أرشيف الأوسمة: ذاكرة القصة القصيرة

الهبوط إلى صحراء التتار ..قصة إعتدال عثمان

وقفت‏ ‏على ‏شعرة‏ ‏الصمت‏ ‏بين‏ ‏الصدى ‏والصوت‏، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏تخطيت‏ ‏الرطب‏ ‏واليابس‏، ‏والمر‏ ‏والحارق‏، ‏والدنيا‏ ‏من‏ ‏حولى ‏سوق‏ ‏بضاعة‏ ‏زاهية‏. ‏ولما‏ ‏لم‏ ‏أستطع‏ ‏بيعا‏ ‏ولا‏ ‏شراء‏ ‏طويت‏ ‏العمر‏ ‏الكاسد‏ ‏فى ‏حبة‏ ‏القلب‏، ‏وقلت‏ ‏أيمم‏ ‏وجهى ‏شطر‏ ‏الصحاري‏.‏
وفى ‏عمق‏ ‏الصحارى ‏عصرت‏ ‏نبيذ‏ ‏القلب‏ ‏وصنعت‏ ‏خبز‏ ‏المحبة‏ ‏وناولته‏ ‏اياك‏، ‏وحين‏ ‏مددت‏ ‏لى ‏يدا‏، ‏انتصب‏ ‏بينى ‏وبينك‏ ‏غول‏ ‏نصفه‏ ‏أنثى ‏ونصفه‏ ‏ذكر‏. ‏ثدى ‏الأنثى ‏لا‏ ‏يدر‏، ‏وسيف‏ ‏الذكر‏ ‏صدئ‏ ‏لا‏ ‏يقطع‏، ‏وبطنه‏ ‏ملئ‏ ‏بنفايات‏ ‏البشر‏. ‏وأنا‏ ‏أعصر‏ ‏الضرع‏ ‏فلا‏ ‏يلين‏. ‏وأهز‏ ‏السيف‏ ‏فينالنى ‏غبار‏ ‏الصدأ‏ ‏وعين‏ ‏الغول‏ ‏تطق‏ ‏بالشرر‏، ‏والشرر‏ ‏لا‏ ‏يحرق‏، ‏ولا‏ ‏تكف‏ ‏العين‏ ‏عن‏ ‏قدح‏ ‏اللهب‏. ‏ويده‏ ‏الرخوة‏ ‏تتحرك‏ ‏فى ‏كل‏ ‏اتجاه‏، ‏وجوفه‏ ‏ينبعث‏ ‏عفنا‏ ‏لا‏ ‏يطاق‏ ‏والصحراء‏ ‏هى ‏الصحراء‏ ‏على ‏امتداد‏ ‏البصر‏. ‏والغول‏ ‏يطلب‏ ‏رأسى، ‏ورأسى ‏معلقة‏ ‏بخيط‏ ‏كشعاع‏ ‏ضوء‏ ‏خبا‏.‏

استمر في القراءة الهبوط إلى صحراء التتار ..قصة إعتدال عثمان

الغروب الجزئي

الناقد السينمائي: شريف الوكيل

The Sunset Limited

الغروب الجزئي

كورماك مكارثي + تومي لي جونز + صامويل جاكسون…هذه الأسماء الثلاثة وحدها ستثير فضولنا بشأن كل ما يتعلق بها ، ولكن إذا كنت تتوقع حكاية غربية أو قوطية قاتمة ، فستكون مفاجأة بعض الشيء ، يستند فيلم “The Sunset Limited” على حكاية لمكارثي وغروره بسيطة للغاية، ومعقدة للغاية، رجلان في حجرة صغيرة، يتحدثان عن كل الأشياء الحياتية، مثل الدين والموت وما إذا كانت الطبيعة البشرية مقنعة للمعاناة أو السعادة. 

وجهتي نظر مختلفتين تمامًا في مناقشة جذابة إلى حد ما ، حيث يتم وضع حدودهما الفكرية والفلسفية في نفس الوقت في مواجهة التحدي وتقويتهما بهدف ميؤوس منه للوصول إلى  نقطة مستحيلة للاتفاق الميتافيزيقي… فإن تعليق عدم التصديق فيما يتعلق بتصوير الإعدادات الواقعية والسلوك العقلاني وتقديم الحوار القابل للتصديق أمر لا غنى عنه تمامًا لتشريح المحتوى الغني (في معظم الأحيان) الذي يستحق التفكير والتأمل، لذلك ربما لم يكن هذا خارج غرفة القيادة العادية لمكارثي… حيث يبدأ الحدث بشيء لا نراه على الشاشة: الأسود (صامويل جاكسون ؛ نعم ، يُشار إلى الشخصيات بالألوان فقط) استطاع سحب الأبيض (تومي لي جونز) من رمي نفسه أمام مسار قطار الأنفاق السريع…  لينتهي بهم الأمر في حجرة بلاك بعد لحظات من الحدث ، ومن ثم تبدأ محادثتهم التي ستتحول من موضوع ثقيل إلى موضوع ثقيل بالطريقة التي نادرًا ما تحدثها المحادثات بين شخصين غريبين.

في البداية ، كان الرجل الأبيض سريع الانفعال بشكل ملحوظ ومربك قليلاً وليس بدون سبب وجيه – لقد حاول فقط قتل نفسه.  يحاول الرجل الأسود في البداية من تهدئته قبل السماح له بالعودة إلى العالم حيث قد يحاول فعل الفعل مرة أخرى ويفعل كل ما في وسعه لإبقاء وايت في حجرته المتهالكة،  لكن بلاك لديه أيضًا دافع شرير،  إنه سجين سابق تم إصلاحه الآن وهو إنجيلي المذهب،  لدهشة وايت ، يكشف بلاك أنه اختار أن يعيش حيث يعيش لأنه يسمح له بمحاولة تحويل الناس إلى الله وبالطبع يتحول حديثهم إلى الكتاب المقدس… وهكذا تبدأ المناقشة حيث تنحرف الموضوعات من الدين إلى فراغ الثقافة الشعبية وكل أنواع الموضوعات الثقيلة  مع تقدم المحادثة ، لنعلم أن وايت هو أستاذ جامعي ، غير ودود ، وغير سعيد للغاية ، أدرك أن جميع مساعي حياته لا معنى لها تمامًا .

