أرشيف الأوسمة: سوريا

القصـــــــة السوريـــــّة في الحــــــــــرب. بقلم: فدوى العبود/ سوريا.. “سرد التفاصيل الصغيرة والمؤثرة.

تجدد الحرب رؤيتنا للوجود وتعيد تعريفنا للأشياء والعالم من حولنا -وفي هذا فقط ثمة شبه ولو كان ظالمــًا بينها وبين الفن-وإن لم تكن عملاً فنيـــــًّا لكن لا يمكن أن ننكر أنها تتقاطع معه.

تبدو القصة السورية التي صدرت في أعوام الحرب مشغولة بحضور الموت واقعيًا ورمزيـــًا-وهذا أمر طبيعي-لكن باستطاعتنا أن نلمس التنوع والغنى الذي عكسه الدمار والتشظي على فنيّاتها وعلى بنية السرد والمعالجة وإعادة اكتشاف الأشياء والقيم من حولنا.

 وهذه ليست موضوعنا هنا فالغرض أن نقدم رؤية شاملة للتوجهات والطرق التي سلكتها القصة في طرق معالجتها للحرب، والتي اصطبغت بهاجس التعبير عن فلسفة الضحية ما استدعى التجديد الفني والأسلوبي، فهي لا تلتزم بالشكل المتعارف عليه للحكاية بل تقدم نفسها بعد أن دمرت البنية التقليدية للقصة القصيرة.

وهي تنحو لأن تكون أقرب للأدب الشخصي وتميل لضمير المتكلم، وهو الضمير الأصدق في السرد والأكثر حرارة، تفرض ذلك طبيعتها التي تتجه للداخل ولسبر الندوب الداخلية التي تركتها الحرب، ومن خلال رؤية مجهرية تتوخى الإمساك بالتفاصيل الصغيرة.

وتمثل تجربة الكاتب السوري موسى عباس رحوم في مجموعته “العبور إلى مدينهذا السعي لالتقاط ما نخسره بين فكيّها، هذا الغياب أو الشيء المبتور الذي نتركه في أرض الوطن، فهذا الجزء المفقود يشكل نقطة جوهرية في أغلب قصصه.

ومع قصة من هذا النوع يكتشف القارئ أن الكتابة التي تبدأ مما هو محتجب وغائب أرفع أنواع الكتابة ويضاف له التكثيف والمجاز وتنوع الدلالة التي يحرص الكاتب على تضمينها في أغلب قصصه فتصبح الأخيرة وسيلة لاكتشاف الواقع القائم على التدليس والعنف، الارتياب والسخرية من البطولة، ازدواجية البشر، تعقد فيه القصة وعلى امتداد النص مقارنات تلخص السراب الذي يعيش فيه الإنسان في هذه البقعة من الأرض.

استمر في القراءة القصـــــــة السوريـــــّة في الحــــــــــرب. بقلم: فدوى العبود/ سوريا.. “سرد التفاصيل الصغيرة والمؤثرة.

حين يبصبح الكلام جناية. قصة: ريتا الحكيم/ سوريا

ر

أزاحَ الكرسيَّ الوحيدَ في غرفتهِ الباردةِ، وبدأ يُخربشُ على جُدرانِها خطوطًا عشوائيَّةً ومُنحنياتٍ لا نهايةَ لها، إلى أن كلَّت يمناهُ، وأصابَها الخدرُ؛ فما كان منهُ إلَّا أن قفزَ على رِجلٍ واحدةٍ، بسرعةٍ تخطَّت حدودَ المعقولِ، حتى أنَّهُ هو نفسهُ دُهشَ من نشاطهِ المُفاجئِ.


 كلَّ يومٍ يمارسُ هذه الطُّقوس التي تنهكهُ في نهايةِ المطافِ؛ فيرتمي على فراشٍ مهترئٍ في زاويةِ الغرفةِ، ليغطَّ في نومٍ عميقٍ حتى ساعةٍ متأخرةٍ من صباحِ اليومِ التَّالي.

استمر في القراءة حين يبصبح الكلام جناية. قصة: ريتا الحكيم/ سوريا

مُقتبسٌ عن..قصة: ريتا الحكيم/ سوريا

لملف أدب الحرب

∞ ∞

مدَّتْ “منى” يدَها إلى حقيبتِها وعيناها لا تفارقانِ الشَّاشةَ الكبيرةَ كي لا يفوتَها أي تفصيلٍ من الفيلم الذي تواظبُ على حضورهِ يوميًّا، والتقطتْ منها منديلًا لتمسحَ دموعًا حفرتْ على خدَّيْها أخاديدَ عميقةً.

