خاصة في الحوار غير متوائمة مع بساطة الشخصيات، المفردات أتت معبرة عن المكان والحالة الاجتماعية، في التعبير عن الفقر ” كسرات الخبز الجافة، الحقول المتخمة بعارقي الجباه، كوسة شائخة
ومنح الكاتب للقرية نصيبها من الفرح من خلال المفردات التي تعبر عن تلك الحالة
الزغاريد، الزفة، المولد الموكب
……………..”
يتحالف رأس المال المتمثل في “زايد” صاحب البوتيكات مع السلطة المتمثلة فيالعمدة بهنس وابنه قدري” ومعهم أحلام ورغبتها في الثأر لأمانيها المتصدعة. يتم الكيد لأمين وابنه شريف أصحاب الجذور التي تخلخلت ليرحلا من القرية.
تنتهي الرواية بمشهد حزين لأمين يتحلق ذراع ابنه شريف، يرحلا من القرية تحت جنح الظلام ويترقبا القمر الذي لم يحن وقت بزوغه في السماء.

***********

قراءة في رواية ” خلخلة الجذور

بقلم مجدي جعفر

الحكاية هي العمود الفقري للرواية، فالرواية تروي حكاية، وبدون الحكاية تنتفي الرواية، وفكري داود حكاء بطبعة، ويعرف كيف يجذب مستمعه أو قارئه، مستخدما سلاح التشويق، فحكاياته لا تنفد وهي حوادث متصلة منفصلة، ويتخذ من القرية المصرية مسرحا لأحداث معظم قصصه ورواياته، فهو نشأ بإحدى قرى دمياط، وخبر أهلها وناسها، شوارعها وحواريها وأزقتها، مزروعاتها وحيواناتها وطيورها، عاش فيها عمرا مديدا، سبر غورها، واستكن جوهرها، قلّب في تربتها، ولم يقنع بالطلاء والقشور، ولكنه راح يبحث في الطوايا والأعماق، يبحث عن الجذور، عن التحولات والتغيرات التي حدثت للقرية المصرية منذ ثورة يوليو أو ماقبلها بقليل وحتى إرهاصات الانفتاح الاقتصادي ومعاهدة الصلح مع العدو وما بعدهما، راصدا الآثار المقيتة لهذين القرارين على الواقع المصري وعلى الشخصية المصرية، والتي خلخلت الثوابت، وخلخلت الجذور، فاختلت منظومة القيم، وانقلب سلم الهرم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

وإذا كانت القرى في مصر تتشابه وسير بعض أهل القرى تتشابه أيضا وقد تصل حد التطابق، كما يقول الكاتب، وهذا صحيح إلى حد كبير، وتتشابه قرية الكاتب مع القرى التي تناولها الكُتّاب الآخرين، وسنتناول في عجالة التقاطعات والعوامل المشتركة بين قرية الكاتب والقرية المصرية عموما :

-1 المولد :

لا تخلو قرية في مصر من ضريح لولي، ويقام له مولد كل عام، يتم اختيار توقيته بعناية فائقة، بعد موسم الحصاد غالبا، حيث يتوفر في جيوب الناس الأموال، فبعد موسم كد وتعب في زراعة المحصول، يأتي المولد ليلبي حاجات اقتصادية من خلال حركة البيع لهذه التجمعات الكبيرة، وحاجات دينية من خلال حلقات الذكر، والإنشاد الديني وسرد سير الصالحين، وحاجات ترفيهية من خلال الألعاب ويلبي أيضا حاجات المراهقين، فالفرصة سانحة للقاء المحبين، وقد عالج الكاتب هذه الظاهرة من خلال مولد سيدي ” اللاوندي ” شأنه شأن معظم الكُتّاب الذين تناولوا هذه الظاهرة.

-2 طقوس الزواج والممات :

رصد الكاتب مراسم وطقوس الزواج ومراسم وطقوس الممات في القرية، ولم تختلف هذه المراسم والطقوس عنها في القرى الأخرى التي رصدها الكُتّاب أيضا.

-3  عبيط القرية أو البهلول :

  معظم الكُتّاب الذين تناولوا القرية، أشاروا إلى البهلول والذي يرمز إلى الجنس وهو كائن نصف عاقل ونصف عبيط، تتعلق به بعض النساء اللائي غادرهن أزواجهن لفترات طويلة بحثا عن لقمة العيش، أو النساء اللواتي لم يشبعهن أزواجهن الذين يعملون في أعمال شاقة تأخذ كل جهدهم وطاقتهم وعافيتهم.

وفكري تناول ظاهرة الجنس من خلال البهلول وغيره، وللجنس عند فكري حضوره الطاغي في الرواية وسنتناوله تفصيلا لاحقا.

  –التخطيط العشوائي للقرية :

تتشابه قرية الكاتب مع معظم القرى التي تناولها الكُتّاب، المباني الفقيرة العشوائية والتي تخلو من أية مسحة من جمال، والشوارع الضيقة، والحواري، والأزقة، وقرية الكاتب كانت من المرونة الجغرافية بحيث استطاعت أن تجذب الغرباء والموسرين الجُدد، أثرياء الانفتاح، فنشأ الحي الجديد، بمبانية الأسمنتية، وشوارعه الواسعة، واستوعب الحي الجديد، المستجدات على القرية من بوتيكات وستوديو للتصوير، وكوافير للسيدات، ومقاهي، و .. و ..

 5– بعض العادات والتقاليد المتوارثة :

على سبيل المثال لا الحصر : المرأة التي لا يعيش لها ولد، معتقدة بأن العين التي فلقت الحجر هي سبب موت ولدها، فتحتال على ذلك بتسمية المولود الشحات أو رمرام أو بغل أو حتى كلب ..

 ” اسم يتلهى الناس بفجاجته، وينفلت صاحبه من العين التي ستؤدي حتما إلى لحاقه بسابقيه. والإعتقاد بالحسد، وبالسحر والعديد من الموروثات.

6- توارث المهن :

يرصد الكاتب ارتباط لقب الجد الأكبر بمهنته، ويسوق لنا أمثلة عديدة، منها :

أفوزي الساعاتي، الذي ورث بيع الساعات بمحلات المدينة لسنوات، وعودته إلى القرية ممتهنا إصلاح الساعات بها.

بعائلة العربجي : يعملون حوذية على عرباتهم الكارو، أو على عربات غيرهم بالأجر.

جالعم صادق نجار السواقي، يلتصق لقب النجار باسمه، يقضي الساعات الطوال لإصلاح مدارات السواقي.

وكان الكاتب بارعا في رسم هذه الشخصيات، وجاء رسمه لهذه الشخصيات أقرب إلى الصوة الكاريكاتورية، مستفيدا من خصائص فن ” الكاريكاتير ” في رسمها، ومن الصعب أن ينسى القارئ شخصية فوزي الساعاتي أو العم صادق النجار أو العم عطية بعربته الزاحفة كسلحفاة عرجاء، ولا ينسى مواله الضاحك والذي حفظه عنه أهل القرية.

7- حلاق القرية :

الصورة التي رسمها الكاتب لحلاق القرية لا تختلف كثيرا عن الصورة التي رسمها الكتاب له، فاعتدنا أن نراه، جالسا القرفصاء، لصق بغلة الكوبري، أو معتليا مصاطب البيوت، أو فوق حجر تحت شجرة، وقد يفترش حشيش الغيطان، وهو ممسك برأس الزبون، يفعل به ما يشاء، كما يمسك ببطيخة يريد فحصها، يتلاعب بالأقفية، وبالشوارب المتهدلة، المصفرة من دخان السجائر الرخيصة والجوز، ….

8- الداية :

الداية ( وداد ) لم يقف عملها عند الكاتب عند حدود، حف الوجوه، ونتف شعور الأجساد، وختان البنات، ومساعدة العريس المرتبك في فض بكارة عروسه ليلة الدخلة، والتدليس أحيانا على العريس، وإيهامه بأن عروسه عذراء، بإعدادها المسبق لقماشة ملطخة ببقع الدم، وذلك نظير أجر متفق عليه مع أهل العروس، وداية داود يمتد عملها لختان الصبية، ولها في الجنس صولات وجولات ليس بآخرها اعتلاء البهلول في الخُص، ولا محاولتها ممارسة الشذوذ مع أحلام!!.

9- الغجرية ( العرافة ).

المرأة الغجرية التي يتم دعوتها، لتكشف عن سارق، أو تقرأ طالع عانس لم تتزوج، وماذا تخبأ لها الأيام، وعرافة داود عرفت كيف تحتال على أحلام، وتسرق ذهبها، و .. و ..

…….

ستظل لقرية فكري داود خصوصيتها، وتميزها، وعبقها، ومن أسباب تميزها في رأيي :

1- تشبع حواس الكاتب بالقرية، فجاءت لغته مفعمة بالصور السمعية والبصرية، من خلال إحساساته الصوتية الرهيفة والعالية بأصوات الحيوانات والطيور حتى نقيق الضفادع ووشوشات النسيم وخرير المياه، وكأنه موسيقار قادر على أن يطرب آذاننا بلحن القرية التي لم يستنطقها موسيقيا أي من الكتاب الذين تناولوا القرية قبل فكري بهذا العمق الموسيقي، وقدم لنا من الصور البصرية لوحات تشكيلية مكثفة للقرية، ونجح الكاتب في جعل القارئ يشم بأنفه ويسمع بأذنيه ويرى بعينيه ويتذوق بلسانه ويعيش أجواء القرية بكل مفرداتها إعاشة كاملة.

2- التتبع والسير نحو تقصي الحوادث، والشخصيات، والتحولات السياسية والاحتماعية والاقتصادية، والوصول إلى جذورها، ومنابعها الأولى، مستخدما بحذر ووعي شديد علمي المنطق والاحتمالات في الرياضيات، فهو ينظر للحدث من كل الزوايا، ومن شتى الجوانب، ويقلبه على كل الاحتمالات الممكنة، وكل ذلك دون الوقوع في صرامة العقل ولغة العلم.

3- إقامة الكاتب بالقرية، وعدم مغادرته لها، إلا للعمل متعاقدا كمعلم للغة العربية بالمملكة العربية السعودية، وأتاح هذا البُعد المكاني والزماني، الفرصة للكاتب في مراجعة حوادث وهموم وقضايا القرية والوطن، وقد رقت الأحداث في نفسه، وشفت، وجاءت لغته مقطرة، بعيدة عن الانفعال المباشر، وخلص سرده من اللغو والثرثرة، حيث لا ترهل ولا زوائد ولا فضول.

4- عدم الوقوع في فخاخ المباشرة الفجة، والشعارات الكبيرة، والقرارات المصيرية، فهو يرصد الآثار لهذه الشعارات ولهذه القرارات على البشر، ومدى تأثيرها على حياتهم، فعندما يتحدث مثلا عن حروب 1948م، 1956م، 1967م، فهو لايتحدث عن أزيز طائرات، وطلقات دانات المدافع، ورصاصات البنادق، ولكنه يتحدث عن أثر هذه الحروب، ليس بالضرورة على الإنسان الذي خاض الحرب، ولكن على الإنسان الذي لم يخض الحرب، ويرصد الآثار الاجتماعية والاقتصادية، وقس على هذا قرارات مثل تأميم الأراضي، وقراري الصلح مع العدو، وقرار الانفتاح الاقتصادي، وغيرها من القرارات التي مست حياة الناس، وأثرت فيها، بل غيرت المجتمع من حال إلى حال، وتحول المجتمع مائة وثمانين درجة، صعود طبقات جديدة، وانحسار طبقات أخرى، واختفاء ثالثة

……..