“تومي لي جونز” هو واحد من ملايين الرجال على هذه الأرض التي يحكمها الشيطان بسلوكيات عدمية نيتشوية ومدمرة للذات تنذر بالخطر والتي تحولت أخيرًا إلى أفعال كادت تدفعه إلى الانتحار… إنه لا يؤمن بالله ، علاوة على ذلك ، لا يؤمن بأن البشرية قادرة على السعادة الحقيقية، فهو حائر في الظلمة القادمة من العدم، ومؤمن بأنّ القيم والمبادئ والأخلاق ماتت، وكلّ شيء يموت ويفنى، فليس هنالك وجود لله، رغم ثقافته الكبيرة، التي تجاوزت أربعة آلاف كتابٍ كان قد قرأها في حياته ولم يجد فيها أيّ جواب لما يحدث من حوله في العالم، هو مقتنع، تماماً، بأنّ الموت هو الحلّ الوحيد للبشريّة، فكانت  محاولة الانتحار…ملخص القصة غير معقد لتلخيصه ،تمت مرافقة وايت إلى حجرة بلاك ، وبعد أن يستقر الاثنان في محادثة  لتأسيس الأيديولوجيات التي تحملها هذه الشخصيات،  الأسود هو مسيحي زائف تستند معتقداته بشكل أساسي إلى مفاهيمه المسبقة عن الحياة والإيمان والموت والوجود والإرادة الحرة وإرادة الله ، مستوحى قليلاً من الكتاب المقدس ، وهو كتاب لا يمثل بوضوح  أولوية في حياته حتى لو ادعى خلاف ذلك.

والأبيض هو الرجل الذي قاده تفكيره المنطقي ونظرته الشريرة للعالم إلى اكتئاب عميق ويأس… أحدهما رجل وعامل من الطبقة الدنيا ، والآخر مدرس في إحدى الجامعات،  تعبر هاتان الشخصيتان عن حياتهما الحقيقية بشكل تدريجي للغاية على مدار حديثهما الممتع… معركة بين الإيمان وعدم الإيمان ، بين الله والعدمية.  إن كونه نقاشًا مليئًا بالكلمات لا يتوقف في بعض الأحيان يكون ثقيلًا وأحيانًا مضطربًا يختمه فورًا باعتباره مسرحية لرجلين عالية الجاذبية أكثر من كونها فيلمًا دراميًا.  ومحاولات جلب العرق والطبقة والتأمل في أهمية الجهل باعتباره نعمة ومساعٍ ثقافية فكرية كمسار نهائي لإجابة مظلمة – الحياة بلا معنى – تميل إلى التعثر في هذا المزيج كتب كورماك مكارثي نصه (استنادًا إلى مسرحيته التي تحمل الاسم نفسه) بصراحة عميقة وشغف مؤثر بعمق… الحجج التي يقدمها من خلال نصه ، من كلا الجانبين ، حماسية ومبررة، إن إيمان “وايت” بعدم وجود دين ووجهة نظره إلى هذا العالم “المنكوب” يفتح العين على أقل تقدير.  إن تفاني “بلاك”  وحبه للكتاب المقدس هو ،  مجرد نفاق عندما يتم تذكيره بماضيه العدواني ، يمكن فهمه وتصديقه،  دائمًا الأسود هو كيان حنون ورحيم ، بينما الأبيض رجل رافض ومرهق.  الشخصيتان هما تعريف “مختلف” ، ومع ذلك هناك جو من الاحترام والتقديس في الحجرة.  لقد كتب مكارثي الحجج العدوانية السلبية ببراعة ، وتتدفق بشكل طبيعي من أفواه هذين المؤديين المتميزين.  يتصدر كل منهما  قمة أدوارهما هنا ، حيث يقدمان أداءً رائعًا ويوفران لحظات قوية حقًا حيث يعبران بقوة وحماس عن حوارهما وخطاباتهما… البيئة الصارمة ملموسة في جميع أنحاء الفيلم،  يتفهم المخرج تومي لي جونز وينجز أهم مطلبين تتطلبهما وظيفة المخرج هنا، الأولى  ألا يكون مبهرجًا أو تجريبيًا، يضمن النهج الأساسي لوظيفة المخرج،  وأن يكون الفيلم في طليعة الشخصيات والحوار والعروض… والثانية للحفاظ على البيئة موجودة في المحيط المقصود للعمل… أنت تعلم دائمًا أن هذه الحجرة الصغيرة والمناطق المحيطة الخطرة موجودة حتى عندما يكون اهتمام روحك على المحادثة الجذابة التي تجري.  إنها وظيفة أساسية رائعة من جونز ، الذي يظهر مهارة كبيرة كمخرج ، فهو يهدف إلى إضفاء الإثارة على الأشياء من خلال زوايا ولقطات مختلفة ، واستخدام حركات الكاميرا غير التقليدية .

