سارة قويسي

عودة مواطن إلى بر مصر. بقلم: سارة قويسي.

“هدفي الأساسي أن أعمل فيلما تتلقاه كل العيون، خصوصا عين ابن بلدي. لذلك يتهموني بأنني أصنع أفلاما (خواجاتية) وشكلية. وحقيقة الأمر، هو أن عيوننا لم تتعود بعد أن تكون الكاميرا هناك، لأنهم يريدونها في مكانه الدائم. وعندما غيرت قليلا مكان الكاميرا، قالوا: هناك نوع من الغربة بالنسبة للعين. إيماني كبير بأن عين المتفرج ستعتاد على هذه اللغة السينمائية، وباالتالي سيصبح الأمر طبيعيا”.

(محمد خان، مخرج على الطريق).

ذات مساء اقترح صديق عليَّ أن أشاهد فيلم (عودة مواطن) لمحمد خان كنوع من التغيير في ما أشاهده في الفترة الأخيرة، ومحاولة لرؤية جذور واقعنا من منظور قديم نسبيا. ربما نجد سبيلًا لحل كل تلك المعضلات التي نمر بها. وقد كان الفيلم اجتماعيا واقعيا من الطراز الأول، يحكي حياة مواطن مصري عادي أجبرته الظروف على أن يغترب عن بلده في نهاية السبعينيات، من أجل الرزق، ولقمة العيش، والزواج… وحين عاد في منتصف الثمانينيات يصدم من كل شيء، فكيف تغير المجتمع في تلك السنوات؟ وكيف تعايش شاكر –البطل- مع هذا الواقع؟!

شاكر يملك من الأخوة عددا لا بأس به بالنسبة للأسرة المتوسطة الحال، التي تعيش في منزلها الخاص، في ضاحية حلوان. له خال هزمته الحياة، وعدد من الأخوة، ورغم تخليه عن دوره في فترة سفره للخليج، يسعى بعودته أن يعوض إخوته عن السنوات الماضية، وأن يقوم بدور الأخ الأكبر الذي يلوذون إليه في محنتهم، وهنا تبدأ تفاصيل الحكاية.

يبدأ الفيلم بمشهد عودة شاكر إلى مصر وحيدا لا ينتظره أحد في المطار، ويذهب إلى أخوته ليسعدهم بحضوره.

تحتفل فوزية، الأخت الكبرى، بعودته، ونفهم مبدئيا أنها قد فاتها قطار الزواج أثناء اهتمامها بإخوتها، ثم تتصاعد الأحداث ونجدها تتقبل مساعدة من مال أخيها، وكأنها تأخد (نصيبها) عوضا عن خدمتها لإخوتهم في غيابه. ورغم أن مقدمات الشخصية قد توحي بعكس ذلك، نجد فوزية تستقل وتبدأ في ممارسة حياتها بصورة مختلفة.

ونجوى، الأخت الصغرى، التي تنسجم مع واقعها الاجتماعي وتتفاعل معه وتعيشه بكل تفاصيله المرهقة ببشاشة مدهشة. فهي الفتاة خريجة الجامعة التي تعمل مضيفة في أحد الفنادق، وترفض تدخل من حولها في خصوصياتها، وتحب زميلها في العمل، وتبني معه عش الزوجية وتختار الشقة دون أن تبلغ أحدا.

وإبراهيم، شقيقهم الأوسط، الذي يعيش حالة من الإحباط والاكتئاب، وعند تخرجه من الجامعة جلس في المنزل لا يفعل أي شيء سوى انتظار خطاب القوى العاملة، وتسيطر عليه المخدرات حتى يكاد أن يفقد حياته لولا تدخل خاله في الوقت المناسب، ومحاولة أخيه شاكر انتشاله من براثن الإدمان، ليعود منتظرًا أن يضع أحدهم نهاية لمعاناته.

أما مهدي، شقيقهم الأصغر، الذي يربي الحمام، ولكنه في حقيقة الأمر ينتمي لتنظيم سري، ويشبه خاله الذي أضاع شبابه على العمل السياسي ولم يتزوج.

في هذا الفيلم يوجه الراحل محمد خان النقد الدائم لسلبية شخوص الفيلم، رغم أنه يرى شخصياته من منظور أخر، فهو يقول: “إن شخصياتي نبيلة وتريد تحطيم القيود التي تكبلها في حياتها اليومية.. حتى الموظف الذي أصوره في أفلامي موظف ثائر على وضعه ويسعى للخروج من حالة الركود التي يعيشها”. فهل كانت الشخصيات ضحية للتغيرات التي جرت في المجتمع المصري بعد الانفتاح الاقتصادي؟ ربما!.. ولكن سنحاول أن نجيب على هذا التساؤل الذي طرحناه.

سلبية الشخصيات تجرفهم في تيار المجتمع وتجعلهم رغمًا عن اختلافهم إلى حد كبير جزءًا منه، ففوزية تقرر أن تتحرر فجأة من كل شيء وتبدأ مشروعا لبيع الحلويات، فهل كانت راضية عن حياتها السابقة، أم أن بذور ذلك كانت موجودة لديها منذ البداية وكانت تنتظر اللحظة المناسبة؟

ونجوى المتمردة بطبعها المتأقلمة مع وضعها داخل المجتمع، والمهم أن تنجز أهدافها، وهذا عكس إبراهيم الأخ الخاضع الخانع لكل شيء يسير حيثما يدفعه التيار، تارة هو شاب مدمن لا يقوى على فراق المخدرات، وتارة هو جالس في البلكونة يتأمل السماء في شرود، أو يلعب الشطرنج. أما مهدي الصغير فقد يكون الاستثناء فيهم، لكن ما هو مصيره؟ هل نتخيله الآن يعيش مهزوما كخاله؟

 وشاكر الذي يهرب من المواجهات، فهو رغم دراسته للقانون يخاف من دخول قسم الشرطة، ويتجنب لقاء خاله المعتقل السابق، نجده بحث عن حياة جديدة بالاغتراب ولو كان ثمن تلك الغربة هو أن لا يعرف نفسه داخل أسرته ومجتمعه، وقد ظن أن المال سيحل كل المشاكل، لكن الأمور لا تسير على هواه، وحلم العائلة يتفتت من بين يديه. هل تعلم شاكر الدرس؟…

 مشهد النهاية يحمل تفسيرات عديدة! لكن محمد خان سعى لتحليل طبقات المجتمع وخاصة الطبقة المتوسطة التي تكاد أن تختفي بطريقة مختلفة، وهي وإشراك المتفرج في ذلك، فهو يريد أن تأتي الإيجابية من المتفرج بعد لوم سلبية شخصيات الفيلم التي هي جزء من الواقع الفعلي لحياة المصريين.

ولكن تلك الإيجابية لا تنقي المعاناة، فمازالت المعاناة تعصر تلك الطبقة وتنقلها كل يوم من حال إلى حال، في ظل أوضاع اقتصادية مرعبة. ولكن رغم ذلك يقول خان: “عامة أنا لا أفكر في المتفرج، هل الرسام يفكر فيمن ستعجبهم لوحته؟”.

أضف تعليق