إضاءة حول قرية الكاتب :

( 1 )

قرية الكاتب من القرى البائسة، لم يستفد من قرار تحديد الملكية الزراعية الذي أصدره الزعيم، غير قلة قليلة جدا، فالقرية ليس بها غير عائلتين فقط من الإقطاعيين الذين يملكون المساحات الشاسعة من الأراضي، ولكن هذه المساحات تقع للأسف في زمامات أخرى، مما حرم معظم فقراء القرية والأجراء من الاستفادة من قرار اقتطاع مساحات من أراضي الإقطاعيين وإعادة توزيعها على هؤلاء ليصبحوا من زمرة الملاك، كما حدث للكثيرين في الزمامات والمناحي الأخرى القريبة والمتاخمة لهذه القرية، وكأن أهل القرية كما يقول الكاتب :

كتب عليهم الغرس في أرض غيرهم، والتربية في غير ولدهم “، فمعظمهم خرج من مولد تأميم الأراضي بخفي حنين كما يقول المثل العربي، وربما هذا ما يفسر هشاشة وانحسار الطبفة المتوسطة في هذه القرية التي لم يستفد أهلها من قرار الزعيم، فظل الأُجراء أجراء، وربما تأتي هذه القرية البائسة استثناء من كل قرى مصر التي ارتفعت فيها أسهم الفلاح والعامل، والأغلبية الساحقة من فقراء الفلاحين والعمال، انتفلت من الهامش إلى المتن، وانتقلوا بسرعة من طبقة الحفاة العراة إلى الطبقة المتوسطة التي تنامت سريعا، وتكاثرت، وتم بفضل انحياز الزعيم إلى هؤلاء، القضاء على مجتمع النصف بالمائة، نصف بالمائة هم السادة، وباقي الناس أقرب إلى العبيد، يتفانون في خدمة هؤلاء السادة، وهذا الانحياز أفرز الطبقة المتوسطة، وأصبحت هي الطبقة الكبرى التي تقوم عليها كل خطط التنمية، وأصبحت عصب المجتمع، ولكن قرية الكاتب لم تستفد بالقدر الكافي من هذه القرارات مثل القرى الأخرى، لتظل الأغلبية الساحقة حفاة عراة، يستجدون لقمة العيش، ويعيشون حياة الكفاف.

………

( 2 )

الغرباء وصيد اليمام :

أشار الكاتب إلى الغرباء الذين يأتون إلى القرية بسيارات فارهة، في مواقيت معينة من كل عام، لصيد اليمام، وينصبون خيامهم لأيام، وتعلو من داخلها أصوات الكاسيتات بصاخب الأنغام، ورائحة الشواء تعبق بأجواء القرية، ويخلفون وراءهم أجولة من الفحم، وزجاجات فارغة لمشروبات مجهولة، ويلعب هؤلاء مع قادم الأيام دورا في التغيرات التي طرأت على القرية، وخاصة في زمن الانفتاح!.

( 3 ) أهم عائلات القرية :

العائلة الأولى :

على نفقتها بنت المسجد الكبير، وتوارثت العمدية كابر عن كابر، ويهتم أبناء هذه العائلة بأعمال الزراعة، وتربية البهائم.

العائلة الثانية :

عائلة أدمون، عائلة مسيحية ولها باع طويل في العطاء، بنت المدرسة اليتيمة بالقرية، يعيشون على حافة الناحية، بسرايتهم وسط حيازتهم، ويقوم على أمر الفلاحة لديهم حشود من أسر الشغيلة، وهم على تواصل دائم مع العاصمة، وخاصة في أيام الآحاد، ولهم في التجارة باع طويل.

– أثر قرار التأميم على العائلتين :

وكأن المصائب لا تأتي فرادى، فجاء نبأ مصرع العمدة وولده في حادث بشع، وهما يشتريان ماكينة للري، متزامنا مع قرار التأميم، وركب الإصرار الجدة الأم على ترك الناحية التي باتت شؤما، ولم تحتمل قرار الزعيم الذي جعلهم يتفرجون على أملاكهم، وهي تئول لمن عاشوا بينهم راضين بأدوارهم كعمال وخدم، فغادروا الناحية وحذا حذوهم آل أدمون، ولم يتركوا غير أقل القليل الذي يذكرهم في قادم الأيام بأيام مجدهم وعزهم، ولم يبق من العائلة الأولى غير من له الحق في العمدية بعد مصرع والده، وهو غير راغب فيها، وأخ له مجذوب، يهيم على وجهه، ومن العائلة الثانية آثر آدمون وزوجته تريز البقاء، فقد ارتبط بالقرية ارتباطا نفسيا وعاطفيا، سيجيئ ذكر سببه لاحقا، فيما غادر باقي العائلة القرية.

– لكل مرحلة رجالها :

وظهر الشيخ إمام كوسيط بين هذه العائلة الإقطاعية ومشتر من العُمد الأجلاف، نظير مقابل كبير(عمولة)، هذا المقابل خطا به خطوات واسعة نحو الثراء.

وظهر بعد ذلك الكثير من الوسطاء والمتعهدين نظير أجر في بيع أراض آل أدمون إلى غرباء لا يعرف أحد من أي مكان جاءوا.

وحاولت الطبقة الأرستقراطية  الاحتيال على هذا الوضع، بمصاهرة بعض كبار رجال الحكومة!!

وهذه الطبقة الأرستقراطية هي التي حظى أولادها بتعليم جيد سواء في القاهرة أو في بعض العواصم الأوربية، ومنهم الأطباء والمهندسون والمحامون، والقُضاة.

– عائلة الشيخ إمام :

1- الشيخ إمام، قدمه الكاتب كرجل دين وسطي، يقوم على أمر المسجد، ويؤم المصلين، أحبه الجميع ويعتقد البعض في بركاته، وقدرته على شفاء المريض، بفضل صلاحه وتقواه، وقربه من الله.

يشيع أغلب الناس، حمله ورع الصالحين بين جنباته، وباعا واسعا من العلم، بسيرة الرسول الكريم، وصحابته والتابعين، يعي قلبه آيات القرآن، ويتوقف لخاشع تلاوته، سابح الطير في السماء، وثمة يقين عجيب يسكن النفوس، في قدرته على تطبيب الموجوعين بالرقيا، أو بالتلاوة حول الرءوس المحمومة

2- هانم : الابنه الكبرى للشيخ إمام، تزوجت من ناظر زراعة أرض آل أدمون.

3- أمين : يصغر أخته هانم بعشرين سنة، وأربع ذكور جاءوا بينهما ولم يعمروا.

= زينب : البنت الصغرى للشيخ إمام، وماتت أمها عقب ولادتها، ورفض الشيخ الزواج، ولم تنقطع رجل هانم عن الدار لتقوم بشئون ورعاية الصغار، وتنهض بأعباء الدار.

-4 شريف: الابن البكري لأمين وحفيد الشيخ إمام

= عادل : الابن الثاني لآمين وحفيد الشيخ إمام

= منى : البنت الصغرى لأمين، وآخر العنقود.

 5- زوج هانم، وجاء نازحا إلى القرية، بحثا عن عمل، ويستقر به المقام عند عائلة أدمون، ليعمل أجيرا في أراضيهم واستبلاتهم وزرائبهم، وتفانى في خدمة آل أدمون، حتى وصل إلى نظارة زراعة الأرض، وكان أول المستفيدين من قرارات الزعيم، فنال من أرض أدمون قطعة أرض، انتشلته من الطبقة الدنيا، وارتفعت به إلى عتبات الطبقة المتوسطة.

6- بهنس : الابن البكر لهانم، وحفيد الشيخ إمام، وفي عمر خاله آمين، وتقاربهما في السن جعلهما كما يقول الكاتب كديكي الحلبة :

 ” كلما توفرت حاجة وحيدة تصلح لطفل واحد، من تراه أحق بها من الصغيرين، الولد أم خاله؟!

لتمتد معهما المبارزة بامتداد الصبا، من تراه أحق بقيادة فريق كرة الشراب؟ ومن أولى بحماية بنات العائلة من معاكسات الصبية وهن عائدات من الحنفية العمومية، بجرارهن الملأى، و … ؟ ومن …؟وستدور بينهما صراعات رهيبة حول من الأولى بالعمدية التي تخلى عنها العمدة، ولم يعد راغبا فيها، ويلجأ قدري إلى أخس الطرق وأقذرها، ليفوز بالعمدية.

…..

زيزي وهريدي :

امرأة غجرية عاقر، حياتها تشبه كثيرا حياة أحلام، وهذا التشابه قرب بينهما، ولجأت إلى كل الحيل والوسائل الممكنة منها وغير الممكنة، المشروعة منها، وغير المشروعة، لتحقق أمومتها وتنجب، ولكن كل الحيل والوسائل باءت بالفشل، واكتفت بالعمل كقوادة، والإشراف على جلسات المزاج للطبقة الموسرة، وجلب الراقصات، واختيار الجميلات من بنات ونساء القرية، ليقضين وقتا مع الزبون نظير مقابل، وتزوجت من هريدي، رجل ديوث

……..

 أهم الأفكار والموضوعات التي أثارتها الرواية :

1- سطوة الجمال واسبداده.

2- استبداد المال وطغيانه.

3- الاستبداد الديني.

4- الحضور الطاغي للجنس.

5- دور المثقف في القرية.

6- السياسة الحاضرة أبدا.

 7- انتظار المخلص.

…….

1- سطوة الجمال واستبداده.

اهتم الكاتب بشخصياته اهتماما بالغا، ورسمها بعناية فائقة، ومن أهم شخصيات الرواية شخصية ” أحلام ” التي لعبت دورا محوريا في القرية، ساعدها على القيام بهذا الدور، ما تملكه من جمال فاتن، وفتاك، لا يستطيع كائن من كان أن يصمد أمامه، وأمام سطوته التي لا تُقاوم. وبما تملكه أيضا من عناد وصبر، وقدرة على التخطيط، والتدبير المحكم للمكائد، فإذا غدت أو راحت، تدور رءوس أهل القرية فوق أعناقهم ” لتستقر عند شفيف ثوبها، وهو يرسم حدود الجسد، والنهدين النافرين، بمدخلهما حليبي اللون، الذي يغري العيون، بالانحراف سريعا كي تنغرس فيه.

والكاتب يمعن في وصف جسدها، وإبراز فتنتها، وتأثير هذه الفتنة على أهل القرية ” تحت ملفوف خصرها، يزيح ردفان ممتلئان، يروح فوقهما الثوب، يمينا مع خطوة، ويسارا مع أخرى “.

والكاتب لا يهتم بالوصف الخارجي للشخصية فحسب، بل يمتد إلى وصف ما يعتمل في نفس الشخصية من صراعات، وما يدور في عقلها من تدابير، ولا يتوقف عند الجوانب ( الجوانية ) فقط، بل يسعى لنقل حركة الشخصية وتأثيرها في محيطها الاجتماعي.

أهم المحطات في حياة أحلام كما أوردها الكاتب:

1 – جذورها الأولى :

في سراي عائلة أدمون :

دار عراك بين أبو سمرة، وبين والد أحلام، أحد الغرباء المستجلبين للخدمة .. إثر ضبط الأخيرعلى زعمهلامرأته مع الأول، في وضع مريب، وعليه تقرر تسريح أبو سمرة، أصغر صبية الخدم آنذاك .. بعد منحه جحشة، دأب على ركوبها، لقضاء حاجات السراية الطارئة، كما تم الاستغناء عن أم أحلام، وابنتها الطفلة وقتها .. مع منحها شيئا من المال، فيما تم ترحيل رجلهاالغريبإلى مالا يعلم أحد

واقترب الكاتب كثيرا من الحياة اليومية لأحلام وأمها، ومعاناتهما في تدبير الطعام والكساء، شأنهما شأن الكثيرين من أهل القرية الذين يعانون من الفقر والفاقة، وامتهنت المرأة بيع القليل من الخضروات، واقترب الكاتب بشدة من اليومي والمعاش، وهذا ما أعطى للرواية مذاقها الخاص، فهي تنقل الحياة، وتعكس تفاصيلها الصغيرة.

اصطدم بصرها بهيكل أمها، المتقوقع مغلق العينين، فوق كومة قش بأحد الأركان، تحت رأسها حاشية من لوف النخيل، تصل إلى الركن على استحياء، خيوط لمبة معلقة، فليلة الجاز، شحيحة الضوء، .. “.

هل أحلام مرتبكة الجذور؟.

يقول الكاتب :

امرأة مرتبكة الجذور، يمكنها التلاعب، بجيش من القلوب

2- مستوى التعليم والثقافة :

 ” تشتبك مع المراهقين في حوارات ضيقة، تنبئ عن معرفة، تفوق سنواتها المدرسية الأربع، التي حتم الظرف الاكتفاء بها ” ..