هناك ظلال من بيكيت  في العدمية التي تركز على الذكورية والتقشف في هذا السيناريو الكئيب ، الذي تم وضعه على ما يبدو في تلك الحجرة  المتهدمة في نيويورك مباشرة بعد أن منع  الأسود الأبيض من القفز  أمام  قطار مترو الأنفاق.   لتبدأ  محادثة في نوع من غرفة الانتظار المطهرة… من خلال نص مكارثي الغامض، هناك مسافة إكلينيكية في عمل مكارثي تمنعه ​​من اكتساب القوة على الإطلاق.  النص مليء بالمُثُل الموضوعية ذات الثقل ، بحيث لا نهتم حقًا بالأبيض أو الأسود ، ولا نستثمر في أي من جانبي النقاش ، وخلال الحوار لا تستطيع التزام جانب الحياد مطلقًا، فأنت طرف ثالث رغمًا عنك، والتحديد هنا مهم، لأنه يشعرك بأنك طرف فعلًا في الحوار، فليس هناك مشاهد متعددة ولا شخوصًا كثيرين لا تعرف عددهم ولا تعرف إن كان هناك المزيد ولا أماكن مختلفة، فالمكان واحد وليس فيه سوى شخصين وأنت ثالثهما… ومن هنا تظهر قدرة مكارثي أيضاً في نجاحه في تقديم وعرض الرؤيتين من جانبي بلاك ووايت، بدون أن يشعرك بتحيزه أو تبنيه لأي منهاغ{، فالهدف هو إتاحة مساحة فكرية للمشاهد الذي يعد الطرف الثالث في المناقشة دون أن يتكلم، ليحكم بنفسه على ما يريد، ويفكر فيما يريد في رؤية وأفكار الشخصيتين الرئيسيتين، أو بالأحرى الوحيدتين في هذه الرواية العميقة ذات الحوار المفعم… مما يجعلنا حتى لا  نهتم حقًا أو نشعر بالقلق بشأن ما إذا كان وايت سيتخلص من حياته  أم لا… ولكن بناءً على القوة البسيطة لموهبة مكارثي في ​​الحوار (السمة المميزة لرواياته التي تحظى بتقدير كبير) ، يتحرك “The Sunset Limited” في مقطع جميل ومثير للدهشة،  وكأنه محادثة بين شخصين ، لكنه نقاش فلسفي حول المعنى ، إن وجد… إنها قطعة من الكتابة شديدة المرونة وتتطلب هضمًا دقيقًا .

لأنه لم  يكن واضحًا لكتابة روايته  بهذه الطريقة ، مما يعني أنه حتى بعد أكثر من ساعة  فإن الجدال غير المكتمل بين الأبيض والأسود يبدو غير حاسم وغير مُرضٍ،”  كلانا يحاول الوصول إلى المطلق ولا أحدٌ يستطيع إدراكه”…ومثل العديد من روايات مكارثي ، ينتهي الأمر بهدنة شعرية ، تأملية ، ووجودية، كما في فيلميه  “No Country for Old Men” و “The Road“…. يحمل مكارثي وجهات نظر الأسود والأبيض المتعارضة أمام تدقيق قوي ، ويرمي الكرة الوجودية بينهما،  ببراعة مع ديناميكيات القوة في الموقف.    كل هذا الإفراط والسرد الحواري القائم على الفلسفات الإنسانية والتي يحاول المخرج بها  أن يضيء عتمات العقول اليابسة،ولأن هذا الصراع لم يكن عبثا ً لا يحاول المخرج أن يختزل مفهوم الفيلم بأسلوب المكاشفة أو بأسلوب مباشر بل يجعلنا كمشاهدين في نهاية الفيلم أن نستشعر هذا الصراع الفكري وأن نكون مثلهم تماما تائهين وحائرين في محاولة الخروج من دائرة النمطية التي نعيشها…يشير غلاف الفيلم إلى أنه “لا يوجد شيء أسود أو أبيض على الإطلاق” ، تصريح من الواضح أنه لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الحقيقة ، لأنه حتى لو كان العالم مكونًا من عدد لا حصر له من درجات اللون الرمادي في عدد كبير جدًا من الموضوعات البشرية ،  إن مصطلحات “الخير” و “الشر” بالنسبة إلى الله مطلقة بالتأكيد ، وطالما أن البشر يرفضون رؤية ذلك ، فإن حياتهم لن تكون منطقية أبدًا ، ولا حتى بالنسبة للأشخاص الدينيين المنافقين … ومع ذلك  فليكن كل منا حذرًا: ما لدينا هنا هو رجلان (جونز وصمويل جاكسون) في حجرة صغيرة يتجادلان لمدة  حول وجود الله ، وهو موضوع شائك، ومناقشة تحدث بين كثير منا (مؤمنون وغير مؤمنين) يفعلون ما نفعله، فهي مناقشة  يمكن تجنبها. ولكن هؤلاء العمالقة أصحاب الملامح الصاخبة الهادئة استنفدوا كل أشكال التصوير التعبيري ليقنعونا بأدائهم المتقن بدرجة عالية ,ويأسرونا بوجوههم التي رسمت لنا ملامح الفكرة ليسقطوا عنا عشوائية العيش بمفهوم تقليدي, وكأنهم يقولون لنا “عيشوا حياتكم بقدر اقتناعكم”.

هذا الفيلم هو تمرين قوي في الحوار والشخصيات مما يجعله تجربة عميقة وممتعة، بمجرد أن توالت الاعتمادات ، اهتزت إلى حد ما مع الأفكار والحجج التي أثيرت في الفيلم… يعبر الممثلون عنهم بشكل رائع وحماسي لدرجة أنك لا تستطيع إلا أن تشعر بالذهول قليلاً عندما ينتهي كل شيء،  كما تلخص الموسيقى العميقة التي وضعها “ماركو بلترامي” بشكل لا يصدق هذه التجربة الحارقة تمامًا… إنه فيلم لديه القدرة على تغيير عقليات الناس ، حتى ولو قليلاً ، بسبب صدقه البائس. 

(شريف الوكيل)

                ******************

ميريت آمـــــــــــــــــون. قصة: طلعت رضوان

تنبيه هام

نلفت نظر السادة قراء الموقع: إن النص التالي مكتوب بالعامية المصرية لمناسبة موضوعه من ناحية، ولموقف ثقافي لكاتبه من ناحية أخرى، يتلخص في اعتزازه بمصريته ولغته المصرية. وسوف نلاحظ أن بعض الكللمات مكتوبة وفق نطفها ومقامها الصوتي خلافا لقواعد الإملاء العربي، مثال ذلك تكتب ( طه ) هكذا: طاها.. أو يا ترى، تكتب هكذا يا ترا. أو تكتب كلمة ( يضحك) هكذا يدحك.