يا لقُدرَتِها على تَحَمّلِ الألَمِ! قرأتْ عنِ فيلم (حياتي بدوني) على النِّت، وأثارَ العنوانُ فضولَها؛ فجعلتْ من مشاهدتهِ طقسًا مُقدَّسًا، تمارسُه يوميًّا

استمر في القراءة مُقتبسٌ عن..قصة: ريتا الحكيم/ سوريا

لا اخضرار في ربيعنا. قصة: ريتا الحكيم/ سوريا

ل

أكرهُ الأضواءَ المُبهرةَ، تلك التي تقتصُّ مني كلما غافلتني وانتصبت أمامي كتمثالٍ هُلاميٍّ لا تقوى يدايَ على لمسهِ، وتحسُّسِ تفاصيلهِ.

أكثر ما يزعجُني ذاك اللونُ الأخضرُ الذي يظهرُ لي بين حينٍ وآخرَ، مشيرًا إلى أنكَ أون لاين.

أتساءلُ بصمتٍ عن هذا التَّجاهلِ وأخترعُ له أسبابًا، لا أراها مُقنعةً لكنَّني أضعُها في أولوياتِ تفكيري لأبرِّرَ لنفسي جلوسيَ المستمرَ أمامَ هذه الشاشةِ التي استعبدَتني وما وجدتُ سبيلًا للفكاكِ من أسرِها، أصعبُ السُّجونِ تلكَ التي ليسَ لها جُدران.

استمر في القراءة لا اخضرار في ربيعنا. قصة: ريتا الحكيم/ سوريا

ترحلين عنك..قصةالأسبوع للكاتبة :روعة سنبل

“طرشششششط”

كنتِ قد انحنيتِ، لتسحبي سلسلة السّدادة التي تغلق بالوعة حوض الاستحمام، حين سمعتِ الصّوت، صوت شيء وقع في الماء الدّافئ الّذي تعلوه رغوة كثيفة، مسحِت بكفّكِ الرّذاذ الذي تطاير على وجهك، وسحبتِ السّلسلة، ومع أنّه من غير المنطقيّ سقوط شيء من الأعلى، فقد نظرتِ بشكل لا إراديّ نحو السّقف مستطلعةً، كانت يدكِ اليمنى تجوس خلال الماء، تبحث بترقّب وفضول، بينما يسراكِ فوق ركبتك بقليل، مفرودة الأصابع، يرتكزعليها – ليحفظ توازنه- جسدُك المنحني المغطّى بالرّغوة البيضاء.

حين بدأ مستوى الماء في الحوض ينحسر، أخذ ينحسر معه استرخاؤك اللّذيذ المعطّر بالخزامى، الّذي أعقب استلقاءكِ عشرين دقيقة، في مزيج من الأملاح والزّيوت وسائل الاستحمام، انحسر ليحلّ محلّه سخط طفيف.

استمر في القراءة ترحلين عنك..قصةالأسبوع للكاتبة :روعة سنبل

رانيــة


قصة:

 هبة شريقي (سوريا)