 وهذه المرأة الجميلة التي لم تمكث بالمدرسة غير سنوات قليلة، تعي بالفطرة قواعد ونظريات المنطق، والمقدمات الصحيحة التي تؤدي إلى نتائج صحيحة، والقدرة على الاستقراء، وأيضا القدرة على الاستنباط والتحليل، ولا تهتم بما يتهامس به الناس عنها، فهي مجرد أخبار، والخبر يحتمل أن يكون صادقا، ويحتمل أن يكون كاذبا، واستطاعت هذه الجميلة أن توظف ملكاتها العقلية في المكائد، المكائد لحبيب قلبها الأول أمين، ولأولاده من بعده، واستطاعت أن تكون أهم سيدة في القرية، وأن تساهم بنصيب وافر في تغيير الشكل الجغرافي للقرية، وتغيير أنماط السلوك والثقافة التي كانت سائدة، جسدت ثقافة الانفتاح، وكانت على رأس الطبقة الجديدة التي فرضت ثقافتها وأنماط سلوكها في القرية.

3-علاقتها بأمين ابن الشيخ إمام :

عاشا قصة حب لاكتها الألسن، ونجحت في الاستفادة مما تناقله الناس عنها وعن أمين، فبمجرد أن أسر علي الخشن للشيخ إمام عما يتناقله الناس عن ابنه وأحلام، فزع الشيخ، ورغم ثقته في نسله التي لا تتزعزع، تماما كثقته في جدوده السابقين، قال بحزم : هي الخطبة إذن، ليست سواها، قاطعا ( للشوشرة).

وسعدت أحلام سعادة لا توصف بهذه الخطبة، فتقول لنفسها :

وماذا بعد يا بنت؟

ها هو حجر واحد أدار في الماء دوائر عديدة :

فإلى جوارك حط رحال الحبيب، عائلا كريما، يسعد بالعطاء أكثر من الأخذ، وبهلته الندية، تنقطع ألسنة المتشدقين، يكفيك وأمك عناء سؤال اللئيم، ثم يأتي حتما أوان الانتقال، محفوفا بزغاريد ودفوف، وكثير من الحسد، إلى بيت إمام المصلين، صاحب الجزارة الوحيدة، والعشرين فدانا ملك، يتلألأ وسطها فدانان، للجوافة والنخيل

وتتسع دائرة الأحلام لأحلام ..

ولكن تأتي انتكاستها الكبرى :

خروجها خاسرة، من معركتها مع أمين، الذي خطبها زمنا، وقد سرت قبلها. سيرة صلتهما في أوصال الأزقة، مشفوعة بهداياه، التي بدأ أثرها ظاهرا عليها، وعلى أمها، التي توقفت عن اقتراض حزم الفجل والخس من أبو سمرة

4- الأزمة :

تناقلت الناس سيرتهما كخطيبين، تخطت علاقتهما كل محظور، وأصرت على التعجيل بالزواج  قطعا للسيرة، فيما رأى هو في التعجيل تأكيدا لها، وكل منهما ركب دماغه وأصر على رأيه، وتزوج أمين من غيرها بعد قصة حبهما العنيفة التي لاكتها الألسن بلا رحمة.

وكان رد فعلها بأن ألقت بنفسها في أحضان رجل مُسن، أرمل، وهو الشيخ عبد الرحيم الدائر بالآيات على الدور وخلف القبور، النازح إلى الناحية، من مكان لا معلوم، خصوصا وله سابقة زواجية، جنى من ورائها صغيريه. زايد وسنية .. بعد وفاة أمهما.

وزواجها من الشيخ عبد الرحيم، استهجنه البعض، ولم يخف الكثيرون نظرات الحقد، والحسد .. على ذلك الشيخ المُسمى رجلها، مقطوع الأهل والإرث، وظلت مطاردة بتشكيك الناس في قدرة شيخها على ممارسة حقه معها لتنجب له صغيرين جديدين : هادي وسوسو!.

ولا يكف أهل القرية عن مضغ سيرتها، فثمة تلميحات عن نظرات وإشارات بينها وبين الغرباء الذين يأتون إلى القرية في مواسم محددة لصيد اليمام، ” وثمة أقوال غير قاطعة بمشاهدتها تحادث أحدهم وجها لوجه

ولم يعد خافيا عن أهل القرية ترددها على المدينة، وأكد غير واحد بأن الغرباء باتوا يأتون في غير مواسم صيد اليمام، ومنهم من يقابل أحلام جهارا نهارا.

وأحلام لا تعبأ ولا تهتم بما يُثار حولها، وتعرف طريقها جيدا.

…….

ربما تكون أحلام أول امرأة في القرية تلجأ عند الولادة إلى عملية شق البطن، لا لسبب طبي بقدر ما هو رغبة منها في الحفاظ على جسدها، من الترهل، ولجأت إلى المرضعات في القرية حفاظا على صدرها، فهي تعي تماما جمالها، وتعي أنه ثروتها الحقيقية، وتدرك مدى تأثيره على الآخرين، ووقوعهم أسرى له.

…..

5- مكائد أحلام :

مكائدها لا تُحصى ولا تُعد، وبدأتها، بإخراج زايد ابن زوجها من المدرسة، فلو نال قسطا وافرا من التعليم، سيصبح خطرا يتهددها، وعملت على إزاحته من القرية برمتها، وبرحها الولد يائسا وحزينا ومكتئبا.

وسعيها أيضا لزواج سنية بنت زرجها من علي الخشن الذي يكبرها بعشرين سنة، ويعمل كلافا في معلف الشيخ إمام.

اتفقت مع الخشن على ضرورة الإيقاع بين أمين ووالده الشيخ إمام، وزرع فتيل الفتنة بينهما، وهذا شرطها لزواجه من سنية، ووافق الخشن، ورغم فشل المكيدة، لكنها زوجته بسنية، لتتخلص منها، وتخلو لها الدار، ويكون عينا لها هناك في قادم الأيام.

…….

 تسأل نفسها : آه يا آمين آه، هل أنا أدور حول بيتك، دون التمكن منه

متمنية هي العثور على الحجر، المرتكز عليه البيت، لتنزعه بكل قوة، فيتزلزل أيما زلزال.

وتقول : ” آه يا أمين .. حتى لو أفلت مني بنفسك، فلن تفلت ذريتك، وأولهم شريف

ولم يشف غليلها موت والد أمين الشيخ إمام، أو مرض زوجته، أو بيعه لأرضه، وفقده فرصة المنافسة على العُمدية مع بهنس الذي تدعمه بكل قوة نكاية في أمين، تراها هي أشياء لم تسهم فيها بشيء، لابد من فعل بيدها هي، لا بيد غيرها.

وقررت أن تبدأ بعادل ابن أمين الذي يعمل بمحل جزارتهم الوحيدة بالقرية.

اتفقت مع هريدي زوج زيزي، الذي يعشق أحلام صمتا، وهي تعلم بهذا العشق، فالكل يعشقها، وجاء دوره لينفذ ما تطلبه منه، وتعلم أنه أمام عشقه الصامت لها وسطوة جمالها عليه، لن يرفض لها طلبا، وماذا لو تبسطت معه، ووعدته بدلال وقليل من الغنج بنيل مراده منها، إذا نفذ طلبها.

ولم يكذب هريدي خبرا..

’’ قرب محل الجزارة دار مرة بعد مرة، متحينا أول فرصة، حتى غاب عادل لدقائق، قضى فيها حاجته، بحمام الجامع القريب، فدفع باللفة أسفل البنك العريض، معجلا بالانصراف، ليبث أذنيها الخبر

واللفة هنا لفة من المخدرات.

’’ لم تمض ساعات، حتى غُلّت يد عادل ( بكلبشات ) الحكومة، وسط زفة هائلة، تتناثر حوله استفسارات لا تنتهي، فيما سيطر الذهول على آمين، مقسما استحالة تورط ولده، حفيد الحاج إمام، في فعل كهذا، وأن هناك خطأ لا محالة “.

وتتوالى مكائدها، وانتقامها من أمين وأولاده، فتدبر لشريف مكيدة شيطانية، استعانت فيها بمحور الشر الذي يعمل معها. ليصبح شريف المثقف، المتعلم، الذي ينتظر مناقشة رسالة الماجستير بين عشية وضحاها، محكوم الحبال حول رقبته، ولا يستطيع منها فكاكا.

حيث أفهمت أحلام البنت فوزية التي غرر بها قدري بهنس، وحملت منه، بأنها ستزوجها من الدكتور شريف أمين، وعليها أن تحفظ الكلمات التي ستقولها، وتتقمص الدور الذي ستلعبه، وأرسلت في طلب العمدة بهنس والد قدري – عامل العَملة -، الولد المنفلت أخلاقيا، وزايد خال البنت، وغيرهم، وأفهمت كل واحد دوره، فالعمدة يتمنى أن يحمل أحد عن ابنه هذه المصيبة، حتى لو كان شريف ابن خاله أمين المعروف بورعه وتقواه، وزايد خال البنت يهمه ستر البنت بأي طريقة، وحاصرت أحلام شريف بالأسئلة، وقالت البنت كلاما مسبوكا، ولم تترك ثغرة واحدة في كلماتها،يمكن النفاذ منها، والتشكيك في أقوالها، وجاء بهنس – العمدة ووالد قدري – بشهود كُثر من على المقهى، يعملون لديهم، وكلهم أكدوا كلام البنت، وحوصر شريف حصارا رهيبا من كل جانب، والتهديد بالبوليس والكلبشات والنيابة وسين وجيم، والفضائح، والفصل من الكليةإلخ، وأمهلوه أسبوعا واحدا ليأتي ويطلبها للزواج بالطريقة التقليدبة المعروفة، وذلك إكراما له ولأبيه، ولصلة القرابة التي تربطهم بالعمدة، وأظلمت الدنبا في وجهه، وحاول والده أن يقنعه بضرورة العقد عليها، فالموجة عالية وعاتية، فلندعها تمر، ولا أحد يعلم ماذا في جراب أحلام والعمدة من مكائد وتدابير، وأصر شريف على ضرورة أن تسقط أولا ما في بطنها، فلا أحد يعلم ابن من يكون؟ ..

وبعد أن نقد هريدي فيه أمين، آخر قسط من ثمن البيت، تأبط أمين ذراع ولده شريف ليخرجا ليلا من القرية، وفي إثرهما البنت الوحيدة.

…….

6- من أدوار أحلام :

لعبت أحلام أدوارا خطيرة في التحولات التي طرأت على القرية، في حقبة من أخطر الحقب التي مرت بها البلاد، فهي :

أأول من احتضنت الغرباء، الذين يفدون إلى القرية في أوقات محددة، لصيد اليمام، وساعدتهم على بناء بيوت لهم بالقرية، ومارست من خلالهم بعض الأعمال المشبوهة.

بأغرت زيزي الغجرية بالبقاء بالقرية، وأسندت لها مهمة، العمل على راحة الغرباء، والترفيه عنهم، فكان مجلسها العلوي، للغناء والرقص والفرفشة والدعارة.

 جنجحت نجاحا مدهشا، في تغيير ثقافة المرأة القروية، من خلال الكوافير الذي افتتحته بالقرية، وكان الاهتمام بثقافة الجسد عند المراة الريفية، نقطة تحول خطيرة.

دلعبت دور الوسيط بين الطامحين إلى سلطة ما بالقرية وبين مسئولين كبار، وكان لها اليد العليا في كل القرارات المصيرية بالقرية، فهي من رشحت زايد وولدها الهادي للانتخابات، وهي من تتكرم على بهنس العمدة بمقابلة كبار القوم بمنزلها، لتمرير مصلحة أو عقد صفقة مشبوهة.

وأول من جاءت برجال للأمن والحراسة من خارج القرية لتأمين مصالحها الحيوية.

زساهمت مع بهنس وزايد وزيزي، في التحايل على الفقراء، وسلب أراضيهم وبيوتهم، بحيل شيطانية، ووظفوا المال أسوأ توظيف.

……….