ننشر هذا على مسئولية الكاتب واحتراما لحرية التعبير.

إهداء: إلى روح الطفلة شيماء وروح الطفلة مير

استمر في القراءة ميريت آمـــــــــــــــــون. قصة: طلعت رضوان

تناسخ. قصة : سهى زكي

                                                          

لا تتضرر كثيرا ” نادية” من شرائها لبعض ملابسها من سوق الملابس المستعملة التي يكتظ بها ” حى الوكالة ” العريق بمنطقة بولاق ابو العلا ، حيث اعتادت دائما الذهاب كلما ضاق بها الحال للشراء من تلك الملابس التي تم غسلها وكيها ورصها بشكل عشوائى ملصق فوقها سعر رخيص ومغر ، وعندما تنتهى من جولتها تدلف الى مطعم ” زكى السماك ” لتأكل سمك فهى لن تقوى على تحضير الطعام بعد هذا اللف والدوران فى دهاليز الوكالة ، ولكن هذه المرة حدث شىء مدهش وجديد لم تعتاده “نادية” فقد عرض عليها احد المحال التي تقوم بتصفية بضاعتها حيث اقتربت منه معاول الهدد التي تقوم بهدم البنايات القديمة لإعادة إحياء المنطقة لتصبح سياسية متناغمة مع النيل التي تقطن على ضفافه ، عرض عليها البائع إن تشترى “دولاب قديم ” كان قد حصل عليه عندما وضع يده على الشقة الأرضية الذي فتحها كمحل على الشارع ، وكان يضع فيها بضاعته ، لفت نظر “نجوى” أن هناك اسما مكتوبا على قطعة معدنية ملتصقة على رأس الدولاب الذي يبدو عاديا لكن نقوشه الصغيرة المتقنة توضح انه لصانع ماهر رغم بساطة شكله ، الاسم المكتوب هو “نادية” اسمها هى ، صدفة غريبة حدثت نفسها بهذه الجملة ، وسألته :

استمر في القراءة تناسخ. قصة : سهى زكي

هو .. وهي. قصص قصيرة جدا: ناهد الطحان

أ

أغلقت قصة حياة مكسيم جوركي الي أن وصلت الشظية الي الرئتين بدلا من القلب وتكتب له حياة جديدة ، ذلك القلب الذي أجرت له دعامة منذ شهور بعد أن أصابتها وعكة صحية حادة.

 صفعها زوجها صفعة ثقيلة علي وجهها ، فكانت نهبا للجلد علي ظهرها ، هكذا ترك لها ارثا لا نهاية له ، كان عليها أن تحتمل أو تفارق كل أنواع الترهيب أن تهجر أو تبيع كل ما تملك كي تستطيع الاكتمال في ليالي القمر الوئيدة .

ب

بوجوده تعلمت كل شيء إلا أن تحتفظ بكونها أنثي وسط قطيع من الذكور هههههه ، بالأمس كانت تتأرجح في أحد الأحلام علي أرجوحة تقع ما بين الجنة والنار ، اختارت من الجنة أغلي الثمار وأجودها ، كما اختارت ان تتربع علي عرش النار بدلا من أن تصبح في قاع الجنة ، وعندما أرادت أن تهجر منعها بالقوة الجبرية حتي  تبقي ذليلة أحلام لا تنتهي .

ت

تعلمت وازدهرت حتي أصبحت من كبار المعلمين ، وعندما أرادت أن تكف كان عليها أن تنفق انفاقا لا مثيل له كي تبقي أسطورة في أعين الآخرين ، وجدتها ذات يوم علي الجدران وعلي شاشات التلفاز كانت قوية تنظر في فتور لكل من تراه ، دون خوف أو رهبة ، لكنهما عندما افترقا ، عرفت معني الأحزان ، كانت قوية به في بعض الأحيان ولم تكن تدرك ذلك علي الإطلاق .

محمد ناصف …(ملف خاص ) إعداد: سيد الوكيل

محمد عبد الحافظ ناصف قاص وكاتب مسرحى وكاتب اطفال و سيناريست و مترجم

مقدمة لابد منها

بقلم / سيد الوكيل

إذا كانت القصة القصيرة تتميز عن الرواية في شيء، فهو قدرتها على المناورة بين تقنيات عديدة، فكل قصة هي فضاء متفرد في بناءه ولغته وكل مقاصده الأدبية. لهذا فإني أفضل استخدام تعبير الفضاء القصصي كمصطلح مقابل للبناء الروائي. إذ يبدو الأمر بالنسبة لي كمقارنة بين قصيدة نثر، وأخرى عمودية.

ولقد انتشر هذا الوعي بالمراوغات التقنية بين أبناء جيل الثمانينات الذي ينتمي إليه محمد عبد الحافظ ناصف، وهو الجيل الذي  اهتم بالبحث عن مخرج من مأزق أنماط الواقعية الذي كرست له الأيديولوجيات السياسية طوال الفترة من الأربعينيات إلى الستينيات كنتيجة طبيعية للظروف السياسية التي رافقت حركات التحر من الحقبة الكولونيالية ، وكادت تفضي إلى انخفاض فعالية الأدب العربي، لولا مراوغات فردبة كتلك التي نراها عند إدريس ومحفوظ وحقي وآخرين.. 

 كان محمد عبد الحافظ ناصف، واحد من هذا الجيل الذي وقع بين شقى رحى أدلجة السلف وقضاياهم الكبرى والسياسية من ناحية، ومن الناحية الأخرى، الانفتاح الذي رافق التسعينيات، بحثا عن طرائق جديد للسرد المستورد الجاهز، كعبور النوع، والواقعية السحرية، والنسوية. فبعد انحسار اتجاه الواقعية برافديه الاجتماعي والاشتراكي، حدث ما يشبه الانفتاح المفضي لتيارات صغرى ومتعددة.