تعلّمتُ الكلام باكراً، هكذا تقول أمّي، وابنةُ خالي (رانية) التي تكبرني بعشرة سنوات تشهَدُ على ذلك، كانت طفلةً بقوامِ أنثى شهيّ وعاطفة بالغة وشهيّة أيضاً، وكنتُ لعبتَها (أمّ لسان) كما كانَتْ تناديني وتضحكُ بعدها.
كان عمري ثلاث سنين عندما سألني البقّال مُلاطِفاً:
– ما اسمك يا عمّو؟
فأجبتُه بعد ثوانٍ من التّفكير:
– رانية.
– اسم جميل مثلك! وكم عمرك؟
وبسرعة أجبت:
– تلَطّعش
ضحك البقّال كثيراً وحمَلني وقبّلني على وجنتَيّ وهو يقول: “صبيّة ما شاء الله!” .
ثمّ أنزلني من حضنِه وقال:
– إن أخبَرْتِني ما هو حلمك عندما تكبرين، سأعطيك هذا. (وأشار إلى كيس بطاطا مقرمشة ولذيذة )
وبينما كنت أمسحُ آثار قبلاتِه بطرَف كُمِّ سترتي، وقفتُ أفكّر في جوابٍ للسّؤال الذي لم أفَهمْهُ، ثمَّ هرعْتُ إلى رانية أسألها:
– رانية! رانية! ما هو حلمي؟
ضحكَتْ كثيراً وحملَتْني وقبّلَتْني على وجنتَيّ وهي تقول: “أمّ لسان! ألَا تعرفين ما هو حلمك!”.
ثمَّ أنزلَتْني من حضنِها، جلسَتْ أمامي وبدأتْ تشرح لي معنى هذه الكلمة اللّامعة، ودون أن أمسح آثار قبلاتِها، جلسْتُ أراقب شفتيها الممتلئتَين والورديّتَين.
أعطتْني بعض أمثلة، قالتْ:
– مثلاً، حلمي أن أنجِبَ ابنةً مثلك، حلمي أن أصبح مغنِّية مثل (نجاة الصّغيرة)، حلمي أن أسافر إلى باريس مع حبيبي، حلمي أن..
قاطعتها:
– لماذا لا تُنجِبين ابنة مثلي؟
– لأنني لست متزوّجة، ثمّ إنه لن يكون هناك أحد مثلك في العالَم.
– ولماذا لا تُصبِحين مغنِّية؟
– لأنّ خالَكِ لن يسمح لي.
بتَملمُلٍ:
– لماذا لا تسافِرينَ إلى باريس مع حبيبك؟
– لأنّه لا يملك النّقود الكافية.
ثمّ حملَتْني في حضنها وقالت:
– والآن! ما هو حلمك يا أمّ لسان؟
وبسرعة أجبتها:
– حلمي أن أصبح جميلة مثلك.

استمر في القراءة رانيــة

قراءة في كتاب ( لا أحد ) لمحمد آيت علو. بقلم: بسمة العوام

          “كأن لا أحد …!” ، عنوان مدوّ صاخب ، يأخذك في عالم الخيال، التناقض، الحلم والواقع المرغوب وغير المرغوب، ضجيج داخلي يوهم صاحبه بشيء ما هناك … أو أحد ما بقربه…والواقع يقول لا … لاأحد .

كالبحر…تنظرإليه، تراه واسعا كبيرا؛ وكلّما تعمّقت فيه، وجدته أكبر وأوسع … حكاياته أكثر من رمال شواطئه، ومع ذلك لاأحد فيه يحسّ بوجودك … وحدك وصراخ الذكريات، وصمت قاتل وسكون وسط الزحام، فأيّ بحر غاص فيه كاتبنا ؟، وأيّة حكايات لفظتها سطوره ؟، ومن هو هذا “الأحد” الذي نام بين الفواصل والنقاط؟، ولم يخرج إلى السطح لنراه؟، بقي هناك يجول في عالم بلا حدود، حرفاً أثقل كاهله تمرد المعنى وبدايات ضاعت فيها كل النهايات….

استمر في القراءة قراءة في كتاب ( لا أحد ) لمحمد آيت علو. بقلم: بسمة العوام

عن امرأة تبكي ..قصة: روعة سنبل

محاولة أولى: امرأةٌ ترتبك

عبثا ً حاولت امرأةٌ طوال ليلة كاملة، أن تغلي قهوة لرجل أنيق، ببدلة وربطة عنق، مستعجِل كأرنب “آليس”.
بدتِ المهمّة شبه مستحيلة، فعلبة البنّ فارغة، والكيس الجديد محكَم الإغلاق، مقصّ المطبخ كان مختفياً، وكلّ السّكاكين مثلّمة، تجرّب تمزيق كيس البنّ بغيظ  بأسنانها ولا تفلح.
يراقبها الرّجل المستعجِل بابتسامة، فترتبك.

استمر في القراءة عن امرأة تبكي ..قصة: روعة سنبل

جدائل

قصة:روعة سنبل

جدل الشّعر يسلّي الحزن”.

همستْ لي المرأة الباهتة، المصابة بمتلازمة صنع الجدائل، حين صادفتُها أوّل مرّة في منزلي. ابتسمتْ وهي تجلس إلى جانبي على الأريكة تتابع معي مسلسلاً في التلفاز، ثم تركتْ مكانها بهدوء، ووقفتْ خلفي، قسمتْ شعري الحالك الطّويل إلى نصفين، صنعتْ ببطء جديلة نحيلة في كل جانب وهي تبكي .