-2 استبداد المال وطغيانه :

زايد الذي قطعت أحلام رجله من المدرسة، وعملت على طرده من القرية، عاد بعد سنوات، في بذلة أنيقة، وربطة عنق زاهية، وحذاء أنيق، وسيارة فارهة، وحقائب كثيرة، والأهم تلال الفلوس التي جمعها من حله وترحاله، داخل البلاد، وخارجها، وقدمه الكاتب تقديما رائعا، ويمثل أحد رموز الانفتاح، انفتاح ( السداح مداح ) بتعبير الكاتب أحمد بهاء الدين، الذي أفرز طبقة جديدة من الطفيليين، تاجرت في المستورد، والمغشوش، والمضروب، وكل ما هو استهلاكي، وتم من خلاله ومن خلال الحيتان الأكبر، ضرب الصناعة الوطنية الناشئة في عصر الزعيم في مقتل!

وزايد يمثل نموذج المرحلة خير تمثيل، فلا مجال عنده للعواطف، ولكل شيء ثمنه، ولا بأس من استثمار العواطف من أجل التجارة والمال، بل استثمار الدين نفسه وتوظيفه من أجل نماء هذا المال، ودورانه، فسرعان ما تصالح مع أحلام زوجة أبيه، فمصلحته معها، والتعاون معها فيه منفعة له ولها، فلولاها لما عاد بهذا المال، فلو كان قد تعلم، مثل أقرانه لظل في فقره إلى يوم قيام الساعة، وحاول أن يقنع نفسه بفضلها، وهي التي تسعى لتزوجه من أخت بهنس، العمدة المنتظر، وهي التي تسعى لتزوج ابنة أخته فوزية من شريف ابن الشيخ أمين، وتسعى لتجد لعائلتها مكانا تحت الشمس، فزايد وسنية أشقاء الهادي وسوسو، ووفرت له قطعة أرض فضاء، أقام عليها بيتا، يواجه بيت بهنس ويطاوله.

افتتح بدور البيت الأرضي محلا كبيرا، لبيع الملابس والأحذية، ووضع أعلى بابه لوحة كبيرة، مكتوب عليها ( بوتيك زايد )، وعلى الباب ذاته علق لوحة أخرى تعلوها قول الله تعالى .. ” .. وأحل الله البيع وحرم الربا … “، ومكتوب تحتها عبارة ” لا مانع من البيع بالآجل ” .. وعبارات أخرى جديدة كلها تعكس توجهات وتطلعات المرحلة الجديدة. وهذا النموذج الانتهازي يعرف كيف يمد خيوط التواصل مع الناس، ويجند من المتسكعين من ينقلون له أخبار الناس، وأحوالهم، ويشارك أهل القرية في أفراحهم، وفي أحزانهم، ولا مانع لديه من مد يد العون لأرملة فقدت نعجتها، أو عجوز أفسد المطر فرن الخبيز الذي تقتات منه، فيتكفل ببنائه لها من جديد، وكل هذا ليس لوجه الله، بقدر ما يساعد على دوران سيرته على الألسن كرجل كريم، معطاء، ويسعد بالصورة الذهنية الجديدة التي بدأت تتشكل في أذهان الناس، الصورة التي يرسمها لنفسه بحنكة ودربة، ويريد أن تزيح الصورة الجديدة صورة زايد القديمة، ابن الشيخ عبدالرحيم الدائر بآيات الله خلف القبور..

تصل إلى أذنيه الكلمات ذاكرة بالخير ابن المرحومين، الشيخ عبدالرحيم وامرأته الأولى قبل أحلام، الذي غاب لسنوات، ثم عاد وقد رد عليه أصله الطيب .. “

ويسمع من الناس ما يحب أن يسمعه، والناس لا تذكر إلا ما يحبه هو ..

فجده لأمه، بل وأمه نفسها، ومنذ قدومهما إلى الناحية، ظلا خادمين، لضريح وليهم اللاوندي

أما والده .. ” فقد جاب الناحية بالآيات الكريمات، لتحل البركات، أينما يحل، وتفر الشياطين، وخبيث النفوس، كما يلقي بدعواته خلف رءوس الموتى، كي تشملهم الرحمات .. “

وغض الناس الطرف عن أفعال والده في ( ربط ) العرسان حديثي الزواج، وغضوا الطرف أيضا عن أحجبته المضروبة للنسوة، وتناسى الناس عمدا، حادث شج جبهته، على يد والد بهنس، بعد حجاب مكتوب بتراب الفرن، أكد معه أن جاموستهم المريضة، عمرها مديد، ونسلها سوف يزيد، لكنها لم تبت ليلتها إلا نافقة.

قدم فكري داود لنا نموذجا، من النماذج التي ساهمت بل وقادت التحولات الجديدة للقرية والوطن، نماذج تعيد تشكيل الحياة، وفقا لرؤاها، وثقافتها، وهذا الزايد .. ” لم يمض الوقت الطويل، حتى صار كبيرا للدائنين، وبعقلية من عركته الدنيا وعركها، تجمعت على المشترين لديه، عشرات وصولات الأمانة

وزايد الذي تزوج بأخت بهنس العمدة الجديد، أعلن له بعد أن امتلك رقاب الكثيرين، بأنه عقد النية على وقف البيع بالآجل، ولاحت لبهنس الفرصة فاغتنمها، فأعلن بهنس بأنه سيقرض الناس بزيادة مضاعفة، ولا أسهل من ( البصم ) على الإيصالات، ورهن أوراق البيوتالتي لها أوراقوأسهم الأرض القليلة.

ويعدد بهنس مكاسبه من ذلك، فهو .. ” يحصد بالزيادة المفروضة عند السداد، ويحصد مرات جديدة، برهن البيوت والقراريط، أو مآلها إلى حوزته بأبخس الأثمان، ليعيد بيعها أضعاف مضاغفة، للراغبين ذوي العملات الحاضرة، خصوصا الغرباء والقادمين، المنتشرة بينهم حمى الامتلاك بالناحية

وبدا بهنس فك محكم لكماشة عملاقة، وزايد فكها الآخر، وبين الفكين انحشر من انحشر، وينتظر الحشر من ينتظر، المهم هو أن .. ” تزداد الخزينة، بالإيصالات والعقود والرهونات .. والتوسع في حيازة ممتلكات المأزومين

والمشهد الأكثر قتامة :

سارع بهنس وزايد إلى المحكمة لتقديم بعض وصولات المدينين ..

زاد الخناق حول الأعناق، اقتربت دمعة الرجال، لم يجد أكثرهم حلا، سوى تسليم بيوتهم القديمة، أو بيعها، محاولين تسديد الدين، وبدا مألوفا جدا، مشاهدة من يجر أفراد أسرته، في عرض الطريق، وهم راحلون عن أماكن، أفنوا فيها اعمارهم الفائتة، وبين ظهرانيها تناثرت ذكرياتهم ولو كانت غير سعيدة

وأبت أحلام أن تترك هذه الفرصة لهما وحدهما، فشرعت في رفع أسعار هذه البيوت، وآثر أصحابها البيع لها، آملين في بقاء شيء من المال، بعد تسديد الدين .. قد يستعينون به، على عناء الرحيل، إلى وجهات يعلمها الله.

وهذه النماذج الإنتهازية، وممارستها، تجعلنا نتساءل عن مشروعية البيع بالآجل، ورغم تأكيد الفقهاء وفي شبه اتفاق بينهم على مشروعيته، وأنه حلال، حلال، حلال، ولكن النماذج التي قدمها الكاتب وبما تملكه من حيل ووسائل، وتدليس، والتفاف غير أخلاقي، واستغلال بشع للفقر، والجهل، يجعلنا نهيب بهؤلاء الفقهاء إلى إعادة النظر في هذه المسألة، التي أظهرت من خلال ممارسات البعض اللاأخلاقية إلى إفقار الناس، وتدمير حياتهم، بل وأخلاقهم، كما سنبين في مواضع أخرى.

……

3 – الإستبداد الديني :

أعتقد أن التعصب لفكرة بعينها أو لدين بعينه هو نوع من الإستبداد، وقد تملكني القلق من أمنيات أهل القرية، بأن يكون العم آدمون على دين الإسلام، وكأنهم في لاشعورهم يستكثرون الرجل على المسيحية، لسلوكه الطيب، من الذي زرع في داخل هؤلاء بأن الأديان الأخرى لا يمكن أن تقدم للإنسانية رجل معطاء، كريم، نبيل، وكأن الدين الإسلامي هو وحده القادر على فعل ذلك، ونسى هؤلاء أو تناسوا بأن بهنس وزايد وأحلام وزيزي من المسلمين!.

هل أراد الكاتب أن يشير إلى تغلغل التعصب في العقل الجمعي لأبناء القرية، دون أن يشير إلى حقب بعينها، وجماعات وأشخاص بعينهم هم من أزكوا روح التعصب.

وقدم لنا الكاتب حسام بهنس، كنموذج لهذا المتعصب ..

جمعته المعرفة مؤخرا، بأناس قليلي الكلام، صارمي السحنات، رأوا في النهاية، حتمية إقامته معهم، بمكان مجهول لرفيقي السكن

جمعت ( زاوية ) محدودة، على أطراف المدينة، بينه وبين هؤلاء، بعد تعلقه بدروس أحدهما، عقب أداء الصلوات

تواترت أخبار انقطاعه عن المعهد، بعد خلاف غريب، وقع مع معلميه، حول مسألة تبدو شكلية، بدأها هو بإمتناعه عن الوقوف كزملائه، كلما دخل المعلم إلى الفصل، قال :

( من سره أن يقف الناس له، فليتبوأ مقعده من النار )

وحسام كاره لعبدالناصر، الذي زج بالمتدينين الملتزمين بالسجون، ويستنكر على أبيه العمدة بهنس الكثير من ممارساته، وأعماله، ويعود من المدينة بزوجة له، وألقى على سمع والده وشقيقه قدري، قائمة طويلة من الأوامر والنواه، تتعلق بكيفية التعامل مع المرأة، خاصة أخاه، الذي يعرف سيرته ..

بتحذير شديد اللهجة، من مخاطبتها، أو محاولة الإنفراد بها، في أي آن أو زمان، وإلا .. “

وينتقد طريقة ذبحهم للدجاح، وأواني الطهي، فالإناء الذي يطهون فيه ( حلة الضغط ) شيطاني، وأبدى تحفظاته على أموالهم، ومعاملاتهم، وسلوكياتهم، حتى صلاتهم لم تخلو من تحفظاته عليها.

وبدأ يؤمن بضرورة وحتمية التغيير، وبدأ الخوف والقلق يتسرب إلى والده العمدة بهنس ..

كيف كبدته العمدية حيلا عديدة، ومالا مدفوعا، لمسئولين من الوزن الثقيل، وربما لبعض الراغبين، في ترشيح أنفسهم ضده، كما كبدته أيضا، شيئا من الندالة، مع خاله أقرب أقاربه، ختمها بزفة عارمة لنقل التليفون، من دوار العمدة الكبير إلى داره، ثم يأتي هذا الولد، حسام …، لا ليفقده العمدية فقط، لكن ليفقده ربما حياته وكل شيء، إذا وصلت مثل هذه الأراء، لأي مسئول كبير أو صغير، فالصغير دوما، لا يتوانى عن كسب الأبناط، بإبلاغ الكبير، بما تلتقط أذنه من أراء، هل تأتيه الضربة من داخل بيته؟

فكان والده يؤمل في مواصلة تعليمه، ويعود ليمسك بزمام المدرسة بالقرية، ويؤم المصلين بالجامع، فهو حفيد الشيخ إمام، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ورياح حسام عاتية، قد لا تُبقي ولا تذر.

ويقدم لنا الكاتب سيرة وجيزة، مختزلة ومكثفة لحسام بهنس، والتي تنتهي بالقبض عليه مع نفر من جماعته، بعد أن نفذوا أكثر من عملية إرهابية، آخرها الهجوم على محل للذهب يمتلكه احد اقارب آدمون بالمدينة، وسرقوا الذهب، وقتلوا صاحب المحل، ومن تصادف وجوده، فلا مانع من التضحية ببعض الجنود في المعركة الكبرى من أجل تحقيق الهدف الأكبر والأسمى.