لقد حمل جيل  الثمانينات على عاتقه مهمة البحث عن هويته السردية المنبثقة من التجربة الإنسانية لحيوات المصريين. لكن الاستيراد بدا أنه الطريق الأسهل، الذي دعمته المؤسسات الثقافية وحشدت له الجوائز والترجمات. 

ولعل هذا الفهم لتلك المرحلة الجديرة بالنظر والتأمل. لم تضع أوزارها على الأدب فحسب، بل على كل الفنون بما في ذلك المسرح والسينما اللذين انتهيا إلى اضمحلال واضح، بعد أن همشت محاولات السينمائيين في الثمانينيات.  وظني أن هذا امتد إلى كل مفردات الواقع المصري، في التعليم والاقتصاد وكل شيء.. لتدخل مقتنياتنا وملابسنا وطعامنا في نمط عالمي فرضته العولمة، بشركاتها عابرة القارات.  هكذاكان البحث عن هوية سردية للكاتب هما أوليا، ولم يكن في الحسبان تسونامي الكتابة الذي رافق الألفية الثالثة مع اتساع رقعة النشر وإمكانيات التحقق الافتراضي على الإنترنت.

لكن شيئا آخر ساعد محمد عبد الحافظ ناصف على تحقيق ذاته الساردة، وهو انفتاحه على العديد من الفنون الأدبية ، ولا سيما المسرح. . فالمسرح على وجه التحديد هو أكثر الفنون الداعية إلى التجريب،  وهو مصدر ملهم بالبحث عن تشكلات مغايرة لبنائه الضيق بحكم الخشبة ( الاستيدج) وحركة الشخصيات في المكان والزمان، والتزامها بالأسلوب الحواري.

وما نعنيه، أن ارتحالات محمد عبد الحافظ ناصف بين المسرح والقصة والرواية وأدب الأطفال، بل والنقد والترجمة، ضمن له تفاعلا مميزا بينها، وأفضى به إلى فضاء تقني متعدد على نحو ما سوف نرى هنا، من قصص قصيرة جدا، وأخرى طويلة ومتكنزة. 

********* 

23348955

استمر في القراءة محمد ناصف …(ملف خاص ) إعداد: سيد الوكيل

الرحلة مغامرة داخل الروح. د. طارق الطيب

 شهادة الروائي طارق الطيب ضمن فاعليات مؤتمر أدب الرحلةـ باتحاد كتاب مصر 2019 عن أهمية التفاعل الثقافي والمعرفي للمبدع المعاصر  عبر تجربته الشخصية التي تميزت بالترحال بين الأمكنة، والشغف بكل ما هو جديد ومختلف.

 

يقول النمساويون بالألمانية: (القراءة مغامرة داخل العقل).

ربما أستعير الجملة وأقول: (الرحلة مغامرة داخل الروح).

 

لم يكن أبدًا تعدد رحلاتي -خلال ما يزيد عن ربع قرن وأنا في النمسا- هو ما يشغلني أو ما يفرحني؛ بقدر ما كان تنوع الرحلات الباذخ والمغامر، بتلك الدهشة التي غمرت روحي في أمكنة نادرة عشت فيها ولو لأيام في هذا العالم الرحب، ولم أكن أظن قبل ذلك أن أقل القليل منها يمكن أن يحدث لي أو معي.

كانت أمنيتي القديمة حين كنت شابًّا مراهقًا هي السفر والارتحال حرًّا حول العالم، مثل كل شاب يشاهد فتنة العالم تداعب خيالاته في السينما والتليفزيون، ويستمع في الراديو لأغنيات أجنبية في فترة السبعينيات المجنونة لجيمس براون وفرانك سيناترا وديميس روسوس وماري ماتيو وغيرهم، تقدم له تفردًا في الاستماع وريادة تختلف عن أعراف السلف، وأن يرى الشاب منا عوالم ملونة من خلال صور المجلات المثيرة، ويقرأ عنها في روايات وقصص، وأخيرًا والأهم، يستمع لها من شهود عيان جربوا السفر وأتقنوا لَوْك الحكايات عن الأسفار وغرائبها،مع إضافتهم لبعض بهارات الكذب اللذيذ عن تلك الحرية الغربية التي بلا حدود.

صديقنا الأول “عادل” جاب العالم بالفعل، بحكم عمله كتقني على باخرة تنتقل حول موانئ العالم شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوباً. التحق بعد الثانوية العامة-التي لم يؤهله مجموعها للدخول للجامعة- بتلك الشركة الملاحية الأجنبية؛ فكان كلما التقينا به غمرناه بسيل من الأسئلة، لا نكاد نرمش في ردوده حتى لا تفلت منا إيماءة منهأو غمزة ذات مغزى،فكيف نقاطع وهو يتحدث عن تلك الفراديس الصاخبة النائية التي نتوق إليها جميعًا!

كنت مهتما بأسئلة ربما كانت غريبة ومملة وسخيفة عن شكل الموانئ والناس والبيوت والحقول وعن الطعام والشراب وعن اللغات والعادات والتقاليد وعن المخاطر التي تعرّض لها. أقراني كان تركيزهم على سيرة البنات والنساء وكيف كان طريقه إليهن بدون لغة. لم أكن بعيدًا أيضًا عن الإنصات لسيرة البنات، فأسئلتي بالتأكيد عن هذه السيرة الناعمة كانت تالية، لولا أسئلتهم الكافية الوافية.