***

استمر في القراءة جدائل

بحثا عن وجه أمي.. أو ما يشبه….عبير إسبر (سوريا)

لطالما فتشت عن وجه لأمي في الصور العتيقة، وجه لم أستطع تذكره، رسمه، تحديده! فقد غادرتني إلى مكان بعيد وأنا في الخامسة، ظل الفضول يحوطني مثل غيمة مخدرة، يحرض فيّ أفعال البحث والتقصي عنها، عن صورة لها، في الألبومات المخبأة برغبة والديي، رغبته بالتحكم بذكرياتنا، التحكم بآلامنا، والخوف من تجدد أحاسيس الفقد، ووجع الرحيل القسري..

استمر في القراءة بحثا عن وجه أمي.. أو ما يشبه….عبير إسبر (سوريا)

عن الإغواء الكاذب للمكان!…فدوي العبود / سوريا

لطالما سألت نفسي عن الإغواء الذي يشدني لشخصية “زوربا” لم يكن ذلك بسبب الإجماع الذي ينسى فيه المرء نفسه وينساق بروح الانبهار العموميّة؛ حيث يمكن فقدان السبب الذي لأجله نقع في غرام فكرة أو فيلم أو مكان أو حتى شخص. ولا بسبب علاقاته النسائية التي جعلت زميلي يحاول جاهداً أن يكونه، مختزلاً صورته كما فعل كثيرون إلى رقصةٍ أو مجرد مغوٍ.

استمر في القراءة عن الإغواء الكاذب للمكان!…فدوي العبود / سوريا

….هديةُ ليليت ….قصة: عصام حسن / سوريا

أسمعُ صوتَ دعساتٍ على الدَّرج.

إنّها ليليت.

أفتحُ الباب. فتغمرني موجةٌ من العطر، مع ابتسامة مشرقة كشمس الصباح.

– لقد أتيتِ، أقول، فاسحًا لها المجال كي تدخُل.

– أكان عندكَ شكّ في قدومي؟ تسألني، وهي تُعلّقُ جزدانَها على ظهر الكرسيّ القريب، ثم تقدّم إليّ كيسًا ورقيًّا سميكًا فيه عدّةُ ثقوب. أفتحُ الكيسَ بحذرٍ لأجدَ في داخله كومةً صغيرةً من الشّعر الأبيض، بعينين دائريتين، وذيلٍ صغير.

– ما هذا؟ قطّة؟!

– قُلْ مرحبًا لباستيت.   

– مرحبًا باستيت، قلتُ بطريقة آليّة.

– إنّها هديّتي لكَ.

استمر في القراءة ….هديةُ ليليت ….قصة: عصام حسن / سوريا

نغم داؤد: زهر الأوهام

نغم داؤد – سوريا

في الماضي كنتُ أتذمّر كثيرًا من عملي اليوميّ في محلّ الزهور، من التاسعة صباحًا حتّى الثامنة مساءً، بفواصلَ قصيرةٍ لا تكفي إلّا لتناولِ الطعام في المنزل والعودةِ إلى العمل من جديد.

ولكنّني أصبحتُ أحبُّ كلَّ هذه المنغِّصات منذ أن قصدْتَ المحلَّ لأوّل مرّة الشّهرَ الماضي. قلبي يُخبرني بأنّكَ ستأتي اليوم أيضًا. أُسرعُ إلى مرآتي حالما أستيقظ. أرتدي ثوبي الليلكيّ. أصفّف شعري بعناية. لا تعجبني تسريحتُه. أجرّبُ تسريحةً أخرى. حتّى أستقرَّ على واحدة.

أنقِّلُ عينيَّ بين أركان حُجرتي التي تعمُّها الفوضى، مفتّشةً عن حقيبتي. ماذا لو وضعتَ لي رسالةً صغيرةً في الحقيبة من دون أن أنتبه؟ ولكنْ كيف لك أن تفعلَ ذلك وأنا أضعُها دائمًا قربَ الباب؟ حسنًا إذًا، لا ضيرَ في أن أضعَها اليومَ على الكرسيّ في الداخل، أو قربَ الورودِ الحمراء، أو خلفَ واجهةِ المحلّ.

تقعُ عينايَ على حقيبتي المستقرّة على الأريكة أمامي تمامًا. عجبًا كيفَ لم أنتبِه لها! أفتحُها، فلا أجدُ شيئًا جديدًا. أهمسُ لنفسي: “ربّما أجدُ اليومَ أو غدًا.” أحملُها و أمضي.

***

أبدأُ يومي – كالمعتاد – بشئٍ من الرّتابة. أرتّبُ المكان، ثم أرشُّ الورودَ بالماء، فيعبق الهواء برائحتها. يُشعرني مزيجُ العطور هذا بالرّغبةِ في الرّقص، ولكنّني أكتفي بوضع شريطٍ لإديث بياف في المسجِّلة. أسترخي على الكرسيّ.