…….

4 – الحضور الطاغي للجنس :

والجنس تمثله شخصية زيزي، الغجرية التي التقطتها أحلام، وأغرتها بالبقاء في القرية، جاءت كضاربة للودع و ” أبين زين أبين، وأشوف … ” حتى وصل خطوها إلى أحلام، ويتفق هواهما معا ” .. ” تنتقل إلى بيت جديد، أقامته مكان بيتين قديمين، أقنعت أحلام صاحبيهما بالبيع ” .. وتقول دون خجل :

الدنيا لم تترك لعبة، إلا ولعبتها معها، منذ نضجت رمانتا صدرها، وحتى يومها الآتي، مؤكدة أن لملامحها ورمانتيها هاتين، الدور الأعظم في ابتكار الدنيا، لألعاب جديدة يلعبانها معا .. “

لها بالقرية تجربة زواج لليلة واحدة، من شقيق فوزي الساعاتي، قبل أن ترتبط بهريدي الصعيدي الديوث، والذي مات في صباح اليوم التالي، وتناثرت الأقاويل، ولم يلجم تصريح الطبيب الشرعي، بأنه مات بسبب أزمة قلبية، لعيب خلقي بالقلب، لم يلجم هذا التصريح ألسنة الناس، أو يسكتهم عن فرض الفروض وتقليب الأمر على كل احتمال، ممكن حدوث بعضها، واستحالة حدوث البعض الآخر، وتظل الأقوال المتناثرة، مجرد أخبار، تحتمل الصدق، وتحتمل الكذب، وزيزي لاتهتم بمثل هذه الأخبار، وانحسر دور زيزي في استقبال ذكور النحل، المنسحبة قبل الموت، مسلمة بفشلها، في نوال شهد الملكة أحلام “.

ما من شاب أو شيخ، رجل أو حتى طفل، إلا ويشتهي أحلام، ويتمنى أن يكون فارسها ولو لليلة واحدة، وبعدها يموت، ورغم ما يثار حولها، لا يستطيع أحد أن يزعم بأنه تمكن من أحلام، أو رأى بعينيه أحلام في حضن أحد، وأحلام هي من تحدد الأدوار، واختارت لزيزي الدور الذي يليق بها، والمناسب لإمكانياتها، وهو استقبال ذكور النحل الذين يشتهون الملكة أحلام ولا ينالونها، وزيزي هي البديل الجاهز لاستقبالهم.

ظل عمل زيزي في البداية مقصورا على قلة قليلة من الغرباء الذين يأتوا إلى القرية في مواسم صيد اليمام، وبعض الموسرين، وتتم هذه اللقاءات الحميمية بحذر شديد، وكانت أحلام من الذكاء بحيث بدأت في إعداد وتجهيز العديد من بنات ونساء القرية، لمهام لا تخطر لهن على بال، وكان من آثار عصر الانفتاح .. تحول كامل في شخصية المرأة الريفية :

ترسل في طلب ما تنتخبه من النسوة، يهرولن إليها بفضول غزير، يعدن إلى بيوتهن، بجديد قمصان النوم، وأحمر الشفايف، ولبان نتف الشعر، مع بودرة التلك، وزجاجات العطر الرخيصة

ويستهلك الوقت أحلام .. ” في تدريب الغشيمات منهن على استخدام الأشياء، تجري يداها متحسسة مواضع بأجسادهن، لا تزال تغلفها البكارة، دون وصول أنامل رجالهن إليها، .. “

فهم في القرية .. ” اعتادوا قضاء اللقاءات الزوجية، كما تقضيها ذكور البط وكباش الغنم، تفتح أذنيها لحكاياهن، تمتلئ جعبتها بأسرارهن .. “

ومن ثم كان حتمية فتح الكوافير لهن، والذي أحدث ثورة لدي النساء، فعرفوا عوالم أخرى، لم تكن تجول بخواطرهن أبدا، فهي تناولت أجسادهن ووجوهن وشعورهن بمزيد من المعالجات، التي لم يألفنها من قبل، لكنهن سرعان ما اندمجن فيها، آملات في استمرارها، ولم يعد في امكانهن العودة إلى سيرة أجسادهن الأولى، ....

زواج زيزي من هريدي:

رجل من الصعيد، ولا يملك رجولة ونخوة أهلنا في الصعيد، ديوث، يقبل الزواج من الغجرية القوادة العاهرة، وقبل أن يعقد عليها، اشترطت عليه في حضور المأذون وشاهدا العقد :

أقبل بزواجك، على ألا تتدخل، في شأن داخل أو خارج ” وأضافت .. ” ما لك إلا أكلتك وهدمتك، وطبعا سريرك، ووافق على هذا الشرط، والتزم به التزاما تاما، أغمض عينيه، وأصم أذنيه، وأقامت له في الدور الآرضي مقهى، وترك لها الدور العلوي لتستقبل من تستقبل من راغبي المتعة.

وأخذت زيزي بمساعدة أحلام في التوسع، فالغرباء والموسرين من طالبي المتعة، بدأوا يتقاطرون على زيزي ومجلسها العلوي ..

اشترت زيزيباسم رجلهاأقدم بيت يجاور المقهى، أحلت محله بناء جديدا، على أدوار ثلاثة، لها أبواب داخلية، تصلها مباشرة، بقلب البيت الأصلي، ثم إلى دوره الثاني، انتقلت بمجلسها المعروف، مع بعض الإضافة الجوهرية، كاستقدام مغنيات أخريات، مع المغنية الأولى، وبعض الراقصات المستجلبات، من كباريهات فقيرة بالمدن، اتخذن من الدور الثالث سكنا، سمح لأي منهن بالرقصات الخاصة، فتصحب الزبونإذا كان غريباإلى حجرتها وقتا، يتحدد مقابله وفقا لطوله أو قصره “.

ومن أدوار زيزي في تلك الحقبة :

تمكنت من تقريب البعيد، لراغبي السفر، فسهمها لدي ( فيز ) الخليجيين نافذ، فدأبت على استقبال الخليجيين في مجلسها العلوي، وقبلت زيزي كل ما يصلح للرهن أو البيع مقابل تسهيل السفر، وفي حال عجزهم عن توفير النقدية، ونادرا ما تتوفر، يتنازلون عن البيوتعلى أمل السفروالعودة بالمال، ليبنوا بيوتا جديدة أكثر رحابة وأكثر أناقة.

ومن الأدوار القذرة أيضا .. تعمد تحت مسمى المساعدة لزوجات من سافروا، إلى طلب بعضهن، وخاصة اللواتي يحتفظن بمسحات من جمال منهن، كي يساعدنها أولا في أعمال بيتية بسيطة نظير خدمات لها ولأولادها المحرومين، والخطوة التالية، تطلب فيها من إحداهن، تنظيف بيت أحد القادمين الكبار، ومنهم زبائن بمجلسها العلوي نظير أجر معقول. وإذا داهمها الزبون بالمراودة، ونال مراده منها دون عناء، صارت عضوة فاعلة بأقل تخطيط، فإذا فشل معها، تحتم تكثيف الخدمات إليها، ونثر بضع جنيهات بين يديها، قبل إعادة المحاولة معها.

وفي جراب زيزي، تبقى لهن آخر الحيل، وأضمنها، حيث يندس المخدر للعاصية منهن، في طعام أو شراب، فتروح في غيبوبة قصيرة، وعندما تفيق تجد نفسها وقد فُعل بها ما فُعل، ويعتريها تخبط يائس، يؤدي حتما إلى استسلام قليلات الحيلة، عديمات الخبرة في مواجهة خصم محترف، لا يتورع عن تهديده، بأن تجعلها ترى بعينيها مالا يمكن وروده على الخاطر، عبر صور واضحة، تم تصويرها، بآلة تصوير أبيض واسود، وهي متلبسة بالفعل

وتضمن زيزي عميلة كسيرة، لا تعرف الرفض أو المساومة.

وقد تُفاجأ القرية بين الحين والآخر، بتناول بعضهن سم الفئران، أو بإشعالهن النار في أجسادهن، تاركات خلفهن جثثا متفحمة أو مشوهة.

………

5 – دور المثقف في القرية :

تعاني قرية فكري داود من قلة المتعلمين، وندرة المثقفين، وهذه القلة والمتمثلة تحديدا في شريف وعبدالشافي، قامت بدورها على أكمل وجه، وكانا هذين الشابين تحديدا، يقومان بدور المثقف الإيجابي، الفاعل، ولا يقفان عند حدود الشجب والاستنكار لأفعال العمدة بهنس ومخططات أحلام والقوادة زيزي وغيرهم، ولكنهما، قاوما، وواجها، ولم يعزلا أنفسهما عن الناس، فذهبا إليهم على المقهى، وعلى ظهور المصاطب، وفي الغيطان، في محاولة منهما، لنشر الوعي لدي الناس، والكشف عن المخططات الخبيثة لتغيير ديموجرافية القرية، وذهبا إلى العمدة في داره، ليجابهاه بما يقوم به من أفعال مزرية، وغير شريفه، في محاولة منهما لإقناعه عن العدول عن هذه الأفعال، ولم يرهبهما تهديد العمدة ولا أزعجهما وعيده، بإبلاغ الجهات الأمنية عنهما، وأنهما يثيران الفتنة في القرية، واستمرا في مقاومتهما، ونضالهما، وترشحا في الانتخابات، وتتم عملية تزوير الانتخابات، جهارا نهارا، ويطعنا بتزويرها في المحكمة، وتقر المحكمة ببطلانها، وضرورة إعادتها، والسلطات العليا لا تنصفهما، ولا تنفذ قرار إعادة الانتخابات، وتضرب بفرار المحكمة عرض الحائط، بل وتؤكد سلامة الانتخابات، وتحذرهما من الاستمرار في السير في هذا الطريق.

وتجربة شريف وعبدالشافي كشفت عن فساد حياتنا السياسية، وأكدت أن الإستبداد متأصل، وله جذوره الضاربة في أعماق هذه التربة، وهذا الفساد له جيوش تحميه.

………..

6 – السياسة الحاضرة أبدا.

سيظل للسياسة حضورها بطريقة أو باخرى، وتلقي بظلالها على الحياة، وعلى الناس، والناس تتأثر بها سلبا وإيجابا، وما قرية الكاتب ببعيدة عن تأثيراتها على حياة اهلها، وإذا كان الكاتب قد عالج حقبة الانفتاح وتأثيرات القرارات السياسية على القرية والوطن، واهتم بمعالجة هذه الفترة، وما قبلها، منذ ثورة يوليو والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أحدثتها هذه الثورة، وناقش قرار تأميم الأراضي ومحاولة القضاء على الاقطاع ومدى استفادة الناس منه، وقرار مجانية التعليم، والذي بسببه تعلم شريف وعبدالشافي وحسام بهنس وغيرهم.

ونكبة 1948م تظل حاضرة هي الألاى، وتلقي بظلالها على عائلة عبدالشافي، فخاله الوحيد، راح يحارب أولاد القردة في فلسطين عام 1948م، ولم يعد ..

وما ورد عنه خبر، تترمل امرأته نصف ترمل، فلا عثر أحد على جثته، لتترمل كلية، ولا جاء خبر بقائه حيا، لتبقى على حافة اليقين، في انتظار عودته

ومن بعد نكبة حرب فلسطين، يأتي العدوان الثلاثي، ثلاث دول تهاجم بور سعيد، ومن آثار هذا العدوان، هجرة أهل بور سعيد، ومنها عائلة الدكش،الذي انقسم أهله إلى فريقين .. ” أحدهما عاد إلى المدينة، عند مدخل القناة، والآر آثر البقاء بمناحي عديدة هاجروا إليها، عقب فرار التأميم، تأميم القناة طبعا، وما تبعه من عدوان

ويظل الدكش مشتت بين هذه المناحي وبين المدينة، وتظل آثار العدوان الثلاثي عالقة في ذهنه.