* * *

مرت الأيام وأنهيت دراستي بكلية التجارة بجامعة عين شمس في العام 1981 وقُبِلتُ لدراسة الماجستير في قسم إدارة الأعمال، لتحدث الكارثة التي منعتني من الدخول للامتحانات النهائية قبل دفع المصروفات الباهظة كطالب أجنبي لأنني من أصول سودانية، هكذا تغيّرت القوانين واللوائح الجامعية مع وصول مبارك إلى الحكم، وهذا موضوع طويل له حكايات أخرى، لكنه كان السبب في إشعال فتيل الرحلة الأولى.

رحلتي الأولى كانت للدولة الوحيدة التي كان السفر مسموحًا إليها آنذاك دون فيزا أو كفيل: إلى العراق. في الحادي عشر من نوفمبر 1982 اتخذت طريقي نحو مطار القاهرة تجاه الكويت. لم يكن هناك طيران يهبط مباشرة في مطار العراق في تلك الفترة، فترة الحرب العراقية الإيرانية، فكانت تذكرة سفري أن أهبط في مطار الكويت ثم أستكمل طريقًا بريًّا نحو العراق.

من الكويت بدأت أول خطوات الرحلة، وإن كانت سلطات الكويت قد رفضت أن تطأ أقدام هؤلاء المسافرين للعراق على أرضها.

نزلت في مطار الكويت وسط معاملات متوترة نزقة مثل كل المعاملات المتوترة النزقة في المطارات العربية، فخرجت من الطائرة إلى سيارة ميني باص، ستنقلني عبر حدود “سفوان” أو “صفوان”- قاطعًا طول العراق من أقصى حدود الجنوب حتى أربيل؛ تلك المدينة التي خلقت أول تجربة عجائبية خطرة وعجيبة، شيقة في الحكاية عنها بعد النجاة من محاولات قتل ثأري للكرامة الكردية، وهو حديث طويل لا مجال له هنا الآن.

في ذاك اليوم سمح لي سائق السيارة أن أجلس وحدي إلى جواره باعتباره مكانًا مميزًا، عرفت فيما بعد أنني أصبحت مسئولاً صغيرًا له في ملء أوراق الدخول والمرور وحمل جوازات سفر كل هؤلاء القابعين في الخلف من عمال “التراحيل” الأشـقياء في أرض الله. كنت أنا الخـريج الحديث من الجامعة الذي لم يجد له عملاً مناسـبًا في أرض المولد (القاهرة) والذي يحاول أن يعبُر حدود اليأس عَـبْرَ أملٍ بعملٍ خارج حدود أخرى.

السائق مغلوب على أمره، تلقى أوامر صارمة بعدم إنزال أي فرد من تلك الشاحنة داخل الأراضي الكويتية المقدسة، لكن حظنا على كل حال أفضل بمراحل من أموات غسان كنفاني في (رجال في الشمس). يُجلسني بجواره في الأمام ويضع في حجري كل جوازات سفر مَن هم خلفي، يبدون في أعمار مختلفة أنا أصغرهم أرتدى جاكيت شبه أنيق يجعلني بحكم قاهرة الأربعينيات (أفنديا) بلا طربوش. وجوههم منهوكة كليلة يكسوها إرهاق واغتراب وأسى والوجع ينحت ملامحهم. يقبعون خلفي كتماثيل عتيقة للمصـريين القدماء، هم بالتأكيد أحفاد أحفاد بناة الأهرامات الحقيقيين.

 

يقول لي السائق آمرا: “هذه الجوازات في عهدتك، ستتعامل أنت نيابةً عن الجميع مع ضباط الحدود!” لا أسأل من هم ضباط الحدود.

أهز رأسي موافقا على الوظيفة التشـريفية المؤقتة. أحصي الجوازات والأشخاص لأتأكد من العدد.يكمل السائق:

“ممنوع لأي فرد أن ينزل من السيارة أبدًا حتى نعبر حدود العراق!” يرتفع صوته ويميل برأسه لمن في الخلف محذرًا مع رفع سبابته، حتى تصل الأوامر لآخر مُجَنّد شبه ناعس في الخلف.

شعرت فعلاً أنني في سجن أوّل على أرض عربيةأولى. راكبًا هذا الميني باص الذي يسع لاثني عشـر شخصًا لينطلق بنا من الكويت ويدلقنا في أول أرض العراق، لكن لحسن حظنا لن يدلقنا بل سينقلنا إلى داخل العراق كلٌّ حسب محطة نزوله.

جلسنا في الميني باص داخل أرض الكويت كالمعتقلين. السائق سَـمْكَرَ علينا السيارة بالمفاتيح منعًا لنزولنا وتسرُّبنا في هذه البقعة من الأرض؛ فهي أرض عبور لا أرض بقاء بناء على التعليمات والتحذيرات. قبل الخروج يتوقف السائق ليملأ خزان وقوده بالبنزين للرحلة الطويلة. قبل أن ينزل يطلب مني منع هبوط أي شخص من السيارة. أتمرّد وأقول له أنني أريد أن أشتري طعامًا وشرابًا للطريق الطويل. لم يكن معي أي طعام أتناوله، يبدو أن من خلفي لديهم معلومات أفضل مني، فقد كان معهم زادهم. بعد تمرد قصير سمح لي بأن أنزل معه فاشتريت بعض البسكويت والماء وركبنا.

كموظف جوازات متنقل ٍقمت بمهمتي في حدود صفوان الكويتية ثم العراقية، وأنهيت معاملات وإجراءات الفيزا للجميع وسلمت كل صاحب جواز جوازه. أغلق السائق الميني باص وانطلقنا. كان الجو قبل الغروب، منيت نفسـي أن أري طريقًا تاريخيًا فاتنًا، وأن أرى طيفًا من هذه المدن الخيالية في طريقي الممتد نحو الشمال، لكن ملل الطريق ورتابته وإرهاقي الشديد جعلني أغفو ثم أنعس ثم أروح في ميتة صغرى.

صحوت لأسأل السائق أين نحن، قال إننا نعبر الآن كركوك. كنت أرى لُهبًا صاعدة في السماء من أكثر من مكان وأشم ورائحة غاز خانقة، وهي سبب استيقاظي، فقد ظننت أنني في البيت في القاهرة وقد تسرب الغاز من أنبوبة “البوتاجاز”.