مراقبةُ المارّة من خلف الزجاج أكبرُ مؤشِّرٍ على بلوغ أعلى درجات الملل. تُحزنني رؤيةُ العالم يتحرّكُ وأنا ساكنةٌ أفكّر في السنوات الأربع  التي هدرتُها من حياتي وأنا أتمُّ دراستي الجامعيّة وأفكّر في مدينتي التي لا يتجدّد فيها شيء إلّا المشكلات، خصوصًا البطالة.

عندما دخلتُ الجامعة كانت أحلامي تتراقص حولي. تعبتُ كثيرًا لأعيلَ أمّي وأختيَ الصّغرى. كنتُ أعدهما بأنّ أحوالنا ستتحسّن بعد أن أتخرّج. لم أكن أعلم أنّني سأكونُ ضحيّةً أخرى لكذبةٍ كبيرةٍ انساقَ خلفَها الكثيرون قبلي.

يدخل المحلَّ رجلٌ أربعينيّ. أساعده في إعداد باقةِ زهورٍ جميلة لزوجتِه في ذكرى زواجهما. يخرج، فتأخذني أفكاري نحوَكَ مرّةً أخرى: هل ستأتي اليومَ أيضًا عند السادسة؟ سأتعمّدُ البطءَ في إعداد الباقة بينما نتجاذبُ أطرافَ الحديث كما فعلنا يومَ الثلاثاء عندما سلّمتُكَ الباقةَ فقلتَ لي معتذرًا: “إنّها السادسة و النصف! يا لي من زبونٍ ثقيلٍ لا يكفّ عن الثرثرة.” ولكنّني لم أعرف بماذا أجيبك فبقيتُ صامتةً. تعمّدتَ المغادرةَ سريعًا في اليومين التّاليين رغمَ أنّني بدوتُ مهتمّةً بحديثِكَ وكنتُ كذلك فعلًا.

آملُ ألّا تغادرَ اليومَ قبلَ السادسة والنّصف ولكنَّ جلوسي في هذا المكان علّمني أن أقلّلَ احترامَ الوقت وأن أحترفَ إضاعتَه.

نصفُ ساعة أو خمسُ دقائق… هذا غيرُ مهمٍّ بالنّسبة إليّ. المهمّ أن تأتي!                                                             

***

إنّها السادسةُ إلّا ربعًا. أنهضُ من مكاني لأرشَّ الزُّهورَ بالماء من جديد، فتتجدّدُ رائحةُ العطر وتتغلغلُ في الهواء. أصبحَ صوتُ بياف مُضجِرًا بعد أن قضت كلَّ هذه السّاعات تغنّي. أسحبُ الشريط من المسجِّل، وأضع “فالس الربيع” لشوبّان.

أضعُ حقيبتي قرب الورود، وأراقب الساعةَ المدوّرةَ تتثاءب وتنقسمُ إلى نصفيْن متناظريْن. أنظر ناحيةَ الباب، لأجدَكَ تجتاز الشارع. يرتعش ظلُّكَ الملتصق بكَ على ضوءِ مصباح الليل، ثمّ تمتزجُ رائحةُ عطرِكَ برائحةِ المكان.

بدا عليكَ السّرور وأنا أخبرُكَ بأنّكَ الوحيد الذي نجح في تغييرِ رأيي في هذا الحيّ منذ أن انتقلتَ إليه، بعد أن كنتُ مقتنعةً بأنّ فكرة افتتاح محلّ الزّهور هنا هي أفشلُ فكرةٍ أتت بها صاحبةُ المحلّ. سررتُ بدوري وأنا أصغي إليكَ تتحدّثُ عن حيِّكَ القديم وبعضٍ من ذكريات طفولتِك.

انتهيتُ من إعداد الباقة عندما دقّت الساعة السادسة والرّبع وشعرتُ بالحزن وأنا أحيطُها بالشريطة وأقدّمها إليك. حاولتُ أن أسألكَ: “إلى أين تذهبُ أيّها الغريب حاملًا باقتَكَ وعطرَكَ؟” لكنّني خبّأتُ سؤالي، الذي يطاردُني في كلِّ مرّة من السادسة إلى ما بعدَ السادسة بكثير، في ابتسامةٍ خفيفةٍ وأنا أقول لكَ عند الباب: “وداعًا.”