دك العدوان بيت أكبر أعمامي، فوق رأسه، هو وبناته السبع، بينما ماتت امرأته لاحقا، متأثرة بحزنها، وبكسر عمودها الفقري

وعرفت القرية نكبة فلسطين من خلال خال عبدالشافي الذي ذهب للحرب، ولم يعد، حيا أو ميتا، وامرأته التي لم تزل تنتظر، تنتظر ما لايجئ، ويحدوها الأمل، وعرفت القرية العدوان الثلاثي من خلال الدكش، الذي يتردد على القرية لبيع المشغولات الذهبية، ولاكت الألسن علاقته بأحلام، التي تخطت كل محظور، وقطعا لهذه السيرة، زوجته لابنتها. ولكن يظل السؤال، لماذا يفتر حماس أهل القرية، ولا ينفعلوا بالأحداث الكبرى والحروب التي يمر بها الوطن والأمة؟

…………

7 – انتظار المخلص.

قد يتألم قارئ الرواية، من عزوف أهل القرية من الفقراء والأُجراء، عن الاهتمام بالهموم العامة، فلا تعنيهم الحرب خارج الحدود في اليمن، ولا تسمية المثقفين  لماحدث في عام 1967م بالهزيمة أو النكسة أو النكبة، قد يشاركوا في تشييع جثامين بعض أهل القرية سواء من ماتوا في عدوان 1967م أو من ماتوا في حرب 1973م، بدافع الفضول أو الواجب، إنهم يشاركون في طقوس الدفن، ويتساءل قارئ الرواية لماذا حالة اللامبالاة تلك عند هؤلاء؟ .. ويظل السؤال ينخر في رأسه كالسوس، أين الانتماء للوطن، ولماذا يضعف هذا الانتماء؟.

هل أبقت أحلام أو زيزي أو بهنس أو زايد على سبب واحد يجعلهم يتمسكون بالقرية وبالوطن، فلم يتركوا له ولو حجرة يتيمة يسكنها، أوقيراطا يفلحه، صار مستلبا من كل حقوقه، فالفساد والإستبداد هما السبب الرئيس في ضعف الانتماء، ويظل الناس في انتظار المخلص ..

يقول الكاتب : ” اعتادت الآذان، على استقبال سير الآخرين، سواء جاءت السير، لأناس معلومين عاشوا بينهم، كزعماء المظاهرات أو الثورات الشعبية، أو بعض العائدين من الحروب، ناجين بحيواتهم، أو لآخرين غابرين، ورد ذكرهم على ألسنة المداحين، أو جوالة السائلين، مصاحبة لصوت الرباب المترع بالشجن، كأبي زيد الهلالي، أو الشاطر حسن، الذي يعيش الكثيرون منهم، على أمل وصوله من جديد، معتليا حصانه الأبيض، لا ليخطف ست الحُسن والجمال، بل ليخطف أيديهم، عابرا بحياتهم من حال إلى حال

فهل يأتي هذا المخلص؟.

……

فكري داود في عيون قرائه

’’… إيقاع الجملة في قصص فكري داود يحاول أن يكون منغما، كأنك يجب أن تقرأ القصة بصوت مسموع، كما في قصص يحي الطاهر. كذلك عنايته’’ بتظليل‘‘ الصورة يفقده التلقائية أحيانا، لكنه دائما قادر على أن يعود بك إلى واقع القصة الغريب الذي يفلح أن يجعلك تصدقه وتتابعه في شغف.

’’ صغير في شبك الغنم ‘‘ بذرة أصيلة لأدب جميل ومختلف.‘‘

علاء الديب جريدة (القاهرة) المصرية 6/5/2003

***

’’المجموعة القصصية الثانية للأديب فكري داود.. تعكس نظرة القاص التي أجادت التقاط الصور والمرئيات خلال فترة عمله في أقصى الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية …

يكشف القاص من خلال حكايات عن غرائبية العلاقات البشرية، و عن أسرار كائنات أخرى كالقرود تتقاسم البشر معيشتهم.

اللغة مغرقة في الخصوصية، ذات نكهة مصرية ساخرة، تعيد إلى القص

 الواقعي مكانته التي فقدها في إبداعات عديدة.‘‘

 محمد جبريل (جريدة المساء في/ 23/2/2002   )

***

    ’’ نضم متوالية: فكري داود ( صغير في شبك الغنم ) إلى الرحلات المعاصرة للأراضي الحجازية . هذه الرحلات التي أثرت الأدب العربي بتجارب مريرة، واستطلاعات فنية. والكاتب في هذه   المتوالية يعرفنا بقرية أخرى غير قرى :’’لا أحد‘‘ لسليمان فياض، و’’البلدة الأخرى‘‘لإبراهيم عبد المجيد، و’’الفيافي‘‘لسعيد بكر. وأهم خصوصيات هذه القرية الجنوبية مشاركة القرود لأهلها في سكناها . صحيح أننا رأينا القرود في تبوك, لكن إبراهيم عبد المجيد اتخذها رمزا, ولم تكن بهذه الكثافة وذلك الحضور.‘‘

’’…منذ العصر الرومانتيكي  ونحن نعتمد على إضافة إشباع حب الاستطلاع إلى رغبة الجمال، وكنا في العصر الكلاسيكي نكتفي بالجمع بين النظام والجمال، والأساس في مجموعة فكري داود هو الغرابة التي تحدث قدرا كبيرا من المتعة المناسبة لظروف المتلقي العقلية وعاداته ومعتقداته…

لقطات حية قد لايصدق بعضها، وقد يصيبنا بعضها بالذهول، لكنها توحي بتوهج شعلة الفن داخل صاحبها…خاصة وأنه يسعى إلى أسلوب خاص به ، من أهم منميزاته التأكيد على حركة أعضاء الشخص لاالشخص ذاته ، فالقرد ـ مثلا ـ لايدور وإنما تدور به أرجله علبى ظهر الجدران، والراوي لايبصر وإنما ’’ يدخل عيونه لتبصر‘‘ و’’وأسرعت أقدام الصبي‘‘ و’’تناولت يد البنت الشابة‘‘ وهكذا…‘‘

دراسة بقلم محمد محمود عبد الرازق /مجلة أوراق ثقافية العدد 19 / ص15  

***

’’… وما يلفت النظر في مجموعته الجديدة اللغة المحكمة المقتصدة التي تجسد الصورة أو تؤدي المعنى في أقل عدد من الكلمات، تؤازرها عين ثاقبة راصدة، محايدة في رصدها، لا تفوتها شاردة ولا واردة مما يقع في مجال بصرها واهتمامها، وما يستتبع هذا بالضرورة من قدرة فائقة على التصوير.‘‘

’’…ويعطينا من خلاله وصفا دقيقا لسلوك بعض أفراد جماعة القِردة وحركاتها في اتصالها أو اصطدامها بالبشر القليلين في تلك البقعة الصحراوية دون أن يجنح للثرثرة أو ينزلق للاستطراد أو يغريه الوصف من أجل الوصف، ففي كلمات قليلة يجعلك ترى كأنك تشاهد عملا سينمائيا وكل صغيرة وكبيرة مما ترى موظفة ومسخرة لخدمة السياق العام…‘‘

’’… والتلاحم أو الاتصال الذي يتم في هذه القصص بين البشر ـ القليلين ـ والقردة ـ الكثيرين ـ له إيحاءات رمزية مواربة تماما، ولكنك لا تملك إلا أن تستشعرها.

فيخيل لك أن الكل بشر أو الكل قردة أو أن هذا المجتمع الرمزي يعكس رؤية للبشر مؤداها أنه بين الآلاف والملايين من الناس قليلون هم البشر الحقيقيون والباقي قردة.

كل هذا جائز ومن الجائز أيضا أن لم يقصد الكاتب شيئا من هذا، فالجميل في هذا العمل أنه يحتمل أكثر من تأويل‘‘

 بهاء جاهين: الأهرام الأدبي/ الثلاثاء14مايو2002م

***

’’… كان لاغترابه ـ الكاتب ـ هذا مذاق أدبي يتمتع بصفاء الرؤية ( إن اغتراب الإنسان هنا لايقتصر على النفي المكاني أو الترحال بالجسد فقط بل يمتد إلى داخل النفس أيضا بما فيها من أغوار ، وانكسارات وخبايا) فهو يرى واقعا غير معتاد لنا، ويحكي لنا عن علاقات جديدة في الطرح ( يكشف …عن غرائبية العلاقات البشرية وعن أسرار كائنات أخرى، بلغة ذات خصوصية ، ومن خلال بناء مركز وعبارات محكمة)‘‘’’… قدم لنا الكاتب نهايات مدهشة تفجر في نفس المتلقي القاريء ينابيع بكرا للدهشة، وهي قرينة الفن الجميل… ‘‘

فؤاد حجاج جريدة الأهرام 6/8/2002

***

[” تستطيع اليوم إضافة عازف جديد في فن القصة القصيرة، إلى فرقة العازفين المجيدين، وذلك ضمن موجة تُعَدُّ الخامسة من موجات الأجيال القصصية المتميزة، والموجات الأربع السابقة، كان يمثلها على التوالي( يوسف إدريس ـ يحي الطاهر عبد الله ـ محمد مستجاب)(يحي مختار ـ محمد المخزنجي ـ جار النبي الحلو )(محمد المر ـ سيد الوكيل ـ ناصر الحلواني الذي توقف الآن)(عبد الحكيم حيدر ـ هناء عطية)، وحولها بالقطع تيارات و روافد وفقاعات. هذا العازف المجيد هو / فكري داود” …

’’… نجد القاص قد برع في التكثيف عبر لغة مصفاة ومركزة،… ‘‘

’’وقد وفق الكاتب كثيرا في إيجازه، وفي تثبيت مشاهده ورصدها، ولهذا جاءت المجموعة غنية ودسمة ومركزة، لتعصي مذاقا جديدا لكتابة نادرة، يصعب الفكاك من أسرها، ولأن مثل هذا القص لاينتج إلا ممن فهم ووعى، فجاءت قطوفه على هذا النحو المزهر.‘‘ 

 ربيع الصبروت ، في صدر دراسته المنشورة بمجلة ’’الثقافة الجديدة”  العدد 160، سبتمبر2003

***

’’ … إن هذه المجموعة في قسميها تعلن عن مولد قاص موهوب, لديه خطابه الفكري، ورؤيته الفنية, ومعماره الجمالي, الذي تطور كثيراً عن مجموعته الأولى ( الحاجز البشري ) . هنا يتأمل كل ما حوله بنزعة إنسانية مترعة بالألم . ويقدم تصوراته لعوالم عاشها زائراً, فأضاءت له مسارب النفس الإنسانية

الموغلة في الظلمة.

إنه يراهن حقاً – كما قلت في بداية دراستي – على عنصري الصدق والبساطة, ويقدم العالم كما رآه دون تزييف أو تمويه . وما أجدره من كاتب يجعل من الهامش جوهرياً . فهذه بحق – مهمة أساسية من المهام العظيمة للكتابة المجيدة  ‘‘

’’… فكرى داود كاتب يستحق الدراسة ، فنظرته غير تقليدية للأمور ، لهذا اتسمت أعماله بالجرأة والبكارة …‘‘

’’…منذ نشر فكري داود مجموعته الثانية ” صغير في شبك الغنم ” وهو يخطو بقوة وثبات في عوالم السرد متخذا من الريف المصري ـ الذي يعيشه إنسانا ومبدعا ـ كنزه الثمين الذي يعرف قيمته ، ويدرك ضرورته ، فيهتم بغرف ما في الكنز بحساب واقتصاد ووعي عميق‘‘.
’’والسرد عند فكري بسيط سهل بسيط لكنه في ذات الوقت يتخلق من إدراك بأزمة الوجود البشري ، وهو عطوف على أبطاله ، يتابعهم بقلب واجف ، ونفس مستبشرة ، ولا يتخلى لحظة واحدة عن مساندتهم لتجاوز محنهم وتخطي همومهم .
واقعيا يسكن فكري داود قرية هي ” السوالم ” وأحسب أنه منخرط في تحولاتها الاجتماعية ،متورط في حراكها اليومي ، لا يكتفي بالرصد السلبي بل هو أقرب إلى الراصد الإيجابي المترصد لصبوات النفس البشرية وانكساراتها، ونوازعها المتلونة بكل طيف ألوان قوس قزح وترديداته .‘‘
’’…مما يميز فكري داود أنه يلامس قلب التجربة الإنسانية من خلال التفاعل مع عوالم الطفولة التي يستعيدها ، ويعرف كيف يشكل منها نصوصه الحميمة إلى نفسه ، وسنجد أن ذلك القدر من الحنو ينعكس علي زاوية الرؤية ، وفي الصياغة ، واختيار ابطاله الذين يرسفون في حياة فقيرة دون أن تنكسر نفوسهم الخيرة او تنخفض هاماتهم ، ربما فقط انحناءة خفيفة للزمن‘‘.