حزنت أنني أضعتُ رؤية بغداد هارون الرشد ولو من بعيد،بالمرور عبر التاريخ الخفي داخل هذا الميني  باص اللعين.

يكمل الميني باص الطريق الطويل في الليل المعتم بمئات الكيلو مترات، أو حوالي 14 ساعة تقريبًا حتى إلى “أربيل”؛ محطتي الأخيرة.

* * *

أربيل رحلتي الأولى وأغرب الرحلات؛ رحلة تعرضت فيها للتهديد والقتل، وتركت مطعمي الكبير الضخم هناك بسبب غدر صديق،بل خيانة كادت تؤدي إلى موتي.

أعود قبل الموت بخطوة؛ أعود بعد أن شاهدت الموت يزحف كل ساعة إليَّ في أربيل في الأيام الأخيرة، بعد أن رأيت تلك الرصاصات الطائشة على حائط المسكن والمطعم، وبعد حضور متكرر لأولئك المسلحين الصامتين المنتظرين رد اعتبارهم وشرفهم لخطيئة ارْتُكِبَتْ لم أكن على علم بها. وهو حديث طويل كما ذكرت سابقا لا مجال له هنا الآن.

خرجت من العراق، من حدود “زاخو” في الغرب نحو تركيا بلا رجعة، أحمل معي مفتاح المطعم الكبير. إلى فندق رخيص قضيتُ فيه ليلتي في إسطنبول. في مصـر اكتشفت أن هناك من فتح حقيبتي في الفندق وأخذ كل الهدايا التي حملتها معي من العراق.

* * *

كانت هذه هي أول وأهم وأصعب رحلة قمت بها. لم تكن فاشلة فقط بل كانت خطرة وكادت تهلكني بالفعل، فكان القرار بالسفر إلى أوروبا، إلى أقصى مكان فيها إن أمكن.

بعد عدة مراسلات بيني وبين الجامعات، جاءتني موافقتان الأولى من ألمانيا والثانية من النمسا، فضلت النمسا لوجود أخي خالد بها.

جئت إلى النمسا متشجعًا برسالة أعلموني فيها أن الجامعات ستقبلني للدراسة فيها مجانًا باعتباري من دول العالم الثالث.

لكن صدمة اللغة الألمانية التي لم أكن أعرف منها كلمة واحدة، وصدمة المناخ في درجات حرارة تغوص بعيدًا تحت الصفر والفقر المالي الساحق؛ كانت بمثابة ثلاث ضربات تفلّ الحديد.

بدأت كتابة نصوص بالعربية معتبرًا إياها معينًا للحال، رغم كونها لسانًا لا أتكلم به مع أهل البلاد المتحدثين بالألمانية، وصوتًا لا يسعف مع أقل مشكلة تافهة. كنت أكتب نصوصي لنفسـي، لأبطن حالي بلُغتي ولم أفكر في أي نشـر على الإطلاق. كتبت العديد من القصص القصيرة التي صارت في مجموعة (الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء) دار الحضارة للنشر في القاهرة، وكثيرًا من الأشعار التي صارت في ديوان (تخليصات)، دار ميريت، والنص الذي صار رواية (مدن بلا نخيل) دار الجمل في كولونيا بألمانيا، وامتهنت أعمالاً متواضعة أهلكني طوال النهار، ولم يكن هناك أي مال لي لأقتني ما أريد سوى الطعام ودفع الإيجار الشهري وشراء زيت التدفئة.

بعت تذكرة عودتي لمصـر أو نصف التذكرة كما يقولون. آنذاك كان من الممكن أن تبيع تذكرة عودتك لشخص آخر بسهولة. ظننت في البداية أنني سأعود من النمسا للقاهرة بعد سنة أو سنتين على الأكثر، وأنني سأنهي دراستي -التي ظننتها ستكون يسيرة بعد تعلُّم اللغة الألمانية- في غضون ثلاثة أعوام على أقصى تقدير.

لكن هيهات! اللغة الألمانية لمواد مثل الدستور والإدارة العليا والقانون المدني والتجاري وعلم الاجتماع وعلم الفلسفة- لن يكون اجتيازها لا في ثلاثة ولا خمسة أعوام في جامعة هي أكبر جامعة للاقتصاد في أوروبا!

وكانت عودتي الأولى لمصـر بعد ثلاث سنوات ونصف من الإقامة في فيينا، استطعت خلالها تدبير تذكرة عودة وشراء بعض الهدايا البسيطة التي لم تُسرق هذه المرة.

ظللت لسنوات (بين) عالمين أو قارتين؛ في منطقة الترانزيت، متأكدًا من أنني عائد لا محالة إلى القاهرة، وأن الأمور ستكون أفضل، لكن الأمور مع السنوات كانت تستقيم في فيينا تدريجيا وتسوء فكرة العودة والبقاء في مصر.

* * *

بعد بضعة أعوام حصلت على جواز سفر نمساوي. هذا الجواز كان فتحًا على العالم دون أن أدري. اعتبرته في البداية حلا لموضوع الفيزا السنوية داخل النمسا ولم أكن أفكر في الآفاق التي فتحها. عانيت الأمرّين في السفر الأول إلى بودابست بجواز سفري السوداني، رغم المسافة التي لا تزيد عن ثلاث ساعات بالقطار. كان من الضروري تجهيز رزمة من الأوراق والشهادات والتأمينات والذهاب بها للقنصلية المجرية للحصول على فيزا للسفر إلى بودابست. وتكرر الأمر بصعوبات أكثر سخفًا في السفر إلى لندن.

ثم أنقذتني الكتابة وكانت طبيبي النفسي.