عُدتُ إلى الزّهور أرشّها بالماء من جديد. وأخذتُ أفكّر: لعلّه سيعود صديقَه المريض. وماذا لو أنّه يحبُّ الزّهور، لا أكثر ولا أقلّ؟ ليس من الضروريّ أن تكونَ الباقةُ لفتاة!

***

إنّها السابعة صباحًا. أنهضُ من نومي. أُسرِعُ إلى المرآة لأغيّر تسريحةَ شعري. أفتحُ حقيبتي، فلا أجد جديدًا فيها. أهمس لنفسي: “سأضعُها على الكرسيّ هذه المرّة.”

أفتحُ البابَ و أمضي.

نغم داؤد*
وُلدتْ سنة 2000 في اللاذقيّة. تخرّجتْ من الثانويّة العامّة بدرجة امتياز. تتمّ حاليًّا دراستَها في جامعة تشرين في الكلّيّة الطبيّة.

آنا عكاش: لا رمّان في الجنّة

آنا عكاش – سوريا

بعد أن انتهى من صنع الجحيم قَرَر أن يَصْنع الجنَّة.نفخ الغيومَ، فأحبّ بياضَها وهضباتِها الطريّة. تمعّن فيها حين انتهى؛ فبدت مُضجرةً بلون نورِها الساطع. شيء ما كان ينقصُها، فكّر.أمسك بحفنةٍ من رمل البحر. عَجنها بجبروتِه، ثم سخّنها في أتون الجحيم القريب، وصيّرها زجاجًا شفّافًا. وبأصابعه، مدّ فروعَها وامتداداتها، فتحوّلتْ إلى شجرةٍ رقيقةٍ ومذهلة، خضراء كلون أمِّها الموجة.مع تحرّك يده وكُمّ عباءته الأثيريّة الطويلة، خُلقت الريح.

حرّكت الريحُ الورقاتِ، فكان حفيفُها كتساقط قطرات ماء. وهنا حصلت المعجزة: وردةٌ وحيدة بلون النار اختبأتْ في أحد الفروع. ذُهل حين رآها؛ فهو لم يكن يقصد خلقها. لقد خُلقتْ وحدها من عَدَمِ النار.قال: “ستكون هذه شجرةَ الجنة، لا شجرة سواها.”***آدم، المصنوع من طين الأرض، أحّب العبثَ والقفزَ على هَضبات الغيم الطريّة. كان غرًّا.لم يستغرق صنعُه سوى بضعة أيّام سماويّة، خلافًا لحوّاء، التي صُمِمَتْ لتكون وعاءً لماء الخلق.

مرّت الأيام السماويّة رتيبةً إلّا من ضحكات حوّاء وهي تتابع، بفرحٍ، زهرةَ النار وهي تتحوّل إلى ثمرة مستديرة، شفّافةٍ كبط في رحَمها.شعر آدم بالغيرة؛ فحوّاء ما عادت تلعب معه كالسابق. ما عادت تسايره في الركض بين الغيوم والاختباء عن عين الله. فقد انشغلتْ ببذرتها، وبتلك الثمرةِ الغريبة.

غضب آدم.فكَر: “الله يحبُّهما أكثرَ منّي، هي وتلك الثمرةَ الشفّافةَ ذاتَ الياقوت داخلها. سأحرّك عباءتي، وسأخلق الريحَ كما يفعل، وسأُسقط ثمرةَ النار الملعونة تلك. وإنْ سألني عن سبب سقوطها فسأقول له إنّها ريحُ العباءة.”لكنه نسي أنّه عارٍ، لا عباءةَ لديه.

***

نضجت الثمرة وراحت قشرتُها تتشقّق. فرحتْ حوّاءُ باقتراب اليوم الموعود، يوم تزرع الياقوتَ المتناثرَ على هضبات الغيم، ليُنبت شجرًا يُخرج ثمرًا حلوًا يلوِّن هذا البياضَ المضجر، ويملأ الجنّة أصواتًا جديدة لا تُشبه صوتَ الريح.وفعلًا استيقظ الله على صوتٍ لم يسمع مثيلًا له.نظر إلى الأعلى فرأى الغيمَ مثقوبًا. وفي الأسفل كانت كسراتُ زجاج الثمرة تغطّي أديمَ الأرض بالأحمر القاني، كذاك السائلِ الجاري في عروق مخلوقات الطين التي صنعتها يداه.رأى حوّاء تبكي قرب الشجرة السماويّة وبطنها خاوٍ. بحثَ عن آدم فلم يجده.ومنذ ذاك اليوم، لا رمّان في الجنَّة.