سمير الفيل / مجلة المحيط الثقافي العدد 29 ، مارس 2004،

وموقع القصة العربية.

***

’’…فإنه يلملم أطراف المشهد تاركا لك بقعا فارغة لتكملها أنت بعد دهشتك البالغة الدهشة بعد الانتهاء من كل قصة ثم تسكت طويلا لتستحلب هذا الجمال الفتان ململما كل المشهد ومكملا الصور ومدركا أبعاد هذه القصة ، في هذا الجو الجميل من المتعة تصبح نهما فتجد أن القصص التي تليها تكمل لك المشهد وتضيء الذاكرة وتكشف كل المسكوت عنه في القص والساكن تحت تحذيرات الخوف في صدر الناس، …‘‘

’’…أننا أمام مجموعة متميزة وبناء لغوي و فني محكم وعالي الجودة ، كما نجد أن الكلمات والتراكيب الكلامية مناسبة تماما لجو الحدث لدرجة أنه ينقل إلى درجات عالية من التوحد مع قصصه…‘‘

’’…تمضى بقية قصص هذا الجزء بجمال فاتن لا ادعاء ولا تثاقف،ولا ادعاء أيدلوجية ما، ولا السطو على كتَّاب اليابان وأمريكا اللاتينية ، ولا المرور من تحت يد عراب الأدب ليقول هذا فقط هو القاص ، لكنه نبت جميل فارحموه.‘‘
 صلاح والي/في دراسة أعدها لصحيفة الجيل، وموقع درب الياسمين الإلكتروني

***

’’…بهذه القدرة المتمكنة في الوصف يرسم لك أجزاء المكان، وسيحتاج القارئ أن يرجع فيما بعد القراءة الأولى إلى هذا الوصف؛ ليتمعَّن فيما حدده القاص “بعين السينما” ليرى أن كل جزئية من هذه الجزئيات كنا نحتاجها ـ كقراء ـ لنكمل معه رسم الصورة المتخيلة، ونحن نقرأ المتتابِعة القصصية(3) «صالحة والقرود»، ونتعرف على عالم غريب ـ في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية ـ استطاعت أن ترصده مرآة الغريب، التي تكون أكثر قدرة على الرؤية والالتقاط.


ومن خلال وصف عين الكاميرا لجمالية المكان تتكون بؤرة الحدث عنده؛ ففي القصة السابقة نرقب فعل السرد من خلال خيط رفيع، يربط بين المكان الذي قدمته عين الكاميرا، والحدث الذي سيترتب على هذه الرؤية: حيث يسرد لنا ما رآه من حجرته، من علاقة صالحة بالقرد

’’ …في مجموعة «صغير في شبك الغنم» لفكري داود، سرد جميل يصور النفس الإنسانية في غربتها، وضعفها، وتوقها الحميم أن تعيش حياتها البسيطة والمتواضعة من خلال نصوص توغل في التفرد فنيا، وتميل إلى التكثيف من خلال شكل أقرب إلى أن يمثل قصة الومضة (أو: القصة القصيرة جدا) في القص العربي الحديث.‘‘

 د. محمد عبد الحليم غنيم/ مجلة ’’جهات‘‘ العدد الأول يناير 2005

’’…دهس الطين قصص تؤكد على وظائف الوصف فى السرد، وبالوظيفة التفسيرية يؤكد فكرى داود ان مظاهر الحياة فى قصصه تذكر، لأنها تكشف عن حياة الشخصية النفسية، وتشير الى مزاجها وطبعه، وفى هذه القصص أصبح الوصف عنصرا له دلالة خاصة، واكتسب قيمة جمالية …. ‘‘

’’… وفى قصص فكرى داود، نوع من التوتر بين الوصف، الذى يتميز بالسكون، والسرد الذى يجسد الحركة، وهناك نوع من التداخل، بين الوصف والسرد، فيما يمكن تسميته بالصورة السردية، وهى الصورة التى تعرض الأشياء فى سكونها.

  إننا نقف ازاء مجموعة فذة،  ليس على صعيد الطرح الواقعى لقضايا الإنسان وحسب، ولكن أيضا على صعيد الاستخدام المتميز، لجماليات القصة وأدواتها‘‘

حوار فكري دواود جريدة الأهرام

أجراه/ محمود إبراهيم الشرقاوي.

***

  #تتميز كتاباتك بالطابع الفكري والإنساني ، وتتسم بالتنوع والانفتاح علي مختلف صنوف السرد الأدبي،فماذا عن نشأتك وروافدك الثقافية ؟

* ولدت بقرية السوالم إحدى قرى شمال الدلتا، لأب (يفك الخط) حافظ لسير البطولات الشعبية وأم ورثت الحكي عن أمها، تأثرت كثيرا بمعلم الابتدائي القاريء (الحكاء)، دافعي إلى إدمان وامتلاك (ألف ليلة ولية) وكليلة ودمنة)،مع جدتين لاتنطقان إلا بالحكمة والقص الموروث المليئ بالخيال وأيضا الخرافات، والعم شروش بائع الكتب والجرائد والمجلات…ومجتمع كل شيء- جيد أو مشين – به طازج ويدفع للتأمل والتفكير وأناس يكفيهم الكفاف ليحمدوا الله على الستر، عشقت منذ الصغر الكتب القديمة والتهمت كل ما وصل يدي مهما كان موضوعه، فالكاتب الذي لايقرأ إلا في الأدب، كمن ينظر للحياة من ثقب إبرة.

 لكن ألف ليلة وليلة، جرفتني في طريق السرد قراءة ثم كتابة، لدرجة أنني توقفت عن الذهاب إلى الجامعة عاما كاملا ، وبقيت بالبيت للقراءة والكتابة فقط ، وكان حدثا جللا في العائلة والقرية، لم يسبق لأحد تسجيله. حياتي ما هي إلا قراءة وكتابة، تتخللهما بقية شئون الحياة.

# بدأ مشوارك الأدبي بالمجموعة القصصية “الحاجز البشري” ..حدثنا عن تجربة كتابتها، وكيف استقبلها الوسط الأدبي؟

*  فكرة المجموعة أساسا كانت معنية بهذا الحاجز البشري الكبير من المنافقين والموظفين والملكيين أكثر من الملك الذين يحولون بين البسطاء والمقهورين وبين المسئولين من ناحية وبينهم وبين حصولهم على أبسط حقوقهم من ناحية لكن القصص حوت صنوفا من القهر ومن المقهورين على شاكلة أهل قريتي وما شابهها… وعلى فكرة قصة الحاجز البشري كتبت ونشرت في مجلة الأسبوع الأدبي السورية عام 93قبل صدورها ضمن مجموعة عام96وما جاء بها من وقائع حدثت بالفعل بشوارع بورسعيد أثناء زيارة مبارك لها عام 97وهذا يوضح أن الكاتب في أحدتجلياته يكون مستشرفا للمستقبل.

* قوبلت المجموعة بترحاب من النقاد وكتب عنها بعضهم كخيري عبد الجواد وسمير عبد الفتاح وجمال سعد وفؤاد حجازي وطبعا وسمير الفيل وغيرهم.

  #رواية “وقائع جبلية” جزء من ثلاثة أجزاء منفصلة يجمعها التعبير عن الغربة، هل نحن بصدد سيرة ذاتية؟

* لسنا بصدد سيرة ذاتية أبدا فالبطل في الجزء الأول من مجموعتي (صغير في شبك الغنم)، وفي رواية (وقائع جبلية) كان حيوانا بشكل رئيس، وهو القرد الذي يكثر بصحراء جنوب السعودية، ليخالط أناسا قلائل من السعوديين المغتربين داخليا، والمصريين المغتربين خارجيا، وأهم ما شغلني في هذه الرواية هو تكنيك الكتابة : فهي فصول منفصلة متصلة، جاهدت طويلا كي أتيح للقاريء قراءتها من أي فصل فيها حتى ولو بدأ بالفصل الأخير.

 # في رواية “المتعاقدون” ، اختزلت تجربة اغتراب المصريين للعمل بدول الخليج في شخصية “عبد البديع” ..لماذا؟

* عبد البديع ليس نموذجا للمغترب المضطر، سواء كان متعاقدا رسميا (معار)، أو متعاقد شخصيا، وأنا في (المتعاقدون)، اعتمدت على الأبعاد النفسية في العلاقات والصراعات – غير المبررة – بين الأشخاص (المصريين بالمصريين ثم بالسعوديين والسعوديين بالسعوديين ثم بالمصريين) مركزا على الآلام النفسية التي تكتنف كل خلجة من خلجات الاختلاط البشري العجيب، المتجمع صدفة في بقعة نائية عن العمار، بين الجبال ورمال الصحراء الممتدة، ناهيك عن أهل (الديرة) المكان ، من بدو ورعاة وطلاب يختفون خلف الجبال بمجرد انتهاء الدراسة ولا يظهرون إلا صبيحة اليوم التالي. خلطة غريبة من البشر يحتلون مكانا غريبا نائيا، تتعجب وتسأل دون تلقي أية إجابة.

 # بم تفسر اهتمامك باصطحاب المصريين لزوجاتهم العاملات خلال غربتهم في رواية “المحارم” ؟

* لقد كنت معارا، نفيت في عامي الأول إلى ما يسمى (بالبر) وهو مكان يبتعد عن أقرب مدينة صغيرة بمائة كيلو في الصحراءن الوصول إلى أو العكس يعد معجزة في كل مرة… بالمكان الغريب مدرستان إحداهما للبنين والأخرى للبنات، بعد فترة وجيزة لاحظت مجموعة من الرجال لايسيرون إلا معا، عرفتهم لاحقا بالمحارم، نظرتهم كسيرة تتجه غالبا نحو الأرض، وجوههم صفراء يعلوها الخجل، ابتساماتهم مفتعلة، لكن صدورهم كانت نلأى بالشجن، اقتربت منهم كثيرا لتنفتح مغالق المشاعر، فقد تركوا وظائفهم بمصر وجاءوا بصحبة نسائهم كمحارم لهن جاءوا ليقطنوا بالسكن يعدون الفطور للمرأة قبل ذهابها إلى العمل ويجمع الملابس اللازمة للغسيل ويستعد للكنس والطبيخ وإعداد رضعات الأطفال وتغيير كافولاتهم…هل تصدق أن إحداهن كانت تفرض له راتبا 200ريال قائلة له إن أموالها لها هي وأن ماتمنحه له أكثر من راتبه المصري، كما أنه يأكل وينام مجانا؟

 # طرحت الدور الروائي للحيوان في رواية “عام جبلي جديد”، وقدمته فاعلا لا مفعولا به، حدثنا عن تلك التجرية؟ لقد قال لي أحدهم إنه لم يعد قادرا على ممارسة حقه الشرعي مع امرأته؟ وكل هذا لايهم، الأهم هو سؤال الرواية : لماذا كان السفر؟

 # قدمت للأطفال العديد من الأعمال الأدبية منها “سمر والشمس” و “الاختيار الصحيح.

* أولا أنا لاأعتبر نفسي كاتبا محترفا للأطفال فقد دفعتني ابنتي المرحومة (سارة) لأكتب مجموعة سمر والشمس ثم جمعت مانشر في مجلات الأطفال ونشرته في مجموعة (الاختيار الصحيح) كتاب قطر الندى، فالكتابة للأطفال تحتاج تلقائية خاصة جدا، لايصل إليها بسهولة من يميلون إلى التفكير والتفلسف مثلي – أو هكذا أدعي – لكنني فقدت كاتبة أطفال عبقرية كتبت مجموعة للأطفال وهي في الثالثة عشرة من عمرها، نشرت مع مجموعات الكبار في سلسلة كتاب قطر الندى هيئة قصور الثقافة، بعد وفاتها مباشرة فقط توفت عن 17سنة وكانت وقتها في عامها الثاني بالجامعة…

“# طيف صغير مراوغ” و “نبش في ذاكرة الحصار” وصغير في شبك الغنم” أعمال نشرت إلكترونيا ، فهل معوقات النشر الورقي الدافع الرئيس لتوجهك إلي الشبكة العنكبوتية ؟

* لم يكن النشر الكتروني بسبب معوقات النشر الورقي عندي بقدر ما كان رغبة في النشر السريع، حيث نشرت ورقيا رواية:(طيف صغير مراوغ) في هيئة الكتاب لاحقا ونشرت مجموعة: (طيف صغير مراوغ) بهيئة قصور الثقافة، وهذا لايمنع أن جاءت فترة تعاقدت فيها مع دار نشر ألكترونية نشرت فيها بعض أعمالي ولاتنس المواقع الأدبية العديدة التي سبقت ظهور الفيس بوك كانت فترة تفاعلية رائعة.