في  العام 2002 جاءتني أول دعوة لمهرجان أدبي في “ستروجا” في مقدونيا ولم أكن أعرف شيئا عن هذا المهرجان. كنت قد نشـرت كتابين باللغة الألمانية: ديوان شعر بالعربية والألمانية (حقيبة مملوءة بحمام وهديل) وروايتي الأولى (مدن بلا نخيل)، وقدمت عددًا من القراءات داخل فيينا وخارجها.

جربت أول رحلة خارج البلاد ودفعت لي وزارة الثقافة النمساوية تكلفة الطيران. تعرفت هناك على الكثير من شعراء وكتاب العالم، فالمهرجان هو أقدم مهرجان أوروبي.

الرحلة الأدبية الأولى عدت منها شخصا آخر، تواصل في منتهي الرقي والجمال ومجاملات ووعود بالدعوة إلى بلدان أخرى، صدق منها الكثير. وتبنتني النمسا كأديب نمساوي له كل حقوق الكتاب، بل أرسلتني مرات لتمثيلها في الخارج بمفردي: في ألمانيا وأيرلندا وأميركا وفي المكسيك وجنوب أفريقيا ومؤخرا في الجزائر. وزادت على ذلك بالمنح الأدبية الكبرى وبتعييني سفيرا أدبيا في عام 2008.

كانت ستروجا هي الفتح الكبير في العلاقات الأدبية الجميلة، والذي لم أتوقعه هو أن يدعونني في العام الذي تلاه ثم الذي بعده أيضًا، وتتكرر الدعوة عبر السنوات لتصل إلى خمس دعوات أدبية في مهرجان ستروجا وحده، وليصدروا لي في المرة الأخيرة كتابًا إلى اللغة المقدونية في سلسلة كتب القارات، لأمثل أفريقيا بهذا الكتاب.حفاد أحفاد من بنوا الأهرامات

* * *

ستأخذني الرحلة الطويلة في الحياة عبر ما يزيد عن الربع قرن، إلى بلاد لم أكن أحلم بها. لأزور ما يزيد عن خمس وأربعين دولة، ولو حسبت زياراتي العشـر لولايات الأمريكية لزادت عن ذلك، ولو حسبت المدن التي زرتها حول العالم لزادت عن ثلاثمائة مدينة.

معظم هذه الرحلات كانت لدعوات أدبية ومن عادتي أن أطيل رحلتي لثلاثة حتى خمسة أيام بعد الدعوة. أحيانًا أبقى من أجل صديقة أو صديق في هذه البلاد أو أكون وحدي لأتعرف على هذه الأمكنة بمفردي، بدون هيبة حركة الأدباء والتبجيلات التي تصحبنا في حركاتنا الجماعية لأي مكان. أعشق التعرف على طبيعة الناس والبلاد وطبيعتها وأحاول بنفسي أن أتفاعل بقدر استطاعتي وبقدر ما تسمح لي به اللغة، أو لا تسمح، فتتقدم لغة الإشارة وتحل الكثير من المعضلات.

عشت عبر الرحلات في عوالم ثرية رائعة خفاقة أفادتني كثيرًا في كل ما كتبت. أميركا على سبيل المثال لم تعد فقط أميركا القراءات والصور الهوليودية والسياسية، بل عالم شاسع تعرفت إليه عن قرب، فقد رأيت مثلا (الأميش بيبولAmish People ) في بنسلفانيا في أميركا، قبل عشرين عام تقريبًا ليظهروا في روايتي الأخيرة (وأطوف عاريًا) بشكل جلي، وتعرفت على شعراء سان فرانسيسكو الكبار في زيارتين رائعتين، وعشت بضعة شهور ضيفًا على “برنامج الكتابة العالمي، ثم عدت لأدرس هناك في برنامج “بين السطور”.

رأيت الثلوج والجليد للمرة الأولى في النمسا بسخاء وغزارة، رأيت البراكين النشطة وغير النشطة في كوستاريكا فحفرت صورها في وجداني ولها ملامح في كتاباتي ورأيت الغابات الرهيبة في أميركا الجنوبية، ورأيت الحيوانات المتوحشة والطيور الجارحة عن قرب بلا أقفاص في جنوب أفريقيا وشاهدت الفارق الشفاف الدائم الماثل حتى اليوم من آثار التفرقة العنصرية هناك، ورأيت جبال الألب وغيرها من الجبال والأنهار والبحار والمحيطات وكل هذه الطبيعة التي حفرت داخلي علاماتها للأبد، ومسحتُ عشرات المتاحف حول العالم،تعرفت على الكثير من العادات والتقاليد والأزياء والاعتقادات، وقبل كل ذلك تعرفت أكثر على الإنسان البسيط الطبيعي الأصيل ابن الأرض في أفريقيا وفي أميركا الجنوبية وأميركا الشمالية، وكذلك تعرفت على الإنسان المتأنق المتكبر المتسلط، تعرفت على الذي يعيش في أحراش والذي يعيش في قصور، ونمت في قصور ونمت أيضًا في العراء وجربت أطعمة الناس ومشروباتهم وعشت حياتهم.

 

عشت حيوات أخرى في جغرافيا أخرى وتاريخ آخر بفضل الرحلة.

أعرف دائما في نهاية مطاف كل رحلة أنني عائد إلى بيتي في فيينا يومًا ما، ومهما طالت الرحلة، فدائمًا ما أعود بأحمال كثيرة ثقيلة وخفيفة ونادرة، أحكي بعضها لمن يسأل ومن ينصت، وأكتب منها ما يستحق الكتابة ويتسرب منها في كتاباتي الكثير بلا وعي، لكني لا أنسى أبدًا لذة حديث أول صديق؛حكايات صديقنا “عادل”، الذي غامر وكانت مغامراته هي أول طريق الرحلة عبر الحكاية، وربما كانت هي الإرهاصة الأولى في تحفيزي على التجريب والسفر والرحلة.

 

طارق الطيب

فيينا، 25 نوفمبر 2019