 # المكان والزمان والاهتمام بالتفاصيل تيمات أساسية في إعمالك الأدبية ، فهل للميراث الثقافي دور في ذلك؟

* بالتأكيد، يرقى كل من الزمان والمكان لدي، ليكونا بطلين في أعمالي، وكذلك اللغة، وأثمن التفاصيل تماما، فالملاائكة –  لاالشياطين – تكمن في التفاصيل. وذلك لأني لا أكتب إلا عبر مشروعات، أحتشد لها، يصعب تجاهل الزمان أوالمكان فيها (فتجربة السفر أحد هذه المشروعات، وكذلك التحولات الاجتماعية بالريف المصري، والقرية المتشبهة بالمدينة مشروع ، والفساد الذي احتل كل شسء  مشروع،..وهكذا).

# قدمت العديد من الأبحاث حول القصة الدمياطية نموذجا أدبيا متميزا ، فما الذي حققته في تلك الأبحاث ، وما الذي يميز القصة الدمياطية عن غيرها من إنتاج الأقاليم الأخرى ؟

* هذه الأبحاث وثقت وجهة نظري في القصة الدمياطية، وهي متاحة على النت، استعان بها البعض في كتاباتهم عن دمياط كالباحث محمود الزلاقي، فالقصص تتنوع بشكل غير مسبوق، نظرا لتباين الأجواء والأماكن والأطر الاجتماعية والفكرية، التي يستقي منها الساردون مداد كتاباتهم، رغم محدودية المحافظة مساحيا، ورغم تقارب البُقع المسكونة بالبشر، فدمياط القديمة لها فرسانها كالأسمر والفيل والشيطي وياسين، حيث المجتمع القديم المستقر، وصناعة الأثاث والحلوى والجلود و…، عير مجتمع الصيادين بعزبة البرج والسيالة ومحسن يونس، غير ريف كفر سعد ومنها السولم قرية فكري داود، غير مصيف رأس البر والعمل الموسمي، أما دمياط الجديدة فمجتمع جديد من كل بستان زهرة، تحكمه علاقات مختلفة…وكل بيئة لها قصصها الخاص وأجوائها المختلفة، وبلاد شرق النيل كفارسكور والزرقا والسرو، غير بلاد غرب النيل، … وبالطبع بات كل هذا مؤثرا بشكل كبير بين كتابات عشاق السرد وكتابه.

#برأيك ماهي سلبيات وإيجابيات النشر اللاليكتروني ؟

*من سلبيات الوسط الأدبي عموما، الشللية والانتفاخ الذاتي لمحدودي الموهبة، والضجيج المتعمد حول البعض، والمسابقات الموجهة، آفات هذا العصر.

– ومعظمها موجودة في النشر الالكتروني: اختلاط الحابل بالنابل، إمكانية تكوين رأي زائف لمجر الاتفاق مع البعض لمتابعة المنشور، صعوبة السيطرة أو (الفلترة)، عدم وجود حركة نقدية موازية، انتشار السرقات الأدبية.

الإيجابيات: سرعة النشر، قلة التكلفة، مواطبة المنشور للحقبة التي كتب فيها، سرعة التفاعل مع الآخر، إمكانية الاستعانة بمساعدات أخرى كالصوث والصورة…وهكذا.

  #حدثنا عن مشاريعك الأدبية المستقبلية ؟

* لدي رواية (خلخلة الجذور) على وشك الصدور بهيئة الكتاب، ومجموعة (رحيق الجميز) بنادي القصة تنتظر النشر في سلسلة الكتاب الذهبي، وفي يدي الآن رواية (دروب الفضفضة)، وهي التي حصلت بها على منحة التفرغ من وزارة الثقافة منذ عام، وهي رباعية، أنجزت منها المرحلة الأولى، وهي ترصد الانقلاب الهرمي في الريف المصري منذ ثورة 1952 وحتى قبيل ثورة 25يناير2011، كما أستعد لتقديم محموعة قصصية جديدة بعنوان(استكانة النهر العجوز)، نشرت معظم قصصها في الجرائد والمجلات المتخصصة.

——-

***ملحوظة: نشر الحوار بجريدة الأهرام في 2018

وصدرت بعد نشره رواياتي:

– الشوك والياسمين/ روايات الهلال2018

– خلخلة الجذور/هيئة الكتاب 2019

– المحارم/دار أفاتار للنشر والتوزيع2021

– ومجموعتي القصصية: استكانة النهر العجوز/دار الإسلام للطباعة والنشر2020

– كما أتممت إنجاز الرباعية الروائية(دروب الفضفضة) وهي منفصلة متصلة، خاصة بمشروع التفرغ الذي بدأ عام 2019حتى الآن.

حلقات من قصة أون لاين

سيد الوكيل”الطريق الصعب”

خالد الصاوي ابن الإنسانية الفياض بالإبداع المتجدد

محمد عبدالقوي حسن .

مع مؤمن سميرمحمد عبدالقوي حسن والصاوي

عرفت خالد الصاوي من خلال أمسيات اتحاد كتاب مصر فرع شمال الصعيد وكنت اقرأ له واكتشفت انه كان يتابعني كناقد ومنذ اللحظة الأولي التي نلتقي بها وجها لوجه أحسست أنني اعرفه منذ إلف عام .

دعونى أتحدث عن خالد الإنسان الجميل المحب والصادق والطفل الصغير الذي يحلم للعالم والإنسانية والجمال والخضرة والنيل .

من شقشقة العصافير المستحية في فجر الضحكة الأبية خرج ذلك الإنسان المهموم بالإبداع ، فراح ينقب عن الأصيل والجيد ، وبأ يسطر بوجدانه أجمل سيمفونية عصرية تجمع حوله مجموعة من المبدعين والمبدعات .

استمر في القراءة خالد الصاوي ابن الإنسانية الفياض بالإبداع المتجدد

(يا مسهرنى) قصة: مجدي خلاف

  تحلقت العيون حول الشاشات اللامعة، انكفأت الرؤوس على المحمول غير مبالية، وأطبق الصمت وأصبح كل فرد عالم بذاته يسبح في فضاء الانترنت بين الفيس والواتس والألعاب.

بخات المكيف الباردة تحيل المكان صقيعا في الحر القارس. خلع سماعات الأذن (الهيدفون) ونظر لأفراد البيت، الجميع صامتون متوحدون مع المحمول كأن على رؤوسهم الطير.  بلمسة واحدة على شاشة المحمول فتح (الساوند كلود)، التطبيق الغنائي الشهير، وبضغطة على سهم انطلقت موسيقى ساحرة من ماض بعيد.. أم كلثوم.. (يا مسهرنى.)، سحرته الموسيقى، حرك مؤشر الصوت لعل أحد يشاركه النشوة باللحن والكلمات. مازال الصمت مطبقا والهيدفون فوق الرؤوس والكل غارق في عالمه الافتراضي أما هو فانطلق في عالم افتراضي آخر من زمن بعيد!

***

 (ما خطرتش على بالك يوم تسأل عنى. وعنيا مجافيها النوم.. يا مسهرنى..)

تغسله الموسيقى بشلالات من الشجن والبهجة والبراءة والحب، عزوبة اللحن وبلاغة المعاني حولت العامية الى لغة عربية غاية في الفخامة عندما يقارنها بعامية هذه الأيام!                                      سافر بعيدا في زمان الصبا والحب، هناك وقت الأصيل والشمس في طريقها للرواح في آخر الشارع خلف الحقول الخضراء، أبواب البيوت الطينية وقد بدأت تستقبل أسراب الفلاحين ودوابهم وأنعامهم في رحلة الإياب من الحقول.

(….. فين غلاوة حبك فين.. فين الحنان والحنية..)

عندما يبدأ الليل بالتسلل للبيوت الطينية الهادئة.. تبدأ لمبات الكيروسين بالتوهج بلون خافت وتمتلئ البيوت بروائح العرق والرضا والمودة، ونسمات باردة طيبة تزيد الهدوء جمالا.                                     يدلف رب الأسرة الى الراديو الكبير ويحرك بكرة المذياع الى حيث (إذاعة أم كلثوم)، ويبدأ الفرح الكبير بعد عناء يوم حار.                                                                                                              أم كلثوم تغنى (يامسهرنى)……

(أنا قلبي بيسألنى.. إيه غير أحواله.. ويقول لي بقى يعنى.. ما خطرتش على باله..)

 وتتمايل الرؤوس طربا ونشوة، ويطرب الصغير والكبير. ويسود صمت الاستماع الجميل ….

***

يخرج من عالمه الافتراضي فى الماضي على رنين المحمول، بينما الباقون تتحرك أناملهم بسرعة تلقائية على الشاشات غير عابئة بشيء!                                                                                                 قرر أن يخرج مسرعا بسيارته خارج المدينة يبحث عن نسمة هواء بدون تكييف ويلحق بشعاعات الشمس قبل الرحيل، حرك مؤشر الراديو في السيارة على جميع الموجات. تداهمه ضوضاء الموسيقى الصاخبة والأصوات النشاز والكلمات الرديئة …                                                                                  أوقف السيارة وافترش الأرض.. وأعاد تشغيل (يامسهرنى) على المحمول وأخرج السيارة وافترش الأرض، وانطلقت كوكب الشرق …. (الصبر دا مش بإيديا.. الشوق واخدنى في بحر هواك).

Cinema paradiseعن المكان الأول والبحث عن الزمن المفقود

فدوى العبود/سوريا


فدوى العبود

إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال، لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مباليًا.
غاستون باشلار


يعتبر الفيلم الإيطالي “سينما باراديسو” Cinema paradise وهو بتوقيع الكاتب والمخرج الايطالي جوزييي تورناتوري 1988 – قصيدة عن المكان الذي يعاد تشكّله عبر الخيال وتجذره في اللاوعي؛ وهو تأكيدٌ لفكرة باشلار عن أهميّة المكان الأول وجماليّاته ودوره في تصورنا للعالم؛ والذي يفقد الكثير من سماته الواقعيّة ليتحول إلى صورة حلمية؛ فلكل منا مكانه الأول وعلى كل واحد منا –بحسب باشلار-أن يتحدث “عن طرقه ودروبه ودككه التي يجلس عليها بجوار الطريق”
ولعل الفن في مجمله مدين في نشأته إلى النسيان والغفلة وإنقاذ الزائل. وفي هذا الإطار يطرح الفيلم علاقة المكان بالذاكرة ولعل من مفارقاته المدهشة أنه قُدِّم كجزء من حياة أو بتعبير أدق (سينما داخل سينما)
نتعرف إلى المكان في ذاكرة سلفاتوري الرجل الخمسيني والذي كان يسمى في صغره (تيتو) إنه غائب عن بلدته الصغيرة منذ 30 عاماً. أصبح خلالها مخُرجًا مشهوراً، وتستيقظ ذكرياته –متزامنة مع البرق والرعد خارج النافذة-لحظة إخباره باتصال والدته التي تدعوه لحضور جنازة الفريدو.

استمر في القراءة Cinema paradiseعن المكان الأول والبحث عن الزمن المفقود